إسلام ويب

من أعمال القلوب: (الإخلاص)للشيخ : سفر الحوالي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تكلم الشيخ حفظه الله في هذه المادة عن أعمال القلوب وأهميتها، وخص الإخلاص منها بالتفصيل، موضحاً علاقته بأعمال القلوب، حيث أنه يعد أحد شرطي قبول الأعمال، فبانعدامه يقع المرء في الشرك، كما أن الإخلاص من أخطر المداخل التي يفسد بها الشيطان أعمال العباد.

    1.   

    أعمال القلوب وأهميتها

    الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، الذين حققوا التوحيد والإخلاص والمحبة واليقين قولاً وعملاً، فصلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وعلى من اتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، الشهادة التي بعث الله تبارك وتعالى بها رسله، ودعا إليها خلقه أجمعين، وجعلها رأس الدين كله.

    أما بعــد:

    فحديثنا في هذا الدرس عن عمل من أعمال القلوب، وأصل تسمية المحاضرة هو أنها عن أعمال القلوب؛ لكننا لو تأملناها لوجدنا أنها هي نفس ما يسميه بعض العلماء شروط لا إله إلا الله.

    فهي من جهة: شروطٌ لـ"لا إله إلا الله"، ومن جهة أخرى هي: أعمال قلبية عظمى، يبنى عليها كل عمل من أعمال القلب أو الجوارح، ولا تعارض بين هذا وذاك، فالكل شيء واحد.

    وهذه الأعمال -كما تقدم- تتداخل وتتشابك؛ إذ أن أعمال القلب كلها أمر باطن، والأعمال الباطنة يصعب التفريق بينها كالتفريق بين الأعمال الظاهرة، فأنت في الأعمال الظاهرة يمكن أن تفرق بوضوح بين الحج وبين الصوم -مثلاً- وبين أداء الزكاة وبين أداء الصلاة.

    أما في الأعمال القلبية فإن اليقين، والإخلاص، والمحبة، والتوكل، والرضا، والصدق، وما أشبه ذلك يقترن بعضها ببعض وتتداخل، فلا فصل بينها بنفس النسبة , وإن كانت إذا تأملت آثارها، وعرفت حقائقها تجد أن هذه الفروق واقعة، لكنها متداخلة، وحديثنا عن موضوع الإخلاص هو مما يشهد لذلك.

    إن الإخلاص يقترن بأعمال قلبية أخرى، ولا يكون إخلاصاً إلا بها، وأجلى وأظهر الأعمال القلبية التي لا بد أن يقترن بها الإخلاص هو الصدق، فإن الإخلاص لا يمكن أن يكون مع الكذب، لا لغةً ولا عرفاً ولا شرعاً، بل الإخلاص هو قرين الصدق، والجامع الذي يجمع بينهما كلمة شرعية هي قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الشريف: (الدين النصيحة -قالها ثلاثاً- قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم).

    فلو تأملت معنى النصيحة لوجدتها تجمع بين معنيي الصدق والإخلاص، حتى في اللغة وفي عرف الناس، فإن الشيء الناصح هو الخالص الذي لا تشوبه شائبة، وهذا يكون فيه الصدق أيضاً.

    ثم إن كل من تُقِدِم له كلمة أو موعظة أو شيئاً ينفعه وتقول: إنك ناصح له، لو تأملت ذلك لوجدت أنك تريد أن تثبت أنك صادق في محبته وفيما قلت له، فلو كذبت عليه لما كانت نصيحة، والأمر الآخر أنك مخلص، فلو غششته فيما قلت -له أيضاً- لما كانت نصيحة، فلذلك هذه الأعمال تقترن -كما ذكرنا- لكن هذين العملين: الصدق والإخلاص هما من أكثر الأعمال تقارباً وتداخلاً، ولهذا نجد أن الأحاديث التي ذكرت فيها شروط لا إله إلا الله قد ذكرت العملين معاً في بعض رواياتها، وقد نذكرها أو نوردها إن شاء الله تعالى.

    1.   

    شرطا قبول الأعمال

    هذا من جهة علاقة هذا العمل القلبي بغيره من أعمال القلب، وأما عن أهميته وضرورته للمؤمن، فلا شك أن من تأمل كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، علم علم اليقين أن الإخلاص لا بد منه، وذلك أول ما يشترط في أمر العقيدة والإيمان، ثم إنه لا بد أن يدخل في كل عمل من الأعمال التي يعملها الإنسان يريد بها وجه الله، ويريد بها الثواب والأجر من عند الله.

    حتى لو أنك عملت عملاً من المباحات المجردة وليس من الطاعات المفروضة المشروعة وجوباً أو استحباباً، أو أي عمل من الأعمال التي يفعلها الناس بطبيعتهم كالأكل أو الشرب أو إتيان المرء أهله أو ما أشبه ذلك، كل من فعل ذلك ويريد الأجر من الله، ويريد أن يحتسبه عند الله، فلا بد أن يحقق فيه الإخلاص لله تبارك وتعالى؛ لأن شرطي قبول أي عمل من الأعمال هما المتابعة والإخلاص.

    الشرط الأول: المتابعة

    أولاً: الشرط الأول: المتابعة والموافقة لما شرع الله تبارك وتعالى، فالبدع مردودة على أهلها، فمهما اجتهدوا وتعبدوا وأخلصوا في نظرهم، فالبدع مردودة، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كل بدعة ضلالة} وقال: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}، وقال: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} أي: مردود لا يقبل.

    وإن ظن أنه فعله لوجه الله تبارك وتعالى، كما فعل الثلاثة النفر الذين عزموا على أنفسهم، فقال الأول: أقوم الليل ولا أنام، وقال الثاني: لا أتزوج النساء، وقال الثالث: لا آكل اللحم، وما أشبه ذلك، فكل عملٍ يعمله العبد ويظن أنه مخلص ويتعبد به، لن يكون فيه أكثر عبادةً من الخوارج، ولن يكون أكثر عبادةً من رهبان اليهود والنصارى والهندوس ممن تَرَهَب منهم.

    ولذلك فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن ذكر الخوارج وعبادتهم قال: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وعبادتكم إلى عبادتهم -ثم قال:- يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية} والرمية: هي ما يرمى من الصيد كظبيٍ أو نحوه، فيدخل السهم فيخترقه ويخرج، فلا يكاد يرى راميه فيه شيئاً من أثر، ومعنى ذلك أنهم يأتون الدين، ويخرجون منه بلا شيء، أو بما لا يكاد يُرى.

    ليس لأنهم لم يتوفر لديهم شرط الإخلاص؛ ولكن لأنه لم يتوفر لديهم شرط الموافقة والمتابعة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا الذي ذكر الله تبارك وتعالى في قوله: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110]، فالعمل الصالح هو الموافق لما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    الشرط الثاني: الإخلاص

    ثانياً: وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110] أي: فليجعله خالصاً لوجه الله الكريم، وهذا هو شرط الإخلاص، ولهذا قال الفضيل بن عياض رحمه الله في قول الله تبارك وتعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [هود:7]، قال: ''أصوبه وأخلصه'' والصواب هو الموافقة، والإخلاص: هو الشرط الثاني كما تقدم.

    فإذا كان الإخلاص بهذه المثابة فإن أهميته لا تخفى، ولا سيما في أصل الدين، فهو أعظم اشتراطاً منه في الفروع؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول -كما في الحديث القدسي-: {من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فهو للذي أشرك}، وفي روايةٍ: { تركته وشركه } ومعنى ذلك: أن الله تبارك وتعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم، وأما غير ذلك فهو غنيٌ عنه تبارك وتعالى.

    فإذا لم يقبل الله تعالى من العبد طاعةً من الطاعات إلا أن لديه أصل التوحيد والدين، فإنه يخسر تلك الطاعة ويظل معه الإيمان والتوحيد، أما إذا كان الإخلاص مفقوداً وكان الشرك في أصل الإيمان والدين، فهذا قد خسر الدنيا والآخرة.

    ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2-3]، هذا الذي يقبله الله تبارك وتعالى من عباده، ولا يقبل منهم غير ذلك.

    1.   

    حقيقة الإخلاص

    قال تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [الزمر:11-12]، قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الزمر:14-15].

    هذه الآيات الكريمات من سورة الزمر، وأيضاً ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها ما يدل على ذلك: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:64-66]، وهذه السورة اشتملت على معانٍ عظيمة في الإيمان من أبرزها -لمن قرأها وأظهرها-: أنها كررت اشتراط الإخلاص في غير ما آية، وأوضحته وأجلته.

    وكذلك نجد بعض السور القرآنية العظمى التي تتحدث عن التوحيد تشترط ذلك، وإن لم تنص عليه نصاً، كما في سورة الأنعام، فإن أكثر معانيها وموضوعاتها تتعلق بتوحيد الله وتجريد العبادة له، ونفي الشرك عنه.

