إسلام ويب

شرح الحموية [3]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • طريقة السلف الصالح رحمهم الله أسلم وأعلم وأحكم من طريقة الخلف في باب الصفات، وفي غيره من الأبواب؛ فإنه يستحيل أن يكون السلف غير عالمين وغير قائلين بالحق في باب الصفات، بل إنهم قالوا بالحق ونطقوا به وبينوه فلا يجوز اعتقاد غير ما اعتقدوه وبينوه للأمة.

    1.   

    القرون الثلاثة المفضلة كانوا عالمين بالحق قائلين به

    قال المصنف رحمه الله: [ثم من المحال أيضاً أن تكون القرون الفاضلة].

    بعد أن انتهى المصنف رحمه الله من الصحابة أراد جمع القرون الثلاثة الفاضلة: الذين هم الصحابة والتابعون وتابعو التابعين، هذه هي القرون الثلاثة الفاضلة التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية كما في حديث عمران بن حصين في الصحيحين.

    [القرن الذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم كانوا غير عالمين وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين؛ لأن ضد ذلك إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق، وكلاهما ممتنع].

    أي: يمتنع ضرورةً أن يكون الصحابة أو حتى التابعون قد قالوا بالباطل أو كتموا الحق في هذا الباب، خاصة أن التابعين عرف تصريحهم كثيراً في هذا الباب؛ لظهور البدعة المعارضة لمذهب الصحابة رضي الله عنهم المتلقى عن نبيهم صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    السلف يفرقون بين العلم بثبوت الصفة وبين معرفة كيفيتها

    [أما الأول: فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم، أو نهمة في العبادة، يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه، ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده وأعظم مطالبه؛ أعني: بيان ما ينبغي اعتقاده لا معرفة كيفية الرب وصفاته].

    قوله: لا معرفة كيفية الرب وصفاته بمعنى: أن ثمة فرقاً بين القول في ثبوت أسماء الله وصفاته وتقرير القول في ذلك، وبين القول في كيفية صفات الباري وكيفية أفعاله، فإن القاعدة التي ذكرها مالك وغيره مطردة في هذا الباب: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة .

    وقد كان السلف رحمهم الله يفرقون بين العلم بثبوت الصفة وقيامها بذات الله ومعرفة معناها، وبين معرفة كيفيتها، فالكيف مجهول؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يحاط به علماً، ولا يعرف كيفية صفاته ولا كيفية أفعاله، وإنما تثبت صفاته وأفعاله، وإذا قيل: إنها تثبت. فمعناه من جهة ما يليق بذات الباري، وليست كما يليق بالمخلوقين.

    وهذا بدهي في عقيدة المسلمين، وإن كان المخالفون كثيراً ما يعارضون هذا البدهي.

    1.   

    الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص

    ومحل الإشكال عند الطوائف: أنهم وجدوا أن الصفات التي وصف الله بها نفسه في القرآن، أو وصفه بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كثير من الموارد -وليس دائماً- تضاف إلى المخلوقين، قال الله تعالى عن نفسه: إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:58]وقال عن عبده: إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2]وقال تعالى عن نفسه: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب:43]وقال عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]بل قال في آية واحدة: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة:119] يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54]فهذا الاشتراك الذي حصل هو مثار الغلط.

    يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ومحل الإشكال الذي عرض لعامة النظار من المتكلمين وغيرهم أن الاشتراك في الاسم المطلق يستلزم التماثل في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص. قال: وهذا مما يعلم بالعقل والشرع بطلانه .

    فالمتكلمون ظنوا أن الاشتراك في الاسم المطلق يستلزم التماثل في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص. وهذا الظن وهم محض؛ لأن الاسم المطلق الذي وقع به الاشتراك هو كلي لا وجود له في الخارج، ولا يوجد في الخارج إلا المتعينات المضافات المخصصات، بمعنى أنه إذا قيل: يد. فإن هذه الكلمة كلمة مطلقة لم تضف إلى أحد بعينه، فهذا هو الاسم المطلق، وهذا الكلي في الذهن لا يقع في الخارج إلا مضافاً مخصصاً.

