إسلام ويب

أحكام الصيام [1]للشيخ : مصطفى العدوي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد شرع الله الصيام لحكم عظيمة، ومن أعظم هذه الحكم امتثال أمر الله سبحانه وتعالى. وللصيام فوائد كثيرة منها: التضييق على الشيطان بالجوع؛ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والصوم يضيق مجاري الدم. ومن الفوائد المترتبة على الصوم أيضاً: إحصان الفرج وغض البصر؛ والإحساس بما يعانيه فقراء المسلمين من الجوع، فيكون ذلك سبباً في سخاء النفس عند البذل لهم.

    1.   

    تفسير آيات الصيام وبيان الأحكام المتعلقة بها

    باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

    فنتكلم عن تفسير آيات الصيام وما يتعلق بها من أحكام: يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].

    قوله تعالى: (كُتب) ، أي: فرض، وإن كانت الكتابة أحياناً تأتي بمعانٍ أخر، فتأتي أحياناً الكتابة بمعنى: التقدير، كما قال تعالى: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة:187] أي: ما قدره الله لكم، لكن قوله: (كُتب) في هذا الموضع، معناه: فرض وأوجب.

    تعريف الصيام لغة وشرعاً وبيان المسائل المتعلقة به

    والصيام وهو: الامتناع، هذا هو التعريف اللغوي للصيام، ومنه قوله تعالى لمريم عليها السلام: فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا [مريم:26] أي: صمتاً عن الكلام.

    أما الصيام من الناحية الشرعية: هو الامتناع عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ويكون ذلك مصحوباً بالنية أي: نية الصيام.

    ومن هذا التعريف تخرّج جملة من المسائل، أعني: من تعريف الصيام الذي هو: الامتناع عن الطعام والشراب والشهوة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية، تخرّج جملة من المسائل: ابتداءً يشهد لهذا التعريف قول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي في شأن الصائم: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) .

    أما بالنسبة لوقته: فإن الله سبحانه وتعالى يقول: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] .

    أما بالنسبة للنية: فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) .

    فتخرج من تعريف الصيام جملة من المسائل، فبالنسبة للطعام ترد جملة من المسائل النازلة منها: مسألة الْحُقن مثلاً، فهل الحقن طعام أو شراب يفطر به الصائم أم أنها ليست بطعام وليست بشراب؟

    فلقائل أن يقول: إنها ليست بطعام يستطعم ولا بشراب يستشرب كذلك، ثم هي ليست بشهوة يقيناً، فيكون على هذا الرأي أن الحقن برمتها لا يفطر بها الصائم.

    ولقائل آخر أن يفصل بين الحقن التي تقوم مقام الطعام، والتي هي للدواء فقط، فالتي تقوم مقام الطعام مفطرة، والتي لا تقوم مقام الطعام ليست بمفطرة، ولكن يرد عليه أن الحقن المغذية، ليست بطعام يطعم، فعلى ذلك الذي يبدو أن القول الصحيح هو قول من قال: إن الحقن برمتها لا تفطر.

    ترد مسألة السواك: السواك يشرع للصائم لأمور ثلاث:

    الأمر الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) ، ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين صائم وبين مفطر، فلهذا العموم يشرع السواك.

    الأمر الثاني: حديث نص في الموضوع وإن كان في إسناده كلام، وهو ما قاله بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: : (رأينا النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يحصى يستاك وهو صائم) .

    الأمر الثالث: أن السواك ليس بطعام وليس بشراب وليس بشهوة، فعلى ذلك فالسواك لا يفطر، ثم يلحق به معجون الأسنان مثلاً، فمعجون الأسنان ما لم يصل إلى الجوف فهو جائز مع الكراهة؛ أما الكراهة فلأنه يتبعه كثير من أعمال المضمضة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (وبالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائماً) ، فهذه بعض الملحقات التي تلحق بالطعام.

    مسألة الطيب: الطيب كان موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان البخور موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرد أن أحداً أفطر بسبب تطيبه أو بسبب استعماله للبخور، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من استعمل الطيب أو البخور فإنه يفطر.

    فعلى ذلك: لا بأس بالطيب والبخور للصائم، والمانع يلزمه الدليل.