    وهذه هي حقيقة الإخلاص وإن لم يرد في السورة بالنص نفسه، ولهذا تسمى سورة "الصمد"، أو سورة "قل هو الله أحد" سورة الإخلاص؛ لأنها في إخلاص العبادة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من جهة توحيد المعرفة، إخلاص التوحيد من جهة المعرفة والإثبات، فهي تثبت: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:1-4] تثبت وحدانية الله تبارك وتعالى، وتنفي عنه ما يزعمه المبطلون، الذين يدَّعون أن لله تبارك وتعالى ولداً، أو أن له كفؤاً أو شبيهاً أو نظيراً، تعالى الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين.

    وكذلك تسمى سورة الكافرون سورة الإخلاص؛ لأنها تضمنت حقيقة الإخلاص من جهة الولاء والبراء والهجر، هجر كل ما يعبد من دون الله تبارك وتعالى قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:1-3]، وفي آخرها: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6].

    فهذه براءة أو مفاصلة ومقاطعةٌ كاملة بين العبادتين وبين المنهجين، ومن هنا كان الذي أخذه وعده الله تبارك وتعالى وسجَّلَه على أهل الكتاب وعلى المنافقين أنهم كانوا غير مجردين للصدق، وغير مجردين للإخلاص لله تبارك وتعالى، بل إن ذلك -ولا سيما الإخلاص- يشمل أيضاً المشركين، وذلك أن الجامع بين الجميع هو دعوى أنهم يعبدون الله وأنهم يتقربون إليه.

    المشركون أبعد الناس عن الإخلاص

    فالمشركون -مثلاً- وهم أبعد الناس عن الإخلاص يدَّعون أنهم يعبدون الله، وأنهم يُعظِّمون حرمات الله، ويُعظِّمون بيت الله، وأنهم أتباع نبي الله إبراهيم عليه السلام، ثم إنهم يقرون لله تبارك وتعالى بالخلق والرزق والإحياء والإماتة وتدبير الأمر، وغير ذلك وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف:9]، أو: لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر:38].

    إذاً: هم يثبتون هذا، بل إنهم حتى في دعائهم يخلصون لله تبارك وتعالى، ولكن وقت الشدة فقط، فإذا كان وقت الرخاء ونجّاهم الله تبارك وتعالى إلى البر -وكان من أشق الأمور عليهم أن يركبوا البحر، ولذلك يأتي هذا المثال كثيراً في القرآن فلما نجاهم إلى البر- أشركوا بالله ما لم ينزل عليهم سلطاناً.

    إذاً: المشركون أيضاً يكذبهم الله تبارك وتعالى، ويبطل عبادتهم في دعواهم، لماذا؟

    لأنهم لم يحققو الإخلاص، وإن كانوا يزعمون أو يظنون أنهم على شيء من الدين، ولذلك كما جاء في أول الزمر: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].

    فهم يظنون أنهم بهذا يعبدون الله، ويتقربون بهم إلى الله، فيظنون أن عبادتهم هذه لله، وأنهم لم يشركوا بالله، فكأنما ينفون ما يدَّعي أو يزعم عليهم من أنهم لا يعبدون الله، أو أنهم يشركون بالله تبارك وتعالى، فأبطل الله تبارك وتعالى عبادتهم، وأنها لا تنفعهم؛ لأن الدين الذي يقبله الله هو الدين الخالص الذي لا شرك فيه، ولا شائبة معه.

    أمَّا أن يتخذ من دونه أولياء -وإن كان قصد القائل أنها تقرب إلى الله- فإنه لا يقبل منه ذلك، وهذا الزعم أنهم أولياء، أو كما ذكر في الآية الأخرى: وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18]، فقد أبطل الله تبارك وتعالى ذلك كله بأن جعل الشفاعة له جميعاً، وجعل الشرطين اللذين لا بد منهما لمن يشفع لتحقيق الشفاعة يوم القيامة هما: أن يأذن الله تبارك وتعالى للشافع، وأن يرضى عن المشفوع له.

    وهؤلاء المشركون لا يرضى الله تبارك وتعالى عنهم، ولا يرضى أن يشفع فيهم أحد؛ لأنه لا يرضى لعباده الكفر تبارك وتعالى، هذا في حق المشركين وهو واضح.

    إخلاص أهل الكتاب

    وأمَّا أهل الكتاب فإنهم يزعمون أنهم هم أهل الإيمان، وأنهم كما ذكر الله تبارك وتعالى عنهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18] ويزعمون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى.

    إذاً: هم يرون أنهم أصحاب الصراط المستقيم، وأنهم الذين يعبدون الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له، ولو سألت إلى هذه اللحظة أي يهودي أو نصراني: من الذي يعبد الله تعالى حق العبادة خالصة له في هذه الحياة الدنيا؟ لقال اليهودي: إنهم اليهود، وقال النصراني: إنهم النصارى، وهذا باطل.

    وقد أبطله الله تبارك وتعالى في مواضع من كتابه، كما في سورة البينة: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:1-4].

    وبين ذلك قال: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، هذا دين القيمة وهو الذي قال الله فيه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ [آل عمران:19] وقال: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].

    فهؤلاء أمروا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين، ولكنهم أبوا إلا أن يشركوا بالله تبارك وتعالى بأنواعٍ وألوانٍ من الشرك، منها: دعواهم أن له ولداً -تبارك وتعالى وتقدس عن ذلك- وهذا الزعم قد أبطله الله تعالى في أكثر من موضع كما في الأنعام والكهف ومريم وغيرها من الآيات العظيمة في استنكار ذلك، وكما في قوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الاخلاص:1].

    وهذه الدعوى واضح بطلانها وإفكهم فيها، ثم إنهم يشركون بالله ولا يجردون الإخلاص لله تبارك وتعالى في ما يتعلق بالتحليل -في التشريع- والتحريم، في توحيد الطاعة والاتباع، وهذا أيضاً ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31].

    فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمرهم وأن يعبدوا إلهاً واحداً، فعبدوا من دونه آلهةً أخرى، وأشركوا به تبارك وتعالى في التحليل والتحريم الأولياء -كما يزعمون- أو الأحبار أو الرهبان.

    والأحبار هم: علماء أهل الكتاب.

    والرهبان هم: عبادهم.

    والضلال لا يخرج عن هذين، فكل ضلال وقعت فيه الملل فهو بسبب أحد هذين الأمرين، بأن يشرك الناس أحد من اتصف بهاتين الصفتين.

    وهذا واقع في هذه الأمة، إما أن يشركوا بالله تبارك وتعالى، أو لا يجردون الإخلاص -وإن كان دون الشرك- لا يجردون هذا المبدأ، وهذا العمل القلبي العظيم لله تبارك وتعالى في طاعة واتباع أهل العلم، الذين يجمعون المسائل العلمية الكثيرة، ولكنهم غير مؤمنين حق الإيمان، فليسوا هم العلماء الذين وصفهم الله تبارك وتعالى بقوله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، أي: هم الذين يخشون الله ويتقونه، أو كان العلماء كذلك، ولكن أخطأوا فجاء الأتباع فأشركوا بجعلهم آلهة، وألَّهوهم بتقديم ما أخطأوا فيه على ما يعلمون من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهؤلاء هم العلماء.

    وأما العبَّاد: فإن كثيراً من الناس يفتنون بالعبَّاد في أي ملة كانت، فيقدمون أعمالهم وآرائهم وما يعبدون أو يتقربون به على ما في كتاب الله، وعلى ما في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا يقدح في إخلاصهم ويجعلهم بذلك مشركين.

    ومن هنا فإن الله تبارك وتعالى اشترط ذلك، وذكر أنه طلب من أهل الكتاب الإخلاص لله تبارك وتعالى، وهو الذي جاء في آية آل عمران: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:64].

    فهذا -أيضاً- هو تجريد العمل والإخلاص الكامل لله تبارك وتعالى، أما أن تتخذ -مفهوم الآية- أن يعبد بعضكم بعضاً، أو يعبد بعضنا بعضاً الملوك أو الأحبار أو الرهبان أو ما أشبه ذلك، فإننا بذلك لا نكون مؤمنين ولا موحدين، بل نشترط ونطلب ذلك منهم، فهذا بالنسبة لأهل الكتاب.

    إخلاص المنافقين

    أما بالنسبة للمنافقين فإن الأمر في حقهم أوضح وأجلى، فالمنافقون من أخص أعمالهم وصفاتهم الكذب، كاذبون في دعوى الإيمان، كاذبون في الشهادة بالرسالة -كما في أول سورة المنافقون- كاذبون في عبادتهم، وهم في الحقيقة كما ذكر الله تبارك وتعالى عنهم: يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً [النساء:142].