    ولهذا نجد أن المخلوقات -ولله المثل الأعلى- لا يستلزم اشتراكها في الاسم المطلق تماثلها عند الإضافة والتخصيص، بمعنى أنك تقول: رأس الجمل ورأس البعوض، فترى أن الماهية بعد الإضافة مختلفة، فماهية هذا غير ماهية هذا، وشكل هذا غير شكل هذا، فإذا كان الاختلاف بعد الإضافة والتخصيص يطَّرد في المخلوقات فمن باب أولى أن يكون الاختلاف بين الخالق والمخلوق، فلا يكون سمعه سبحانه كسمع المخلوق، ولا بصره كبصرهم، ولا رحمته كرحمتهم، ولا غضبه كغضبهم، ولا رضاه كرضاهم... وهلم جرا؛ ولهذا كان سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء مع أنه موصوف بهذه الصفات؛ لأنها لا تماثل صفات المخلوقين.

    1.   

    الحق في باب الأسماء والصفات محصور فيما أجمع عليه السلف

    [وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر، وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجودية فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي -الذي هو من أقوى المقتضيات- أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم؟! هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق، وأشدهم إعراضاً عن الله، وأعظمهم إكباباً على طلب الدنيا والغفلة عن ذكر الله تعالى، فكيف يقع في أولئك؟ وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق أو قائليه فهذا لا يعتقده مسلم ولا عاقل عرف حال القوم].

    أي: أنه يمتنع أن يكون الحق في الأسماء والصفات لم يعرف تقريره إلا من واقع كلام المتكلمين، سواء قصد بالمتكلمين هنا القدماء منهم كالجهمية والمعتزلة المتقدمة، وهذا يكاد يكون يعلم تأخره وتعذره، لكن بالمقابل فإن كثيراً من الفقهاء يرون أن تقرير مسألة الصفات والأفعال المتعلقة بذات الباري سبحانه وتعالى وتحقيقها وقع في كلام المتأخرين من المتكلمين، ولهذا قال من قال بأن الأشعرية هم أنصار أصول الدين، وهم الذين قرروا المعرفة في مسألة أصول الديانة.

    وهذا لا شك أنه غلط محض، وإن كان يقع في مذهب الأشعرية ما هو من الصواب إلا أنه ليس لهم اختصاص فيه، بمعنى أن الصواب الذي قالوه موجود في كلام السلف وليس لطائفة متأخرة لا الأشعرية ولا الحنبلية ولا الشافعية ولا المالكية ولا الحنفية ولا غير هذه الطوائف اختصاص بشيء من الحق، فإن الحق في هذا الباب محصور فيما قرره أئمة السلف رحمهم الله وأجمعوا عليه.

    ولشيوع مثل هذه التوهمات صار بعض الفضلاء من أهل العلم الكبار يضطرب قولهم في هذا، فتجد أن النووي رحمه الله قد يقع له بعض هذا الوهم في مثل هذه المسائل، فتجده يقول: وللعلماء مسلكان في هذه النصوص -يعني نصوص الصفات-: التفويض -أو تارة يقول: التوقف- وهو مسلك السلف، والتأويل وهو مسلك أصحابنا المتكلمين . ولا شك أن هذا التقرير غلط، فإن السلف ليسوا مفوضة، والحق ليس في هذا المسلك ولا هذا المسلك، بل في مسلك السلف الذي هو: إثبات المعنى وتفويض الكيفية، فالكيف مجهول والمعنى معلوم كما قرره مالك وغيره.

    [ثم الكلام في هذا الباب عنهم أكثر من أن يمكن سطره في هذه الفتوى وأضعافها يعرف ذلك من طلبه وتتبعه].

    أي: هو مبسوط في كتب السنة المسندة، وهي التي نقلت ألفاظ السلف بأعيانهم وتصريحهم في مسائل الأسماء والصفات كالسنة للخلال وعبد الله بن أحمد ، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي ، والإبانة لـابن بطة ، والشريعة للآجري ، وكتاب التوحيد لـابن خزيمة .

    امتناع أن يكون الخالفون أعلم من السالفين

    [ولا يجوز أيضاً أن يكون الخالفون أعلم من السالفين].

