إسلام ويب

شرح الأربعين النووية - الحديث الحادي والأربعون [2]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    وقفة مع قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها..)

    فإنه يتعلق بهذا الحديث العديد من القضايا الكبرى في علاقة الأمة بأكملها بالرسول صلى الله عليه وسلم.

    وجميع شراح الحديث يوردون في شرحه الآية الكريمة: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].

    وبهذه المناسبة ننبه على ما سبق أن نبهنا عليه مراراً، بأن الاستدلال في كتاب الله، وفهم معنى كتاب الله ودلالاته لا تؤخذ جزئية، ولا موضعية، ولكن تؤخذ وحدة موضوع متكاملة، وهذه الآية الكريمة سيقت في سورة النساء، فنأخذ ما قبلها من أول نصف الحزب قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58].

    ثم يأتي بعدها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59].

    يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: معرفة سبب النزول تعين على فهم النص، الأصوليون يقولون: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب).

    فنأتي إلى هاتين القاعدتين .. سبب نزول قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا .. [النساء:58]، لما فتح الله مكة على المسلمين -ونحن نعلم أن أعظم وأشرف مكان في الأرض هو الكعبة، ومفتاح الكعبة هو أغلى وأثمن ما يحرص عليه كل إنسان- أراد صلى الله عليه وسلم دخول الكعبة، فطلب المفتاح من آل شيبة، من عثمان بن طلحة ، وكان هو سادن الكعبة، ففتح صلى الله عليه وسلم الكعبة، ودخل فصلى وخرج، فقال علي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطنيه يا رسول الله! قال له: خذ، فجاء عثمان يطلب المفتاح ويقول: الأمانة التي أعطيتك، فنزلت: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، وهنا علي بعد أن أخذ المفتاح، هل يتمسك به أو يكون هواه تبعاً لما جاء به رسول الله من عند الله ويسلم المفتاح طائعاً مختاراً؟ الذي فعل أنه سلم المفتاح.

    ثم نأتي إلى عموم اللفظ .. (يَأْمُرُكُمْ)، والمخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب على جميع الأمة أن تؤدي الأمانات إلى أهلها، وأعظم أمانة عند الفرد هي ما ائتمنه الله عليه من دينه، حتى يقول العلماء: إن الوضوء أمانة، ويقول مالك: إن الصلاة أمانة.

    الغسل للجنابة أمانة، من منا يعلم عن الثاني أمتوضئ أم غير متوضئ؟ فهو أمر ائتمنك الله عليه.

    وفي قوله تعالى: وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [العاديات:10] قالوا: الأمانات التي ائتمن الله العباد عليها.

    وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ .. [النساء:58]، وفي آية أخرى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152]؛ لأن العدل من تعادل كفتي حمل البعير إذا كان الحمل متعادلاً متوازياً، أما إذا كانت كفة ثقيلة، والأخرى خفيفة، فإنها تطيش الخفيفة وتنزل الثقيلة ويجنح البعير ولا يستطيع المشي.

    الخطاب هنا: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ .. ، هل هو خطاب لعموم الرعية أم للحكام؟

    المخاطب بهذا هم الحكام، فالله فوق الجميع، والحاكم الذي ليست فوقه سلطة إلا لله يأمره الله أن يحكم بالعدل، ولم يقل: إذا حكمتم بين المؤمنين، لكن قال: إذا حكمتم بين الناس. أي: ولو كانوا كفاراً.

    1.   

    قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول...)

    وبعد ما رتب الأمر مع الحكام، ورسم المنهج للعدالة، جاء للرعية فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ) أولاً، ثم قال تعالى: (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فوقع عطْف وتكرار في الفعل: أطيعوا.. وأطيعوا..

    وعندما ذكر (أُوْلِي الأَمْرِ) لم يأت بفعل الطاعة؛ لأن طاعة الله طاعة مستقلة، وطاعة رسول الله طاعة مستقلة، ولذا قد ينفرد صلى الله عليه وسلم بتشريع حلال أو حرام في السنة النبوية.