    فهذا الرياء والكذب في دعواهم أنهم مؤمنون وليسوا كذلك، وأنهم كما ذكر الله تبارك وتعالى من صفاتهم في أول البقرة: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [البقرة:9]، وغير ذلك.

    هم بهذه الصفات قد جانبوا وضادوا معنى الإخلاص الذي طلبه الله تبارك وتعالى واشترطه من عباده، وكذلك معنى الصدق.

    ولذلك نجد أن الآيات التي تتحدث عن المنافقين، وعن أعمالهم يأتي فيها هذان الأمران العظيمان، مثلاً: سورة التوبة، الفاضحة المشقشقة المخزية التي فضحت المنافقين، وأخزتهم وأظهرت بواطنهم وكشفتها، هذه السورة العظيمة يقول الله تبارك وتعالى بعد أن فضحهم، وبيَّن أعمالهم ومنهم، ومنهم، ومنهم، ويقولون، وفعلوا، وفعلوا... مما ذكر الله تبارك وتعالى، قال في آخرها موجهاً الخطاب للمؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]؛ لأن ما تقدم في حق المنافقين يشمله أنهم كاذبون فلم يكونوا من الصادقين.

    وأما إخلاص الدين لله تبارك وتعالى، فإن الله عز وجل ذكر ذلك في قوله تبارك وتعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً [النساء:145-146].

    فقد جعلهم الله تبارك وتعالى في الدرك الأسفل من النار، فهم أشد الناس كفراً وإظهاراً لمعاندة ما جاء من عند الله، وتكذيباً لرسل الله، فلا ينفعهم أبداً دعوى الإيمان وزعمه إلا بأن يحققوا هذه الشروط، وهي التوبة والإصلاح، والاعتصام بالله تبارك وتعالى.

    والشرط الرابع هو: إخلاص الدين لله عز وجل، وهذا دليلٌ على أن من أعظم ما يشوب أعمالهم هو ترك الإخلاص، وهو الشرك -وإن كان النفاق درجات وإن كانت الأعمال درجات- والناس درجات في هذا، لكن مثل هؤلاء الموصوفين بأنهم في الدرك الأسفل من النار، هؤلاء هم أهل النفاق الأكبر، فشركهم أو تركهم الإخلاص؛ لأنهم لم يخلصوا لله تبارك وتعالى في أصل الإيمان وفي أصل الدين.

    أما ما عدا ذلك، وهو من يشرك بالله تبارك وتعالى ولا يخلص له في عملٍ من الأعمال، فإن ذلك العمل يحبط ويبطل؛ لأنه كما تقدم في الحديث القدسي: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً -وهذا مطلق، سواء كان في أصل الدين عملاً كبيراً عظيماً، أو أياً كان- أشرك معي فيه غيري تركته وشركه}.

    وعلى هذا فيجب على الإنسان أن يحذر من الشرك دقيقه وجليله، وأن يحذر من الرياء؛ لأنه ضد الإخلاص، ولأن الرياء هو نوع من أنواع الشرك الأصغر، نسأل الله تعالى أن يحفظنا وإياكم من الشرك ما علمنا منه وما لم نعلم.

    1.   

    ثمرات الإخلاص

    إن الإخلاص ثمراته عظيمة جداً، ولو تأملنا الكتاب والسنة، وعمل أولياء الله من الصديقين والمقربين والصالحين الذين أثنى الله تبارك وتعالى عليهم، أو شهدت لهم الأمة بالخير لوجدنا أن صفة الإخلاص هي من أوضح وأجلى ما يتصفون به، وأنها الفارق بين ما فيه روح وما لا روح فيه.

    أرأيتم الفرق بين إنسانٍ سويٍ حيٍ ينطق ويتحرك أمامك، وبين تمثال من الخشب -كالذي يصنعه أولئك المبطلون- أو من الفخَّار أو من أي شيء، الفرق العظيم بين هذا وبين هذا هو ذلك الفرق بين من يعمل العمل خالصاً لوجه الله تبارك وتعالى، ومن يعمل أي عملٍ من الأعمال كائناً ما كان بلا إخلاص، فهو يعمل بلا روح، فروح العمل هو الإخلاص فيه.

    ويتفاوت الناس في الطاعات بمقدار تفاوتهم في الإخلاص، كما أنهم أيضاً يتفاوتون في التوبة من المعاصي بمقدار تحقيقهم لحقيقة الإخلاص والصدق في التوبة.

    ثمرات الإخلاص في الطاعة

    فأما التفاوت في الطاعة فهذا معلوم للجميع، فإن الناس يؤدون الصلوات كما نرى ونشاهد، يصلون هذا بجوار هذا في صف واحد، وقد يكونا خلف الإمام مثلاً، ولكن بين أجر هذا وأجر هذا مثل ما بين السماء والأرض، وهذا بما في قلب هذا من الإخلاص لله تبارك وتعالى في هذه العبادة، وأما الآخر فقد لا يقبل منه شيء إذا كان منافقاً أو مرائياً في صلاته؛ فإنه لا يقبل له منها شيء، فانظروا الفرق بين هذين، وإن كان العملان الظاهران سواء، ولكن الفرق إنما كان بتحقيق الإخلاص.

    ثمرات الإخلاص في الإنفاق

    إن المرء أو العبد المؤمن قد ينفق نفقةً يسيرةً لو رآها المنافقون للمزوه، وقالوا: ما هذا؟

    ألم يجد إلا هذا؟!

    ولكنها عند الله تبارك وتعالى عظيمة جداً؛ لأنها خالصة لوجه الله عز وجل، لأن هذا المؤمن التقي أنفق مما يحب، والله تعالى يقول: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92].

    ولم يتيمم الخبيث فينفق منه، كما قال تعالى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ [البقرة:267]، فهو أنفق مما يحب، وأنفق وهو محتاج، وأنفق وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويرجو الغنى، فلما اجتمعت فيه هذه الأمور -وهي دليل على الإخلاص لله تعالى في نفقته- كانت هذه النفقة -وإن صغرت في أعين الخلق- عند الخالق تبارك وتعالى لها وزن وقدر عظيم جداً، والله عز وجل يُعظِّم أجرها، ويربي هذه الصدقة لصاحبها، وربما وجدها يوم القيامة مثل الجبال وهو لا يعلم، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى وجوده وكرمه لمن صدق الله في توجهه له عز وجل.

    ثمرات الإخلاص في الجهاد

    وهكذا في بقية الأعمال، في الجهاد في سبيل الله عز وجل، فلو أن أحداً لم يخرج للجهاد ولكنه كان صادقاً مخلصاً يريد ذلك ثم لم يخرج، فهذا له أجر عظيم عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بنيته وإخلاصه لله عز وجل، فكما ذكر الله تبارك وتعالى أيضاً في الهجرة: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100] أي: بنيته وإخلاصه وإن لم يتحقق له العمل، وكما في الجهاد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قصة الذين تخلفوا معذورين، ممن عذرهم الله تبارك وتعالى في يوم تبوك عن جيش العسرة فإنهم كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما قطعتم وادياً ولا أنفقتم نفقة إلا وهم معكم حبسهم العذر} معنى ذلك: أن لهم من الأجر بإذن الله الشيء الكثير بنيتهم وبإخلاصهم: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [التوبة:92].

    فهم عندما أخلصوا وصدقوا لله تبارك وتعالى، وأخذوا يبكون حزناً؛ لأنهم لا يجدون من النفقة ما يحملهم، ولم يجد لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يحملهم عليه، كان لهم هذا الأجر، ورفع الله تبارك وتعالى الحرج عنهم، وجعلهم بدرجة من خرج ومن حمل السيف ومن ركب بذلك الحر الشديد، وتحمل تلك المشاقة العظيمة، وبعد الشقة، ونازل القوم ثم كان ما كان من أجر له عند الله عز وجل، وأمثال ذلك كثير.

    ثمرات الإخلاص في التوبة

    وأما بالنسبة للتوبة -ويدخل في ذلك أيضاً التوسل بالأعمال الصالحة- فإن الإخلاص هو من أعظم ما يحقق ذلك بإذن الله تبارك وتعالى.

    والأمثلة على هذا كثيرة جداً، ومن أشهرها وأعظمها حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، ثم ذهب وأراد أن يتوب، فسأل عن عالمٍ يعلمه التوبة، فدل على راهب لا فقه لديه، فقال له: لا أجد لك توبة فأكمل به المائة.

    فهذا الرجل لديه شدة وعنف وقوة غضبية عارمة، فأغضبه ذلك بأن قال: لا أجد لك توبة. والله تبارك وتعالى يفتح باب التوبة لمن يشاء من عباده، فكيف تغلقها أنت؟!

    فأكمل به المائة، إذ لا فرق بين أن يكون العبد قتل واحداً أو قتل ألفاً أو ألف ألف إذا لم يكن له توبة، فلا فرق بين هذا وهذا، فأكمل به المائة.