    لا يجوز أن يكون الخالفون -أياً كان هذا الخالف، سواء كان من الجهمية أو المعتزلة أو غيرهم- أعلم من السالفين؛ فإن هذا ممتنع بالعقل والشرع؛ لأن هذا الخالف -أو الخلفي- إن كان أخذ الحق من القرآن والحديث لزم أن يكون الصحابة قد أطبقوا على عدم فهم القرآن والحديث في مسائل أصول الدين، وهذا ممتنع؛ لأن الله وصفهم بالعلم ووصفهم بالإيمان، ورضي عنهم ورضوا عنه، فهذا يدل على أنهم محققون لدينهم.

    أو أن هذا الخلفي حقق هذا العلم بدلائل عقلية أو دلائل فلسفية أو كلامية أو أياً كانت صبغتها فهذا يعلم أنه افتيات على كتاب الله وسنة نبيه، وأنه يعلم بالضرورة هنا أنه يمتنع أن يكون الحق في غير ما قاله الله ورسوله.

    ظهور علم الكلام والعلوم الفلسفية سبب الخلاف في باب الأسماء والصفات

    الناظر في التاريخ العلمي عند المسلمين في المعرفة الإلهية، وبخاصة في مسألة الأسماء والصفات يجد أن فيها إشكالاً عريضاً، مع أن الحق فيها من جهة القرآن والحديث ومذهب السلف واضح تماماً؛ لكن لأنه دخل على المسلمين أسباب، فقد كانت أسباب البدعة التي نشأ عنها مذهب الخوارج في الغالب فتناً طرأت وتكاد تنتهي، بخلاف الفتنة التي ركِّبت عليها هذه المسائل عند المخالفين للسلف؛ فإنها أسباب علمية.

    فقد ظهر عند المسلمين علم الكلام والعلوم الفلسفية، أما الفلسفة فكانت قبل الإسلام، ونقلت نقلاً إلى المسلمين، وأما العلم الكلامي فليس هناك علم اسمه علم الكلام قبل الإسلام، فهو علم وُلِّد عند طائفة من المسلمين وهو المشكِل، ولهذا تجدهم يحدون هذا العلم ويضبطونه بأنه الاستدلال على العقائد الإيمانية بالدلائل العقلية.. وهذا حد باطل؛ لأن العقائد التي قررها المتكلمون مخالفة للعقائد المنصوص عليها في القرآن والحديث، وإن كانوا أحياناً -كما تقدم- قد يصيبون شيئاً من الحق، لكن لا يختصون بإصابته.

    ولهذا كان هذا العلم من أسوأ العلوم التي انتشرت عند المسلمين بسبب الاشتغال بالفلسفة، وقد أدى هذا إلى ظهور المتكلمين المتفلسفة الذين وصلوا إلى منحى خطير في تقريرهم لمسائل الإسلام، وظهور التصور الفلسفي على يد ابن عربي وابن سبعين والعفيف التلمساني والصدر القونوي وأمثال هؤلاء من غلاة المتصوفة الذين قرروا التصوف الفلسفي، والذي قابله التصوف النظري العقلي الذي ذكره ابن رشد وأمثاله.

    [كما قد يقوله بعض الأغبياء].

    هذا الوصف من المصنف لقائل هذه المقالة ليس من باب التهكم؛ بل لأن المقالة التي نقلها عنه مقالة متناقضة في العقل، أي: فيها تأخر عقلي، وإذا كان في المقالة تأخر عقلي فإن المعنى يناسب هذا الوصف.

    1.   

    تناقض مقالة: طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم

    [ممن لم يقدر قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها من أن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم].

    هذه مقالة متناقضة؛ لأن السلامة نتيجة والعلم مقدمة، بمعنى أن العلم يورث السلامة، فإذا قيل: إن مذهب السلف أسلم -أسلم عند الله وأسلم اعتقاداً- لزم أن يكون مبنياً على علم صحيح، وإذا قيل: إن مذهب الخلف أعلم. لزم أن يكون أسلم؛ لأن من حقق العلم فقد أصاب السلامة في دينه وأصاب مقصود الله ومراده سبحانه وتعالى ، أما القول بأن مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم فإن هذا تناقض.

    وبهذا يتبين أن هذه المقالة متناقضة تماماً، فهو أعطى النتيجة للسلف وأعطى المقدمة للخلف، وإلا فإن مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم، وما خالفه يمتنع أن يكون أسلم ويمتنع أن يكون أعلم وأحكم؛ فمن هنا وصف المصنف هذه المقالة بأنها مقالة بعض الأغبياء.