    فمثلاً: الله سبحانه وتعالى قال: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ [النساء:23]، ثم قال: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24]، وجاء الرسول بالسنة وقال: (لا تُنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها)، فهذا تشريع مستقل من السنة، فأولو الأمر يطاعون ولكن ضمن طاعة الله وطاعة رسوله.

    وهنا فريقان: حكام أُمروا أن يحكموا بالعدل، ومحكومون أُمروا أن يطيعوا، وقد يقع النزاع بين الطرفين، وحينئذٍ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59].

    (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه..)، هذا الفصل وهذا الموقف يرتبط بالإيمان بالله، سواء كانوا حاكمين أو محكومين، لأن الحاكم إذا لم يؤمن بالله ويصدق بكتاب الله ويعمل به فما هو برادٍ إليه، وكذلك الرعية إذا لم تؤمن بالله وبكتاب الله فلن ترجع إلى كتاب الله ولا إلى سنة رسول الله. (إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) أي: تجازون على أعمالكم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر (ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) أي: الرد إلى الله وإلى رسوله خير من الذهاب يميناً ويساراً.

    وهنا كما يقول العلماء: الرد إلى الله معناه الرد إلى كتاب الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يخاطب كل واحد منا، ولا أحد منا عنده أهلية وصلاحية ليخاطب الله، فالرد إلى الله أي: إلى كتاب الله، والرد إلى رسوله في حياته صلى الله عليه وسلم بأن نأتيه شخصياً ونعرض عليه قضيتنا ونحكمه فيها، ومن بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى نرد الأمر إلى سنته.

    فبإجماع المسلمين أن الرد إلى الله أي: إلى كتابه، والرد إلى رسوله أي: إلى سنته.

    1.   

    قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا...) وسبب نزولها

    يأتي في المقابل بعد هذه الآية قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:60].

    في الآية الأولى قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا)، وهنا يُعجِّب رسوله من قوم فيقول: (أَلَمْ تَرَ) أي: تأمل هؤلاء! (الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا).

    الآية الأولى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يثبت الإيمان قطعاً، وهنا: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) من كتب ومن وحي إلى غير ذلك، ما موقفهم؟ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وهذه النزغة من أين أتت؟ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:60].

    سبب نزول قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك..)

    من هم أولئك الذين يزعمون؟ وما علاقة هذا الزعم والتحاكم إلى الطاغوت حتى يأتي في مقابل المؤمنين الذين يتحاكمون إلى كتاب الله وسنة رسوله؟

    أغلب المفسرين على أنها نزلت في القضية المشهورة، وهي: أن رجلاً يسمى بشراً من المنافقين، كانت بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: تعال بنا إلى محمد نحتكم إليه، قال المنافق: لا، بل إلى كعب بن الأشرف .. وهو من سادات اليهود.

    اليهودي يقول: نذهب إلى محمد الذي تعلن إيمانك به، فإذا به يقول: بل نذهب إلى كعب بن الأشرف سيد اليهود.

    فنزلت: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوت [النساء:60]، والطاغوت كما يقول علماء اللغة: على وزن (فاعول)، من الطغيان وهو: تجاوز الحد.

    وكعب بن الأشرف من أشد الطواغيت في ذلك الوقت، وكان يظهر العداوة لرسول الله ولأصحابه ويهجوهم.

    فاليهودي غلب المنافق وجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم رسول الله على مقتضى قوله تعالى: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58] فحكم لليهودي، ولم يحكم لليهودي لشخصه بل أقام العدالة، بصرف النظر عن المحكوم له أو المحكوم عليه.

