إسلام ويب

الدنيا معلونةللشيخ : محمد المنجد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الكثير من الناس اليوم قد اشتغل بالدنيا ولذتها ونسي الآخرة ونعيمها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد ربى الصحابة على احتقار الدنيا، وعدم الاغترار بها، وعظَّم في قلوبهم الآخرة التي هي دار القرار.

    1.   

    حقيقة الدنيا

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

    أما بعــد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    حقيقة الدنيا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم

    أيها المسلم: وصية لك من النبي صلى الله عليه وسلم، تحملها ثنايا هذه العبارة الموجزة الجامعة من جوامع الكلم التي أوتيها نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، قال ابن عمر: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنكبي وقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) كن في الدنيا: هذا إرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم يبين لك الحال التي ينبغي أن تكون عليها في الدنيا: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) .

    هذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطناً ولا مسكناً، ولا يطمئن إليها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كمن كان على جناح سفر، يهيئ جهازه للرحيل: (ما لي وللدنيا؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة -قيلولة- ثم راح وتركها) هكذا أوصانا صلى الله عليه وسلم.

    هذا ما ينبغي أن يكون عليه حالنا في هذه الدنيا، ينبغي أن يعتبر بهذا الحديث التاجر الذي تعلق قلبه بتجارته، وصاحب المال الذي تعلق قلبه بماله، وصاحب المنصب الذي تعلق قلبه بمنصبه، وصاحب القصر الذي عمره وزخرفه ونقشه، هكذا ينبغي أن يكون حال كل واحد منا ممن أوتي شيئاً من الدنيا ألا يغتر به، وأن يعلم أن الرحيل حاصل حاصل -يا عباد الله- ولكننا غافلون لا تذكرنا إلا أخبار موت فلان أو موت فلان ممن حولنا من الناس أو من الأقرباء، اعتبروها ولا تعمروها، اعمروها بطاعة الله ولكن لا تعمروا بطول الأمل والزخارف والزينات

    من الذي يبني على موج البحـر داراً     تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً

    حقيقة الدنيا عند السلف

    دخل رجل على أبي ذر رضي الله عنه فجعل يقلب بصره في بيته فقال: [يا أبا ذر ! أين متاعكم؟ لا أرى أثاثاً في البيت ولا متاعاً! أين متاعكم؟ قال: إن لنا بيتاً نوجه إليه صالح متاعنا وليس هذا. قال: لا بد لك من متاع ما دمت هاهنا. قال أبو ذر : إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه، لا بد أن يأخذه منا ويأخذنا منه يوماً من الأيام].

    وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: [إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل].

    قال بعض الحكماء: عجبت ممن الدنيا مولية عنه والآخرة مقبلة إليه، يشتغل بالمدبرة ويعرض عن المقبلة!

    وإذا لم تكن الدنيا -يا إخواني- دار إقامة للمؤمن ولا وطناً له فينبغي أن يكون حال المؤمن فيها أحد حالين: إما أن يكون كأنه غريب، مقيم في بلاد غربة همه التزود للرجوع إلى وطنه، كن في الدنيا كأنك غريب.. لا تحس بالتعلق في هذه البلد التي أنت فيها، وإنما همك رجوعك إلى بلدك الأصلي، وإنما تأخذ من هذه البلد ما تتزود به لبلدك الأصلي كأنك غريب، أو عابر سبيل مسافر غير مقيم البتة لا في بلد غربة ولا في البلد الأصلي.

    ولذلك فالمسافر إحساسه بأنه مسافر في الدنيا أعلى من إحساسه بأنه غريب فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وعابر السبيل المسافر يسير باستمرار ليصل إلى المكان، لو وقف وجلس انقطع هدفه في الوصول إلى مكانه الذي يريد، وكذلك الذين يركنون إلى الدنيا ينقطع هدفهم في الوصول إلى الآخرة بسلام؛ لأنه يتيهون في أوديتها.

    نزل نفسك -يا عبد الله- منزلة الغريب غير المتعلق قلبه ببلد الغربة، بل قلبه متعلق بوطنه الأصلي الذي يريد أن يرجع إليه، المؤمن في الدنيا مهموم محزون؛ همه أن يصل إلى المكان الذي يريد، ولذلك من كانت هذه حاله فإنه لا ينافس أهل البلد الذي هو متغرب فيه، لا ينافسهم في عزهم، ولا يجزع من الذل عندهم، قال الحسن : [المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، لها شأن وللناس شأن].