    ثم ذهب فدُلَّ على عالمٍ ممن فقهه الله تعالى في الدين، فسأله؛ فقال: ومن يمنعك من هذا؟

    ثم دله -وهكذا المربون الحكماء يعلمون ما للبيئة من أثر- لما رأى إخلاصه وصدقه في التوبة، أراد أن يتحقق له ذلك كاملاً، فقال: اخرج من هذه القرية، ودله على قريةٍ فيها قوم يعبدون الله تبارك وتعالى، بيئة صالحة يستطيع أن يتوب فيها، ولا يعود إلى ما كان فيه من الذنوب، فأدركه الموت في الطريق.

    فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأما ملائكة العذاب فتقول: الرجل قتل مائة نفس وإلى الآن لم يعمل شيئاً، إلا مجرد أنه توجه إلى القرية، لكنه لم يتعبد، ولم يتصدق أو يصم أو يُكَفِّر أو يعمل شيئاً.

    وأما ملائكة الرحمة فإنها تقول: إنه قد تاب، فحجتها أنه قد تاب، وأنه قد انسلخ من ذلك الماضي، وأنه قد أقبل على الله تبارك وتعالى تائباً صادقاً مخلصاً.

    فحكم الله تبارك وتعالى وهو أحكم الحاكمين وقضى وفصل بأن الذين يستقبلونه والذين يتلقونه هم ملائكة الرحمة، وهذا من فضل الله وجوده عز وجل، وما أعظم فضله؛ لأنه هو الغفور الودود، الرحمن، الرحيم، التواب الكريم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فقبل ذلك منه.

    فكان هذا الإخلاص الذي في قلبه كافياً، عن أي عمل يمكن أن يفترضه، أو يشترطه عابد أو واعظ أو مربٍ أو ناصح، كما حدث لملائكة الرحمة، أو كما حدث لملائكة العذاب؛ لأن التائب لا بد أن يشترط له تغيير في حياته، فلا بد من أعمال تثبت ذلك، والله تبارك وتعالى طلب ذلك، واشترط ذلك كما بينا مثلاً في آية: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ [النساء:146] أي: لا بد من أعمال معينة حتى نعلم أنه قد تاب، لكن الله تبارك وتعالى بعمله هذا القلبي وبإخلاصه وبصدقه عفا عنه ورحمه، وعد ذلك كأنه قد عمل كل ما يشترط من عملٍ للتوبة.

    إذاً: هذا يدل على فضل الإخلاص والصدق مع الله تبارك وتعالى.

    والمثال الثاني الذي يمكن أن نجعله ثانياً -والأمثلة كثيرة جداً- هو: مثال المرأة البغي التي كانت من بني إسرائيل -والحديث أيضاً صحيح - فمرت فرأت كلباً يلهث ويأكل الثرى من العطش، وهو لا يستطيع أن يشرب، وليس لدى الحيوان الأعجم حيلة، ولكن كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {في كل ذات كبدٍ رطبةٍ أجر}، فلما رأت حاله رَثَتْ له، فجاءت إلى بئر وأخذت موقها، أي: جوربها أو خفها، فملأته بالماء، ثم صعدت به، فسقته فشكر الله لها، فغفر لها.

    عمل عادي جداً لو رأيناه، وكثير من الناس لو رأوا مثل هذا الكلب لا يرحمونه، وإن رحموه فربما لا يعدون هذا العمل شيئاً، بل ربما أن هذه المرأة قد لقيت الله تبارك وتعالى وهي لا تعلم أن لها عنده عملاً عظيماً شكره الله لها وغفر لها من أجله، وربما لو قيل لها: احتسبي عند الله عملاً من الأعمال -كما في حق الثلاثة أصحاب الغار الذين سنذكر قصتهم إن شاء الله- لمَّا ذكرت هذا العمل؛ لأنها قد لا تراه شيئاً، ولكن حقيقة الإخلاص الذي في هذا العمل، بفضل الله تبارك وتعالى شكر الله لها ذلك فغفر لها؛ ولو تأملنا القصة نجد أنها أبعد شيء عن الرياء، لأسباب:

    أولاً: أن الكلب لا يحدث الناس بما صنعت له، ولو كان من بني آدم لقيل: إنها سقته لكي يخبر الناس، ويقول: فلان أعطاني، لكن هذا حيوان أعجم، فهذا دليل على أنها ما فعلت ذلك وهي تريد شهرة ولا ذكراً ولا رياءً.

    ثانياً: أنه إنما كان في خلاءٍ وهي عابرة ولم يرها أحد، ولم يذكر أن أحداً رآها لكي يذكرها.

    ثالثاً: أن دليل إخلاصها هو هذا التواضع له وهو حيوان، ولا شك أن النزول إلى البئر يعرض الإنسان للخطر، إذ قد يقع فيها فلا يخرجه أحد.

    رابعاً: أنها وضعت موقها في فمها عندما أرادت أن تصعد من البئر، وذلك حين لم تستطع أن تحمل الماء في يد وتصعد باليد الأخرى -وهذا مجرب لمن يصعد في جدار أو نحو ذلك- فجعلت موقها الذي محله الأساس هو القدم -موضع الاتساخ- في الفم، وهذ لا يفعله أحد إلا في أشد ما يكون من حالات التواضع والإخلاص، فلما صعدت سقت له ومضت، ولم تطلب منه أجراً ولا ثناءً، فهذا من فضل الله تبارك وتعالى عليها، لما أخلصت لله تعالى في ذلك، وكان حالها بخلاف المرأة الأخرى من بني قومها، التي حدَّث عنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبة الكسوف، وهي التي دخلت النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، أي: من هوامها.

    فالإخلاص يرفع الله تبارك وتعالى به العبد درجات، ويغفر بسببه الذنوب، والإهمال والتقصير والتفريط الذي قد لا يتفطن إليه، قد يكون سبباً في دخول النار -نسأل الله العفو والعافية- فهذه نجت بسقي كلب، أما تلك فهلكت بحبس هرة، فليتنبه العبد وليعلم أن الطريق مهلكة، وأنه لا بد من الاستقامة على الصراط المستقيم الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف، وليحذر ذنوبه، وليتفقد أحواله وتقصيره في حق الله تبارك وتعالى.

    المثال الثالث: وهو مثال واضح للجميع في أثر الإخلاص وما يحمد من عاقبته؛ وهو مثال الثلاثة الذين هطل عليهم المطر، فألجأهم إلى غارٍ، فأرسل الله تبارك وتعالى عليهم صخرة فسدَّت فم الغار، فلم يجدوا ملجأً من الله إلا إليه، أين يذهبون؟ ومن ينادون ويخاطبون؟ ولم يجمعهم في الغار شيء إلا اللجوء والهرب من المطر.

    فرأوا أنهم في حالة لا ينجيهم منها إلا أن يتضرعوا إلى الله تبارك وتعالى، وأن يتوسلوا إليه بأرجى عملٍ صالحٍ عملوه، فتوسلوا إليه بالإخلاص، لا بكثرة العمل، ولا بكبره -مثلاً- إنما بالإخلاص لله تبارك وتعالى فيه.

    فإن صاحب الوالدين قال بعد أن ذكر ماذا يفعل بوالديه: {اللهم إن كنت فعلت ذلك خالصاً لوجهك الكريم فافرج عنا ما نحن فيه، فرفعت} كشفت الصخرة قليلاً، إلا أنهم لا يستطيعون الخروج.

    وقال الذي حجزه الله تبارك وتعالى ومنعه من الزنا بعد أن كاد أن يقع فيه وحصل له ما يطلب، حيثما تكون الشهوة أشد، والتمكن من قضائها أشد ما يكون، حجز الله تبارك وتعالى وهذا الشاب، ورزقه الإخلاص، فترك ذلك خالصاً لوجه الله الكريم، لما قالت له: اتق الله، تذكَّر الله فاتقاه فقام، فقال: {اللهم إن كنت فعلت ذلك خالصاً لوجهك الكريم أو ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فرفعت قليلاً}.

    وجاء الثالث صاحب الأجير، الذين كثيراً ما تهدر حقوقهم في هذا الزمان وفي كل زمان، وكثير من الناس لا يبالي بهم ولا بظلمهم، ولا يحتسب الإحسان إليهم عند الله، وإذا كان في كل ذات كبد رطبة أجر ولو كانت كلباً؛ فإن الأجر في حق هؤلاء العمال أو المستأجرين أعظم، ولا يجوز لأحد أن يظلمهم.

