إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [6]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • دين الله تعالى وشرعه هو الصراط الذي يسير عليه عباد الله الصالحون، وهو الصراط الدنيوي الذي من استقام عليه في الدنيا وفق لعبور الصراط الأخروي الممدود على ظهر جهنم، والصراط الأخروي هو صراط حسي بخلاف الصراط الدنيوي الذي هو عبارة عن صراط معنوي

    1.   

    معنى قوله عز وجل: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً)

    قال المصنف رحمه الله: [ وقوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36] ].

    هذا أمر من الله جل وعلا بعبادته، وأمره واجب الامتثال، وقد سبق أن العبادة هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، أي أن كل فعل يفعله الإنسان يتقرب به إلى الله، أو قول يقوله يتقرب به إلى الله، أو نية ينويها في قلبه يتقرب به إلى الله فهو عبادة، ويجب أن يكون هذا العمل خالصاً لله جل وعلا، ولا يجوز أن يكون منه شيء لغيره؛ لأنه سبحانه قال: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36].

    فقوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36] يدل على أن العبادة لا تكون عبادة شرعية إلا إذا كانت خالية من الشرك، أما إذا كان فيها شرك فهي ليست العبادة الشرعية التي أمر الله جل وعلا بها وطلب من عباده أن يعبدوه بها، وإن كانت تسمى عبادة في اللغة فهي ليست عبادة في الشرع، فلابد من اجتماع هذين الأمرين: عبادة الله، وعدم الشرك. أي: أن يعبد الله العابد ولا يوجد الشرك، أما إذا وجد الشرك فقد انتفت العبادة وجاء بما يناقضها، هذا هو معنى قوله جل وعلا: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36].

    يقول العلماء: أول أمر جاء في القرآن -على ترتيب المصحف- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، مع أن هذا في الواقع هو دين الرسل من أولهم إلى آخرهم، فكل رسول أرسل إلى قومه أمر قومه بالعبادة، بل أول ما يأمرهم به أن يقول: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، ومعنى قوله: (ما لكم من إله غيره) هو معنى قوله هنا في هذه الآية: وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36].

    وكذلك خاتمهم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين جاء بهذا، فكان أول ما بعث يقول: (أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله)، ومعنى قوله: (لا إله إلا الله) هو معنى هذه الآية: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36] ؛ لأن قوله: (لا إله) هو معنى: (ولا تشركوا به شيئاً)، وقوله: (إلا الله) هو معنى: (اعبدوا الله)، فهذا دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم اتفقوا على هذا، وهذا هو الذي لا يقبل الله جل وعلا غيره، كما قال جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]. فأخبر أن الذي يأتيه مشركاً أنه غير مغفور له، وأن مأواه جهنم، وأن الذي يلقاه بذنوب ما عدا الشرك فإن الله يغفرها له إذا شاء، أي: بدون أن يعاقب صاحبها، أما الشرك فقد استثناه من جميع الذنوب وبين أنه لا يغفره لصاحبه.

    وقال جل وعلا في الآية الأخرى في المشركين الذين يتخذون أنداداً يحبونهم كحب الله، قال في نهاية الآيات: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، وقال في آية أخرى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، وبهذا يتبين عظم الشرك وأنه أمر عظيم جداً، فإذا كان صاحب الشرك لا يدخل الجنة، ومأواه جهنم خالداً فيها فيتعين على الإنسان الذي تهمه نفسه ولها قدر عنده أن يتعرف على الشرك خوفاً من أن يقع فيه وهو لا يدري، فلا يعذر بذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بينه ووضحه ولم يتركه ملتبساً مشتبهاً حتى لا يحتج محتج ويقول: أنا ما بان لي الأمر.

    وكون الإنسان يغفل عن هذا أو يعرض عنه فليس هذا عذراً؛ لأن الإنسان مكلف باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومكلف بأن يعلم ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في أصل العبادة، ولهذا كل ميت يسأل في قبره يقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وهي ليست مجرد كلمات لو حفظها الإنسان لاستطاع أن يجيب، بل مضمونها عمل ينطوي عليه القلب وتتحلى به الجوارح من إيمان بالله يقيني لا يتطرق إليه شك، وعمل ينبعث من النية والقصد والإرادة الذي يكون منطوياً عليه القلب وعازماً عليه، وكذلك اتباع للرسول صلى الله عليه وسلم.