    ما هو وطننا الأصلي أيها المسلمون؟ أين موطننا الأصلي نحن؟ أسكن آدم وزوجه الجنة ثم أهبطا منها إلى الأرض، ووعدا بالرجوع إليها مع صالح ذريتهما، فالمؤمن أبداً يحن إلى موطنه الأصلي، إلى وطنه الأول

    كم منزل في الأرض يألفه الفتى     وحنينه أبداً لأول منزل

    موطننا الأصلي إذاً هو جنات عدن، هذا هو موطننا الأصلي، وما نحن فيه الآن كله غربة في غربة، وشيء مؤقت وإنما المصير النهائي في دار الكرامة أو دار الهوان

    فحي على جنات عدن فإنها      منازلنا الأولى وفيها المخيم

    ولكننا سبي العدو فهل ترى     نعود إلى أوطاننا ونسلم

    وقد زعموا أن الغريب إذا نأى     وشطت به أوطانه فهو مغرم

    وأي اغتراب فوق غربتنا التي     لها أضحت الأعداء فينا تحكم

    كان بعض السلف يقول: اللهم ارحم في الدنيا غربتي، وارحم في القبر وحشتي، وارحم موقفي غداً بين يديك.

    وقال يحيى بن معاذ الرازي : الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموت نادماً مع الخاسرين.

    قيل لـمحمد بن واسع : كيف أصبحت؟ قال: ما ظنك برجل يرتحل كل يوم إلى مرحلة من مراحل الآخرة؟

    وقال الحسن : يا بن آدم! إنما أنت أيام مجموعة كلما مضى يوم مضى بعضك.

    وقال: ابن آدم! إنما أنت بين مطيتين يوضعانك (يوضعك النهار إلى الليل والليل إلى النهار) حتى يسلمانك إلى الآخرة، فمن أعظم منك يا بن آدم خطراً؟ وقال: الموت معقود في نواصيكم والدنيا تطوى من ورائكم. كل يوم يمضي من حياتنا يقربنا إلى الموت

    سبيلك في الدنيا سبيل مسافر     ولا بد من زاد لكل مسافر

    ولا بد للإنسان من حمل عدة      ولا سيما إن خاف صولة قاهر

    كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته؟ كل يوم يهدم شهرك، اليوم يجعل الثلاثين تسعة وعشرين، والتسعة والعشرين ثمانية وعشرين... وهكذا، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، وكيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله، وتقوده حياته إلى موته؟

    قال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة. قال: فأنت من ستين سنة تسير إلى ربك، يوشك أن تبلغ. فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون! فقال الفضيل : أتعرف تفسير ما تقول؟ أنا لله وأنا إليه راجع، أنا لله عبد وإليه راجع، إنا لله وإنا إليه راجعون.. فمن علم أنه لله عبد وأنه لا بد إليه راجع فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسئول، ومن علم أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً، فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال: يسيرة. قال: وما هي؟ قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى، فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وبما بقي.

    قال بعض الحكماء: من كانت الليالي والأيام مطاياه سارت به وإن لم يسر. وتأمل هذا المعنى الذي نظمه الناظم:

    وما هذه الأيام إلا مراحل     يحث بها داع إلى الموت قاصد

    هذه الأيام مثل المطايا التي تسير، تسير بنا:

    وأعظم شيء لو تأملت أنها      منازل تطوى والمساكن قاعد

    العادة أن المسافر يمضي، يحس أنه يمشي ويذهب، لكن هذه الأيام تذهب والمسافر قاعد حتى يفاجأ بأنه قد وصل، لم يزل الليل والنهار سريعين في نقص الأعمار وتقريب الآجال، هيهات قد صحب نوح وعاد وثمود وقرون بين ذلك كثيراً، وقدموا على ربهم ووردوا على أعمالهم، وأصبح الليل والنهار غضين جديدين، بليت الأجساد والليل والنهار يعودان: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62] ففي الليل والنهار تقع الأعمال والعبادات.

    وقال الأوزاعي لأخ له: أما بعد.. فقد أحيط بك من كل جانب، واعلم أنه يسار بك في كل يوم وليلة، فاحذر الله والمقام بين يديه، وأن يكون آخر عهدك به، والسلام.

    1.   

    قصر الأمل عند السلف الصالح

    أيها المسلمون: ينبغي علينا ألا نظن لحظة واحدة أننا مقيمون في هذه الدنيا، ينبغي أن يلازمنا هذا الشعور باستمرار، فإن الذي يلازمه هذا الشعور لا يقع في المعاصي، ولا يتعلق بالفاني وإنما يسارع إلى الله بالعبادة.