    هذا الرجل، قلَّ أن يوجد مثله في هذا الزمان، فإن الأجير لما جاءه يطلب أجرته قال: {أترى ما في هذا الوادي من الإبل والغنم والبقر؟ هذا مالك، فقال: أتهزأ بي }أتسخر مني؟

    لأن دينه لا يبلغ هذا، ولكن الرجل تطوعاً منه نماه منه، فأعطاه إياه؛ فلما تضرع إلى الله تبارك وتعالى بأنه إن كان فعل ذلك ابتغاء وجهه، أي: أخلص فيه لله عز وجل أن يفرج عنهم فاستجاب الله له، وفرج ما بهم من كرب، وخرجوا يمشون.

    1.   

    ثمرة الإخلاص في العلم والوقت

    ما أعظم ثمرات الإخلاص، وما أحوج المسلمين، وما أحوج المتقين، وما أحوج العباد الذين يريدون الله والدار الآخرة، ويعلمون حقارة وتفاهة هذه الحياة الدنيا، أن يخلصوا أعمالهم لله عز وجل، فيرون الثمرات ويرون البركات، ويرون أموراً لا يمكن أن يصدقها أحد في حدود المنظور المادي، والواقع العادي عند الناس.

    ومن ذلك أن العلماء الذين كتبوا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وطلبوا العلم بإخلاص؛ جعل الله تبارك وتعالى لهم من البركة في أوقاتهم وأعمارهم وعلومهم، ونفع بهم كثيراً.

    ومن ذلك -مثلاً- صحيح البخاري، فكم من الكتب كتبت وألفت؟! لكن هذا الكتاب لما أخلص صاحبه لله، وكان لا يكتب الحديث إلا بعد أن يتوضأ ويصلي ركعتين ويستخير الله، وكان فيه من العبادة والزهد في الدنيا، ما هو معلوم من سيرة الإمام البخاري رحمه الله.

    لما كان كذلك بارك الله له في وقته، وبارك له في علمه، وجعل هذا الكتاب بهذه الدرجة والمنزلة، فهو أصح كتابٍ بعد كتاب الله، وتلقاه المسلمون قديماً وحديثاً إلى يوم القيامة بالقبول، وهذه كرامة عظيمة، وإلا فكم، وكم أُلِّف من كتب، لكن ليس لها ما لهذا الكتاب.

    كذلك حياة الإمام أحمد رضي الله عنه وأرضاه، وما أعطاه الله تبارك وتعالى من القبول، فإنه شيء مدهش، حيث كان الإمام أحمد رحمه الله إذا أشار بيده لرجل أن ينعم، أو إذا ذكر فلان وقال: نعم، فقط: نعم، أثنى عليه بأنه نعم، أو نِعْم الرجل، أو ما أشبه ذلك، رفعه الله عند الأمة قاطبة، فيرتفع هذا الرجل، وتنقل هذه التزكية من بغداد إلى خراسان إلى مصر إلى الأندلس وإلى كل مكان، وتسجل وتكتب، أن أحمد قال فيه: نعم الرجل أو أثنى عليه أو ذكره بخير، فتكون تزكية له وقبولاً لروايته وعلمه، وتصحيحاً لعقيدته.

    وإن قال في أحدٍ: لا، أو نحو ذلك، سقط مهما كان علمه ومهما كانت قيمته، وينتشر هذا الجرح في الآفاق حتى لا يكاد أن تجده عند أحد إلا وقبله حتى وإن زكاه غيره لا بد أن يقول: ولكن أحمد قال فيه كذا.

    والخليفة المتوكل من شدة حرصه على أن يزكى لدى الأمة كعادة الحكام في كل زمانٍ ومكان، طلب من الإمام أحمد أن يأتي إليه؛ لأن الناس يعلمون أن الإمام أحمد لا يأكل إلا من طعامٍ حلال، فيريد أن يأتي إليه ويطعم من طعامه، فيتحدث الناس بذلك، فيتزكى المتوكل عند الأمة بأن الإمام أحمد أكل من طعامه فقط، ولو لم يثن عليه ولا بكلمة.

    فأبى الإمام أحمد، ثم لمَّا ألحَّ عليه الخليفة، وهو المتوكل الذي أحيا الله به السنة وقمع به البدعة، وله فضل على أهل السنة والجماعة، وهو إمام المسلمين، فلم ير بداً من أن يطيعه، فذهب إليه ولكنه واصل الصيام.

    حتى يقول ابنه عبد الله وابنه صالح: أشفقنا وخشينا على الإمام من الموت، واصل الأيام والليالي، وكان لا يشرب إلا الماء؛ لأن الماء ليس لأحد فيه فضل، والمتوكل يظن أنه يطعم من طعامه، لأنه لم يقابله ولم يجالسه على مائدة، فلِمَ كانت لهم هذه المنزلة؟! إنما هي بإخلاصهم لله تبارك وتعالى.

    ثم من ناحية البركة في الوقت: انظر مؤلفات شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، ومؤلفات الذهبي، ومؤلفات ابن كثير، ومؤلفات النووي ترى عجباً، عندما ترى هذه المؤلفات مع ما تعرضوا له -ولا سيما مثل ابن تيمية رحمه الله- من النفي والسجن والأذى والمحاكمات وحرق الكتب، وحبس ما يكتب به، والاشتغال مع ذلك بالعبادة، بل حتى بالجهاد، شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله جاهد الباطنيين، وجاهد التتار، جهاد وعلم، تحصيل للعلم وتنقيب في الكتب، وعبادة، ثم يؤلف هذه الكتب، كيف كان ذلك؟!

    نحن الآن كما ترون نسأله عز وجل البركة في أوقاتنا وأعمارنا، وأن يرزقنا الإخلاص الذي به تحل البركة، الطالب يظل خمس سنوات في الدكتوراة ثم يخرج كتاباً إذا قرأته وجدت أنه نُقول فحسب، لو جدَّ فيها لجمعها في أشهر، ولو كان من السلف لجمعها في أيام وأسابيع؛ فإنها مجرد نقول فحسب، ولم يفن هذا العمر؟

    إن هذا بقدر ما لدينا من إخلاص، فكيف هذه؟

    حتى قال بعضهم: لو قسمت عمره على كتبه لوجدت أنه كان يكتب في كل يومٍ كراسة من عشرين لوحة، فهل يمكن لأحد أن يكتب هذه، ومتى يحققها؟

    ومتى يحررها؟

    وإذا طلبنا من أخ مقالاً في صفحة واحدة فإنه سيكتبها الليلة ويراجعها في اليوم الذي بعده، وينقحها بعد ذلك، وقد يمضي الأسبوع ولم يأت بها، سبحان الله!! كيف يكتب هؤلاء، إذا كتب عشرين لوحة محررة منقحة بأقوال معزوة إلى أصحابها، وأمانة في النقل، ودقة في الاستنباط، لا يمكن أن يكون هذا إلا ببركة من الله تبارك وتعالى في عملهم، وذلك بسب إخلاصهم لله عز وجل.

    ولذلك أوتوا الهمة العليا، فعندما قال الإمام الطبري رحمه الله لتلاميذه: سأُملي عليكم التفسير في ثلاثمائة مجلد، قالوا: هذا كثير -ثلاثمائة كثير لا يستطيعونها- فقال: الله أكبر!! ضعفت الهمم، فجعله في ثلاثين بدلاً من الثلاثمائة، فهذه الثلاثون جزءاً، كانت على قدر الهمم، فسعة تفسير الطبري، وما فيه من الأقوال والأسانيد، وأقوال له في اللغة رواية ودراية معاً، فهذا كتبه رحمه الله لضعيفي الهمم، ونحن الآن نقول: الطبري يحتاج أن نختصره، وبالفعل يختصر؛ لأن ما عليه الهمة الآن هي عُشر ما كانت عليه في أيام تلاميذ الطبري ... وهكذا، فلماذا تضعف الهمة؟

    تضعف الهمة بقلة الإخلاص، ومع الإخلاص تكون أعلى، ويكون اليقين أكثر، وإذا اجتمع للإنسان الإخلاص واليقين والمحبة وسائر ما ذكرنا، وما سنذكر من أعمال القلب، فإنه يكون في غاية الهمة.

    والصحابة رضوان الله تعالى عليهم لما تحقق لهم ذلك لم يفكروا على الإطلاق في قوى الدنيا كلها مهما كانت، بل ترسل الجيوش شرقاً وغرباً، براً وبحراً ولا يبالون، ولا ينظرون إلى العدو -نعم يعدون العدة تماماً- ويستطلعون أموره كأدق ما يكون من الدراسات الاستراتيجية أو الاستخبارات العسكرية، لكن يعلمون أنهم إنما يقاتلون في سبيل الله، فلم تقم أمامهم أية قوة، إنما هم انتصروا بإيمانهم وبتقواهم وبإخلاصهم وبصدقهم مع الله تبارك وتعالى.