    وقد شاع ذكر هذه الجملة في كلام كثير من متأخري المتكلمين ومن وافقهم من أصحاب الأئمة.

    وسبب قولنا: ومن وافقهم من أصحاب الأئمة؛ هو أن المتأخرين من المتكلمين كالأشعرية -مثلاً- هم باعتبار إمامهم -أعني: أبا الحسن الأشعري - أو حتى أتباعه ينتسبون لأحد المذاهب الأربعة، فجمهور الأشعرية إما شافعية من جهة النسبة الفقهية أو مالكية، وفيهم طائفة من الحنفية، فهؤلاء صاروا يطلقون هذه العبارة أو ما هو بمعناها من أن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم.

    مواقف المخالفين من مذهب السلف

    وبهذا يتحصل أن طوائف المخالفين على صنفين في موقفهم من مذهب السلف:

    الأول: وهو صنف الغلاة منهم، وهؤلاء لا ينتحلون مذهب السلف ولا يصوبونه ولا يجوزونه، وهذا هو شأن غلاة أهل البدع كالجهمية وأئمة المعتزلة، ومن تكلم في هذا الباب على طريق التبع من الشيعة وغيرهم، وإنما يخص ذكر الجهمية والمعتزلة لأنهم أخص من تكلم في هذا الباب.. فهذا الصنف: ليس من شعارهم انتحال مذهب السلف، ولا تصويبه ولا تجويزه.

    الثاني: وهم جمهور المتأخرين من المتكلمين الذين انتسبوا للأئمة في الفقه، وهؤلاء يعلمون أن مذهبهم مخالف لمذهب السلف، ولكنهم يجوزون في هذا الباب -أعني: في باب الأسماء والصفات- طريقتهم التي اتخذها أصحابهم المتكلمون، واتخذها من وافقهم من الفقهاء، ويجوزون في نفس الأمر الطريقة التي ظنوا أنها هي طريقة السلف، فترى أن الأشعري يثبت جملةً من الصفات ويتأول جملةً منها، وأصحابه في الجملة على هذا المنهج، وإن كانوا يختلفون معه في قدر ما يثبت وقدر ما يتأول، ولكنهم يرون أن السلف كانوا مفوضين في هذا الباب، وبخاصة ما يتعلق بمحل التأويل عندهم، أي: أن الصفات التي يصحح الأشعرية أنها ثابتة لله حقيقة يرون أن السلف كذلك كانوا يثبتونها حقيقة كالعلم والسمع والبصر.

    وإذا جاء القول فيما تتأوله الأشعرية كالصفات الفعلية عند جميع الأشعرية، أو كالصفات الخبرية عند متأخريهم قالوا: إن السلف في هذا الباب كانوا يفوضون ويرون أنه يصح في هذا النوع إما التفويض -ويقولون: إنه مذهب للسلف- وإما التأويل.

    وموجب هذا التجويز عند الأشاعرة أنهم اعتقدوا عدم ثبوت الصفات الفعلية في نفس الأمر، أو الصفات الخبرية عند متأخريهم بعد طبقة أبي المعالي الجويني ، فلما اعتقدوا انتفاء الصفة في نفس الأمر أصبحوا بين حالين: إما أن السياق القرآني فيها يثبت على ظاهره أي: بلا إثبات معنى؛ ولهذا يقولون: وقد كان السلف يجرونها على ظاهرها. ولكن لفظ الظاهر -كما يقرر شيخ الإسلام رحمه الله في كتبه- صار لفظاً فيه إجمال.

    فالقصد: أنهم يصفون مذهب السلف فيما يدخلون فيه التأويل بأنه مذهب تفويض في هذا النوع. ثم هم يرون أن هذا التفويض ليس واجباً وإنما هو جائز، وإذا كان جائزاً فمعناه أنه يجوز في هذا النوع من الصفات التأويل والتفويض؛ ولهذا انتهى المذهب الأشعري إلى صيغة فيها توفيق -باعتبار رأيهم- بين مذهبهم ومذهب السلف؛ لأنه لم يكن من شعارهم في الأصل عدم تجويز مذهب السلف كما كان شأن الجهمية والمعتزلة؛ لأن إمامهم كان ينتسب لأهل السنة.