    قال ثلاثة من العلماء لبعضهم، كل اثنين يقولان للآخر: ما أملك؟ فقال أحدهم: ما أتى علي شهر إلا ظننت أني سأموت فيه. فقال صاحباه: إن هذا لأمل. فقالا للآخر: ما أملك؟ قال: ما أتت علي جمعة إلا ظننت أنني سأموت فيها. فقال له صاحباه: إن هذا لأمل. فقالا للأخير: ما أملك؟ قال: ما أمل من نفسه بيد غيره؟

    قال داود الطائي : سألت عطوان بن عمر التميمي قلت: ما قصر الأمل؟ قال: ما بين تردد النفس. فحدث بذلك الفضيل بن عياض فبكى، وقال -يقول في معنى كلامه-: يتنفس فيخاف أن يموت قبل أن ينقطع نفسه، يأخذ الزفير يخاف أن يموت بعده فلا يرد الشهيق.. هذا حال الصالحين؛ لأننا فعلاً لو تأملنا في الميت يموت إما بعد أخذ النفس أو بعد رده، واحدة منهما فيحدث الموت فيها، فتأمل الآن وتفكر في نفسك أنك ستموت بعد هذا أو بعد هذا، فماذا يكون حالك وشعورك؟

    قال بعض السلف : ما نمت نوماً قط فحدثت نفسي أني سأستيقظ، وإنما أوطن نفسي أني ربما لا أقوم: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً [الزمر:42] وكان حبيب أبو محمد يوصي كل يوم بما يوصي به المحتضر عند موته من تغسيله ونحو ذلك، وكان يبكي فكلما أصبح وأمسى أوصى، فسألت امرأته عن بكائه فقال: يخاف الله إذا أمسى ألا يصبح، وإذا أصبح ألا يمسي. وكان محمد بن واسع إذا أراد أن ينام قال لأهله: أستودعكم الله فلعلها أن تكون منيتي التي لا أقوم منها.

    وقال بكر المزني : إن استطاع أحدكم ألا يبيت إلا وعهده -وصيته- عند رأسه مكتوب فليفعل، فإنه لا يدري لعله يبيت في أهل الدنيا فيصبح في أهل الآخرة.

    وكانت امرأة متعبدة بـمكة كلما أمست قالت لنفسها: يا نفس! الليلة ليلتك، لا ليلة لك غيرها فاجتهدت في العبادة، فإذا أصبحت قالت: يا نفس! اليوم يومك ستقبضين فيه، لعلك تؤخذين فيه، اليوم يومك لا يوم لك غيره، فاجتهدت، وهكذا سارت من اجتهاد إلى اجتهاد.

    إذا أردت أن تنفعك صلاتك يا عبد الله فقل: لعلي لا أصلي غيرها، صل صلاة مودع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

    ولذلك عندما اجتمع بعض السلف للصلاة فقدم، كل منهم صاحبه، حتى قدموا رجلاً منهم، فقال هذا الرجل وهو يتقدم بحرج: إن صليت بكم الظهر لا أصلي بكم العصر، يصلي غيري. فقال له بعض الحاضرين من السلف: نعوذ بالله من طول الأمل، أو تأمل أن تصلي الصلاة الأخرى؟ عندك يقين بأنك ستصلي الصلاة الأخرى؟ تشترط تقول: إن صليت بكم الظهر لا أصلي العصر؟

    وهكذا -أيها الإخوة- كل يوم يمضي يذهب فيه من عمرنا جزء، فماذا قدمنا في هذه الأيام التي تمضي؟ نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيذنا وإياكم من طول الأمل، وأن يجعلنا متصلين بحبله المتين، قائلين بالركن الركين، متعبين لسنة سيد المرسلين.

    أيها الناس: خذوا من الصحة للمرض، ومن الحياة للموت، فإن الاعتراضات التي تعترضنا كثيرة، فربما يمرض الإنسان ولا يستطيع العمل، وربما يقع له ظرف يؤدي به إلى الأجل ويكون الخسران هو العاقبة لقلة العمل وضعفه، فأنيبوا إلى ربكم كما قال الله: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [الزمر:54] قبل أن تتحسر النفس وتقول: يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:56-58] ماذا ننتظر؟ ننتظر هرماً أو مرضاً أو فقراً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (بادروا بالأعمال -اعملوا قبل أن تأتي أشياء- بادروا بالأعمال ستاً: طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، أو خاصة أحدكم، أو أمر العامة) بادروا بالأعمال فاستبقوا بها قبل أن يحين الأجل، وقبل أن يأتي ما يقطع عن العمل، والناس مغبونون في الصحة والفراغ، فعندهم الصحة لا يفكرون في المرض، وعندهم المال لا يفكرون في الفقر، عندهم الفراغ لا يفكرون في الشغل فإن الله يشغل بعض الناس بنفسه.

    1.   

