أما بعد .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إخواني في الله: إن رقة القلوب وخشوعها، وانكسارها لخالقها وبارئها منحة من الرحمن، وعطيةٌ من الديان، تستوجب العفو والغفران، وتكون حرزاً مكيناً وحصناً حصيناً من الغي والعصيان، ما رق قلبٌ لله عز وجل إلا كان صاحبه سابقاً إلى الخيرات، مشمراً في الطاعات والمرضاة، ما رق قلبٌ لله عز وجل وانكسر إلا وجدته أحرص ما يكون على طاعة الله ومحبة الله، فما ذُكِّر إلا تذكّر، ولا بُصِّر إلا تبصر، وما دخلت الرقة إلى القلب إلا وجدته مطمئناً بذكر الله، يلهج لسانه بشكره والثناء عليه سبحانه وتعالى، وما رقّ قلبٌ لله عز وجل إلا وجدت صاحبه أبعد ما يكون عن معاصي الله عز وجل.
فالقلب الرقيق قلبٌ ذليلٌ أمام عظمة وبطش الله تبارك وتعالى، ما انتزعه داعي الشيطان إلا وانكسر خوفاً وخشيةً للرحمن سبحانه وتعالى، ولا دعاه داعي الغي والهوى إلا رعدت فرائص ذلك القلب من خشية المليك سبحانه وتعالى.
القلب الرقيق صاحبه صدّيق وأي صديق، القلب الرقيق رفيقٌ ونعم الرفيق؛ ولكن من الذي يهبُ رقة القلوب وانكسارها؟ ومن الذي يتسبب بخشوعها وإنابتها إلى ربها؟ من الذي إذا شاء قلب هذا القلب فأصبح أرق ما يكون لذكر الله عز وجل، وأخشع ما يكونُ لآياته وعظاته من هو؟ هو الله سبحانه لا إله إلا هو.
القلوب بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، فتجد العبد أقسى ما يكون قلباً، ولكن يأبى الله إلا رحمته، ويأبى الله إلا حلمه وجوده وكرمه، حتى تأتي تلك اللحظة العجيبة، التي يتغلغل فيها الإيمان إلى سويداء ذلك القلب، بعد أن أذن الله تعالى أن يصطفى ويجتبى صاحب ذلك القلب، فلا إله إلا الله من ديوان الشقاء إلى ديوان السعادة، ومن أهل القسوة إلى أهل الرقة، بعد أن كان فظاً جافياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، إذا به يتوجه إلى الله بقلبه وقالبه، إذا بذلك القلب الذي كان جريئاً على حدود الله عز وجل، وكانت جوارحه تتبعه في تلك الجرأة إذا به في لحظةٍ واحدة يتغير حاله، وتحسن عاقبته ومآله، يتغير لكي يصبح متبصراً يعرف أين يضع الخطوة في مسيره.
أحبتي في الله: إنها النعمة التي ما وجدت على وجه الأرض نعمةٌ أجل وأعظم منها: نعمةُ رقة القلب، وإنابته إلى الله تبارك وتعالى، وقد أخبر الله عز وجل أنه ما من قلبٍ يحرم هذه النعمة إلا كان صاحبه موعوداً بعذاب الله، فقال سبحانه: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ
[الزمر:22].
ويلٌ: عذابٌ ونكالٌ لقلوب قست عن ذكر الله عز وجل، ونعيم ورحمةٌ وسعادةٌ وفوزٌ لقلوب انكسرت وخشعت لله تبارك وتعالى؛ لذلك إخواني في الله: ما من مؤمنٍ صادق في إيمانه إلا وهو يتفكر كيف السبيل لكي يكون قلبي رقيقاً؟ كيف السبيل لكي أنال هذه النعمة؟ فأكون حبيباً لله عز وجل، ولياً من أوليائه، لا يعرف الراحة والدعة والسرور إلا في محبته وطاعته سبحانه وتعالى؛ لأنه يعلم أنه لن يحرم هذه النعمة إلا حُرم من الخير شيئاً كثيراً؛ ولذلك كم من أخيار تنتابهم بعض المواقف واللحظات يحتاجون فيها إلى من يرقق قلوبهم!