    ولما خرجوا قال المنافق: أنا لا أرضى بهذا، ولكن تعال نذهب إلى أبي بكر ، فالرسول مشغول وما عنده وقت وما يفهم منا، وأبو بكر يعطينا سعة أكثر، فجاءوا إلى أبي بكر ، وقصوا عليه القضية فحكم لليهودي، فقال المنافق: لا، لنذهب إلى عمر ، فـأبو بكر مثل محمد مشغول، فلما أتيا عمر لقياه عند الباب، فبدره المنافق ليقص قصته فقاطعه اليهودي وقال: يا عمر ! لا تتعب نفسك، لقد جئنا قبلك إلى محمد فحكم لي ولم يقبل، وجئنا إلى أبي بكر فحكم لي ولم يقبل، فقال عمر للمنافق: أهكذا كما يقول اليهودي؟ قال: بلى، احكم أنت. فقال عمر : انتظرا، ودخل بيته وخرج بسيفه وضرب عنق المنافق.. وقال: هذا حكمي فيمن لم يرض بحكم الله ورسوله.

    فجاء أهل المقتول يطلبون الدية، وجاء جبريل عليه السلام، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد فرق عمر بين الحق والباطل، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أنت الفاروق)، ومن ذاك الوقت سمي عمر بـالفاروق .

    هنا نأخذ حقيقة اتباع رسول الله، وهو أن يكون هوى الإنسان تبعاً لما جاء به رسول الله.

    وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أي: أولئك المنافقين تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [النساء:61] هذا يهودي يدعوك لرسولك وأنت تصد وتقول: بل نذهب لـكعب بن الأشرف .

    فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [النساء:62] المصيبة هي ما وقع على الرجل من عمر .

    (جَاءُوكَ) أي: أولياؤه يطلبون الدية ويقولون: والله! ما نريد إلا الإحسان والإصلاح.

    أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا [النساء:63] كشف الله سبحانه وتعالى حقيقة ما تخفي قلوبهم، من الإعراض عن كتاب الله، والصد عنه؛ فهؤلاء يعلم الله ما في قلوبهم فاتركهم.

    لماذا لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين؟

    ولذا كانوا يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أمر المنافقين ولكن لم يقتلهم، وقد سئل عن ذلك، فقال: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) أي: إن هؤلاء يدعون أنهم أصحابي أفأقتلهم؟

    (وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا) بعضهم يقول: الموعظة تكون عامة كقوله صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام..)، (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ) أي: بينك وبينهم، لكن الصواب الوجه الثاني وهو أن الموعظة: التخويف والزجر.

    وقوله: (فِي أَنفُسِهِمْ): حتى يرحموا أنفسهم بأنفسهم، قل: أنتم على ضلال.. أنتم ضائعون، نبههم على الخطر الذي يحدق بهم، وكأن: (عِظْهُمْ) تعني كلاماً عاماً، لكن (فِي أَنفُسِهِمْ) أي: في خواص أشخاصهم؛ لأنهم أولى من يكون أن ينقذ نفسه.

    (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا) القول البليغ هو: الذي يبلغ الإنسان غايته، كما تقول: بلغت الغاية، والبلغة: الغاية المقصودة، والشيء الذي يبلغك إلى غايتك، والكلام البليغ بخلاف الكلام العيي؛ فالكلام البليغ: هو الذي ينقل المعنى من مكان إلى مكان آخر، فإن كان بليغاً فصيحاً واضحاً حمل المعنى ونقله، وإن كان مفككاً -مثل حالتنا- فإن المعنى يتعثر.

    إذاً: (قَوْلًا بَلِيغًا) يعني: ينفذ من عندك إليهم، وكما قالوا: ما خرج من القلب وصل إلى القلب، وليس بعد بلاغة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيراده الخبر بلاغة، فقد أُعطي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم.

    وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء:64]، (بإذن الله) هل يعني: بما أمر الله أم بتوفيقه، والويل لمن لم يوفقه الله؟

    نحملها على المعنى الأول، وإن كان المعنى الثاني أيضاً متلازماً مع المعنى الأول.