    فمعنى قوله: (من ربك؟) أي: من الذي تعبده؟

    ومعنى قوله: (ما دينك؟) أي: بأي دين تتعبد؟

    ومعنى قوله: (من نبيك؟) من الذي جاءك بالعبادة؟ وممن أخذت العبادة؟ وهل أخذتها من آبائك وأهل بلدك، ومن المجتمع الذي تعيش فيه؟ فإن أخذها عن هؤلاء فإن هذا لا يجدي لا يفيد، ولهذا قال في نهاية الحديث: (فإن كان موقنا فإنه يجيب -يعني: بلا تلعثم وبلا تردد-، وإن كان مرتاباً أو شاكاً فإنه يتلعثم ويقول: هاه هاه لا أدري، رأيت الناس يفعلون شيئاً ففعلته)، أو قال: (سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته)، فهذا لا يجدي، ولهذا يعذب ويضرب بمطارق من نار يلتهب عليه قبره، ثم يقول له الملك: (لا دريت ولا تليت)، أي: ما علمت العلم النافع الذي يكون يقيناً يبعث على العمل، ولا تلوت كتاب الله حتى تتيقن من ذلك.

    فإذاً لابد للعبد أن يعبد ربه، ولابد له أن تكون العبادة خالصة لله جل وعلا، ولابد أن تكون العبادة مأخوذة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه أمور ثلاثة لابد منها على كل إنسان، وإن أخل بها فاللوم عليه، والله جل وعلا أنزل كتابه وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم لبين هذا ويوضحه بجلاء، فكيف يجوز للمسلم أن يخفى عليه أمر عبادة ربه، أو يخفى عليه الشرك؟!

    وكثير من الناس من يلتبس عليه هذا الأمر؛ لأنه يجهل معنى العبادة، ويجهل ما معنى (عبد)، ويجهل معنى (التأله)، ولا يدري ما معنى (الإله)، ولهذا تجد كثيراً ممن يقول: (لا إله إلا الله) يقع في الشرك، فيأتي بما يناقض هذه الكلمة، بأن يطوف على القبر ويدعو الولي، ويمد يديه إليه ويقول: يا سيدي فلان! أعطني كذا وكذا، ويا سيدي فلان! أنا بحسبك، أو: أنا بجوارك، أو: أريد أن تنفعني بكذا، أو: أريد أن تصد عني كذا وكذا، ونحو ذلك من هذه الدعوات التي لا يجوز أن تكون إلا لله، وهذا هو الذي يجب أن يكون التوحيد فيه؛ لأن الدعاء هو: طلب النفع ودفع الضر، والدعاء في كل ما هو من الغيب كدعاء الغائب من ميت أو حي يوقع الإنسان في الشرك.

    ثم مما يعين على معرفة هذا أن يتأمل الإنسان شرك المشركين السابقين الذي نزل القرآن بتخليدهم في النار والذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسيجد أن الله جل وعلا وضح هذا وبينه، والرسول صلى الله عليه وسلم كذلك وضحه، وأخبر جل وعلا في القرآن في مواضع متعددة بأنهم كانوا إذا سئلوا من الذي خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله. أي: ما أحد شاركه في هذا. وإذا سئلوا من الذي ينزل من السماء ماء فيخرج به من الثمرات رزقاً لكم؟ قالوا: الله وحده. وإذا سئلوا: من الذي خلقكم؟ ومن الذي خلق الذين من قبلكم؟ قالوا: الله. وإذا سئلوا: من الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء؟ قالوا: الله. وإذا سئلوا: لمن السماوات والأرض؟ قالوا: لله. وهذا أمر واضح في القرآن، فهل كان شركهم أنهم يقولون: إن مع الله خالقاً؟ الجواب: كلا، بل شركهم أنهم كانوا يتوجهون إلى أشجار وإلى أحجار وإلى عباد وإلى كواكب وإلى أنبياء فيدعونهم ويقولون: نجعلهم وسائط بيننا وبين ربنا ليشفعوا لنا، ويقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.

    فليوازن الإنسان بين عبادتهم وبين ما يحصل لكثير ممن يدعي الإسلام وهو يتضرع إلى الأموات الذين في قبورهم الذين لا يستطيعون أن يكفوا الدود عن أجسادهم، ويسألهم جلب النفع ودفع الضر، فهذا ليس فيه إشكال ولا خفاء على من نظر في كتاب الله جل وعلا أنه شرك، فيجب على العبد أن يعرف هذا، وأن يتنبه قبل أن يأتيه الموت؛ لأن الله جل وعلا قال لنا في هذه الآية: (اعبدوا الله) وهل يجوز للإنسان أن يخفى عليه أمر الله ويقول: ما أدري ماذا أراد مني ربي؟! والله عز وجل قد قال: (اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً)، فأمر بالعبادة ونهى عن الشرك، وهل للإنسان حجة إذا وقف بين يدي الله أن يقول: يا رب! ما دريت ماذا تريد بقولك: (اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً)؟! وهل يمكن أن ينتفع الإنسان بهذا القول؟!

