إسلام ويب

شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [3]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    الكلام على الإيمان بالله

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبيه ومن والاه.

    وبعد:

    فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم؛ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه! قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

    وقد تقدم الكلام على أول هذا الحديث من مجيء جبريل عليه السلام، وكيفية جلوسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسؤاله: (أخبرني عن الإسلام؟)، وجوابه صلى الله عليه وسلم عن ذلك بأركان الإسلام الخمسة، وسيأتي زيادة بيان لهذا الجواب عن الأركان الخمسة، وعلاقتها مجموعة أو مفرقة في الحديث الثالث الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: بني الإسلام على خمس، وليس ذلك تكراراً من النووي للحديثين. بل يأتي التنبيه على نكتة مجيئه في موضعه.

    معنى الإيمان لغة وشرعاً

    وقول جبريل عليه السلام: (أخبرني عن الإيمان؟) هذا سؤال ثانٍ منه عليه السلام بعد أن سأل عن الإسلام وتلقى الجواب، فسأل ثانية عن الإيمان.

    والإيمان لغة: التصديق، قال الله تعالى: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف:17] أي: مصدقٍ لنا.

    وإذا كان الإيمان لغة: التصديق، فإن الإيمان في عرف الشرع واصطلاحه عند سلف الأمة إنما هو: اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالجوارح.

    ويبحث علماء الكلام في مفهوم الإيمان شرعاً: هل العمل داخل ضمنه، أم أن العمل من لوازمه؟ وهل الإيمان يزيد وينقص، أو لا يقبل زيادة ولا نقصاناً؟ وسيأتي التنبيه عليه إن شاء الله.

    علاقة الإسلام بالإيمان

    وهنا يأتي السؤال: كيف سأل جبريل عليه السلام السؤالين مرة عن الإسلام ومرة عن الإيمان؟

    ومن هنا يبحث العلماء عن علاقة الإسلام بالإيمان، وعلاقة الإيمان بالإسلام، ويتفقون على أن الإيمان أخص من الإسلام، فكل مؤمن مسلم، وهل كل مسلم مؤمن؟

    قالوا: لقد جاء القرآن الكريم وفرّق بين مسمى الإسلام ومسمى الإيمان، قال الله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]، ومن هنا أطال العلماء البحث في هذه المسألة وقد أورد الإمام الطحاوي في كتابه ما يتعلق بهذا الحكم، وكذلك السفاريني في عقيدته، وكلهم يتفق: على أن الإسلام والإيمان يجتمعان ويفترقان؛ يجتمعان إذا ذكر واحدٌ منهما، ويفترقان إذا ذكرا معاً.

    فإذا قيل: أمة الإسلام بخير فيدخل المسلمون والمؤمنون، وإذا قيل: المؤمنون على خير، أي: والمسلمون، أما إذا ذكر معاً: فالإسلام خير والإيمان خير منه أو أخص منه، فلكل اسم ومسمى، ومثل ذلك لفظا (الفقير والمسكين) فإذا اجتمعا افترقا، أي: إذا ذكر الفقير والمسكين كان للفقير معناه وللمسكين معناه، وإذا ذكر واحدٌ منهما اشتمل على الثاني.

    وعلى هذا: إذا أفرد الإسلام فقط، فإنه يتضمن ما تضمن معنى الإيمان، وإذا ذكر كل واحد مع الآخر، فكل واحدٍ له مسماه ودرجته، فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36].

    إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، والمسلمون كذلك. ومثل هذا: (المسلمون والمسلمات بعضهم أولى ببعض)، والمؤمنون من باب أولى أن يكون بعضهم أولى ببعض.

    ومثال اجتماع لفظ الفقير والمسكين قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60] الآية.

    إذا تبين لنا هذا؛ فما مدلول معنى الإيمان الذي أجاب به رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في سؤاله؟

    أدلة الإيمان بالله

    إذا كان الإيمان لغة: التصديق، وشرعاً: ما أجاب به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لم يخرج عن المعنى اللغوي ولكن أضاف إليه جزئية: (أن تؤمن بالله)، ومعنى تؤمن هنا: تصدق وتعتقد وتلتزم. ومعنى الإيمان بالله: التصديق بالله، وعلى أي شيء تصدق؟ هل على مجرد وجود الله؟ فإن الكفار والمشركين كانوا يؤمنون بذلك، والله سبحانه قد أقام الأدلة العقلية على وجوده، وجاءت النصوص النقلية بوجود الله سبحانه وتعالى.