    قبول توبة المنافقين واستغفار رسول الله لهم إن تابوا

    ثم يخفف الله عنهم ويبين علاج الموقف فيقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ [النساء:64] أي: بالتحاكم إلى الطاغوت والصدود عنك وعما أنزل الله جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ [النساء:64] على ما كان منهم من صدود، وعلى ما كان منهم من خطأ وإعراض عنك.

    وقوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:64]؛ هل كل مذنب لا يُقبل منه استغفار ولا رجوع، أو لا تقبل له توبة حتى يأتي إلى رسول الله يستغفر له؟

    الآية تقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ أي: بالمعصية، سواء كانت عامة أو خاصة في هذه القضية (جَاءُوكَ) يا محمد فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:64]، هنا الشرط: لو أنهم جاءوا واستغفروا واستغفرت لهم لوجدوا المغفرة، هل المغفرة لا تقع لمذنب إلا إذا جاء واستغفر له رسول الله، أم أن التوبة بينك وبين الله وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد؟

    يقول تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].

    ويقول سبحانه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي [البقرة:186]، فلا واسطة، لكن لماذا كانت الواسطة هنا؟

    فالجواب: أننا ننظر في قضية المنافق هنا.. هل هو أعرض عن كتاب الله وحكمه فقط، أم أنه صد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً؟

    الجواب: أنه صد عن رسول الله أيضاً، إذاً: الرسول له حق في هذه القضية، فكأن مجيء المنافق إلى رسول الله ليستغفر الله بين يديه، إعلان لرجوعه وتوبته، وإذا استغفر له رسول الله فمعنى ذلك أنه أسقط حقه على ذلك المنافق، فيكون أهلاً لأن يغفر الله له.

    فمجيء المسيء في ذلك الوقت إلى رسول الله كان لحق رسول الله؛ لأن إعراضه عن حكم رسول الله فيه تعدٍ عليه وانتقاص له صلى الله عليه وسلم.

    وهذا مثال بسيط: لو جئنا إلى دائرة من الدوائر وفيها المدير، واثنان من الموظفين تنازعوا فيما بينهم، والدائرة كبيرة وفيها أقسام وكل قسم فيه رئيس، هؤلاء العمال في هذا القسم لديهم رئيسهم، فلما حصل النزاع فيما بينهم تركوا رئيسهم وذهبوا إلى رئيس قسم آخر، ثم بعد مدة سمع رئيسهم بهذا؛ فما الذي سيكون في نفسه؟ سيقول: ذهبتم إلى غيري! معناه: أني لست كفؤاً لكم، وأنكم غير محسني الظن بي..

    وهذا فكأن فيه هضماً لحق رسول الله فيما هو حق له في أن يحكم بين الناس بالعدل.. فتخطي هذا المنافق لرسول الله وإعراضه عن حكمه فيه هضم وتعدٍ على حقوق رسول الله؛ فكان من الواجب لرد هذا الاعتبار والحق أن يأتي إلى رسول الله لا أن يستغفر رسول الله، بل لكي يستغفر له رسول الله.

    وهل رسول الله سيستغفر له وهو ساخط عليه أم بعد أن يسامحه؟

    إذاً: استغفار رسول الله لهذا الجائي إليه دليل على أنه سامحه، فإذا سامحه رسول الله فإنه سيجد الله تواباً رحيماً.

    وأمرهم بإتيان النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقروا بذنبهم؛ لأن الذنب هنا مشترك: جانب في حق الله، وجانب في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فمَن في المشرق ومَن في المغرب ومن تحت الثرى، ومن في أعماق المحيط ومن في مركبة فضائية في الهواء، وسأل الله ودعاه؛ يجد الله أقرب إليه من حبل الوريد.

    1.   

    وقفة مع قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم؟

    فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].