    إذاً ما فائدة إنزال الكتاب؟ وما فائدة إرسال الرسول؟ فلابد للإنسان أن يعرف كيف يعبد ربه، وبم يعبد ربه، ومن أين جاءت العبادة، وأصل الدين الإسلامي مبني على هذا، ألا يُعبد إلا الله وألا يشرك به شيء، وأن تكون العبادة مأخوذة من الوحي، لا من الرأي ولا من الذوق، ولا مما وجد الناس بعضهم بعضاً عليه وتوارثوه، وإلا فيكون الإنسان ممن ذكر الله جل وعلا أنهم قالوا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ[الزخرف:23] يعني: على ملة وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]، وهل هذا يفيد؟ الجواب: كلا. فهذا هو أصل دين الإسلام الذي يتعين على العبد أن يعتني به باهتمام بالغ ولا يفرط فيه، وإلا فيكون مؤاخذاً.

    1.   

    الحقوق العشرة في قوله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً)

    قال الشارح رحمه الله: [ قال العماد ابن كثير رحمه الله في هذه الآية: يأمر الله تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له؛ فإنه الخالق الرازق المتفضل على خلقه في جميع الحالات، وهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً من مخلوقاته. انتهى.

    وهذه الآية هي التي تسمى آية الحقوق العشرة ].

    الحقوق العشرة هي:

    الأول: حق الله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36].

    الثاني: حق الوالدين: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء :36].

    الثالث: الوصية بذي القربى: وَبِذِي الْقُرْبَى [النساء:36].

    الرابع: الوصية باليتامى: بأن يحسن إليهم، ويحفظ مالهم ويقوم عليه بالمصالح التي تصلحه وتنميه، ولا يقربه إلا بالتي هي أحسن كما سيأتي.

    الخامس والسادس: الوصية بالجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب، فذو القربى هو: الذي بينك وبينه قرابة نسب أو صلة الإسلام. والجار الجنب هو: الذي يكون بجنبك ولو لم يكن من المسلمين، فعليك أن تحترم جواره وتحسن إليه ولا تؤذيه وتبذل نفعك له.

    الثامن: الوصية بالمساكين. والمساكين: هم الفقراء.

    التاسع: الوصية بابن السبيل.

    العاشر: الوصية بملك اليمين، وكذلك الإحسان إلى الخلق جمعياً، فإذا كان أخ لك أحببت له النصح والإرشاد، وتود له ما توده لنفسك، وإن كان غير ذلك فتدعوه إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وإذا احتاج الأمر إلى مجادلة فجادله بالتي هي أحسن، ليس بالشيء الحسن، وإنما بالتي هي أحسن، حتى يكون هذا أدعى لقبوله الحق؛ لأن المقصود من الدعوة نفع الخلق وبراءة الذمة والقيام بأمر الله جل وعلا، فالله جل وعلا يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم -وأمته تبع له بلا شك-: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، فأتباع الرسول لابد أن يكون لهم نصيب من هديه ومن مسلكه ودعوته، وإلا فكيف يكون أحدهم من أتباعه وهو لا يقوم بما كان يقوم به الرسول صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم..) الآيات

    قال الشارح رحمه الله: [ وفي بعض النسخ المعتمدة من نسخ هذا الكتاب تقديم هذه الآية على آية الأنعام، ولهذا قدمتها لمناسبة كلام ابن مسعود رضي الله عنه الآتي لآية الأنعام، ليكون ذكره بعدها أنسب.

    وقول الله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:151-153] ].