    ماذا قال الله في كتابه عن الدنيا؟

    إن الله سبحانه وتعالى قد بين لنا حقيقة هذه الدنيا في كتابه، وذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه ذكراً كثيراً جداً حتى لا ينطلي أمرها على المسلمين، وحتى يعرفوا حقيقتها وفناءها وزوالها وهوانها على الله، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ [الكهف:45] نزل الماء فاختلط بنبات الأرض فأصبح مورقاً أخضر يانعاً، ونضجت الفواكه والثمار وطابت واصفرت واحمرت، ولكن ماذا بعد هذا؟ قال الله تعالى: فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [الكهف:45] أصبح يابساً متكسراً متفتتاً، تفرقه الرياح وتنسفه لخفته: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً [الكهف:45].

    وقال الله عز وجل: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً [الحديد:20] في النهاية، هشيماً متكسراً يابساً: وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20] فهي تغر بفتنتها وزينتها ولكنها هينة، ولكنها عند الله لا تساوي شيئاً، هذه الحياة الدنيا وصفها ربنا بأنها لهو ولعب، وعقد المقارنة بينها وبين الآخرة وقال الله: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنعام:32].. وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ [العنكبوت:64] هي الحياة الحقيقية، هي الحيوان: يعني الحياة الدائمة المستقرة الباقية: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ * أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ [القصص:60-61] في الآخرة: كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [القصص:61] أي: للجزاء والحساب.

    هذه الحياة الدنيا سميت دنيا لدنوها وسفولها، الحياة الدنيا، هي القليلة الصغرى، هذه الحياة الدنيا مليئة بالشهوات والفتن ولكنها شهوات زائلة، وأمور تفتن ولكن لحظات عابرة لا يستمتع بها حق الاستمتاع أحد: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ [آل عمران:14] الأشياء المتشهاة: وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ [آل عمران:14] المضاعفة بعضها فوق بعض: مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ [آل عمران:14] المعلمة المطهمة: وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14] يعني: الزرع والثمار والشجار والنبات: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14] هذه أنواع البهجات الدنيوية هذا متاع الحياة الدنيا: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14].

    1.   

    الدنيا بالنسبة للآخرة

    إن الدنيا بطبيعتها خضرة حلوة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، لها بهجة وجاذبية، والله سبحانه وتعالى قد استخلفنا فيها لينظر كيف نعمل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء) رواه مسلم .

    هذه الدنيا -أيها الإخوة- مقارنتها بالآخرة ونسبتها إلى الآخرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يمشي أحدكم إلى اليم فأدخل إصبعه فيه فما خرج منه فهو الدنيا) هذه الدنيا بالنسبة للآخرة، رجل أدخل إصبعه في اليم ثم أخرجها فما علق في الإصبع من ماء البحر هو نسبة الدنيا إلى الآخرة.

    وهذه الدنيا التي احتقرها ربنا وذكر فناءها وزوالها لأنها فانية وزائلة، وما فيها من الفتن والشهوات التي تفتن وتجذب لا تساوي عند الله شيئاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً) لأنها هينة على الله لا تساوي شيئاً عند الله، متاعها يغر أصحاب الاغترار.

    يكفيك يا طالب الدنيا أن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه إلا ما ابتغي به وجه الله مما في الدنيا، إذا ابتغيت وجه الله خرجت من هذه الأشياء الملعونة في الزوجة والولد والمال والعلم -قبل ذلك- والعبادة.. هذا الذي ليس بملعون، والباقي كله ملعون بنص الحديث.

    وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على تهوين شأن الدنيا في نظر الصحابة، وانتهاز الفرص لعرض هذا المفهوم، وهو مفهوم حقارة الدنيا لما ينبني على إيضاح هذا المفهوم من الفوائد العظيمة والتربية الجسيمة في نفوس الصحابة.

    روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن جابر رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى العالية -ناحية في المدينة - فمر بالسوق، فمر بجدي أسك -صغير الأذن- ميت فتناوله، فرفعه، فقال: بكم تحبون أن هذا لكم؟ قالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، ولا نشتريه بفلس، وما نصنع به؟ قال: بكم تحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حياً لكان عيباً فيه أنه أسك -صغير الأذن- فكيف وهو ميت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم).

    وعاقبة الدنيا إلى فناء وزوال، عاقبة الدنيا إلى شيء كريه بغيض، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مطعم ابن آدم -الطعام الذي نأكله- قد ضرب مثلاً للدنيا وإن قزحه وملحه، فانظر إلام يصير) أشهى أكلة في الدنيا خذها، قزح وملح، وضع والتوابل، وزين الأكلة واجعلها أشهى ما تكون، ثم كلها والتهمها فماذا تكون في البطن وكيف تخرج في النهاية؟ كيف تخرج أشهى أكلة في الدنيا؟ كيف تخرج من دبر الإنسان في النهاية؟ (إن مطعم ابن آدم قد ضرب مثلاً للدنيا، وإن قزحه وملحه فانظر إلام يصير).

    ولذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على التقلل منها، وكان صلى الله عليه وسلم يتقلل منها أيضاً، وأوصى بوصايا في هذا المجال، من ذلك قوله: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) والغريب وعابر السبيل لا يثقل بدنه وكاهله وظهره بالمتاع؛ لأن عابر السبيل يريد أن يتحرك ويتنقل، وكثرة المتاع على ظهره تثقله وتعيق حركته، ولذلك عندما أوصانا بقوله: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) يعني: تخففوا من المتاع، قللوا من زينة الدنيا، لا تأخذوا منها وتعبوا عباً، وإنما كلما كان أخذك أيسر كلما كان حسابك أخف.

    وضرب عليه الصلاة والسلام المثل بذلك فقال: (ما لي وللدنيا؟ وما للدنيا ومالي؟ والذي نفسي بيده، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من النهار ثم راح وتركها) فارقها وذهب عنها، ساعة من النهار، ظل، والظل من طبيعته أنه يزول.

    والله سبحانه وتعالى إذا أحب عبداً حماه من الدنيا، وباعد بينه وبين زخرفها وزينتها، والانغماس فيها والانشغال فيها؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا أحب الله عبداً حماه من الدنيا كما يحمي أحدكم سقيمه الماء) وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه) رواه أحمد وهو حديث صحيح.

    1.   

    عدم الاغترار بما عليه الكفار من نعيم الدنيا

    وكان صلى الله عليه وسلم متقللاً متخففاً، لا يكاد يُرى في بيته شيء، دخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم -في قصة مع نسائه مشهورة- قال: فرآه وإنه على حصير ما بينه وبينه شيء، ليس بين جلده وجسده الشريف وهذا الحصير حائل، وتحت رأسه وسادة من أدم -من جلد- حشوها ليف وإن عند رجليه قرضاً مضبوراً مجموعاً، وعند رأسه أُهباً معلقة -والإهاب: هو الجلد الذي لم يدبغ- فرأيت أثر الحصير في جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكيت، فقال: ما يبكيك؟ فقلت: يا رسول الله! كسرى وقيصر فيما هما فيه -يعني: من الملك والنعيم والرياش والقصور والحرير، وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير؟ هذا متاعك من الدنيا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ -وفي رواية- ولك الآخرة) وقال لـعمر أيضاً: (أوفي شك أنت يا بن الخطاب ! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا).

    ولذلك إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج، حديث صحيح.

    إذا رأيت -أيها المؤمن- الدول الكافرة ومجتمعات الكفر والكفرة والفسقة والمجرمين، إذا رأيت عندهم متاع الدنيا: سيارات فارهة، وقصور مرتفعة، وثمار ناضجة، وصحة وأجساد، وإذا رأيت عندهم الرياش والنعيم، ورأيت عندهم بهجة الدنيا وزينتها وزخرفها؛ فاعلم أنما هذه طيباتهم عجلت لهم في الحياة الدنيا لأنه ليس لهم في الآخرة من نصيب.

    وإذا رأيت الفسقة يتطاولون ويتفاخرون بالأموال، ويتكاثرون في الأرصدة، إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج لهذا الفاسق حتى يزداد إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً [آل عمران:178] ولأن هذه الدنيا وضيعة عند الله لا تساوي شيئاً جعل الله في حكمته أنه لا يدوم فيها شيء، متاع زائل، أعمار منقضية، وأجساد للتراب، دول تنقرض ومجتمعات تزول، والثمار نراها تتعففن أمامنا، وهؤلاء المتفوقون في الدنيا حتى في الرياضات انظر إليهم هل يحتفظ أحدهم بقوة عنده في رياضته وتدوم له؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن حقاً على الله تعالى ألا يرفع شيئاً من أمر الدنيا إلا وضعه) فكر في هذا السر وهذه الحكمة: (إن حقاً على الله تعالى ألا يرفع شيئاً من أمر الدنيا إلا وضعه) فترى صاحب الحافظة في النهاية ينسى ويخرف، وصاحب القوة في النهاية أمره إلى ضعف: مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً [الروم:54] وصاحب المال قد يفتقر ويزول ماله أو يموت وهو غني فلا يستفيد من ماله في قبره بشيء، وصاحب الملك يزول ملكه... وهكذا، أو يموت فلا يستفيد من ملكه شيء: (إن حقاً على الله تعالى ألا يرفع شيئاً من أمر الدنيا إلا وضعه).

    1.   