    كما جاء عدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة، قال: أين هم؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء، فقال: من الذي لرغبتك ورهبتك وحاجتك؟ قال: الذي في السماء) .

    فمع وجود آلهة ستة في الأرض فهو يؤمن بالله، ولكن على المشاركة، وإيمانه بالله خاصٌ عند الشدة، كما قال الله عن المشركين إذا جاءتهم شدة: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]، والإيمان بإله معبود أمرٌ من ضروريات البشر، ولذا لا تجد فرداً من بني آدم إلا ويؤمن بمألوهٍ عنده، سواء كان ذلك المألوه حقاً أو باطلاً، لماذا؟

    لو نظرت إلى وجود الإنسان من حيث هو كما بين الله: وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28]، فهو ضعيف أمام قوى الطبيعة أو الكائنات أو الموجودات كما هو مشاهد، فهو يرى الجبال الشامخة، والسماء المرفوعة المسموكة، ويرى الأرض المبسوطة والمحيطات المتلاطمة.. كلها كائنات لم يخلقها ولم يعلم كنهها فيتساءل: ما الموجد لهذه القوى العظيمة؟ لابد في النهاية أن يرجع فكره إلى موجد لها: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ [الطور:35-36] فهم لم يخلقوا من غير شيء، ولم يخلقوا أنفسهم.

    إذاً: لم يبق إلا أن لهم خالقاً هو الله.

    أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [الطور:36]، لم يخلقوها ولم يدّعوا ذلك، إذاً: خالقها هو الله، فإذا كان العبد على توفيق من الله؛ كان مألوهه هو الله رب العالمين، وإذا حرم السعادة -عياذاً بالله- اتخذ له إلهاً على ما يزعم بأن يكون هذا المألوه عنده يحفظه من تلك القوى التي لا يقدر عليها، بأن يجلب له الخير أو يدفع عنه الضر، ولذا فالمولى سبحانه لما عاب على المشركين عبادتهم لأصنامهم، عاب عليهم بأنهم يعبدون ما لا ينفعهم ولا يضرهم، ولا يسمعونهم إذ يدعون.

    ومن ناحية أخرى: حينما ينام الإنسان ويرى في منامه الأشياء الكثيرة، ويرى عوالم أخرى لا يدرك كنهها، فإنه يتطلع إلى وجود عوالم أخرى فيتساءل: أين تلك العوالم ومن أوجدها؟ ثم يذهب في نهاية الأمر إلى وجود موجد لها، والله سبحانه خلق في العبد عقلاً، وأمره أن ينظر في ملكوت السماوات، وأن يسير في الأرض وينظر في آيات الله الكونية ويتدبر فيها، ثم أرسل إليه رسلاً وأنزل إليه كتباً، وأعلمته الرسل بصدق دعواها الرسالة بما أثبت لها الله من آيات ومعجزات.

    والمسلم قد التزم: (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، وجاءه الرسول صلى الله عليه وسلم بالكتاب الذي فيه آيات القرآن الكريم فيما يتعلق بحقوق الله سبحانه، فالإنسان من حيث هو لابد أن يجعل له مألوهاً يجلب له الخير لعجزه، ويدفع عنه الضر لضعفه، فإن وفقه الله واتبع رسله، كان مألوهه هو الله سبحانه وتعالى.

    إذاً: الإيمان بإلهٍ ضروري، ولذا تجد من الوثنين والصابئة من عبدة النجوم والكواكب والأحجار من يعتقد أن في ذلك جلب نفع إليه أو دفع ضرٍ عنه، حتى قال المانوية: إله الخير وإله الشر، وكل ذلك ضلال عقلي، والعقل السليم والفطرة السليمة تهتدي بفطرتها إلى الله، قال الحكيم الجاهلي:

    في الذَّاهبين الأَوَّلينَ من القُرون لنا بصائرْ

    لمَّا رأيْتُ موارداً للموت ليس لها مَصادِرْ

    أيقنْتُ أنِّي لا مَحالةَ حيثُ صار القومُ صائرْ

    وهذا الذي وقف في سوق عكاظ، وقال: سماءٌ ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، أفلا تدل على العليم الخبير؟

    فنظر في هذه العوالم الكونية حوله فعلم بأن لها موجداً، وأسلم لصاحب هذه الآيات الكونية، وكما أشرنا في قول القائل سابقاً:

    وأسلمتُ وجهي لمن أسملتْ له المُزْن تحمِل عَذْبّاً زُلاَلا

    إذا هي سيقت إلى بلدةٍ أطاعت فصبت عليها سِجالا

    وأسلمتُ وجهِي لمن أسلمتْ له الأرض تَحمِل صَخْراً ثِقَالا

    وهذه الفطرة حينما ينظر بها العقل السليم، يعلم بأن هذا الكون الفسيح لابد له من صانع.

    إلزام الفلاسفة بوجود الخالق

    يقول علماء الكلام في إلزام الخصم عقلاً، كما يذكرون عن أبي حنيفة رحمه الله، ولم أدر عن صحة هذه الرواية ولكن فيها معقولية، فقد كان من الفلاسفة من يمنع وجود الله ويقول: لم نر ولم نسمع، ومثل هؤلاء العلمانيون الذين لا يؤمنون إلا بالمشاهد للملموس.

    فالفلاسفة طلبوا من الخليفة أن يعقد لهم مجلساً مع أبي حنيفة يناظرهم في إثبات وجود الله على أي وجه.

    يقولون في القصة -وقد تكون مختلقة أو منظمة لإثبات هذه القاعدة-: فأعطى الموعد، وانعقد المجلس فلم يأتهم، وتأخر عليهم ساعات عديدة ثم جاءهم، قالوا: كيف تكون إماماً وتخلف الوعد وفيه ما فيه..؟

    قال: مهلاً! لقد حرصت على المجيء في الموعد، ولكن بيني وبينكم البحر -أظن أهل بغداد يعرفون الأعظمية مقابل دار الخلافة- ولما تأخرت المركب مر رجلٌ يحمل حطباً فناديته وأخذت منه الحطب وأخذت ألقيه خشبة بعد خشبة، ثم جاء رجل حداد ومعه مسامير، فأخذت المسامير وألقيت واحداً بعد واحد إلى أن التأمت تلك الأخشاب مع تلك المسامير وصار مركباً فركبت وعبرت وجئتكم.

    فقالوا: أنت بعقلك اليوم؟

    قال: وما بي؟

    قالوا: هل من المعقول أن تلقي بالأخشاب في الماء، ثم تلقي بالمسامير، فيتألف الخشب مع المسامير فيصير مركباً تركب عليه وتعبر دونما صانع يصنعه، قال: واعجباً لكم! تستبعدون تركيب سفينة بدون نجار يصنعها، ولا تؤمنون بوجود خالق لهذا الكون العظيم، أي: تقولون: السفينة الصغيرة هذه لابد لها من صانع، وتنكرون صانع هذا العالم بكبره، هل يمكن لهذا العالم أن يوجد بدون موجد. فانتهى المجلس بهذا.

    ولذا المولى سبحانه أقام الأدلة العقلية على وجوده سبحانه، وهي ضرورة، وهذا يسميه علماء الكلام: دليل الإلزام، ومن ذلك: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35].

    يقول علماء الأصول: بالسبر والتقسيم لكل الاحتمالات العقلية في وجودنا وجدنا أنه لا يخلو الأمر من هذه الأقسام التي سماها الله: هل خلقنا من غير خالق، ومن غير مادة أساسية نخلق منها، بل جئنا هكذا من العدم. أو نكون نحن خلقنا أنفسنا!

    العقل يقول: إن قلنا: إننا خلقنا من غير شيء فهذا لا يتأتى؛ لأن ما كان من غير شيء فهو عدم، والعدم لا يعطي وجوداً؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فالملح لا يحل محل السكر.

    إذاً بقي الاحتمال الثاني: هل أنتم خلقتم أنفسكم؟ ولو قال قائلٌ: نعم. أنا خلقت نفسي؛ لقيل له: قبل أن تخلق نفسك، أين كنت: في العدم أو لا؟ ومن الذين أبرزك من العدم وصرت في الوجود حتى تخلق نفسك؟! إذاً: لا يمكن أن يدعيها إنسان.