    مسألة التبرع بالدم: إخراج شيء من الدم من الجسم، هذا في الأصل ينبني على حكم الحجامة. فالحجامة ورد فيها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، إلا أن كثيراً من أهل العلم يذهبون إلى أن هذا الحديث منسوخ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (احتجم وهو صائم)، واحتجامه وهو صائم، كان بعد قوله: (أفطر الحاجم والمحجوم)، فلذلك كما قال فريق من أهل العلم: إن الإفطار مما دخل وليس مما خرج، فعليه فإن إخراج الدم من الجسم بوسيلة ما من الوسائل لا يفطر الصائم، اللهم إلا دم الحيض على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.

    مسألة القطرة: لقائل أن يقول: إنها ليست بطعام وليست بشراب وليست بشهوة، وكذلك الدواء الذي يصب في الأذن يأخذ نفس الحكم من ناحية أنه لا يفطر الصائم. فتعريف الصيام هو: ترك الطعام والشراب والشهوة، ما المراد بالشهوة؟ بالاتفاق يدخل الجماع في الشهوة، سواء صاحبه قضاء الوطر أم لم يصاحبه ذلك، أما إذا لم يحدث جماع وحدث إنزالٌ بوسيلة ما من الوسائل، كالاستمناء الذي يفعله شرار الشباب والفساق منهم، وتفعله شرار الفتيات اللواتي لا يراقبن الله، ولا يراعين حرمة الله سبحانه وتعالى، ولا يراقبن ملائكة الرحمان الكرام الكاتبين، فهل الاستمناء الذي يفعله هؤلاء الشريرون يفسد الصيام أو لا يفسد الصيام؟

    يرى جمهور أهل العلم: أن إخراج المني بوسيلة ما من الوسائل عن عمد يفطر الصائم؛ وذلك لقول: النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى في شأن الصائم: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي)، وهذا المستمني لم يدع شهوته بل قضاها، وهذا رأي جمهور العلماء.

    ومن أهل العلم من قال: إن المراد بالشهوة في قوله تعالى: (وشهوته من أجلي): شهوة الجماع، وهم قلة من العلماء، أعني: الذين قالوا: الاستمناء لا يفطر الصائم، وحملوا الشهوة في الحديث على شهوة الجماع فقط. مسألة: إذا أصبح الرجل جنباً من جماع غير احتلام فعليه أن يتم صومه اغتسل قبل الفجر أم لم يغتسل؛ وذلك لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من غير احتلام ويتم صومه صلى الله عليه وسلم).

    كذلك إذا نام شخصٌ بالنهار وقدر عليه أنه احتلم فلا يفسد صومه، وعليه أن يتم صومه كأن شيئاً لم يكن. مسألة المذي: المذي لا يفطر على الصحيح من الأقوال، والذي يُمذي لا يكون قد قضى شهوته بل ما زالت باقية فيه.

    فهذا كله يخرج من تعريف الصيام: ترك الطعام والشراب والشهوة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ويكون ذلك مصحوباً بالنية كما تقدم.

    وجه التشبيه بين صيامنا وصيام من قبلنا

    قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183] هنا تشبيه، هل التشبيه ينسحب على أصل الفرضية؟ أعني: هل الصيام فرض عليكم كما كان مفروضاً على من كان قبلكم؟ أم أن التشبيه يقصد الصفة، أي: كتب عليكم رمضان بصفة الصيام فيه، غير الامتناع عن الطعام والشراب، كما كان على من كان قبلكم رمضان أم أن الصيام مفروضٌ عليكم كما كان مفروضاً على من كان قبلكم، مع اختلاف في صفة الصيام التي كان عليها الأمم من قبلنا؟

    الذي يظهر والله أعلم: أن المشابهة إنما هي في أصل الفرض، فكما أن الصيام فرض على من كان قبلكم، فقد فرض عليكم، لكن هل الصفة هي الصفة؟ لا أعلم شيئاً صريحاً في هذا صراحة تامة، اللهم إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً)، وكذلك لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وجد اليهود يصومون عاشوراء، فسأل عن سبب ذلك؟ فقالوا: هذا يومٌ أنجى الله فيه موسى من الغرق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بموسى منهم، فصامه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه)، فهذا يقرب من قول القائل: بأن صفة صيام من كان قبلنا كصفة صيامنا، والله تعالى أعلم.