    وهذا من باب التناقض الذي وقع فيه الأشاعرة، حيث إنهم جوزوا طريقتهم، وجوزوا التفويض الذي نسبوه للسلف، وقد كان مبنى الطريقة التي انتحلوها في الصفات الفعلية التي أطبق عليها جميع الأشعرية مبني على مسألة تعارض العقل والنقل.

    وغلطهم من جهة أخرى: أن علماء الأشاعرة إذا تكلموا في مذهب السلف قرروا أن مذهب السلف كان هو التفويض، وعن هذا التقرير الذي ذكره متكلمة الأشعرية ذهبت طائفة من فقهاء المذاهب الأربعة إلى أن مذهب السلف في الصفات الفعلية على وجه الخصوص -وربما وقع في غيرها- هو التفويض.

    وهذه النسبة -أي: نسبة التفويض إلى السلف- نسبة حادثة، وقد كان المعتزلة الأوائل يعلمون أن مذهب الأئمة الذي عارضهم، وحصلت بسببه المناظرة بينهم وبين السلف كما في زمن الإمام أحمد وغيره أنه لم يكن تفويضاً، وإنما كان النزاع في ثبوت صفات الله أو عدم ثبوتها، أي: هل أن الرب متصف بالصفات أو ليس متصفاً بالصفات.

    فهذا الوهم الأشعري الذي فيه نوع تلطف مع مذهب السلف هو الذي أوجب -كما يقرر شيخ الإسلام رحمه الله - خطأ كثير من فضلاء الفقهاء؛ لأنهم رأوا أن كثيراً من الأشعرية في كتبهم لا يطعنون على السلف، وإن كانوا يقررون مخالفتهم، ولكنهم يفرضون في هذا الباب صحة هذا القول أو هذا القول، وهذا نقيده في مسألة الصفات.

    وإذا قيل هذا فهذا ليس حكماً على جميع أعيان الأشعرية، بل هو حكم مجمل، أي: هذا هو محصل المذهب في الجملة، وإلا فإن بعض علماء الأشاعرة كـأبي الفتح الشهرستاني في بعض كتبه، ومحمد بن عمر الرازي في بعض كتبه، وأبي المعالي الجويني في بعض كتبه يبينون أن طريقتهم تختلف مع طريقة السلف في نفس الأمر، وأنه يتعذر الجمع بين الطريقتين، ولكن هؤلاء لا يلتزمون هذا القول، بمعنى أنهم يقررونه تارة ويقررون نقيضه تارة أخرى.

    إذاً: المخالفون للسلف في باب الصفات في موقفهم من مذهب السلف على صنفين:

    الأول: لا ينتحلون مذهب السلف ولا يصوبونه ولا يجوزونه، بل يرونه باطلاً وتشبيهاً وضلالاً، وهذا هو شأن الجهمية والمعتزلة.

    الثاني: وهو الغالب على الأشعرية، وإن كان بعض أعيان الأشعرية -كما سلف- تارةً ينزعون إلى طريقة الجهمية والمعتزلة، وكذلك الماتريدية؛ فإن طريقتهم مركبة من الصنف الأول والصنف الثاني، فبعض علماء الماتريدية ينزع إلى الصنف الأول فيحاكي طريقة الجهمية والمعتزلة في ذم مذهب السلف، وبعض فضلاء -وإذا قلنا فضلاء فباعتبار الغلاة في المذهب - ومقتصدة هؤلاء الماتريدية ينزعون إلى الصنف الثاني.

    إذاً الصنف الثاني -وهم الذين يجوزون مذهب السلف- هم أئمة الأشعرية كـأبي الحسن والقاضي أبي بكر بن الطيب ، وأئمة الكلابية وأمثال هؤلاء. أما متأخرة الأشعرية والماتريدية فإن طريقتهم تنزع إلى الصنف الأول تارة والصنف الآخر تارة.