    أعمالٌ خيرٌ من الدنيا وما فيها

    أما الذين يعملون للآخرة فإن الله يبقي لهم ذكراً جميلاً وأجراً عظيماً، وأعمالهم تنمو وتزداد، وهذه العبادات بالنسبة للدنيا لا شيء؛ لأن الدنيا زائلة والعبادة أجرها باق؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة -في الصباح أو في المساء في سبيل الله- خير من الدنيا وما عليها) لماذا؟ لأن العبادة أثرها وأجرها باق، خير من الدنيا وما عليها، حسنة واحدة يوم القيامة أجرك عليها خير من الدنيا وما عليها، وموضع السوط في الجنة، المكان الذي يأخذه السوط من الجنة، المكان هذا القليل خير من الدنيا وما عليها.

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم أو موضع قدمه في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما -ما بين السماوات والأرض- ريحاً، ولأضاءت ما بينهما بالنور والضياء، ولنصيفها على رأسها -خمارها على رأسها- خير من الدنيا وما فيها) . (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) هاتان ركعتان خير من الدنيا وما فيها..!

    واعقلوا -يا عباد الله- كيف أن النعيم في الدنيا حساب في الآخرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حلوة الدنيا مرة الآخرة، ومرة الدنيا حلوة الآخرة) قد يكون مرضاً، مصاباً، كموت حبيب أو قريب يصبر عليه حلو في الآخرة، هو مر في الدنيا، كفقر، أو شيء مؤلم، لكنه حلو في الآخرة، وحلوة الدنيا من المناصب والأموال والرياش مُرة في الآخرة.

    والله سبحانه وتعالى جعل الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر كما ورد في الحديث الصحيح، كثير من المؤمنين لا يرون فيها زينة وبهجة، بل يمكن أن يكون ابتلاء متوالياً، سلب أموال وسجن وتقييد حرية، مرض وموت قريب، قلة الملابس وما يستر به جسده، يجد الطعام يوماً ولا يجده يوماً آخر، الدنيا سجن المؤمن، نفسه تضيق بالدنيا لأنه يتطلع إلى العالم الفسيح، وجنة الكافر لأن هذا منتهى أملهم وهذا هو كل ما يعيشون لأجله: الدنيا، ولذلك تراهم حريصين كل الحرص على الاستمتاع بها، ما عندهم إيمان بالآخرة ولا تطلع للآخرة، ولا أمل أن يكون لهم شيء في الآخرة؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة أصلاً.

    ولذلك ترى عند الكفرة انتشار قضية الترفيه، قضايا الترفيه والألعاب؛ لأن هذا هو عيشهم وأملهم الوحيد، فهم يريدون أن يستمتعوا من هذه الدنيا بكل لحظة، فترى انتشار قضية الاستمتاعات ولو كانت محرمة، وانتشار قضية الترفيه، ونحن مقبلون على إجازة، والناس سيسيحون سياحة يطلبون ملذات الدنيا، والله أعلم بما هم صانعون، لكن الدنيا هذه ولو ساحوا فيها فهي سجن للمؤمن وجنة للكافر.

    1.   

    إزالة النبي صلى الله عليه وسلم لكل شيء يذكره بالدنيا

    وكان النبي عليه الصلاة والسلام يزيل كل شيء يذكره بمتاع الدنيا من الأشياء المحرمة المنهي عنها، والتي تشغل ولو بالصلاة، كان لنا ستر فيه تماثيل طير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة ! حولي هذا فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا) .

    وماذا نحتاج من الدنيا أيها الإخوة؟ أمور قليلة يسيرة هي التي تبلغنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم موضحاً هذه الضروريات الثلاث: (من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) حديث حسن، من أصبح منكم آمناً في سربه: آمناً في بيته، لا يخاف على نفسه ولا على ماله ولا على أهله وعرضه، معافى في جسده: صحيح ما فيه مرض، عنده قوت يومه فهو شبعان، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، هذا كل ما هو موجود مما نحتاجه في الدنيا، أما البقية فهي استكثارات مشغلة ملهية.

    كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر بمثل الدنيا في الآخرة، وبمثل الدنيا في نعيم الجنة، ولذلك قال في الحديث: (سأل موسى ربه فقال: يا رب! ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما يدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة. فيقول: أي رب.. كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت ربي. فيقول: هو لك ومثله ومثله ومثله ومثله -لك الأولى وأربعة وخمسة- فقال في الخمسة: رضيت ربي، فيقول: هذا لك -الذي ذكرنا لك قبل- هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك. فيقول: رضيت ربي، -هذا أدنى أهل الجنة منزلة، خمسة في عشرة بخمسين، ضعف ملك من ملوك الدنيا، خمسين ضعفاً! هذا أدنى أهل الجنة منزلة، بالإضافة إلى ذلك لك ما اشتهت نفسك ولذت عينك- قال ربي: فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر) رواه أحمد وهو حديث صحيح.

    1.   

    نعيم الدنيا وبؤسها بالنسبة للآخرة

    1.   

    ولا تنس نصيبك من الدنيا

    إن الآيات والأحاديث -أيها الإخوة- تركز على هذا المفهوم تركيزاً عظيماً، يجب أن يستقر هذا المفهوم في أنفسنا، وينبغي أن يكون حياً في أذهانناً ومشاعرنا لأن الأحوال لا تستقيم، حال المؤمن لا يستقيم إلا وهذه جزء منه وركيزة من ركائزه، لا يصلح أن يكون من انعكاسات هذا الموضوع في أنفسنا ترك الأخذ بالأسباب التي أمرنا بالأخذ بها شرعاً، لا يصلح ولا يعني عرض هذا الموضوع ترك السعي لتحصيل القوة التي نهزم بها الكفار، وليس معنى هذا أن نترك السعي لطلب الرزق الذي نعيش به الأنفس التي نحن مسئولون عنها، وليس الموضوع لترك العلاج والتداوي أو ترك الدراسة والجد والتحصيل، أو ترك الغرس والبناء وعمارة الأرض كما أمر الله؛ بل إن القضية بعدم التعلق بالدنيا مع الأخذ بنصيبنا منها فإن الإسلام وسط، وهذه الأمة التي اصطفاها الله وأخرجها لعمارة هذه الأرض والجهاد في سبيل الله لا بد أن تأخذ بالأسباب، قال الله تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ [القصص:77] أولاً وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77].

    إذاً لا تنس نصيبك من الدنيا، فخذ ما تحتاج إليه، واعمل ما تقتات به، واكسب عيشك، الله سبحانه وتعالى جعل في الدنيا معايش وأخبرنا بأنه جعل لنا فيها معايش، لا بد من الطعام والشراب، لا بد من الغذاء والسكن واللبس.

    ولكن -أيها المسلمون- الانشغال الحاصل الآن في هذا التنوع والتوسع والكماليات -مع الأسف- التي غرق فيها الناس وأدخلوها بيوتهم، وأنفقوا فيها الأموال الطائلة، الكماليات والتعلق بالزينة، إذا مرت سيارة فارهة قال: آخ.. لو أن عندي مالاً. وإذا رأى قصراً مشيداً ضرب كفاً بكف وقال: لو أن لي مثله.

    اعلم أن الذين رأوا أموال قارون التي تنوء بمفاتحها الرجال أولو القوة قالوا: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ [القصص:79] لكن ماذا قال أهل العلم؟.. وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً [القصص:80].

    فإذاً -أيها الإخوة- لا بد من أخذ الأسباب التي نرفع بها شأن الدين، وإن نحن ابتعدنا بأنفسنا عن هذه المهالك في الدنيا، وكذلك الدنيا هذه هي الفرصة للعمل، فلا يعني هم الدنيا أن نقعد عن العبادة وننتظر الأجل.. لا. لأن الدنيا هي الفرصة للعمل للتزود للآخرة والعبادة، الدنيا ساعة فاجعلها طاعة.

    يا بن آدم! الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما.

    1.   

    فوائد معرفة حقارة الدنيا

    يستفاد من عرض هذا المفهوم ألا نتعلق بزينة الدنيا فنهلك، ألا نمد أعيننا إلى ما متع الله به أقواماً من الكفرة والفسقة وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131] قال بعض السلف: بيننا وبين الأغنياء والملوك يوم واحد، أما أمس فقد مضى علينا وعليهم، وذهبت لذتهم وذهب بؤسنا في الأمس، فنحن وإياهم سواء، وفي الغد هم على وجل وخوف أن يذهب ملكهم أو غناهم، ونحن ما جاءنا بؤس الغد بعد، فنحن وإياهم في الغد سواء، وإنما هو اليوم هذا الذي نعيشه، فما عسى أن يكون.. ساعات وينقضي.

    هذا يستفاد منه -أيها الإخوة- الاستعداد ليوم الرحيل بالعمل، قال سليمان بن عبد الملك لـأبي حاتم الواعظ: ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم أخربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمار إلى الخراب.

    كل جهده وضعه في هذه الدنيا، بناء بيوت وتحصيل أموال؛ فيكره الانتقال من الدنيا إلى الآخرة، ما عمل للآخرة شيئاً، عمله للآخرة قليل، لكن هذه الدنيا التي وضع فيها حيله وحاله.