    هذه الآيات الكريمات جمعت فأوعت، جمعت الأمور التي يجب على العبد أن يراعيها وأن يتحلى بها، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: (من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمة فليقرأ هذه الثلاث الآيات)، وسيأتي شرح كلامه رضي الله عنه، ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوص إلى أحد، ولم يوص بشيء غير كتاب الله جل وعلا وسنته صلى الله عليه وسلم، كما قال في حجة الوداع: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله)، فجعل يوصي بالأخذ بكتاب الله، وكثير من آيات القرآن جاءت بمعنى هذه الآيات، وهي كثيرة جداً، والله جل وعلا يكرر هذه الأمور في القرآن لعظمها ولتأكيدها، كما مر من الآيات التي في سورة النساء، وكذلك التي في سورة البقرة وغيرها وهي بهذا المعنى، وفي هذه الآيات يأمر الله جل وعلا نبيه بأن يقول للناس: (قل تعالوا) أي: هلموا إليَّ وأقبلوا واستمعوا ما أقول لكم. أي: ليس هو قولاً من عندي ولا من عند فلان، هو قول ووحي من الله اتلوه وأقصه عليكم وأذكركم به وأبلغكم إياه؛ لأنه أمر الله الذي لا يجوز أن يرد ولا يجوز أن يتساهل به.

    الوصية بترك الشرك

    وأول ما أتلوا عليكم من وحي الله أن الله حرم الشرك، (أن لا تشركوا به شيئاً)، والمعنى: اعبدوا الله وحده واجتنبوا الشرك؛ لأنه إذا نُفي الشرك لزم إثبات العبادة لله وحده كما سبق.

    بر الوالدين من أعظم الطاعات

    قال تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83] أي: كذلك أتلوا عليكم أن الله أمركم بأن تحسنوا إلى الوالدين إحساناً. وهنا يقول العلماء: حَذَفَ متعلق الإحسان ليدل على العموم. فكل ما سمي إحساناً يشمله هذا الأمر، وكثيراً ما يقرن الله جل وعلا حق والوالدين بحقه.

    والإحسان إلى الوالدين هو طاعتهما بالمعروف والقيام على خدمتهما، وكذلك مساعدتهما في طاعة الله ومعاونتهما عليه، ودعوة الله لهما بأن يرحمهما وأن يتجاوز عنهما، وكذلك جلب النفع الدنيوي لهما بكل ما يستطيع، وكذلك ألا يترفع عليهما، ولا يقابلهما بالكلام النابي، بل بالكلام الذي يدل على اللين وعلى حسن المعاملة والمعاشرة، كما قال تعالى في الآية الأخرى: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23-24] فهذا الذي ذكره الله جل وعلا في آيات الإسراء هو الإحسان الذي ذكره في هذه الآية وأجمله.

    قتل الأولاد خشية الفقر من الكبائر العظيمة

    قال تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) الإملاق: هو الفقر. أي: لا تقتلوهم خوفاً من الفقر، فإن الأمر ليس إليكم؛ فإن الله تكفل برزقهم. ولهذا قال: (نحن نرزقكم وإياهم)، فأخبر أن رزق الوالدين ورزق الأولاد على الله ليس على الناس، فالإنسان لا يجوز أن يكون نظره إلى أن الرزق يأتي من كد يده ومن صنعته ومن حسن تصرفه، كما يقوله كثير من الناس الذين يضيف أحدهم الأمر إليه، بل يجب أن يجعل الأمر لله جل وعلا.