    فهذا موجب هذه المقالة، وهي محصلة على الصنف الثاني، فهم يقولون: أسلم؛ لأنهم ظنوا أن مذهب السلف التفويض، وطريقة الخلف أعلم وأحكم؛ لأن هذه الآيات التي اعتقدوا عدم دلالتها على الصفات اشتغلوا هم -يعنون الخلف من أصحابهم- بتأويلها إلى معان يرونها ويظنونها مناسبةً لله سبحانه وتعالى ، أي: مناسبة في التأويل لكلام الله سبحانه وتعالى ، كقولهم في الاستواء مثلاً: الاستواء فعل فعله بالعرش صار به مستوياً. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا) قالوا: ينزل أمره أو تنزل رحمته أو ينزل ملك من ملائكته. فمثل هذا التأويل هو الذي قصدوا فيه أن الخلف الذين تكلموا به أعلم وأحكم؛ من جهة أنهم صرفوا اللفظ إلى معنىً مناسب، في حين أن السلف سكتوا عن تعيين هذا المعنى المناسب، ويرون أن السلف والخلف من أصحابهم يتفقون على عدم ثبوت الصفات في نفس الأمر.

    وهذا غلط شديد من علماء الأشاعرة على السلف، فإن السلف رحمهم الله لم يكونوا من أهل التفويض، بل طريقة التفويض طريقة حادثة بعد انقراض عصر القرون الثلاثة الفاضلة، وهي طريقة متناقضة في العقل كما سيأتي التنبيه إليه، ولكونها متناقضة -أعني: طريقة التفويض- في العقل فضلاً عن بطلانها في الشرع لم يستعملها أئمة المعتزلة فضلاً عن أئمة السلف.

    ذم شيخ الإسلام لقائل هذه المقالة

    [وإن كانت هذه العبارة إذا صدرت من بعض العلماء قد يعني بها معنىً صحيحاً]

    هذه الجملة الصواب فيها أنها زيادة من أحد النساخ في كلام شيخ الإسلام ، وموجب هذه الإضافة أن المصنف قال: كما يقوله بعض الأغبياء . وقد تقدم سبب هذا الوصف، لكن لكون هذه العبارة أو ما هو في معناها يطلقها كثير من فضلاء الفقهاء، وفضلاء أصحاب الحديث المتأخرين، وطائفة من المتكلمة الذين يعنون بامتداح مذهب السلف أحياناً كـأبي حامد الغزالي ؛ فإنه كثيراً ما يمتدح مذهب السلف في كتبه، وإن كان يخرج عنه كثيراً، سواء في مسائل الصفات أو في مسائل الأحوال والإرادات والتصوف.

    فلما كان لهؤلاء مقام في العلم وفي الفقه معروف، أضاف بعض النساخ هذا الحرف فقال: وإن كانت هذه العبارة إذا صدرت من بعض العلماء قد يعني بها معنىً صحيحاً . فهم كتبوها كاعتذار، والحق أنها ليست لـشيخ الإسلام ، وهي ليست في محلها، فإن معنى هذا الاعتذار أن شيخ الإسلام إنما ذم قائل هذه المقالة إذا لم يكن من العلماء، وهذا لا يلتزمه المصنف، فهو يقول: وقد صارت مقالة أبي الحسن الأشعري وأمثاله مزلة أقدام لكثير من فضلاء أهل العلم . وثناؤه رحمه الله على كثير ممن وقعوا في هذه الأغلاط معروف، حتى إنه أثنى على أبي محمد بن حزم ثناءً شديداً في كثير من كتبه مع أنه في شرح الأصبهانية قال: وأبو محمد بن حزم وأمثاله قد قالوا مقالات في مسائل الصفات مقالاتُ كثير من المعتزلة خير منها، ومقالته في كثير من الموارد تقارب مقالة المتفلسفة .

    إذاً: كون هذا القائل من العلماء هذا لا يعني شيئاً كثيراً؛ لأن المصنف -أعني: شيخ الإسلام - لا يصف من قال هذه المقالة بأنه خارج عن صفة العلماء، فقد يكون عالماً فقيهاً أصولياً له اشتغال بعلم الحديث.. إلخ، لكن يبقى أن قوله غلط.

    ومن المعلوم أن كثيراً من فقهاء الشافعية، وفقهاء المالكية، وفقهاء الحنفية، بل وطائفة من الحنابلة وقعوا في مثل هذه الأغلاط والمقالات مع أن مقامهم في العلم مجمع عليه، ولا أحد من أهل العلم والمحققين ينازع في أن لهم مقاماً معروفاً في العلم، لكن يبقى أن قولهم غلط وافتيات على مذهب السلف.