    في أول سورة البقرة قال الله: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21]، أنتم الآن وجدتم، فهل تدعون أنكم خلقتكم آباءكم وأجدادكم الأولين؟ بل هم خلقوا قبل أن توجدوا أنتم في الحياة؛ فلا يمكن للإنسان أن يدعي أنه خلق من كان قبله، فإذا لم يكن البشر خلق من لا شيء، ولم يكن البشر خلق نفسه، فلابد له من خالق، وهو الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    معنى قولنا: إن الله واجب الوجود

    إن الله سبحانه وتعالى واجب الوجود وليس جائز الوجود.

    ومعنى (واجب): أن وجود الله سبحانه لم يسبق بعدم، بخلاف جائز الوجود، مثلاً: أنت الآن لم تتزوج، ثم تزوجت ولكن لم تنجب ولداً، فولدك الذي في الغيب جائز الوجود وليس بواجب، بمعنى: أنه يجوز أن يولد لك ولد ويجوز أن لا يوجد لك ولد، فالأمر مستوي الطرفين: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً [الشورى:49-50]، فالولد الذي لم يولد بعد جائز الوجود وجائز العدم، فإذا ما وجد بعد العدم، فننظر: من الذي رجح أحد الطرفين المتساويين؟ أي: إذا كان الوجود والعدم متساويين بالنسبة لمن لم يولد، فمن رجح جانب الوجود على العدم، وجاء به إلى الحياة؟

    إذاً: كل موجودٍ لابد له من موجد إلا المولى؛ لأن وجود المولى واجبٌ، لو قلنا: إن الله سبحانه وجد بعد أن لم يكن؛ فمن الذي أوجده سبحانه وتعالى؟! وإذا قيل إن هناك من أوجده فإن الذي أوجده أحق منه بالألوهية، فهو الإله؛ فلم يسبق وجود الله عدم؛ فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والقديم الذي لم يسبقه عدم. هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد:3].

    فالإيمان بالله بمقتضى نصوص الكتب السماوية وبمقتضى النظرة العقلية أمرٌ ضروري، ولذا كان كل من ينفي وجود الله فهو مكابر، كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14]، مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، فكل البشر مقرون بوجود الله، ومن ينفي ذلك فهو مكابر.

    وكما قال: المانوية الذين يقولون بإلهين اثنين: إله الخير وإله الشر، النور والظلمة، يقولون: النور أقوى من الظلمة؛ لأن النور إذا جاء انعدم الظلام، فهو أقوى منه، فرجعوا في النهاية إلى إله واحد، لكن لم يهتدوا إلى حقيقة من هو.

    والكلام في هذا الموقف طويلٌ عريض، يدعو إلى الكلام عن صفات الله، والكلام في أسماء الله وفي أفعال الله، وكل ذلك مكانه كتب العقائد، وهي مسطرة وموضحة بحمد لله، ولكن الذي يهمنا في هذا الحديث في بيان الإيمان أولاً وقبل كل شيء: أن تؤمن بالله.

    وقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالله؛ لأن منطلق كل إيمان ومنطلق كل عمل يرجع إلى هذا المبدأ؛ لأنك إذا آمنت بالله آمنت بأنه موجود، وأنه فعال لما يريد، وأنه أرسل الرسل وأنزل الكتب، وشرع وأمر ونهى، وأعد جنة وناراً .. إلى آخره. فالمؤمن بالله أول خطواته إيمانٌ بكل لوازم الإيمان بالله، وهو كل ما جاء عن الله وأخبر به رسول الله عليه الصلاة والسلام.

    ولعلكم تجدون بعض الشراح لهذا الكتاب أو لهذا الحديث يذكرون وجود تكرار، وهل هناك إعادة بذكر الخبر بلفظ المبتدأ؟ (أخبرني عن الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن) ، أنا أسألك عن الإيمان، وأنت قلت: الإيمان أن تؤمن، كأنه يقول: فيه الدور والتسلسل؛ وليس بصحيح.