    وقوله: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) جاء هذا لأن بعض العرب -وليس كلهم- كانوا يقتلون أولادهم خوفاً من الفقر، وبعضهم كان يقتل البنات فقط خوفاً من العار، وليس من الفقر، والعار معناه عندهم أنهم يخشون أن تزني، فيصبح هذا عاراً على أبيها وأهلها، فكانوا يئدونها ويدفنونها حية، كما قال الله جل وعلا: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8-9] يعني: هل لها ذنب وهي بنت صغيرة حتى تدفن حية؟! ووجه هذا السؤال إليها لعظم الأمر حتى يعرف الظالم مقامه، فكان بعضهم يصنع هذا، فيئدون البنات خوفاً من العار، وبعضهم كان يقتل حتى الذكور خوفاً من الفقر إذا كثروا، وهذه قد أصبح الكفار ينشرونها بين المسلمين، وهي سنة الجاهلية السابقة أصبح الكفار من اليهود والنصارى أعداء الله وأعداء دينه ينشرونها في بلاد المسلمين، ويروجون أن كثرة الأولاد لا تنبغي، وينبغي أن الإنسان يرتب نسله خوفاً من أنه لا يستطيع التربية، ولا يستطيع تعليمهم، ولا يستطيع القيام بحقوقهم، وأن الأرض سوف تضيق بهم، وأن الأرزاق سوف تقل ثم يأتي الجوع فيموت الناس جوعاً فيقولون: بعد كذا سنة سوف يموت كذا وكذا من الآلاف أو من الملايين جوعاً. ويتصرفون في ملك الله، ويظنون أن الأمور بأيديهم، وكل هذا أريد به السوء للمسلمين فقط، أما الكفار فلا يوجد هذا عندهم، بل في بعض دول الكفر يجعلون مكافأة لمن يكون له مولود، وكلما ولد له مولود آخر أوجدوا له مكافأة ووظيفة، فهم يشجعون كثرة المواليد، فكيف يوجهون المسلمين وهم يقتلونهم؟! والأوضاع الحاضرة لا تخفى، فالمسلمون يقتلون في كل مكان كتقتيل الأنعام، وليس لهم قيمة عند هؤلاء الكفار، وكل ذلك لأن المسلمين في الواقع تركوا أمر الله وصاروا غثاء كغثاء السيل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أمن قلة نحن يا رسول الله؟! قال: لا، أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، تنزع المهابة من قلوبكم ويقذف في قلوبكم الوهن. قيل: يا رسول! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، وهذا هو الداء الذي وقع فيه كثير من المسلمين اليوم، وهذا خلاف ما كان عليه السلف الصالح وما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، فلما استعصت بعض الحصون على خالد بن الوليد صار يخاطبهم ويقول: (يا هؤلاء! والله! لقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة، اصنعوا ما شئتم فلن تفلتوا من أيدينا)، وكان أحدهم إذا سقط قتيلاً بسلاح العدو يهنئونه قائلين: هنيئاً لك الشهادة. وكل واحد يود لو أنه مكانه، وكانوا يحبون الموت كما يحب أعداؤهم الحياة، فإذا وجد هذا في المسلمين اليوم فلن تقوم أمامهم أمريكا ولا غيرها من الدول الكافرة، ولن تستطيع أن تقوم في وجوههم؛ بشرط أن يلتزموا بأمر الله جل وعلا كما قال سبحانه: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، وهذا وعد من الله، والله لا يخلف وعده، فهذا شرط لا يتحقق إلا إذا وجد المشروط، فإذا وجد نصر الله منا والثبات على دينه وجد نصر الله لنا، أما أن نعرض عن دين ربنا جل وعلا ويصبح ديننا بين التهاتر والتباغض والتقاطع وحب الذات وجلب المنافع للإنسان نفسه حتى على حساب الآخرين فالواقع أنه لا يكون لنا ميزة، ولما ذهب عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى قتال الروم في مصر احتاج إلى مدد وزيادة جنود؛ لأن الروم أعدوا أكثر من مائة ألف مقاتل، والذين كانوا معه لا يتجاوزون عشرين ألفاً، فكتب كتاباً إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يستنجده ويقول: أريد عشرين ألفاً. أو قال: أربعين ألفاً، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: (ما عندنا أمداد مما تذكر، ونحن لا نقاتل بعددنا ولا بعدتنا، وإنما نقاتل بإيماننا وبوعد الله لنا، ولكن احترس من الذنوب أشد من احتراسك من عدوك، واعلم أن النصر بيد الله، فإذا اتقيتم الله جل وعلا وأخلصتم له فسوف ينصركم، وإني ممدك بأربعة رجال فقط)، فأرسل له أربعة بدل هذا العدد الذي طلبه، وكانت وصيته أنه قال له: احترس من الذنوب أشد من احتراسك من عدوك؛ فإنها هي التي تنصر العدو عليكم، فميزة المسلمين يكونوا ملتزمين بأمر الله جل وعلا، أما إذا فرطوا فقد جاء في أثر يروى يقول الله جل وعلا فيه: (إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني)، والذي لا يعرف الله أمرُهُ منتهٍ، ولكن الذي يعرف الله كيف يعصيه؟! فإذا عصى صارت العقوبة أقرب وأسرع إليه، وإن كان مآله في الآخرة ليس كمآل هؤلاء، ولكن يكون عقاباً عاجلاً.

    والمقصود أن قول الله جل وعلا: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151] عام شامل حتى في الذي يخاف أنه إذا ولد له أولاد أنه يحدث له الفقر، أو يحدث له القلة، وأنه لا يستطيع القيام عليهم، وهذا أمر قد تكفل الله جل وعلا به، كما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد)، فيكتب الرزق وهو في بطن أمه، فكيف يستطيع أحد أن يرد رزقه؟! بل هو مكتوب مفروغ منه، وقد رزقه وهو لم يخلق بعد، ولا يمكن أن يغير أو يبدل ما كتبه الله جل وعلا، ولكن بلا شك أن الله جعل لكل شيء سبباً، وأن الله هيأ الأسباب وأمر بفعلها، فنقول: أنت عليك فعل السبب والأمر، وحصول النتائج على الله، فيجب أن تتكل على ربك في ذلك، ولا يكون الفقر نصب العينين.

    وجاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك)، ولو سأله أيضاً عن شيء آخر لأخبره، ولكنه سكت.

    فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أعظم الذنوب أن يشرك الإنسان بالله جل وعلا، وأن يجعل لله نداً وهو خلقه، وهو المتصرف في خلقه المتوحد بذلك ليس له شريك، وهو الذي هيأ له الحياة ومستلزماتها.

    وقوله بعد هذا: ثم أي؟ يعني: ما هو الذنب الذي يلي هذا في العظم؟ فقال: (أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك)، يعني: خوفاً من الفقر.

    وذكر هنا أعظم القتل وأشنعه، وإلا فالقتل كله محرم كما سيأتي، ولكن الجبلة التي جبل الله جل وعلا عليها الخلق أن الإنسان يحنو على ولده ويرحمه ويحسن إليه، فإذا جعل بدل الحنو عليه والرحمة له والإحسان إليه إساءة انقلبت الأمور واشتد الذنب وصار العقاب أعظم.

    وكذلك الزنا، فالزنا فيه من المفاسد ما فيه كما هو معلوم، من اختلاط الأنساب، وإفساد فرش الناس، وإفساد بناتهم وزوجاتهم، وكذلك فيه من الأمراض التي يعرفها من يعرف هذا، ففيه من الفساد الخلقي والفساد الجسدي والفساد الديني الشيء العظيم، فالزنا عظيم، وأعظم الزنا أن يزني الإنسان بذات رحم له، ويليه في العظم أن يزني بزوجة جاره، كما قال هنا: (أن تزاني) وجاء بلفظة (تزاني) لأن هذا يدل على الموافقة من الجانبين، أما إذا كان من جانب واحد ويكون الجانب الآخر مرغم فيتضاعف العذاب أيضاً، والجرم أن تزاني بحليلة جارك، يعني: بزوجة جارك. لأن الواجب في الإسلام أن يحفظ الإنسان حرمة جاره، كما جاءت الأحاديث في ذلك، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! -هكذا كررها الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثاً- قالوا: من؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه)، فالذي لا يأمن جاره أذاه وخيانته فليس عنده إيمان.

    ويقول صلى الله عليه وسلم: (لم يزل جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)، أي: يكون له ميراث، فهنا معنى قوله جل وعلا أنه وصاكم بترك الشرك، وبالإحسان إلى الوالدين، وكذلك الإحسان إلى الأقارب ومنهم البنين.

    قال سبحانه: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151].

    كل الفواحش الظاهرة والباطنة محرمة

    ثم قال بعد هذا: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151].

    الفواحش: هي كل فعل يفحش في نفسه، ويقبح في العقل، ولكن الضابط هنا أن يكون فاحشة في الشرع، فكل ما حرمه الله فهو فاحشة، ولكنها تتفاوت، فبعضها أعظم من بعض، وهنا نهي عام شامل عن الباطن والظاهر، وقد اختلف العلماء ما المقصود بالباطن والظاهر هنا؟ فقال قوم: المقصود بالظاهر: ما يفعل علناً أمام الناس وهم يشاهدونه، والباطن: ما يفعل سراً. أي: ما تفعله وتختفي عن الناس في فعله، فالله ينهى عن هذا وهذا.

    ومنهم من يقول: الباطن ما يفعل بالجوارح بالأيدي والأرجل، واللسان بالقول بالكلام، والباطن ما انطوى عليه القلب وقصده ونواه من الحسد والغل والغيبة وغير ذلك. ومنهم من قال غير هذا، والمعنى أن هذا شامل لكل أمر فيه مخالفة، سواء فعل بالجوارح أو كان بالنية وانطوت عليه القلوب، وسواء أكان ظاهراً يراه الناس أم كان مستوراً، فالله نهى عن هذه كله.

    حكم قتل النفس المعصومة

    قال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الأنعام:151].