    فلهذا هذه العبارة ليست بشيء، وواضح من نظمها وتركيبها أنه ليس عليها طابع شيخ الإسلام رحمه الله ، خاصةً أن شيخ الإسلام ذكر هذا المعنى في كتبه كثيراً ولم يعتذر هذا الاعتذار.

    علاقة مذهب الخلف بمذهب المتفلسفة

    [فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف].

    تقدم أن شيخ الإسلام ابن تيمية ضمن هذا الكتاب إشارات دقيقة جداً، فهو يقول: الخلف من المتفلسفة . مع أن المتفلسفة أظهر في الضلال من المعتزلة، والذين قالوا هذه المقالة لا يقصدون بالخلف المعتزلة، إذاً هم من باب أولى لا يقصدون المتفلسفة، وإنما يقصدون أصحابهم من متكلمة الأشعرية وأمثالهم الذين انتسبوا للسنة والأئمة، وعظموا مذهب السلف في الجملة.

    فكيف يقول شيخ الإسلام هنا: فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ؟

    نقول: لم يفضل طريقة المتفلسفة في مسألة الإلهيات بالتمام أحد من علماء الأشاعرة حتى الغلاة منهم، بل طعنهم وتصنيفهم في الرد على طوائف المتفلسفة مشهور، من ذلك ما صنفه وكتبه القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني ، وكذلك الشهرستاني في مصارعة الفلاسفة، وأبو حامد الغزالي في تهافت الفلاسفة، ومحمد بن عمر الرازي له تصنيف، وإن كان الرازي هو أخص الأشعرية تعلقاً ببعض مقالات المتفلسفة، ولا سيما مقالات الحسين بن عبد الله بن سينا ، فإنه ينقل عنه كثيراً، وإن كان يعترض عليه، لكنه تارةً يصوب بعض مقالاته؛ وهو مشغوف به.

    لكن لأن الغلط في باب الإلهيات، وبخاصة في باب الأسماء والصفات الذي محصله نفي صفات الله بالجملة عموماً كما هو مذهب الجهمية والمعتزلة، أو نفي ما هو من الصفات ولو الصفات الفعلية وحدها -مركب على الدلائل الفلسفية؛ فباعتبار أن هذه المذاهب نتيجة من نتائج الفلسفة وصف المصنف مذهب الخلف بأنه مذهب المتفلسفة، ولهذا قال: من المتفلسفة ومن حذا حذوهم . لأن الجهمية أخذوا دليلهم من المتفلسفة، وكذلك المعتزلة، بل حتى الأشعرية؛ فإنهم أطبقوا على نفي ما يسمونه حلول الحوادث وهي الصفات الفعلية، وهذا الدليل نفسه دليل فلسفي، بل هو عند التحقيق نفس المذهب، ولكنه مقرب للشريعة كثيراً، وفيه أحرف من الإسلام كثيرة، لكن أصل المادة فيه مادة أرسطية، وقد كان لـأرسطو طاليس كلام في مسألة الوجود الإلهي، فقد كان يثبت العلة والمعلول، والمحرك الذي لا يتحرك، وإنما تتحرك المعلولات على طريقة الترقي والصدور حركة شوقية.. وهذا المذهب هو الذي استعمله ابن سينا وأمثاله.

    فمذهب الأشاعرة الذي انتهى إلى امتناع اتصاف الله سبحانه وتعالى بصفة فعلية -أي: صفة تتعلق بالقدرة والمشيئة- هو نفس مفهوم نفي الحركة الذي كانوا أرسطو ينفيه ويقول: المحرك الذي لا يتحرك؛ فإن مقصود أرسطو بقوله: لا يتحرك ليس نفي الحركة الجسمانية بالضبط، فإن الحركة بالمفهوم الفلسفي العام هي: كل ما يتعلق بالقدرة والمشيئة. فقول أرسطو : لا يتحرك . هو نفس المحصل الذي دخل على الأشعرية في نفيهم لكل الصفات الموجبة لتعلق الشيء بفعل الرب ومشيئته وقيام الأفعال به؛ ولهذا لم يثبتوا إلا الصفات اللازمة، أما الصفات الفعلية فقد اتفقوا على نفيها سواءً فوضوها أو تأولوها.