    ثم بقيت مسألة نختم بها وهي: أن الإخلاص يورث العبد بأن يكون من المخلصين؛ وهذا لأن الجزاء من جنس العمل، فإذا أخلص العبد وصدق مع الله تبارك وتعالى، فإنه يجعله الله تبارك وتعالى من المخلصين، والمخلَصون هم صفوة وخيرة من خلق الله تبارك وتعالى، وهم الذين يعرفون الله، ومن أهم صفاتهم -وهي كثيرة- أنهم يعرفون الله تبارك وتعالى، كما في سورة الصفات، بعد أن ذكر الله عز وجل حال المشركين وأمثالهم الذين نسبوا إلى الله تعالى الولد، وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً، قال عقب تلك الآيات: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات:159]، إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:40].

    فكل ما يصفه به الواصفون فهو منزه عنه، إلا ما يصفه به من يعرفونه ويقدرونه حق قدره، ويصفونه بصفات الكمال والثناء والمحامد المرضية.

    نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلني وإياكم من المخلَصين المخلِصين، وأن يتقبل منا أعمالنا جميعاً، وأن لا يجعل فيها شيئاً لأحدٍ غيره إنه سميع مجيب.

    1.   

    الأسئلة

    أثر الإخلاص في أصول الدين

    السؤال: يقول: ذكرتم يا فضيلة الشيخ أن الإخلاص من شروط لا إله إلا الله, فهل إذا انعدم هذا الشرط أو اختل يخرج الإنسان من الملة؟

    الجواب: نعم أحسنت, هذا ذكرني بمسألة اشتراط الإخلاص في الشهادة وما جاء في ذلك, ولا سيما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري والإمام أحمد وغيرهما, لما سأله أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: {يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من شهد ألا إله إلا الله مخلصاً بها قلبه}, وقال في رواية أخرى: {يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه}.

    ولذلك قلنا الصدق والإخلاص مقترنان, فالذي يشهد ألا إله إلا الله وهو صادق مخلص فإنه يكون أسعد الناس بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن ثمَّ فهو جدير حري ألا يدخل النار كما جاء في رواية أخرى: {فإن الله قد حرم النار على من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله} أي: خالصاً ذلك لله, وقد جاءت كلمة الإخلاص في إحدى رواية المسند.

    إذاً الإخلاص مراتب, كاليقين والمحبة وغيرها, فأصل الدين لابد فيه من الإخلاص, وأصل الإقرار والشهادة بألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لابد فيها من ذلك، وإلا كان قائلها مشركاً أو منافقاً كما بينا فيما مضى, وهذا معلوم أنه خارج من الملة طبعاً, فإن قالها وشهدها بحق ولكنه فرط في عمل من أعمالها وتوابعها ولوازمها؛ أي من الطاعات التي جعلها الله تبارك وتعالى فروعاً وتحقيقاً للشهادة فلم يخلص فيه لله عز وجل فإنه يكون من أهل الكبائر وهو داخل في الوعيد, وأهل الكبائر معلوم حكمهم, إذ هم أصحاب الوعيد الذي إن شاء الله تعالى غفر لصاحبه, وإن شاء عذبه, وأسباب المغفرة وأسباب النجاة من النار كثيرة, وهي موانع من أن يكون المرء من أصحاب الوعيد, وقد تقدم شرحها فيما سبق, ومن أعظمها شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الصالحين من عباد الله تبارك وتعالى.

    فإذاً إذا فقد الإخلاص في أصل الدين وأصل الشهادة فصاحبه مشرك خارج من الملة, وأما إذا فقده في شعبه من شعب الإيمان أو عمل من أعماله, فهذا العمل حابط وقد خسر هذا العمل لكنه لا يخسر دينه كله, فرب رجل لا يخلص لله تبارك وتعالى في نفقة, مثلاً: أعطى ألف ريال رياءً, لكنه في صلاته مخلص, فهو ينال أجر الصلاة أيضاً مع أجر التوحيد وهو صادق فيه, ولكنه لا يأخذ أجر هذا المال الذي تصدق به, ولكنه على أية حال هو على خطأ عظيم؛ لأنه أبطل صدقته بالمنِّ والأذى, وهذا من أهل الوعيد.

    أثر الرياء على صحة العمل مع توفر المجاهدة

    السؤال: هل إذا طرأ على العمل رياء يبطل العمل, ولو كان هنالك مجاهدة؟

    الجواب: إذا طرأ الرياء على العمل فلا يخلو إما أن يجاهد صاحبه ذلك الرياء كما ذكر الأخ فهذا لا يبطل عمله بإذن الله, بل هذا يؤجر على تلك المجاهدة وربما يكون ذلك خيراً له, أي ربما يكون هذا النزغ من الشيطان سبباً في مجاهدة يؤجر عليها العبد أجراً أكبر وأكثر مما لو أنه عمل العمل ولم يأته الشيطان ولم يحدثه في ذلك.

    وإما أن يستسلم للشيطان وأن يوافقه فيرائي بذلك العمل, فهذا لا يخلو إن كان العمل واحداً متصلاً كالصلاة الواحدة مثلاً, فمتى دخلها الرياء ولو في آخرها فإنها تبطل والعياذ بالله, فتحبط جميعاً, هذا الظاهر؛ لأن الأعمال بالخواتيم, وهذه عبادة واحدة لا تزال متصلة فإذا طرأ الرياء في آخرها وسلّم وهو على ذلك فهذه خاتمة سوء تجعل العمل كله حابطاً.

    لكن لا يعني ذلك أن تحبط كل صلاة قد صلاها من قبل خالصة لوجهه الكريم, وهي صلاة بعيدة منفصلة عنها؛ لأن الإيمان يزيد وينقص, كما هو مذهب أهل السنة والجماعة, فربما كان في الفجر مثلاً يصلي بإخلاص لا رياء فيه فيؤجر, ثم في الظهر شابته شائبة الرياء فلم يؤجر, ثم في العصر يرجع إليه إخلاصه فيؤجر, وهذا هو الحق الموافق للفطرة ولحال الناس وواقع الناس جميعاً, لا كما يزعم الخوارج أو غيرهم أنه يبطل ويحبط عمله كله وصلواته كلها.

    وكذلك النفقة فربما أنفق اليوم -أو الآن- ألف ريال بلا رياء, ثم بعد دقائق أو بعد أيام أو ساعات أنفق أخرى وراءى فيها والعياذ بالله فهذه تبطل وتحبط, وتلك التي أخلص فيها لا تحبط, وهذا هو القول الصحيح في هذا الأمر والله تعالى أعلم.

    الامتناع عن أداء الطاعات خشية الوقوع في الرياء

    السؤال: بعض الناس إذ أراد أن يعمل عملاً أتاه الشيطان فشككه في عمله, وأنه رياء فلا يعمل هذا العمل, فما رأيكم يا فضيلة الشيخ! في هذا الشك؟

    والحقيقة وردت كثير من الأسئلة تتناول هذه المشكلة فمن الصالحين من يقول: أشك في إمامتي, والآخر يقول: أشك في قراءتي للقرآن, وآخر يقول: أشك في قيامي لليل, والرابع يقول: أشك في شهادتي الجامعية, والخامس يقول: أشك في مجال دعوتي إلى الله عز وجل..!!

    الجواب: نعم, لعل هذا يدخل فيما أثر عن بعض السلف قيل أنه سفيان أو الفضيل أو عن كليهما: [[العمل من أجل الناس رياء, وترك العمل لأجل الناس كفر]] والعياذ بالله, يعني هذا من الزجر؛ لأن الإنسان لابد أن يدرك أنه عبد, وأن الله تبارك وتعالى افترض عليه أمراً أو عملاً حتى ولو كان مشروعاً ومستحباً, أي ليس مفروضاً عليه لكنه مما شرعه الله له, فما شرعه الله له فليؤده لله تبارك وتعالى, خالصاً من شوائب الشرك والرياء والنفاق.

    فإن عمل هذا العمل من أجل الناس فقد راءى, أما لو ترك الطاعة من أجل الناس حتى لا يقول الناس: إن فلاناً فعل. سواء كان ذلك على سبيل النقد, مثلاً واحد لا يصلي حتى لا يضحك عليه الناس أو يستهزئوا به أو يأتيه الشيطان من هذا المدخل فيقول: لو صليت لكنت مرائياً فيترك الطاعة فهذا يصبح أيضاً قد دخل في باب آخر من أبواب المعصية وهو أنه ترك العمل لأجل الناس, فكلاهما ذنب, أن يعمل لهم أو يترك العمل لأجلهم.

    والمطلوب من كل واحد منا أن يجتنب الأمرين, فلا يعمل لأجل الناس, ولا يترك العمل أيضاً لأجلهم, فكل ما فوق التراب تراب.