    قوله: (ولا تقتلوا النفس) هذا تعميم بعد تخصيص؛ لأنه نهى عن قتل الأولاد أولاً وهو من قتل النفس، ثم جاء هنا التعميم فقال: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)، فهذا يشمل حتى الكفار إذا كان لهم عهد ولم يكن هناك حرب بين المسلمين وبينهم، فلا يجوز قتلهم في أي حال من الأحوال، وقد جاء في الحديث: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً)، والحديث في صحيح مسلم، فقوله: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة)، أي: هو كافر. فكيف بالذي يقتل مسلماً؟ فقد جاء أن زوال الدنيا بأسرها أهون على الله من قتل مؤمن، وجاء أن الله جل وعلا يقول: لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل مسلم لأكبهم في النار كلهم، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت مشركاً، والرجل يلقى الله بدم حرام)، ولهذا كان ابن عباس رضي الله عنه يقول: (من قتل مسلماً فلا توبة له)؛ لأن الله جل وعلا يقول: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النساء:93]، وقد أخبر الله أنه يغضب عليه ويلعنه ويعد له جهنم، ولكن الصواب الذي عليه العلماء أن القاتل إذا تاب تاب الله عليه، ويقول ابن القيم رحمه الله في هذا: إن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق: حق لله جل وعلا حيث حرم القتل، فهذا إذا تاب الإنسان منه تاب الله عليه، وحق لأولياء المقتول وهذا يسقط بالقصاص أو بدفع الدية أو بالعفو، وحق للمقتول نفسه فهذا لا يسقط، ولابد من استيفائه يوم القيامة إلا إذا شاء الله؛ فإنه قد يرضي المقتول عن القاتل، ولهذا جاء أن أول ما يُقضى به بين الناس يوم القيامة الدماء، وأن المقتول يأتي يحمل رأسه وأوداجه تشخب دماً متعلقاً بقاتله يقول: يا رب! سل هذا لم قتلني؟ وفي الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل -أي: أمره ظاهر- فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)، فالقتل محرم عموماً، كما قال تعالى: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، فهو أمر عظيم جداً.

    وقوله: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الإسراء:33] استثنى التي بالحق، وجاء في الحديث الصحيح: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، و(التارك لدينه) أي: المرتد الذي يرتد ويترك الدين يقتل. وهذا قتله بالحق، والذي يزني وقد من الله جل وعلا عليه بالزوجة الحلال، فإن حكمه الرجم بالحجارة حتى يموت، ويذوق بدنه كله الألم الذي ذاق الشهوة المحرمة، وكذلك النفس بالنفس، فإذا قتل إنسان إنساناً فإنه يقتل به، وكذلك الكفار إذا صار بينهم وبين المسلمين قتال فإن قتلهم بحق؛ فإن الله جل وعلا يقول: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36]، فحرض على قتلهم وأمر به لأنه حق.

    وقوله سبحانه: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151] يعني: هذه الأمور هي الوصية التي وصانا بها. والوصية: هي التأكيد على الأمر والإلزام به والاهتمام به أكثر وصانا بهذه لعلنا نعقلها فنحفظها ونعمل بما قال لنا ربنا جل وعلا.

    حكم أكل أموال اليتامى

    ثم بعد هذا يقول جل وعلا: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام:152]، في الآية السابقة يقول: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151] وأكل مال اليتيم داخل فيها بلا شك، ثم هنا ينص عليه تأكيداً واهتماماً به أكثر، فقال: (لا تقربوا) بدل (لا تأكلوا) ليعم جميع أنواع التصرف وقربانه، ثم استثنى التي هي أحسن، والتي هي أحسن: القيام على تنميته والتصرف فيه تصرفاً يعود على اليتيم بالخير والنفع، أما ما عدا ذلك فلا يجوز، قال تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الأنعام:152] و(الأشد) هنا: أن يعقل ويحسن التصرف، كما ذكر ذلك جل وعلا في آيات سورة النساء، وبين أنه إذا أحس منهم الرشد فتدفع إليهم أموالهم، والرشد هو: حسن التصرف في المال، مع بلوغ السن التي يرشد فيها.

    من الفواحش التطفيف في المكيال والميزان

    قال سبحانه: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ [الأنعام:152]، وهذا أيضاً يدخل فيما سبق، فالنهي عن تطفيف الميزان وكذلك بخس الناس أموالهم وحقوقهم يدخل في الفواحش التي سبق ذكرها، وأعاد ذلك ونص عليه تأكيداً له، كما قال تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الإسراء:35] يعني أن الإنسان إذا باع واشترى يجب أن يبيع بحق ولا يجوز أن يكون فيه بخس، أو يكون فيه غش، أو يكون فيه نقص، لا في الكمية ولا في الكيفية، ويكون مغشوشاً في الكيفية بأن يخفي العيب عن المشتري، فإن هذا ليس من الحق، فإذا فعل فقد أكل مال الناس بالباطل، وأما الكمية فكأن ينقص الوزن أو الكيل.