    فقوله: فَلا وَرَبِّكَ [النساء:65]، ما الذي أحوجه إلى هذا القسم؟ وبماذا أقسم؟ ما قال: فورب السماء والأرض إنهم.. ولا قال: ورب الشعرى.. ولا قال: ورب السماوات والأرض.. ولا قال: ورب النفوس.. ولا قال: ورب الملائكة.. ولا قال: ورب جبريل.. بل قال: فَلا وَرَبِّكَ [النساء:65]، لماذا؟

    لأن المنافق حينما أعرض عن حكم رسول الله نزَّل من حقه صلى الله عليه وسلم، فيرفع المولى مكانة رسوله بأن يقسم بربه، لكن هنا ربط القسم.. فَلا وَرَبِّكَ ، يعني: فلا تأخذ في خاطرك منهم.. فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ أي: لا قيمة لهم ولا إيمان ولا تصديق ولا اعتبار لهم أبداً في مجال الإيمان حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ، وليس هذا المنافق فقط بل الكل.

    فِيمَا شَجَرَ شَجَر: الشجار أصله مأخوذ من الشجر، والشجر إذا كانت أغصانه متقاربة فإنها تتداخل فيقال: متشابك.. متشاجر.. ولذا يقولون في اللغة العبرية: (مُوشَى) ماء وشجر، يعني: الذي وجد والتقط ما بين الماء والشجر، وغير العربية يقدمون المضاف إليه على المضاف، (موشى) يعني: شجر الماء.

    فهنا: حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ يعني: تداخل والتبس عليهم.

    وهنا نقف وقفة ونقول: قد يحتكم الإنسان إلى من لا يرضى حكمه، فالمنافق لما جاء مع اليهودي إلى رسول الله هل احتكم معه عن رضا؟

    لا. فحقيقة إيمان الأمة أن تأتي في الحكم إليه طائعة راضية إلى أقصى حد، ولا تجد في النفس حرجاً أبداً مما يصدر من قضائه صلى الله عليه وسلم حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا والحرج: الضيق.

    ثُم لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا أي: تسليماً مطلقاً عن رضا بهذا القضاء.

    وأعتقد أنه لا يوجد في العالم قاض يستحق هذا الحكم من الناس أبداً.

    يقولون: في بعض أسباب نزول الآية أيضاً شيءٌ آخر وهو: قضية سقي الزبير وجاره بالماء، ولا نريد أن نطيل المقام هنا.

    ننتقل إلى مثال آخر: لو كان هناك شخص مريض وجاء إلى طبيب كافر، فقال له الطبيب: أنت تحتاج إلى شق البطن وإلى خياط كذا، وإخراج كذا، وعملية جراحية كبيرة.

    إذا كان المريض ذا ثقة بهذا الطبيب الذي يملي عليه شروطه، تفعل كذا.. ولا تفعل كذا.. ويأتي يبنجه ويسلب إرادته بعد أن يوقع بالموافقة على العملية، فإذا وافق على العملية ومات فليس له دية ما دام الطبيب مشهوراً مجرباً، لا شخصاً متطبباً يتعلم الطب في أجسام الناس، فإنا نجد المريض في أمر بدنه -الذي نهايته الموت بهذا أو بذاك- يسلم كل التسليم، ويُسلب الإرادة والإحساس، ويقطع ويمزق ويخيط ويرقع فيه الطبيب الكافر كما شاء.

    وبعد أن ينتهي يقال له: يا دكتور! ما رأيك؟ إن شاء الله العملية تنجح!

    إذا كان هذا التسليم في أمر بدنك، فكيف برب العالمين يُعطي رسوله صلى الله عليه وسلم حق الحكم فيما شجر بينكم؟!.

    انظر الصورة العملية! انظر التشريع! من أول آية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، ومن قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، ومن قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ [النساء:60].

    أي: فلماذا لا يحكمونك؟ ولماذا لا يرضون بحكمك وأنت تأخذهم بالرفق والحكمة، وأنت بالمؤمنين رءوف رحيم؟

    1.   

    قوله تعالى: (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم...)

    وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ [النساء:66] أي: لا أن يتحاكموا إليك، بل: أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:66] وهذا من حقه أن يكتب علينا ما شاء، وقد كتبه على بني إسرائيل.

    فماذا سيكون موقفهم؟

    مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ .

    إذاً: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [النساء:66] أي: في قولهم آمنا.

    جاء يهودي إلى عمر رضي الله تعالى عنه قال: لستم مثلنا، إن الله قد حكم علينا أن نقتل بعضنا بعضاً، وأنتم لم تؤمروا بذلك، فقال عمر : والله لو أمرنا ربنا أن يقتل بعضنا بعضاً لفعلنا، ولكن الحمد لله الذي لم يكلفنا ذلك.

    فهنا يبين المولى سبحانه بأنه لو أمرهم بهذا الحكم القاسي الشديد على النفس؛ ما كانوا يمتثلون إلا قليل منهم. إذاً: احمدوا ربكم الذي لم يكلفكم بهذا، وإنما كلفكم أن تتحاكموا فيما شجر بينكم إلى الحاكم العادل صلى الله عليه وسلم، ولو أنكم فعلتم هذا لكان خيراً لكم، وكان أكثر تثبيتاً على الإسلام والإيمان.

    وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:67]، إذاً: لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ مطلقاً من أدنى التكليف إلى أقصاه، لوجدوا خيراً وآتاهم الله من لدنه أجراً عظيماً.

    1.   

    قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول...)

    وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:68] بسبب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.

    ما هو الصراط المستقيم؟

    هو هذا: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُول.. [النساء:69].

    لنأخذ من أول آية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ.. [النساء:59].

    ثم: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا.. [النساء:64].

    و فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ.. [النساء:65].

    و وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ.. [النساء:69].

    انظر الآيات الأولى في المنافقين والوعيد الذي توجه إليهم، وهنا ذكر حق الذين يطيعون الله ورسوله! وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69].

    سبحان الله! مع هؤلاء الذين بلغوا القمة وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، فإذا دعيت إلى اتباع رسول الله فأطعت، فأنت مع أولئك المذكورين، وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69].

    ارجع إلى سورة الفاتحة اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7]. في الآية السابقة: مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69].

    ولذا جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سمعته صلى الله عليه وسلم في مرضه الأخير يقول: (في الرفيق الأعلى! في الرفيق الأعلى!) وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء:69-70].

    فإذا وجد إنسان نفسه في ميوله وفي اختياره وفي رغباته تبعاً لما جاء به رسول الله، فليعلم بأنه على فضل عظيم من الله.

    ترك الخيار في أمر الله ورسوله

    ولننتقل إلى سورة الأحزاب، فسنجد أن المولى سبحانه يعطل اختيار الفرد مع رسول الله، ولم يجعل للمؤمن حق الاختيار في أمره مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية (36) من الأحزاب: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، أي: ليس لهم حق في ذلك.

    وهذه القضية تأتي في صميم حياة المسلمين، وفي أقرب من يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، في زينب ابنة عمته، فقد جاء صلى الله عليه وسلم وخطبها، فظنوا أنها لرسول الله ففرحوا، فتبين أنه يخطبها لـزيد، وكان زيد مولى وكان الرسول قد تبناه، فأنزل الله القرآن وألغى التبني، فغضبوا وكرهوا خطبتها لـزيد، كيف وهي في القمة من النسب من قريش؟! فهي ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيزوجونها لهذا؟

    لكنه أمر الله، فلما كرهت وكره أخوها؛ نزلت الآية الكريمة: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، فجاء أخوها حالاً فقال: يا رسول! ماذا تأمرني؟ وحالاً تم العقد.

    في الواقع يبدأ الإنسان يقول: في بادئ الأمر هم معذورون، ولكن لا يعلمون ماذا عند الله؟ فإن الله يريد أن يشرِّع، وسبحان الله يا جماعة! فإن معضلات المشاكل العربية القبلية تُهدم في بيت رسول الله!