    جبريل عليه السلام سأل عن الإيمان الذي يجب على الإنسان أن يصدقه ويعتقده العبد، فأجابه صلى الله عليه وسلم بمجموع المسميات في هذا الجواب، فكأنه يقول: هذه الخصال هي الإيمان الذي تسأل عنه.

    1.   

    الإيمان بالله وصفاته

    الواجب في هذا المقام الإيمان بوجوده وبأسمائه وصفاته وأفعاله، وكل ما سمى الله به نفسه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله وكل ما أخبر الله به عن نفسه من فعل أو أخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم وجب الإيمان به.

    على المبدأ الأساسي: نؤمن بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وبما جاء عن رسول الله في صفات الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    والقاعدة الأساسية لهذا الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله؛ هي قوله سبحانه وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فنفى عن نفسه سبحانه المثلية، وأثبت لنفسه سبحانه أنه السميع البصير، فإذا أردت أن تثبت سمعاً أو بصراً، فلا يخطر ببالك ولا بخاطرك ولا بفكرك أي سمع وأي بصر على أي مثال كان؛ لأنه (ليس كمثله شيء)، فهو كما قال الشافعي رحمه الله: نحن مكلفون بإيمان تصديق وإثبات، لا إيمان تكييف وتمثيل.

    ومن هنا: كان السلف يثبتون لله صفاته دون تشبيه، وينفون عنه النقائص دون تعطيل، فهو إيمان بلا تكييف ولا تمثيل، ونفي بلا تعطيل.

    وعلى هذا قامت عقيدة السلف في الله سبحانه وفي أسمائه وصفاته، أما الذين قالوا: إذا أثبتنا سمعاً أثبتنا الأذن، وإذا أثبتنا بصراً أثبتنا عيناً؛ فالذي أوقعهم في هذا أنهم يقيسون صفات الله على صفات المخلوق.

    والمولى لطفاً بعباده قدّم لهم القاعدة الأساسية: (ليس كمثله شيء)، وذات المولى لا تشبه الذوات، والعقل لا يستطيع أن يتصور كنه ذات الله، إذ لما سألوا الرسول: أخبرنا عن الله، أهو من كذا أو من كذا؟ أقريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟

    فجاء الجواب عن الأولى، وهو السؤال عن الذات: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]، سألوه عن الذات فأجابهم بذكر الصفات؛ لأن الذات فوق العقل والإدراك، ولهذا فرعون لما سأل موسى: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:23]؟ (وما) عند المناطقة يسأل بها عن الماهية، يقال: ما الإنسان؟ والجواب: حيوان ناطق، ما التمر؟ تمرة النخل، فلما سأل فرعون بـ (ما) التي للماهية، والماهية بالنسبة لله لا تشرح ولا تدرك، بل يعرف رب العالمين بصفاته وأفعاله، فأجاب موسى عليه السلام: قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ [الشعراء:24].

    ثم قال: بل رسولكم مجنون؛ لأنني أسأله بـ(ما) التي لشرح الماهية فيذهب يجيب لي بصفاته.

    وهل أنت يا مسكين تستطيع أن تدرك حقيقة الله، إبراهيم عليه السلام لما سأله النمرود عن ربه، قال: قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258] فوجده أبله، قال: على مهلك فإن ربي يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب؟ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة:258]، يحاجه في صفات الله وأفعاله، فبهت الذي كفر.

    ولهذا لما سألوا: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ قال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].

    وكذلك عندما قالوا: انعت لنا ربك من أي شيء هو؟ فقد كان لهم آلهة من حجر ومدر وذهب.. إلى آخره، فيريدون من النبي أن يبين ما ربه، فنزلت قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، أحدٌ في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وعبوديته، فنعبده وحده: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].

    قالوا: أحدٌ بخلاف واحد؛ لأن الواحد مقابل الاثنين والثلاثة، أما أحد فلا نظير له، تقول: جاء رجلٌ واحد، وفي الدار رجلٌ واحد، أي: ليس اثنين، ما في الدار إلا رجلٌُ واحد، فتنفي أن يوجد اثنان من جنسه، لكن: ما في الدار أحدٌ، تنفي الوجود بالكلية.

    إذاً: أنت تؤمن بالله، وبوحدانيته سبحانه وتعالى في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756294135