    فعليك أخي الكريم أن ترى ما شرعه الله وافترضه عليك وتتحقق المصلحة الشرعية فيه وتقدم على فعله؛ لأن ما كان في عمله مفسدة راجحة أو ارتكاب منكر أو محظور فهذا أمر لا يدخل في هذا الحكم, لكن المقصود ما شرعه الله تبارك وتعالى وما تقتضي المصلحة فعله ولا مفسدة في فعله فإنك تفعله ولا تبالي بالناس, ولا بما قالوا!

    بل أنا أقول للإخوة الكرام: إن من أعظم مداخل الشيطان وحيله وتلبيسه على من أراد أن يجتهد في طاعة الله أن يأتيه بمثل هذا, لأن من شمر عن ساعديه واجتهد على الطاعة لا يستطيع الشيطان عدو الله أن يأتي إليه فيثنيه؛ لأنه خبيث, ولا يأتي إلى من عزم على القيام بعمل ليثنيه عن العمل, إنما يثني عن العمل الذي ما زال متردداً في الإقدام عليه, فهذا يصرفه عن العمل بسهولة, أما الذي عزم وعقد النية واجتهد فإنه لو أراد أن يثنيه لما سمع له, ولكن يأتيه من باب آخر فيقول: لو عملته لكان لغير الله..!! فيأتيه من باب الورع الكاذب, ومتى كان عدو الله ناصحاً لك؟! ومتى كان الشيطان حاثاً على الورع؟! أو على الإخلاص؟!

    تذكر: أنه ما دام أن الله شرع لك هذا العمل وافترضه عليك وأن مصلحة الدين فيه فلا يمكن لعدو الله وعدوك -الذي قال الله فيه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6]- أن يدلك على خير أو أن يثنيك عن عمل لأنه شر ولأنه ضار بك أبداً, وإنما هذا نوع من حيل الشيطان ومن تلبيسه.

    وقد عجبت غاية العجب لما بلغني أن أحد الشباب آتاه الله تبارك وتعالى من القراءة ومن العبادة ومن الصلاة ما يغبطه عليه الآخرون, وما يتطلع أكثر الشباب إلى إدراكه ونيله, فكان إذا رآه المصلي الذي لم يؤت مثل هذا الخشوع يتعجب من خشوعه, وفي النهاية زيَّن له الشيطان أن يترك صلاة الجماعة؛ لأن بعض الناس يتأملون في صلاته, وهو لا يملك نفسه إذا قرأ القرآن من أن يبكي, فقال: أفضل شيء أن أصلي الفريضة في البيت, لاحظوا الشيطان والعياذ بالله, هذا لو فعل ذلك لوقع في إثم عظيم وهو ترك صلاة الجماعة, بينما في ظنه أنه يبتعد عن الرياء, لكن لو أنه صلى الفريضة ورأى أن يجعل النافلة في البيت لا حرج في ذلك, بل هذا هو المشروع أو هذا هو الأفضل.

    فأقول أيها الإخوة الكرام: الشيطان عدو, إن لم يأتك من باب ترك الطاعة فإنه يلبس عليك أن تتركها بدعوى أن تكون مخلصاً, ولا يريد إلا أن تتركها فتستوي أنت والعاصي في ترك ما أمر الله تبارك وتعالى به مما افترضه عليك, فاحذروا منه!

    ولذلك يجب أن نحرص دائماً على أي ذكر يعين على أن يعتصم العبد بالله من الشيطان الرجيم, وأن يتحصن بأذكار الصباح والمساء وما أشبه ذلك, وعلينا أن نتعلم ونتفقه في الدين؛ لأن الشيطان أكثر ما يخدع العباد الجهال, فالفقه في الدين يعصم صاحبه بإذن الله من هذا, وإن لم يكن متفقاً, أو لم يؤهل لذلك, فليسأل أهل الذكر وأهل العلم هل أترك هذا أو لا أتركه؟! وعليه ألا ينساق وراء ما يلقي الشيطان في نفسه.

    علامات إخلاص العمل لله تعالى

    السؤال: إن كان للإخلاص علامات فما هي؟ وكيف أعرف أني مخلص لله تعالى؟

    الجواب: سئل بعض السلف عن هذا فقال: أن يستوي سرك وعلانيتك, وأن تستوي خلوتك وجلوسك مع الناس, يعني أن تكون حالك مع الله تبارك وتعالى في خلوتك كحالك عند اجتماعك بالناس واختلاطك بهم, ويجب أن يكون سرك وعلانيتك أو ظاهرك وباطنك سواء.

    وسهل بن عبد الله الدستري رحمه الله, عندما تحدث عن هذا -وله كلمات عظيمة في هذا الشأن- قال: (أن تكون حركاته وسكناته لله تعالى, لا يخالطه شيء ولا يمازجه شيء) يعني تحقيق كامل لقول الله تبارك وتعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162].

    وكما جاء في الحديث: {من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان} أي: إعطاؤك ومنعك, كما قال العلماء في شرح هذا الحديث أن أول ما تبدأ به, أن تحب الطاعة ثم تعزم على فعلها ثم تفعلها, وآخر شيء هو الإعطاء أو المنع أي: عملياً, فما بينهما كل أنواع الطاعات تندرج تحت هذا الحديث, أي: أن تكون كل أعمالك ما بين هذا وهذا لله, إن أحببت أو أبغضت, وإن منعت أو أعطيت, ستكون الحركات والسكنات كلها لله تبارك وتعالى, يعني أن تجتهد أن تكون كذلك, فهذا تحقيق الإخلاص لمن أراد أن يحققه.

    الانشغال عن العبادات يقدح في كمالها كما يقدح في أصلها

    السؤال: إذا حضرت الصلاة وشغلت عنها بمشاهدة مباراة في التلفاز, أفلا أكون أشركت بالله في هذا العمل؟

    الجواب: ليس شرطاً -حتى لا يفهم الإخوة خطأً- أن الشرك يقتصر على الشرك المخرج من الملة, لكن من قدم شيئاً مما يريده الشيطان, أو يريده الهوى, أو تستلذه النفس وتستطيبه على ما أمر الله تبارك وتعالى به, وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم, فلا شك أن هذا المقدم أحب إليه من ذاك, أليس كذلك؟ لأنه لما كان حب المباراة أكبر وأهم من الصلاة قدم هذه المحبة على تلك.

    فيا إخوتي الكرام! المحبة واليقين والإخلاص -كما بينا- وغيرها من أعمال القلب قد يعمل العبد ما يقدح في كمالها، وقد يعمل ما يقدح في أصلها, فهنا لا نقول: إن هذا العمل يقدح في أصل الإخلاص فيكون مشركاً خارجاً من الملة.

    لكن إذا نظرنا إلى أن الشرك منه الخفي ومنه الأصغر, فهذا نوع منه؛ لأنه أحب هذا الأمر وقدمه على ما أحبه الله تبارك وتعالى, ولأن من عبادة الشيطان أن يطاع في المعصية يقول الله عز وجل: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يس:60].

    بم تكون عبادة الشيطان؟! بطاعته, وعبادة الهوى: مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43] كيف تكون..؟ من اتبع هواه وكان أمره فرطاً, هذا هو المقصود, فإذاً تأليه الهوى وتأليه الشيطان وما أشبه ذلك قد يكون على الحقيقة وعلى أصل الدين كأن يعبد غير الله, وقد يكون في أمر من الفروع فيكون ذلك بالتبعية, كمن يقدم شيئاً من المعصية على مرضاة الله تبارك وتعالى, فهذا لا شك أن عمله يخدش إيمانه, ويخدش يقينه وصدقه ومحبته للطاعة وإخلاصه فيها.

    والواجب على الإنسان أن يتوب وأن يتجرد من ذلك كله, فبقدر وجوب الطاعة يكون ذلك, مثلاً هذا الأخ تشاغل عن العبادة عند سماع الأذان، وهذا أخف من أن يفعل ذلك عند سماع الإقامة؛ لأن الإجابة تكون آكد عند سماع الإقامة.

    في حالات الجهاد إذا كان فرض عين كما حدث في غزوة تبوك, وهي كما ذكر الله تبارك وتعالى في آيات البراءة أحوال المنافقين فيها, وتخلفهم عنها واشتغالهم عنها أو خوفهم من الخروج, فلما كان الجهاد متعيناً استنفر النبي صلى الله عليه وسلم الأمة قاطبة, وأمر كل مستطيع بالخروج, بخلاف لو كان الجهاد فرض كفاية وتخلف عنه وقدم محبته فلا يدخل في قوله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24] فلا يكون هذا بمثل ذلك الذي يكون الجهاد في حقه فرض عين, فبمقدار وجوب الأمر والطاعة يكون الإثم على من قدم عليها شيئاً من معصية الله تبارك وتعالى, فيكون القدح في كمال يقينه وإخلاصه وصدقه وخشوعه أكثر.