    كان العرب في الجاهلية يرون أن زوجة الابن بالتبني لا يمكن أن يتزوجها الأب، فيأمر المولى سبحانه رسوله أن يزوج زينب من زيد ، وكان زيد ابناً بالتبني، ثم بعد ذلك يحصل النزاع بينهما، فيقول لها: اصبري! ويقول له: اصبر! لكن بعد ذلك: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ [الأحزاب:37] .. فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ [الأحزاب:37] أي: أمن أجلهم كلهم يتحملها هو؟ قد كان بالإمكان أن يتزوجها قبل أن يمسها أحد.

    ولذا نرد على المستشرقين وعلى أولئك الذين يفتحون أبواقهم، وكذلك من يصيخ لهم السمع في تلك القضايا.

    ونقول: ابنة عمته كانت عنده قبل أن يتزوجها زيد ، ولو كانت له رغبة فيها أو تطلع إليها لتزوجها قبل ذلك وهي أكمل ما تكون، فلما طلقها زيد (زَوَّجْنَاكَهَا) بالأمر لا بالاختيار.

    وبعد أن تزوجها زيد قد يمكن أن تكون نفسه لا تريدها.. أو أنه في غنى عنها، وعنده زوجات، لكن يُلزمه الله سبحانه وتعالى أن يتزوجها، ليقضي على تلك العادات، ويرفع ما كان عند المؤمنين من حرج في شخصية رسول الله.

    إذاً: لم يكن للمؤمن مع أمر الله ومع أمر رسوله أي اختيار، فهو مسلوب الإرادة، مسلوب الاختيار، بمعنى أن يلغِي اختياره وهواه، ويلغي ما يرغب فيه، وهكذا كان سلف الأمة.

    الأنصار وطاعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم

    جاء في الموطأ عن جابر أنه جاء إلى أهل قباء وقال لهم: (لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لكم فيه خير، ولكن طاعة رسول الله أولى لنا، نهى أن تؤجر أو تكرى الأراضي على الماذيانات ورءوس الجداول).

    كان الرجل يعطي أرضه لمن يزرعها على أن لصاحب الأرض ما يكون على القناطر وعلى رءوس الحياض؛ لأنه يكون نامياً وقوياً، والتي في أوساط الحوض التي تكون ضعيفة تكون للزارع، فنهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمر أن يكون الأجر نسبة معينة: العشر.. الربع.. الثلث.. الخمس.. فلا مانع لأنه يعم الصالح والطالح.

    فقوله: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لكم فيه خير.. أي: تكسبون منه، لكن طاعة رسول الله خير لكم، ونفذوا طاعة رسول الله، وكانوا يحكِّمون رسول الله في أخص ما يكون لديهم.

    لما قدم صلى الله عليه وسلم مهاجراً ونزل بقباء، وكلنا يعلم أن المدينة كانت موطن الأوس والخزرج، وكانوا في قتال مرير قبل الإسلام بخمس سنوات، وكانت القبيلتان كفرسي رهان كما يقولون، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد البيعة الثانية التي حصلت عند العقبة من الأوس والخزرج معاً، فأول ما نزل في قباء، والمشهور أنه وصل يوم الإثنين، فسأل عن أسعد بن زرارة ، وكان سيد قومه، فقالوا: يا رسول الله! الأوس لا يذهبون إلى ديار الخزرج، والخزرج لا يأتون إلى ديار الأوس، لأن بينهم الحروب والقتال، فلما كان ليلة الأربعاء، أي بعد مجيئه صلى الله عليه وسلم بليلة وجاءت الثانية، جاء أسعد متلثماً بالليل بين المغرب والعشاء، يعني: جاء خفية عن هؤلاء الناس خائفاً على نفسه، فسأله صلى الله عليه وسلم: كيف جئت ديار القوم على ما بينك وبينهم؟، قال: يا رسول الله! ما كنت لأسمع بمجيئك في مكان إلا أتيتك.

    فالتفت إلى بني عمرو بن عوف وهم الذين كان نازلاً عندهم وقال: (أجيروا أسعد ..)، ونحن نعلم بأن الشخص إذا قال: فلان في جواري؛ فلا يمكن لإنسان أن يمسه بشيء إلا إذا خفرت الذمام وقامت الحرب.