    وكذلك فإن الآخرة تقدم في العمل على الدنيا، الله سبحانه وتعالى يقول: فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] وابتدأ بالآخرة بالأمر بالعمل ثم الدنيا، قال في الدنيا: تمشي، وقال في الآخرة: تسعى، والسعي أسرع من المشي، إذا اشتغلت بالدنيا أضررت بالآخرة والعكس بالعكس كما قال بعض السلف : مثل الدنيا والآخرة مثل ضرتين إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى.

    هذا الموضوع -يا أيها المسلمون- حتى إذا رأينا صاحب متاع لا نتأسف ولا نتحسر، وإنما نقول: هذه زينة، إن كان إنساناً تقياً فهو يطيع الله في هذا المال، وإن كان فاسقاً فهو استدراجٌ له، وإن كان كافراً فهذا غاية مناه وقصارى ما يأمل في هذه الحياة.

    الدنيا مثل الحية لين مسها قاتل سمها، الدنيا إما نقمة نازلة أو نعمة زائدة، لا بد إذاً أن توطن النفس على الذهاب من هذه الدنيا والرحيل، الدنيا لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب، ولا تخلو من فتنة ولا من محنة، فأعرض عنها قبل أن تعرض عنك، واستبدل بها قبل أن تستبدل بك، فإن نعيمها يتنقل، وأحوالها تتبدل، ولذاتها تفنى، وآثارها تبقى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس:12] خطوات المشي إلى المساجد تبقى عند الله، والصدقات تبقى للآخرة، الآثار هذه الآثار وليست الآثار التي يتفرج عليها الناس في السياحة.

    وهذا المفهوم أيضاً يجعل الإنسان سخياً بما في يده في سبيل الله، يضع ما عنده في سبيل الله؛ لأنه يعلم أن هذا الذي ينفق هو الذي يبقى، والذي يدخره عنده هو الذي يزول كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـعائشة ، ما بقي منها إلا كتفه، أنفقت وبقي جزء، فأخبرها أن الباقي هو الفاني وأن ما أنفقته هو الباقي.

    روى ابن المبارك في كتابه الزهد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار فجعلها في صرة، ثم قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح ، ثم تلهَّ ساعة في البيت حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها الغلام إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حوائجك. فقال أبو عبيدة : وصله الله ورحمه كما وصلني، ثم قال: تعالي يا جارية! اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان... حتى أنفذها وانتهت كلها! فرجع الغلام إلى عمر بن الخطاب فأخبره، ووجده قد أعد مثلها لـمعاذ بن جبل فقال: اذهب بها إلى معاذ بن جبل، ثم تلهَّ في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذا في حاجتك. فقال: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية! اذهبي إلى فلان بكذا، وإلى بيت فلان بكذا، وإلى بيت فلان بكذا. فاطلعت امرأة معاذ ، فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا، هذه زوجته تقول: اجعلنا في عداد المساكين، نحن محتاجون، فلم يبق في الخرقة إلا ديناران فدحا بهما إليها. فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فسر بذلك وقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض.

    فحقارة الدنيا إذاً وزوالها يدفع الإنسان للإنفاق والبذل والعطاء؛ لأن ما عندكم ينفد وما عند الله باق، ولو أنفقتها فقد جعلتها في كف الرحمن، وما عند الله باق، فهي في كفه سبحانه وتعالى يربيها لصاحبها حتى تكون كالجبل العظيم.

    1.   

    الدار الآخرة هي الباقية

    وفوائد هذا المفهوم -أيها الإخوة- وهو زوال الدنيا وفناؤها وحقارة زينتها، ودوام الآخرة وبقاء ونعيمها أمر عظيم جداً يحتاج إلى كثير من الوقت لبيان فوائده.

    اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من المتعلقين بدار كرامتك، العاملين لآخرتهم يا رب العالمين! وضاعف لنا الأجور والحسنات وارفع لنا الدرجات، واجزنا الجزاء الأوفى، اللهم لا تجعلنا بدار الهوان والدنيا من المتعلقين، اللهم اصرف عنا نقمتها وفتنتها وبأسها وشدتها يا أرحم الراحمين.

    اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

    اللهم ارفع الظلم عن المستضعفين من المسلمين، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وإنهم عراة فاكسهم، وجياع فأطعمهم، أنت أعلم بهم وأرحم إنهم عبادك وإنك لا تضيعهم، اللهم فانصرهم على عدوهم، واجمع شملهم على الحق المبين يا رب العالمين! اللهم اجعل آخرتنا إلى خير، واجعل أمرنا إلى نعيم، اللهم إنا نسألك الثبات عند الممات، والأمن من فتنة القبر، اللهم إنا نسألك الثبات على الصراط، جز بنا عليه بأسرع ما يمر عليه يا أرحم الراحمين.

    إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

    وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755819896