    أثر الإخلاص على الجماعة

    السؤال: ذكرتم يا شيخ! أثر الإخلاص على الفرد, فما هو أثره على الجماعة؟

    الجواب: بطبيعة الحال إذا كان للإخلاص أثر على الفرد, فلابد أن يكون كذلك على الجماعة, فإذا كان في الأمة مخلصون فإنهم ينتصرون, وأعظم ما تحققه عملياً هو أن تنتصر على أعدائها, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم بدعائهم وإخلاصهم} فإذا كان فينا أمة -أي طائفة- عابدة زاهدة تقية مخلصة وتضرعت لله عز وجل ودعت بإخلاص فإننا ننتصر على العدو مهما كثر عَددُه ومهما قويت عُدده.

    فالإخلاص مهم للفرد وللمجتمع على حدٍ سواء, وقد ينجي الله تبارك وتعالى أمة أو قرية أو حضارة بوجود أناس مخلصين فيها، ولكن يجب أن يكونوا مصلحين عاملين: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117] والمصلح لو لم يكن مخلصاً لما كان مصلحاً؛ لأن الذي نيته باطلة لا يكون إلا منافقاً والعياذ بالله, فهو مفسد وليس مصلحاً, وإن زعموا أنهم مصلحون إلا أنهم مفسدون ومنافقون، كما ذكر الله تبارك وتعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة:12].

    فإذاً إخوتي الكرام: لابد أن يكون في الأمة مخلصون؛ لكي يحفظها الله تبارك وتعالى من السوء, وهؤلاء المخلصون لو قنتوا وتضرعوا إلى الله عز وجل لدفع الله البلاء, والنموذج الظاهر كمثال لذلك حديث الثلاثة, فكذلك لو ابتليت الأمة بأن أطبق عليها العدو وسد عليها منافذ الحياة وضيقها عليها كحال المسلمين اليوم في العالم كله, ويمكن أن نرى أن الصليبيين أطبقوا على إخواننا في البوسنة مثلاً, أو في كشمير, أو في أرتيريا, أو في الفلبين أو غيرها أكثر من دول أخرى, إلا أن الأمة الإسلامية في مجموعها أعداؤها مطبقون عليها, ثرواتها بأيديهم, ورأيها بأيدهم, والقرارات فيما يسمونه مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة بأيديهم, فهم مطبقون عليها, فهي لو أنها صدقت وأخلصت لله تبارك وتعالى, وتجردت منها طائفة ولو لم تعمل إلا أن تتضرع بصدق لكشف الله تبارك وتعالى هذا البلاء, مع أن الدعاء لابد أن يشتمل على أمور أخرى على أية حال, لكن المقصود أن الفرد والأمة سواء في اشتراط الإخلاص, اللهم إلا أن الأمة الإسلامية بمجموعها لن تكون كذلك.

    فلابد أن يكون منها أمة أو طائفة تحقق هذا المعنى العظيم, وبها ينصر الله تعالى الأمة جمعاء.

    الأحداث الجارية في أفغانستان

    السؤال: ما هو تعليقكم يا فضيلة الشيخ! على الأحداث الجارية في أفغانستان؟

    الجواب: أنا أرى -وقد تضاربت لدينا الأخبار والأنباء- ما أوصيتكم به في الأسبوع الماضي من الدعاء بأن يجمع الله كلمتهم على الحق, ولا أرى أن نكثر أو حتى أن نخوض في هذا الأمر فنختلف ونتجادل نحن هنا, فما دامت الفتنة بين المجاهدين أنفسهم فنقول: تلك دماء كف الله تعالى أيدينا عنها, فنكفَّ ألسنتنا, وهذا لا يمنع وجود طائفة من الأمة تتحرى وتنصت وتنصح هذا وهذا وتبين المخطئ من المصيب, أو المعتدي من المعتدى عليه, وإنما لا يكون حديثاً عاماً لعامة الناس وعامة الأمة.

    أما ما كان ضد الباطنية وضد الميليشيات أو ما أشبه ذلك فلا شك أنه حق وأن هؤلاء من أعداء الدين, وأن القضاء عليهم واجب, لكن قد يكون الاختلاف في التوقيت أو فيما يسمونه التكتيك أو شيء من هذا, أما الأصل فلا يجوز أن يختلفوا فيه, ففي الحقيقة أنا أرى أن ترك الخوض في هذا خير, وأن الاكتفاء بالدعاء لكل المسلمين أن يجمع الله كلمتهم على الحق المبين من الكتاب وسنة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم.

    الجهاد في البوسنة والهرسك وتمالؤ أمم الكفر على المسلمين

    السؤال: الحقيقة كثرت الأسئلة حول أخبار الجهاد في البوسنة والهرسك, ويطلب الإخوة آخر الأخبار عن المجاهدين في البوسنة والهرسك؟

    الجواب: الوقت يضيق عنها وهي كثيرة ومهمة, لكن نحاول أن نوجزها:

    أولاً: وهذا قد قلناه ولكن الشواهد كثرت عليه جداً في اليومين الماضيين من إخوة جاءوا من هنالك, وقد بينوا أن الموقف الدولي والأوروبي ما بقي إلا أن يعلن بالإجماع أنها حرب صليبية سافرة, أقول: بالإجماع؛ لأن البعض قد أعلنها حرباً صليبية, وبعض الجرائد عندنا منها جريدة الرياض وقريب من ذلك حتى في جريدة عكاظ وغيرها أعلنت ذلك, حتى الصحف الأخرى في مصر وغيرها.

    لماذا الكروات وغيرهم ممن عاداهم الصرب يتم التدخل الدولي سريعاً للفصل بينهم, بينما يطول الأمر بخصوص المسلمين قبل أي تدخل, بل تغلق الحدود في أول الأمر لكي يبيدهم الصرب, ثم بعد عمليات الإبادة تفتح الحدود -حدود دول أوروبا- لكي يستقبلوهم؛ لأنهم رأوا أن تفريغ المنطقة من أهلها يحقق الهدف إذا لم يحققه الاستئصال والإبادة.

    فهذه حرب صليبية مكشوفة, حيث يؤخذ الأطفال وينقلون إلى دول أوروبا, بينما الآباء يقاتلون في الجبهة فيلحق هؤلاء الأطفال بملاجئ معينة ويأتي المنصرون من ألمانيا وإيطاليا إلى هذه الملاجئ بالذات ويسرقون الأطفال ويقولون: هؤلاء أيتام, فيما آباؤهم في الجبهة, والشواهد على هذا كثيرة جداً ونطق بها كثير من الغربيين, والإعلام الأمريكي في بعض قنواته -كما أخبرنا بعض الإخوة الذين جاءوا من أمريكا قريباً- صور هذه المآسي فأحدث ضجة هائلة, حتى إن المنافس الثاني الخبيث الذي يريد أن يحل محل بوش لما أعلن: إذا توليت أمريكا سوف أرسل قوة لردع الصرب ارتفعت أسهمه في الانتخابات وصار الفرق هائلاً بينه وبين بوش بسبب هذا التصريح, رغم أنه لن يقدم على ذلك, فكلا الرجلين يكذب ليروج لنفسه, لكن المقصود أنه رأى تأثير هذه المناظر في نفوس الأمريكان مما جعله يستغل هذا الأمر ويدخل من هذا الباب، ويعلن هذا الشيء ويهز المجتمع الأمريكي.

    بعض الإخوان يقولون: رأينا الأمريكان والألم باد على وجوههم عندما رأوا هذه المناظر, بينما الإعلام العربي والإسلامي -عبر التلفاز- ينقل المباريات! ومسابقة كذا ..! فالمسلمون في غفلة, والصليبيون يتحركون, فهي حرب صليبية سافرة, ولعلنا نتناول هذا الموضوع في محاضرة مستقلة لما فيه من عبر لعل الله أن ييسر ذلك حتى نورد لكم الحقائق أو بعضاً من الحقائق موثقة من الصحافة, كما أوصلها لنا بعض الإخوة, ونبين من خلالها علاقة الصرب باليهود وعلاقتهم بالنصارى, ونبين أن معاملة المسلمين تختلف كليةً عن معاملة غيرهم والله المستعان!

    ومن جانب آخر والحمد لله فإن المسلمين الذين أرادوا أن ينشئوا حركة أو جبهة جهادية خالصة من أبناء البوسنة والهرسك -طبعاً- هم والحمد لله وضعهم يتحسن, كذلك القبول للحق والخير عند المسلمين في تلك البلاد عموماً قبول جيد, بل قد يكون ممتازاً وعظيماً, فقد أقبلت النساء على الحجاب، وترك الناس ما كانوا عليه من البدع والعادات السيئة، يعني بقدر ما يتوفر الدعاة والمترجمون تحصل -والحمد لله- ثمرات ملموسة وظاهرة، وهذا فضل من الله تبارك وتعالى.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756009640