    الحكمة من الصيام هي التقوى

    قوله تعالى: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، أي: لعل التقوى تحدث لكم، وهذه هي حكمة الصيام، وكيف تحدث التقوى بالصيام؟ أورد العلماء ثلاثة أمور بها تحدث التقوى:

    الأمر الأول: قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، فكلما كان جريان الدم سريعاً كلما كان حركة الشيطان أسرع وأوسع، فمن ثم إذا أكلت كثيراً تحرك فيك الشيطان كثيراً، ولذلك ذكر العلماء في أبواب الحروز من الشيطان ترك الفضول في كل شيء، فالفضول في الطعام يحرك الشيطان تحريكاً أقوى، ويحرك الشهوة كذلك، ومن ثم ورد في بعض الأخبار: (فضيقوا عليه مجاريه بالجوع)، فالجوع يقلل عمل الشيطان لتقليله لجريان الدم، هذا شيء.

    الأمر الثاني: أن الصيام على وجه الخصوص أقوى عبادة تقوي مراقبة العبد لربه سبحانه وتعالى، فالمراقبة لله سبحانه في الصيام أكثر منها في غير الصيام.

    الأمر الثالث: أن هذا الصيام يشعرك بأحوال الضعفاء والمساكين، وذلك إذا جُعت أحسست بجوع الجائعين وعطش العطشى، فيحملك هذا على تقوى الله وإعطاء هؤلاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاءً).

    المراد من قوله تعالى: (أياماً معدودات)

    قوله تعالى: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184]، المراد بها: قليلات محصورات، يأتي عليها العد، ويؤيده قوله تعالى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [يوسف:20]، فالمراد بالدراهم المعدودة: الدراهم القليلة، وكذلك يؤيد هذا المعنى قول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم، إنما يتكلم كلمات لو عدها العاد لأحصاها).

    فالمراد بقوله تعالى: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ أي: أياما قليلات يأتي عليها العد ويأتي عليها الحصر.

    حد المرض والسفر الذي يباح بهما الفطر للصائم

    قوله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، ما هو حد المرض الذي به يباح للصائم أن يفطر؟ حد هذا المرض عرفي، يرجع فيه إلى الأعراف، بلا إفراط ولا تفريط، فالذي يقول: إن من أصابه وجعٌ في ضرسه أو أصابته سعلة أو أصابه بعض الزكام أو بعض الصداع في الرأس يجوز له الفطر مطلقاً، قوله: مجازف وبعيد عن الصواب، وكذلك الذي قال: لا ينبغي أن تفطر إلا إذا أشرفت على الهلكة والموت، كذلك قولٌ بعيد عن الصواب، وكما قال العلماء: وكلا طرفي الأمور ذميم. وإنما المرض الذي يفطر معه الصائم حده عرفي، كأن يقول الناس: إن فلاناً مريض فمن ثم يستحق أن يعاد، فصومه يزيده مرضاً إلى مرضه أو لا يتحمل، فهذا هو حد المرض الذي به يباح للصائم أن يفطر.

    إذا كان مريضاً مرضاً مزمناً لا يرجى برؤه فماذا عليه؟ الذي عليه عدة من أيام أخر وهو لا يطيقها، فماذا يصنع؟ ليس هناك دليل ملزم من كتاب الله ولا من سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام يلزمه بكفارة ما من الكفارات، إنما قول من قال: عليه أن يطعم مكان كل يوم مسكيناً، إنما هو اجتهاد لبعض الصحابة، وسيأتي مزيد تفصيل فيه إن شاء الله.

    قوله تعالى: أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، هل قوله: أَوْ عَلَى سَفَرٍ يعطي مدلولاً ما في التفريق بين المسافر الذي جدّ به المسير والمسافر النازل الحال؟ المسافر على حالتين:

    مثلاً: أنت مسافر إلى مكة، سيقال عنك: جد بك المسير، هذه الحالة الأولى.

    أما الحالة الثانية: إذا نزلت مكة ووضعت رحلك، فإنك لم تعد فيمن جد بهم المسير، بل إذا وصلت إلى مكة وبقيت فيها أياماً هل لك أن تفطر أثناء إقامتك بمكة أم أن كلمة: أَوْ عَلَى سَفَرٍ ، تعني: المسافر الذي جدّ به المسير وقطع جزءاً من اليوم في السفر؟ كأن الأخير هو الأظهر، والله تعالى أعلم.