    الخطأ مع بذل الوسع معفو عنه

    وقوله تعالى: لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [الأنعام:152] معنى هذا أن الإنسان إذا بذل وسعة واجتهد في أداء الحق الاجتهاد الذي يستطيعه ثم أخطأ في شيء قليل فإنه معفو عنه، (لا نكلف نفساً إلا وسعها)، فإذا أخطأ في الشيء القليل بعد أداء الاجتهاد وبذل الوسع في أداء الحق فإنه معفو عنه، وهذا معنى قوله جل وعلا: (لا نكلف نفساً إلا وسعها) يعني: إلا ما تسعه، ولا نكلفها شيئاً لا تسعه ولا تطيقه، والوسع هو: الطاقة والاستطاعة.

    وجوب القول بالعدل ولو على ذوي القربى

    ثم قال جل وعلا: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152]، يعني: إذا شهد الإنسان أو تكلم بكلام يجب أن يكون كلامه بالعدل والصدق ولو كان على قريب لك، كإبنك أو أخيك، أو على صديقك، فيجب أن تقول العدل والحق، وألا تأخذك في الله لومة لائم على هذا، وكذلك إذا كان المقول فيه عدواً فلا يجوز أن تتجاوز الحق فيه، فإذا قلت فاعدل، وهذا أمر عام، فيجب على الإنسان إذا تكلم أن يتكلم بالحق، ولا يجوز أن يخفي حقوق الناس لأجل أنه لا يروق له أو لا يناسب مذهبه أو لا يناسب جماعته أو ما أشبه ذلك؛ فإن هذا من أعظم الاغترار نسأل الله العافية.

    وجوب الوفاء بالعهد

    ثم قال: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا [الأنعام:152]، وهذا عام يعم كل ما سبق، فعهد الله هو كل ما عهد إلينا بحفظه أو باجتنابه، وكل شيء عهد الله جل وعلا إلينا بأن نعمله أو ألا نعلمه يجب أن نفي به، ويكون من الخصوصيات في هذا، والأيمان والمواثيق التي تحدث بين الناس وبين الدول يجب أن يوفى بها، بل من باب أولى أن يوفى بها؛ فإن الله أمر بهذا.

    وقوله تعالى: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام:152] يعني: وصية الله تقدم بها إليكم لعلكم تذكرونها ثم تخافون عقاب الله وترجون ثوابه فتفعلونها.

    وجوب التمسك بالصراط المستقيم

    ثم قال جل وعلا: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا [الأنعام:153].

    يعني: ووصاكم بأن هذا الذي تقدم به إليكم هو صراط الله. وصراط الله هو دينه الذي شرعه لعباده: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا [الأنعام:153] يعني: واضحاً جلياً لا اعوجاج فيه ولا خفاء.

    وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153] أي: اسلكوه وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]، فهذه في الواقع من الآيات العظيمة الجامعة التي من حفظها حفظ دينه، وبُدئت بالنهي عن الشرك؛ لأن النهي عن الشرك يستلزم عبادة الله، وعبادة الله لا تكون إلا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي تستلزم معرفة الله والعمل بدينه ومعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم.

    [ قال العماد ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله وحرموا ما رزقهم الله: (تعالوا) أي: هلموا وأقبلوا (أتل) أقص عليكم (ما حرم ربكم عليكم) حقاً لا تخرصاً ولا ظناً، بل وحياً منه وأمراً من عنده، (ألا تشركوا به شيئاً)، وكأن في الكلام محذوفاً دل عليه السياق تقديره: وصاكم ألا تشركوا به شيئاً، ولهذا قال في آخر الآية (ذلكم وصاكم به) اهـ.

    قلت: فيكون المعنى: حرم عليكم ما وصاكم بتركه من الإشراك به. وفي المغني لـابن هشام في قوله تعالى: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [الأنعام:151] سبعة أقوال، أحسنها هذا الذي ذكره ابن كثير ، ويليه: بين لكم ذلك لئلا تشركوا. فحذفت الجملة من أحدهما -وهي: (وصاكم)- وحرف الجر وما قبله من الأخرى ].

    لغة العرب التي عرفها من اعتنى بها أفصحها وأعظمها أن يحذف الشيء الذي يعرفه السامع ولا يحتاج البليغ إلى ذكره، فإذا حُذف يكون أبلغ وأفصح، والقرآن سار على هذا النهج.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756194490