    فحتى المذهب الأشعري عند التحقيق مولد -لا نقول: منقول؛ حتى يكون العرض دقيقاً- من أحد المذاهب الفلسفية.

    1.   

    أصناف المذاهب التي دخلت على المسلمين في مسائل الإلهيات

    والمذاهب التي دخلت على المسلمين في مسائل الإلهيات صنفان:

    الأول: صنف مولد، أي: أنه مركب من دلائل فلسلفية ومقدمات عقلية ومقاصد شرعية، بمعنى: أنه ليس منقولاً نقلاً محضاً صريحاً، لكنه مركب في تكوينه وترتيبه من مقدمات فلسفية هي أساس فيه، ومقاصد شرعية عامة، ومقدمات عقلية؛ من المقاصد الشرعية العامة، مثلاً: أن الله منزه عن التشبيه والتمثيل.

    وهذه هي مقالات المعتزلة، ويشاركهم فيها الأشاعرة والماتريدية، وإن كان قرب المعتزلة إلى الفلسفة أكثر بكثير من قرب الأشاعرة.

    الثاني: وهي المقالات المنقولة من الفلسفة نقلاً صريحاً، فهي ليست مولدة إنما منقولة بالتمام، وهي المقالات التي تبناها من يسمون بالفلاسفة الإسلاميين أو فلاسفة الإسلام كـابن سينا ، وأبي نصر الفارابي ، وأبي الوليد بن رشد ، وباطنيتهم الغلاة كـالمبشر بن فاتك ، وأبي يعقوب السجستاني صاحب الأقاليد الملكوتية وأمثال هؤلاء، فإن مقالات هؤلاء مقالات منقولة، بمعنى: أنها أحرف فلسفية منقولة على التمام، وفي الغالب أنها تنقل عن أرسطو .

    إذاً: قال شيخ الإسلام : من المتفلسفة ومن حذا حذوهم لأنه يعتبر أن كل المذاهب الكلامية -معتزلة أو أشعرية أو ماتريدية- مركبة في نتائجها على مقدمات متلقاة من الفلسفة، وأنه لولا هذه المقدمات الفلسفية لما انتهوا إلى هذه المذاهب، وهذه الشهادة التي قالها شيخ الإسلام في هؤلاء لا تختص به رحمه الله ، فإن أبا الحسن الأشعري لما رجع عن الاعتزال صرح في بعض كتبه أن دليل المعتزلة في الصفات منقول عن الفلاسفة.

    وإذا كان الأشعري صرح في كتبه أن دليل المعتزلة -وهو دليل الأعراض- دليل فلسفي، وصرح الشهرستاني وغيره أن مذهب المعتزلة في الصفات مذهب فلسفي؛ وإذا كانت حقيقة مذهب الأشاعرة أنه جزء من مذهب المعتزلة؛ لأنهم نفوا طائفة من الصفات وأثبتوا طائفة، إذاً: يصح أن نقول: إن المذهب الأشعري أيضاً جزء من المذهب الفلسفي.

    ومن العجب أن أبا الحسن الأشعري وصف دليل الأعراض بأنه دليل فلسفي، حتى إنه منعه في بعض كتبه، ثم هو نفسه يستعمله في بعض كتبه التي بنى عليها المذهب! حيث إن كتب الأشعري على صنفين:

    الأول: كتب انتمائية يقصد بها بيان انتمائه واتجاهه، كالرسالة إلى أهل الثغر، والإبانة.

    الثاني: كتب قصد بها تقرير المذهب على التفصيل كاللمع والموجز.. وهذه الكتب استعمل فيها دليل الأعراض.

    فهو يمنع هذا الدليل في بعض كتبه، لكي لا يلتزمه العامة، لكنه يعتقد أنه في نفس الأمر دليل صحيح، ومثله كذلك أبو حامد الغزالي ، حيث منعه في بعض كتبه، واستعمله عند الترتيب العقدي للمذهب.

    وجمهور الأشاعرة يصرحون بصحة الدليل، مع قولهم أنه دليل فلسفي عند المعتزلة، وهذا بسبب إدخالهم بعض التغييرات في مقدماته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756264106