    قوله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184]، هنا مقدرٌ لابد منه، فالمقدر هو: فأفطر، فالمعنى: فمن كان مريضاً أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر، أما من كان منكم مريضاً أو على سفر فصام فلا يلزم بإعادة، فلا بد من التقدير هنا كما هو رأي الجمهور. أما أهل الظاهر فقالوا: لا تقدير، وبعضهم لهم مقالات يتعجب منها حيث قالوا: من كان مريضاً أو على سفر، وصام في سفره وفي مرضه فإن عليه عدة من أيام آخر، وهذا غريب! لأن النبي عليه الصلاة والسلام صام في السفر وما أعاد الأيام التي صامها، ولا أمر أحداً من أصحابه صام أن يعيد هذه الأيام، فعلى هذا ترد التقديرات في كتاب الله، وهذا كالتقدير الوارد في قوله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، فهنا تقدير أيضاً: فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه فارتكب محظوراً ففدية من صيام أو صدقة أو نسك، أما من كان مريضاً أو به أذى من رأسه ولم يرتكب محظوراً، فلا يلزم بفدية. قال تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، هنا سؤال يطرح نفسه: هل الصوم في السفر أفضل أم الإفطار؟ هذه المسألة تنازع فيها سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وعروة بن الزبير رضي الله عنهما، وذلك في مجلس أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز يوم أن كان أميراً على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سالم : أما أنا فلا أصوم في السفر، أخذته عن أبي، يعني: عن عبد الله بن عمر ، وقال عروة : أما أنا فأصوم في السفر، أخذته عن خالتي، يعني: عائشة رضي الله تعالى عنها، فارتفعت أصواتهما عند عمر بن عبد العزيز ، فقال لهما: إن كان يسرٌ فصوموا، وإن كان عسرٌ فأفطروا.

    وبنحو ذلك قال ابن عباس: عسر ويسر فخذ بيسر الله سبحانه وتعالى، واختاروا لأنفسكم ما اختاره الله لكم، فإن الله قال: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185].

    والأدلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهدت لهذا المعنى، ففي معرض الصوم في السفر ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم سافر مع أصحابه في يومٍ شديد الحر، قال أبو الدرداء : (حتى إن أحدهم ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة )، فهذا في معرض تجويز الصوم في السفر.

    وكذلك جاء حمزة بن عمرو الأسلمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني رجلٌ أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟ قال: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر)، وكذلك قال فريق من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب المفطر على الصائم، ولم يعب الصائم على المفطر)، أما في معرض الفطر في السفر: (فإن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الصحابة أغمي عليه وقد ظلل عليه وكان مسافراً، وقد اجتمع حوله الناس فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا مسافر وهو صائم يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: ليس من البر الصيام في السفر).

    وكان النبي في بعض المغازي، وذهب المفطرون يخدمون إخوانهم الصائمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذهب المفطرون اليوم بالأجر)، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات فقال لأصحابه: (إنكم مصبحو العدو غداً والفطر أقوى لكم)، فحثهم النبي صلى الله عليه وسلم على الفطر، فهذا كله يؤكد ما ذهب إليه الجمهور: من جواز الصوم في السفر، وجواز الإفطار، ولكن من شق عليه الصوم فليفطر، ومن أطاق الصيام صام، ومن أفطر قضى بصفة عامة، والله تعالى أعلم.

    ما يجب على من أخر القضاء إلى رمضان آخر

    قوله تعالى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، يؤخذ منه بعض الفقه، فالله سبحانه وتعالى لم يحدد متى هذه الأيام الأخر، فمن ثمّ يجاب على التساؤل الذي يصدر كثيراً من النساء: امرأةٌ كان عليها أيام من رمضان السابق، فدخل عليها رمضان هذا وهي لم تقض تلك الأيام، فماذا عليها؟ فيرى البعض أن عليها أن تصوم فيما بعد، وأن تطعم عن كل يوم مسكيناً، والإلزام بالإطعام ليس له دليل؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، ولم يحدد متى هذه الأيام الأخر، فالقول بإلزامها بإطعام مع الصيام إذا دخل عليها رمضان، ولم تكن قد صامت الأيام السابقة قولٌ لا دليل عليه، وإن أورد شخصٌ علينا أثر أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها الذي فيه: كان يكون عليّ الصيام من رمضان، فلا أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان للشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الأثر ثابت عن عائشة رضي الله عنها، إلا أن القول بالشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم ليس من قول عائشة ، إنما هو من قول يحيى بن سعيد القطان أدخله على كلام عائشة رضي الله عنها.