    فماذا قالوا؟ قالوا: أجره أنت يا رسول الله فإن جوارنا من جوارك. وهذا يعني أنه أصبح محكماً فيهم، قال: (يجره رجل منكم).

    ونظام الجوار أن الضيف لا يجير، إنما يجير الأصيل في القبيلة، حتى الشخص الذي بالجوار أو بالانتماء لا يجير، والتابع لا يجير على المتبوع الأصيل.. فقام فلان وقال: هو في جواري، فبات عندهم تلك الليلة، ومن الغد ذهب إليه مجيره هذا إلى بيته متأبطاً يده ظهراً ونادى وقال: فلان في جواري، فقال بنو عمرو بن عوف كلهم: كلنا جوار لـأسعد .

    يهمنا قولهم: (أجره أنت يا رسول الله).

    كذلك في قضية سعد في غزوة الأحزاب عندما جاء المشركون ومعهم غطفان وهوازن فقال صلى الله عليه وسلم: نعرض عليهم الصلح، فشاور سعد هذا وسعد بن عبادة في أن يصالح الأحزاب على جزء من الثمرة، فقالوا: يا رسول الله! أشيء تحب أن نفعله لك فعلناه، قال: (قد علمت أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة). قالوا: لا والله يا رسول الله! كنا وإياهم على الشرك فما طعموها إلا قرى أو شراء، والآن أكرمنا الله بالإيمان والله ما يطعمون منها شيئاً، وليس بيننا وبينهم إلا السيف.

    الشاهد قولهم: (أشيء تحبه يا رسول الله نفعله لك؟) ومن هنا أيضاً كانوا رضي الله تعالى عنهم في المواقف وفي الشدة يفدُّونه بأنفسهم، فهذا أبو طلحة يترِّس على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أُحد حتى يوجد في جسمه حوالي سبعين ما بين طعنة برمح ورمية بسهم، كان كلما مر عليه إنسان يقول: هات ما عندك من سهام، ثم ينظر صلى الله عليه وسلم فيقول له: يا رسول الله! فداك أبي وأمي لا تنظر حتى لا يصيبك سهم من سهامهم. ويصاب بسبعين طعنة ورمية، لماذا؟ يفديه بنفسه؛ فمن باب أولى أن يكون هواه وميوله تابعاً له صلى الله عليه وسلم.

    التزام سنته صلى الله عليه وسلم من طاعته

    وجاء في حديث العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا يا رسول الله! لكأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبداً حبشياً؛ فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! ) إلى آخر الحديث.

    نرجع إلى الحديث مرة أخرى من جهة الأحكام.. لا إيمان لعبد إلا بأمرين معاً: أن يكون هواه تبعاً لما جاء به رسول الله، وأن يكون رسول الله أحب إليه من نفسه وولده ووالديه والناس أجمعين.

    وتبعاً لهذا فقد وردت أقوال للسلف في هذا الباب، منها: ما جاء عن مالك رحمه الله أنه قال: (لا يَصلُح آخر هذه الأمة إلا بما صلُح به أولها)، وهو الاتباع والمسير على سنة رسول الله.

    (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ) وهي الأنياب، كناية عن الحرص عليها لئلا تفرطوا.

    وأيضاً ورد عن مالك أنه قال: (من سن سنة وزعم أنها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة).

    وذلك لأن الله تعالى يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، فالمسألة منتهية، (.. من سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء).

    وجاء عند ابن ماجة : (من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل أجر من عمل بها من الناس لا ينقص من أجور الناس شيء).

    فما يهمنا هو اتباع السنة، وهذا الباب واسع، ولعل ما سبق فيه الكفاية بالتنبيه لهذا الحديث، والله تعالى أعلم.

    نسأل الله أن يرزقنا اتباعه وحسن محبته، وأن يرزقنا شفاعته صلى الله عليه وسلم، وأن يوردنا حوضه، وأن يسقينا بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756008931