فالقلوب شأنها عجيب وحالها غريب، تارةً تقبل على الخير، وإذا بها أرق ما تكون لله عز وجل ولداعي الله، لو سُئِلتْ أن تنفق أموالها جميعها لمحبة الله لبذلت، ولو سُئِلتْ أن تبذل النفس في سبيل الله لضحت، إنها لحظات ينفح فيها الله عز وجل تلك القلوب برحمته، وهناك لحظات يتنعر فيها المؤمن لله تبارك وتعالى، لحظات القسوة، وما من إنسان إلا تمر عليه فترة يقسو فيها قلبه، ويتعلل فيها فؤاده، حتى يكون أقسى من الحجر والعياذ بالله.
فما من عبدٍ عرف الله بأسمائه الحسنى، وتعرف على هذا الرب الذي بيده ملكوت كل شيءٍ وهو يجير ولا يجار عليه، إلا وجدته إلى الخير سباقاً وعن الشر محجاماً، فأعظم سبب تلين به القلوب لله عز وجل وتنكسر من هيبته المعرفة بالله تبارك وتعالى، أن يعرف العبد ربه، وما من شيء في هذا الكون إلا ويذكره بذلك الرب، يذكره الصباح والمساء بذلك الرب العظيم، وتذكره النعمة والنقمة بذلك الحليم الكريم، ويذكره الخير الشر بمن له أمر الخير والشر سبحانه وتعالى، فمن عرف الله رق قلبه من خشية الله تبارك وتعالى، والعكس بالعكس، فما وجدت قلباً قاسياً إلا وجدت صاحبه أجهل العباد بالله عز وجل، وأبعدهم عن المعرفة ببطش الله وعذابه، وأجهلهم بنعيم الله ورحمته، حتى أنك تجد بعض العصاة أقنط ما يكونون من رحمة الله، وأيئس ما يكونون من روح الله والعياذ بالله؛ لمكان الجهل بالله، فلما جهل معرفة الله جرؤ على حدوده، وجرؤ على محارمه، ولم يعرف إلا ليلاً ونهاراً وفسوقاً وفجوراً، هذا الذي يعرفه من حياته، وهذا الذي يعده هدفاً في وجوده ومستقبله.
لذلك أحبتي في الله المعرفة بالله عز وجل طريق لرقة القلوب، ولذلك كلما وجدت الإنسان يديم العبرة، ويديم التفكر في ملكوت الله وجدت في قلبه رقة، ووجدت في قلبه خشوعاً وانكساراً لله تبارك وتعالى.
فما قرأ العبد تلك الآيات وكان عند قراءته حاضر القلب متفكراً متأملاً إلا وجدت العين تدمع، والقلب يخشع، والنفس تتوهج إيماناً من أعماقها، تريد المسير إلى الله تبارك وتعالى، وإذا بأرض ذلك القلب تنقلب بعد آيات القرآن خصبة طريةً للخير، ومُحبة لله عز وجل ولطاعته، فما قرأ عبدٌ القرآن ولا استمع لآيات الرحمن إلا وجدته بعد قراءتها والتأمل فيها رقيقاً قد اقشعر قلبه، واقشعر جلده من خشية الله تبارك وتعالى: كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
[الزمر:23].
فالقرآن تأثيره عجيب! هذا رجل من الصحابة تليت عليه بعض آيات القرآن، فنقلته من الوثنية إلى التوحيد ومن الشرك بالله إلى عبادة رب الأرباب سبحانه وتعالى في آياتٍ يسيرة، هذا القرآن موعظة رب العالمين، وكلام إله الأولين والآخرين: ما قرأه عبدٌ إلا تيسرت له الهداية بقراءته؛ ولذلك قال الله في كتابه: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ
[القمر:17]، هل هناك من يريد الذكرى؟ هل هناك من يريد العظة الكاملة والموعظة السامية؟ هذا كتابنا؛ لذلك أحبتي في الله ما أدمن قلبٌ ولا أدمن عبدٌ على تلاوة القرآن وجعل القرآن معه إذا لم يكن حافظاً يتلوه آناء الليل وآناء النهار إلا رق قلبه من خشية الله تبارك وتعالى.