    فعلى كلٍ ليس في هذا الأثر إلزام بالإطعام، إنما فيه استحباب المبادرة إلى القضاء قبل أن يأتي رمضان آخر، وهذا الصنيع صحيح، ألا وهو استحباب القضاء قبل أن يأتي رمضان آخر، حتى لا تتراكم على الشخص الديون، فالله يقول: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (دين الله أحق أن يقضى). وقوله تعالى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، لم يذكر أنها على التوالي، فعلى ذلك فمن أفطر أياماً فإن له أن يُجزِّئْ قضاء هذه الأيام ولا يلزمه التتابع في قضاء ما فاته من أيام قد أفطرها في رمضان.

    معنى قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية)

    قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ [البقرة:184]، أيضاً يقدر أنهم أفطروا، والفدية طعام مسكين، وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]. ذهب جمهور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى تأويل الآية على النحو التالي:

    قالوا ما حاصله: إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أول أمر الصيام لم يكونوا قد تدربوا على الصيام، فلما أُمِروا به رحمةً من الله سبحانه بهم، كانوا بالخيار: إما أن يصوموا، وإما أن يفطروا ويطعموا مكان كل يوم مسكيناً، فكان في أول أمر الصيام، لك أن تصوم، ولك أن تفطر وتطعم مكان كل يوم مسكيناً، وهذا رأي جمهور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باستثناء عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، قالوا: ثم نسخ هذا التخيير بقوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185].

    فقوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ إن هم أفطروا ألا وهي طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]، وتقدير طعام مسكين تقدير عرفي كذلك.

    صحيح أنه ورد عن بعض السلف الصالح رحمهم الله، التقدير: بمد من شعير أو مد من أقط أو مد من حنطة، لكن كان هذا هو الذي في زمانهم، وليس فيه خبرٌ ثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإذا كنت من بلدة أهلها يأكلون اللحم فلتطعم المسكين لحماً، إذا كنت من بلدة أهلها يأكلون الفول فلتطعم المسكين من الذي تأكل منه، أي: من الذي يأكل منه عموم الناس، وهي وجبة واحدة.

    المراد بقوله تعالى: (فمن تطوع خيراً)

    قوله تعالى: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا [البقرة:184]، قال العلماء، المراد بتطوع الخير هنا: أطعم مسكينين أو ثلاثة بدلاً من المسكين الواحد، وهذا قول له وجاهته، وقد تقدم معنا كثيراً في عدة مسائل من مسائل الفقه.

    فإذا جاءنا شخص وقال: ولد لي ولد وأريد أن أذبح عنه شاتين كما حثنا رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام، كما في الحديث: (أمرهم أن يعق عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة)، فيقول: أريد أن أذبح عجلاً مكان الشاتين، هل هذا يجزئ؟ فنقول: من باب الأقيسة القوية: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البقرة أو البدنة تقوم مقام سبعة في الحج، والحج أعظم من العقيقة، فمن ثم يجوز لك على هذا القياس أن تذبح عجلاً، وأجرك أعظم، والله تعالى أعلم.

    التوجيه الصحيح لقوله: (وأن تصوموا خير لكم)

    قال تعالى: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:184]، أن: هنا مصدرية، فالمعنى: وصيامكم خيرٌ لكم، فهنا ينبغي أن تفهم: خير لكم من ماذا؟ لأن البعض يحملها على أنها خيرٌ لكم من الإفطار في السفر، أو خيرٌ لكم من الإفطار في المرض، وهذا محملٌ ضعيف، إنما قوله تعالى: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ أي: خير لكم من الفطر والإطعام.

    قد كان الأمر أول فرض الصيام: إما أن تصوم وإما أن تفطر وتطعم، سواء كنت مسافراً أو مريضاً أو لم تكن، كان للجميع هذا الترخيص.

    فقوله: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ، فيه دليل على أن أعمال البر تتفاضل، وهناك فاضل، وهناك ما هو أفضل من هذا الفاضل، وهناك مفضول.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755956288