ولذلك لن تجد إنساناً يحافظ على زيارة القبور مع التفكر والتأمل والتدبر؛ إذ يرى فيها الآباء والأمهات، والإخوان والأخوات، والأصحاب والأحباب، والإخوان والخلان، يرى منازلهم ويتذكر أنه قريباً سيكون بينهم، وأنهم جيرانٌ بعضهم لبعض قد انقطع التزاور بينهم مع الجيرة، وأنه قد يتدانى القبران وبينهما كما بين السماء والأرض نعيماً وجحيماً، ما تذكر عبدٌ هذه المنازل التي ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذِكْرها إلا رق قلبه من خشية الله تبارك وتعالى، ولا يقف على شفير قبرٍ -فرآه محفوراً- فهيأ نفسه أن لو كان صاحب ذلك القبر، وما وقف على شفير قبرٍ فرأى صاحبه يدلى فيه، إلا سأل نفسه على ماذا يغلق وعلى من يغلق وعلى أي شيءٍ يغلق، أيغلق على مطيعٍ أم على عاصٍ، أيغلق على جحيمٍ أم على نعيم، فلا إله إلا الله هو العالم بأحوالهم، وهو الحكم العدل الذي يفصل بينهم.
ما نظر عبدٌ هذه النظرات، ولا استجاشت في نفسه هذه التأملات، إلا اهتز القلب من خشية الله، وانشطر هيبةً لله تبارك وتعالى، وأقبل إلى الله تبارك وتعالى إقبال صدقٍ وإنابةٍ وإخبات.
فلذلك ينبغي للإنسان إذا أراد أن يوغل في هذه الدنيا أن يوغل برفق، فديننا ليس دين رهبانية، ولا يحرم الحلال سبحانه وتعالى، ولم يَحُل بيننا وبين الطيبات، ولكن رويداً رويداً، فالأقدار قد سبق بها القلم والأرزاق قد قُضيت يأخذ الإنسان بأسبابها دون أن يغالب القضاء والقدر، يأخذها برفق ورضاً عن الله تبارك وتعالى في يسيرٍ يأتيه، وحمدٍ وشكرٍ لباريه، سُرعان ما توضع له البركة ويكفى فتنة القسوة التي تفتح عليه فتنة كل شيء، فتجدهم يضحون بأوقات الصلوات، ويضحون بارتكاب الفواحش والموبقات، ولكن لا تؤخذ هذه الدنيا عليهم، ولا يمكن أن يضحي الواحد منهم بدينار أو بدرهمٍ منها، فلذلك دخلت هذه الدنيا إلى القلب، والدنيا شعب، ولو عرف العبد حقيقة هذه الشعب، لأصبح وأمسى ولسانه يلهج إلى ربه، رب نجني من فتنةِ هذه الدنيا، فإن في الدنيا شُعباً، ما مال القلب إلى واحدة منها، إلا استهوى القلب لما بعده، ثم إلى ما بعده، حتى يَبعد عن الله عز وجل، وعندها تسقط مكانته عند الله وما يبالي الله به في أي وادٍ من أودية الدنيا هلك والعياذ بالله.
هذا العبد الذي نسي ربه، وأقبل على هذه الدنيا مجلاً مكرماً لها، فعظم ما لا يستحق التعظيم، واستهان بمن يستحق الإجلال والتعظيم والتكريم سبحانه وتعالى، فلذلك كانت عاقبته والعياذ بالله من أسوأ العواقب.
لذلك ينبغي للإنسان إذا عاشر الأشرار أن يعاشرهم بحذر، وأن يكون ذلك على قدر الحاجة، حتى يسلم له دينه، فرأس المال في هذه الدنيا هو الدين.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، أن تهب لنا قلوباً لينة تخشع لذكرك وشكرك، اللهم إنا نسألك قلوباً تطمئن لذكرك، اللهم إنا نسألك ألسنةً تلهج بشكرك، اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، وقلباً خاشعاً، وعلماً نافعاً، وعملاً صالحاً مقبولاً عندك يا كريم.
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر