أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
فإن دخول الذي يمكر في كيان الأمة المسلمة يجب أن يلقى منها تشخيصاً دقيقاً وأميناً، والذي يخفف من المصائب التي تنزل على العالم الإسلامي لا يكون أميناً ولا صادقاً عندما يبين أن الأمة كلها بخير، وفي اعتقادي أن الأسباب التي أدت إلى الانهيار في بعض جوانب الكيان الإسلامي هي كثيرة، لكنني أتناول شيئين هما لب هذه الأسباب كلها:
السبب الأول: عدم صدق المحبة عند جماهير المسلمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن تبجح بها كثيرون؛ فإن أكثر أهل الأرض أدعياء، وهذا هو الذي يُفرِق بين جماهير المسلمين في القرون المتأخرة، وبين جماهيرهم في القرون الفاضلة الأولى.
السبب الثاني: أننا ورثنا الكتاب، ولا شك أن الذي يرث الشيء لا يكون حريصاً عليه كالذي قاتل دونه، كما قال الله عز وجل: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ [الأعراف:169] وليته إذ أخذ عرض هذا الأدنى أحس بأنه مجرم، لكن يقول: سيغفر لنا، فيفعل هذا الفعل الجسيم، ويقول: سيغفر لنا، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103-104] مثل هؤلاء لا يرجعون؛ لأن مثل هذا يعتقد أنه يحسن، فإن أردت أن ترجعه فأنت سترجعه عن الإحسان في نظره فيستحيل أن يرجع، لذلك كان هذا النمط من الأخسرين، أي: لا خسران بعد هذا الخسران المبين.
قال أبو أيوب : (وكنا نرسل إليه الطعام، فعندما نأكل نسأل من أين أكل؟ فنتحرى موضع أصابعه فنأكل منه، وكذلك إذا شرب نتحرى موضع الشرب فنشرب منه، قال: فأرسلتُ له يوماً طعاماً فيه غفنٌ أو ثوم فرده ولم تظهر يده فيه، قال: ففزعت، ونزلت، فقلت: يا رسول الله، أحرام هو؟ -يعني: البصل والثوم؛ لأنه لم يأكل منه- قال: لا لكني أنُاجى والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، قال
مع أن البصل والثوم حلال، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه.
قال أبو أيوب : (وانتبهت ليلةً، فقلت: أأنا أمشي على سقيفتي وتحتها رسول الله!) يعني: يمشي أبو أيوب هو فوق الخشب ورسول الله تحتها، وفي بعض الروايات كما في الصحيح قال: (وانكسر لنا إناء، قال: فجففت الماء بلحافي ولحاف امرأتي، وما لنا غيره خشية أن تنزل نطفة من الماء على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لامرأته: انزوي) وانزووا جميعاً في ركن البيت حتى لا يمشيان على سقيفة تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح الصباح نشده أن يصعد، وقال: (لا أعلو سقيفةً أنت تحتها) فهل يتصور في مثل أبي أيوب الأنصاري ، إذا سمع قولاً أو رأى فعلاً من النبي عليه الصلاة والسلام أن يخالفه؟
قال الإمام تقي الدين السبكي في رسالته: (بيان قول الإمام المطلبي -وهو الإمام الشافعي رحمه الله-: إذا صح الحديث فهو مذهبي) قال: (وليتخيل أحدكم نفسه إذا سمع الحديث أنه بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمره أو ينهاه هل يكون بوسعه أن يخالف؟)
إذا قلت لك الآن حديثاً تخيل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يقول لك هذا الكلام، أيكون بوسعك أن تتخلف؟
لا يكون بوسعك بطبيعة الحال، لكن بُعد المسافة عن مصدر الضوء سبيلٌ إلى الإيغال في الظلام، كلما اقتربت من مصدر الضوء كلما أصبت شيئاً من ضوئه، وكلما ابتعدت عن هذا المصدر كلما أوغلت في الظلام، وهذا المصطلح هو كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي عنوان الكتاب تعدوا دلالة المنطوق إلى دلالة المفهوم وأن قوله: (فنانات تائبات) معناه: أن اللاتي لا زلن في الفن عاصيات، كيف فهموا هذا؟ ولم يسمحوا أن يمرروه، وهناك عشرات الرسوم التي تطعن في دين الإسلام، ففي مجلة صلاح الدين رسام يرسم ناراً وكتب فوقها: (جهنم الحمراء) ورسم جماعة من الناس في الزاوية يصرخون ويرفعون أيديهم، وفي الزاوية الأخرى شخص عنده مروحة ويبتسم ابتسامة لذيذة تنم عن سعادة ورضا -هذا في جهنم الحمراء!- وكتب تحتها (مرسي)، أليس هذا طعنٌ في الله تبارك وتعالى؟!
إذا أراد الله أن يرحم أحداً لا يُسأل عما يفعل، لكن أن يضعهم في النار ويضع المروحة!! هل هذا الكلام معقول، معقول أن تمرر هذه الرسوم التي تجرح ملايين المسلمين ولا تنم عن أية صلة بهذا الدين.
إن الله تبارك وتعالى يعاقب الأمة كلها إذا لم تضرب على أيدي سفهائها، وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25] على أحد معاني الآية: لا تصيبن الذين ظلموا فقط، إنما تصيب أيضاً الذين سكتوا على الذين ظلموا ولم يأخذوا على أيديهم.
فأين محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المستوى الإعلامي، وأين توجد؟
هذه هي البركة التي رفعت هؤلاء الناس ومن ذكرت من قبل.
قال: (لقد رأيت شيئاً ما لي به صبر؛ رأيت الجوع في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ماذا عندكِ من الطعام؟ قالت: ما عندي شيء، عندي عناق -جدي صغير-، وعندي صاعٌ من شعير، قال: فأخذ العناق فذبحه، وقال: اعجني هذا الصاع، قالت له: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معه، لكن ائتِ به وبنفر من أصحابه، فذهب
فانظر إلى جابر وإلى شفقته، يرى النبي صلى الله عليه وسلم جائعاً فيحز في نفسه، فهل تتصورون أنه إذا سمع قولاً أو رأى فعلاً من النبي صلى الله عليه وسلم أنه يخالف؟ أبداً.
لقد رأينا عند علماء الأصول أن الفعل المجرد لا يقتضي الوجوب، بخلاف القول المجرد؛ فإن الأقوال المجردة تقتضي الوجوب، ما لم يكن هناك صارف، بخلاف الأفعال، فلا تقتضي الوجوب إلا بدليل خارجي.
ومع ذلك رأينا الصحابة يتقَّفون أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي لا تفيد الوجوب بمجردها فضلاً عن الأقوال، وهذا من شدة الحب، فهذا هو الاتباع الحقيقي، والاتباع فرع عن هذه المحبة، إذا أحببت النبي عليه الصلاة والسلام بصدق وبكل قلبك يستحيل أن تدع اختياره لاختيارك أنت.
فتنظر إليه وهو يقول: (ما كنت أستطيع أن أحد النظر إليه إجلالاً له) من هيبته، ومن تعظيم عمرو بن العاص له صلى الله عليه وآله وسلم، ما كان يستطيع أن يملأ عينيه منه، فهل يتصور من مثل هذا إذا سمع قولاً للنبي صلى الله عليه وسلم أو رآه يفعل فعلاً أن يخالفه؟ أبداً.
الجاهليون يحفظون اليد، وكان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ويمسك بلحيته، وكانت هذه عادة عند العرب أن الرجل إذا حدَّث جليسه يكثر من أن يمسك بلحيته، وهذه وإن كانت عند العرب عادة لكنها تضاد التوقير، فكان يقف شابٌ بسيفه على رأس النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما مد عروة يده ضربه ذلك الشاب بذباب السيف، ويقول: (نحِ يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فلا يلبث عروة أن تغلبه العادة فيمس يد النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا الواقف يعاجله بضربةٍ على يده، حتى قال له: (لئن مددت يدك لأقطعنها).
وما عرفه لأنه يلبس اللثام، وكان هو المغيرة بن شعبة ، وعروة بن مسعود عم المغيرة ، ولمّا علم المغيرة أن عمه قادم ذهب فتلثم ووقف على رأس النبي عليه الصلاة والسلام، فلما أكثر من الضرب على يد عروة بن مسعود -وعروة يرى رجلاً ملثماً لا يعرف من هو- قال: (تنح عني، ما أظنك إلا رجل سوء -لكثرة ما يضرب يده بذباب السيف- من هذا الذي آذاني؟) فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال ({هذا ابن أخيك
وكان المغيرة صاحب اثنا عشر رجلاً في الجاهلية، فلما شربوا الخمر قتلهم وأخذ أموالهم وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً، فقدم له المال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الإسلام فأقبله منك، وأما المال فلست منه في شيء، إنه أخذ غدراً) حتى لو كان من كافر، وأبى أن يأخذ المال، فلما وصل إلى القبائل أن المغيرة قتل رجالها كادت أن تقوم حربٌ بين القبائل، فقام عروة بن مسعود عم المغيرة وقال: أنا أدفع دية هؤلاء، فكفت الحرب، فيقول: (أي غدر! ما زلت أسعى في غدرتك -أي: أنا حتى الآن أدفع دية الذين قتلتهم وأخذت أموالهم- وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس -أي: عندما أسلمت-).
فانظر حب المغيرة ، يضرب عمه؛ لأنه يمس لحية النبي عليه الصلاة والسلام وهي عادة، لكنها تضاد التوقير.
وأخذ عروة يراقب أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قال: (فوالله ما كان يتوضأ بماءٍ فيسقط على الأرض إلا يتقاتلون على ماء الوضوء، وما رأيت أحداً منهم يحد النظر إليه تعظيماً له، وإذا أمر امتثلوا أمره، وما يبصق بصاقاً فيقع في يد أحدهم إلا دلك به جلده، وما استطاع من بدنه) رأى هذه الصورة وكان قد حكم عليهم أنهم أوباش لا يستطيعون أن يثبتوا في الذود عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد رأى بأم عينيه، وظل يراقب وذهب إلى قريش، فقال لهم: (والله لقد وفدت على الملوك؛ وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي، ووالله ما رأيت أصحاب ملكٍ يعظمون ملكهم كتعظيم أصحاب محمدٍ محمداً، والله ما بصق بصاقاً فوقع في يد أحدهم إلا دلك به وجهه وجلده، وما توضأ بوضوءٍ إلا اقتتلوا عليه، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له، وإذا أمر يمتثلون أمره، وما أرى لكم قبلاً بهم).
صورة عظيمة جداً لهؤلاء الصحابة دعاهم لها حب هذا النبي الكريم.
المسئول عن هذا الضياع الذي يعيشه المسلمون الآن بكل صدق هو أن هذه المحبة غائبة مهما زعم الزاعمون أنهم يحبونه.
لقد رأينا في سير المحبين عجباً! رأينا الرجل إذا أحب امرأةً تفانى في حبها، ولعلكم تذكرون قول القائل مجنون ليلى الذي أطلقوا عليه هذا اللقب، يقول:
أمر على الديار ديـار ليـلى أُقبل ذا الجـدار وذا الجـدارا
وما حب الديار شغفن قلـبي ولكن حب من سكن الديارا
فقال الحسن : (يا معشر المسلمين! أيكون الجذع أشد حنيناً للنبي صلى الله عليه وسلم منكم؟) خشبة تكون أكثر حنيناً للنبي صلى الله عليه وسلم منكم، وذاك الذي أراد أن يرسل إلى من يحب شيئاً، فلم يجد، فبكى وأنشد قائلاً:
أرسلت دمعي للحبيب هديـةً ونصيب قلبي من هواه ضلوعه
قال اجتهد فيما يلـوح بقتلنا قلت ابتهج جهد المقل دموعه
ما أستطيع أكثر من هذا.
وقد حكم الله تبارك وتعالى بالكفر على أمثال هؤلاء: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66]، فالمسألة هذه لا تحتاج إلى علم وتوقير النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب موالاته واتباعه لا يحتاج إلى علم، وتعظيم الرب تبارك وتعالى لا يحتاج إلى علم، لذلك حكموا أن الذي يسبه كافرٌ مرتد، إذ لا خير فيه.
هذا هو الداء العضال الأول الذي تسبب في هذا الضياع الذي يعيشه المسلمون الآن، بعدهم وصدهم عن قول النبي صلى الله عليه وسلم بضروب من التأويل البغيض الواهي، ما تقول له قولاً إلا وقال لك: يحتمل كذا، ويحتمل كذا، ويضيع دلالة الحديث باحتمالاته، وقد يكون المعنى واضحاً غاية الوضوح، وهذه شقاشق تلقفها من لا يحسن عن هؤلاء العلماء، فأخذوا أسباب الضياع، فتركوا الاتباع فضلاً عن هذه المحبة العظيمة التي يجب أن تكون في صدر كل مسلم للنبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا اللون من التحريف لا يستطيع أحدٌ أن يثبته في المصحف، لكنه يمكن في غير كتاب الله تبارك وتعالى، فيكون إيجاد كلماتٍ جديدة في كتابٍ خارج عن المصحف؛ وقد وجدنا أن هناك أناساً يستحلون مثل هذه الأشياء، وقد يطول على الناس زمان، يثبتون مثل هذا في المصحف، فقد ورد في بعض الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الأصنام ستعبد في جزيرة العرب.
ولكل ساقطة في الأرض لاقطة وكل نافقة يوماً لها خلق
فالجرأة على تفسير القرآن الكريم على غير ما كان السلف الصالح يفسرونه به، هذا من أسبابه أن هؤلاء ورثوا الكتاب، كما لو ورثت مالاً عن والدك، قد تنفق هذا المال كله في لحظةٍ من اللحظات، ولا تذرف عليه دمعة إذا ضاع كله، بخلاف الذي جمع المال بنفسه، لذلك كان التعبير القرآني دقيقاً جداً: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ [الأعراف:169]؛ لأن الذي ورث ليس كالذي قاتل على آيات الكتاب.
فأشار هذا الضعيف إلى الجلوس، وقال لهم: الصابئ الصابئ)، وهذه كالشفرة معناها: اقبضوا عليه؛ لأنه يسأل عن الرسول عليه الصلاة والسلام، قال أبو ذر : (فاستداروا عليّ بكل مدرة وعظم حتى كأنني نصب أحمر) من كثرة الدماء التي سالت عليه، فهرب منهم، وما أنقذه إلا العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، قال: (ويلكم! أمَا تعلمون أنه من غفار؟ وأن طريق تجارتكم يمر على غفار؟ فتركوه، خوفاً من غفار أن تنتقم وتأخذ التجارة منهم، وهربوا، فلقيه علي بن أبي طالب قال: (أمَا آن للغريب أن يعرف سبيله؟ قال: إن كتمتني قلت لك، قال: وما ذاك؟ قال: أين هذا الذي يذكرون أنه صابئ، قال: اتبعني، فإذا خفت عليك -لأن هناك جماعة يرقبونه- سأعمل كأني أريق الماء -أي: يتبول- وما زال وراءه حتى ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فما أن رأيته حتى علمت أن هذا ليس بوجه كذاب، فسمع منه وآمن، فقال له: (لا تجهر بها حتى نظهر) -أ:ي حتى نهاجر إلى المدينة- فقال له: والذي بعثك بالحق لأقذفن بها بين أظهرهم، وذهب إلى المسجد وصاح بالشهادة، قال: فانهالوا عليه بكل مدرةٍ وعظم، فما أنقذه إلا العباس ، ويلكم! أمَا تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم يمر على غفار، فهرب منهم ثلاثين يوماً، ما له طعامٌ ولا شرابٌ إلا ماء زمزم، قال: حتى تكسرت عُكن بطني ولم أشعر في كبدي بجوع)، تكسرت عكن بطني، يعني: حتى أصبح لحم بطنه طبقات، لا يأكل ولا يشرب إلا ماء زمزم، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إنها طعام طعم، وشفاء سقم).
تصور رجلٌ مثل أبي ذر يعلم العواقب الوخيمة التي ستنهال عليه من جراء الصدع بالشهادة، فمبجرد أن سأل: أين الصابئ؟ حولوه كتلة دم، فكيف لو ذهب وجهر بالدعوة ماذا سيفعلون به؟ ومع ذلك استعذب أن يصدع بها وهو يعلم العواقب، فهل رجلٌ مثل أبي ذر إذا تلا آيةً من كتاب الله أو سمع حديثاً من النبي عليه الصلاة والسلام يمكن أن يخالفه؟
ففي قصة كعب بن مالك في غزوة تبوك لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين ألا يكلموه واشتدت عليه الوحدة، ذهب إلى أبي قتادة الأنصاري قال كعب بن مالك : (وهو ابن عم لي وأحب الناس إليَّ)، ولكن جفوة المسلمين وعدم تكليمهم إياه جعلته يكاد يبكي، كما قال الله عز وجل: ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ [التوبة:118] فتسلق الجدار وأبو قتادة وحده ولا أحد معه، قال له: (السلام عليك يا أبا قتادة ، قال كعب بن مالك : فوالله ما رد عليَّ السلام)؛ لأنه مأمور ألا يسلم، وهناك أناس يقولون: لا، المقصود الكلام العادي، ورد السلام واجب وليس من الكلام العادي فيصدر حكماً، بل هو مأمور بعدم السلام، وعدم السلام يدخل فيه كل كلام، قال: (فوالله ما رد عليَّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة، ألا تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: الله ورسوله أعلم) وهذا ليس تكليماً من أبي قتادة لـكعب بن مالك ، بل يمكن أن يكلم نفسه، لكن ليس هناك كفاح ولا مواجهة.
فنفذ أمر عمر بن الخطاب هذا المجتمع الذي هو كما قال رجل لـعلي بن أبي طالب : (يا أمير المؤمنين! لماذا انشقوا عليك ولم ينشقوا على عمر ؟ فأجابه إجابة مفحمة، قال: لأن عمر كان والياً على مثلي، وأنا والٍ على مثلك)، هناك فرق، يأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ألا يكلمه أحد، فلا يكلمه أحد، حتى شق جداً عليه، فذهب يشتكي إلى أبي موسى ، فأرسل أبو موسى لـعمر أن حسنت توبته، فأمر المسلمين بتكليمه.
وبمثل هذا صان المسلمون كتاب الله تبارك وتعالى عن دخول الأقوال الباطلة باسم التفسير، حيث كان الرجل يخشى أن يفسر تفسيراً مستقيماً فيجلد عليه، فكيف لو أنه قال تفسيراً باطلاً.
فصان المسلمون كتاب الله تبارك وتعالى؛ لأنهم قاتلوا عليه، فأحد أسباب الوهن الأخرى أننا ورثنا كتباً كثيرة جداً، لكن لم ننتفع بها، فتدخل على الرجل منا فتجد عنده مكتبةً لم تكن عند مشايخ الإسلام.
الشيخ: أحمد شاكر رحمه الله كتب تعليقاً على المحلى عندما رأى أثراً عن عبد الرزاق في المصنف كان الشيخ أحمد شاكر يتكلم على مصنف عبد الرزاق كما لو كان الغول أو العنقاء، يعني: كأنه غير موجود على الإطلاق، ويقول: إن هذه الكتب كانت موجودة عند هؤلاء العلماء كالمصحف في أيدي الصبيان في الكتاتيب، والآن لا نعلم أنه يحفظها عالم، قال: الآن مصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة، ومصنف سعيد بن منصور، وهذه الكتب التي تعنى بالآثار، هي الآن موجودة مطبوعة عند كثير من طلاب العلم، لكن هل استفاد المسلم من هذه الكتب ومن هذا الفقه الموجود في الكتب؟ قد يموت وهناك بعض الكتب التي كان ينام فيحلم بها، واقتناها، يموت ولا يمس منها ورقة، إرث عظيم جداً، تصوروا جميع الكتب الإسلامية الآن التي هي عن السلف القدامى، أي دولة قد تئن من ثمن هذه الكتب، يعني: لو أن هناك دولة أرادت أن تشتري الكتب القديمة لوجدت أن المخطوطات التي لم تطبع تساوي أكثر من نصف الذي طبع، وحتى الآن مئات الألوف من المخطوطات لم تر النور.
كل هذا لتفسير الكتاب الكريم وتفسير الحديث النبوي، تستطيع أن تستفيد الكثير منها، المطبوع منها أو المخطوط، لكن لا تستطيع أن تنتفع بها مثل ما كان الأوائل.
جمع العلماء بين الآية وبين الحديث، كالإمام البخاري مثلاً في الصحيح قال: (باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه إذا كان ذلك من سنته).
أي: أنه إذا أوصى أن ابكوا عليَّ، وانصبوا الأعلام وشقوا الجيوب وادعوا بدعوى الجاهلية، إن أوصى بهذا يُعذب، فحمل الحديث على إذا كان ذلك من سنته، أي: من سنة الذي مات، أنه أوصى بذلك، ولا شك أنه لا يجوز لأحدٍ أن يوصي بما لا يرضى الله تبارك وتعالى عنه.
ومثل هذا باب واسع جداً عند أهل العلم، صنفوا فيه كتباً، ولا يستطيع أن يخوض فيه إلا الجهبذ الذي قلمت أظفاره بالعلم، فالرجل الذي لم يقرأ في الأصول قراءةً جيدة لا يستطيع أن يخوض في باب التعارض والترجيح؛ لأنه باب تزل فيه أقدام الفحول، وعندما ترى العلماء المتقدمين الذين ينظرون في الأحاديث وفي تأويلها تستشعر أن هؤلاء على علم، بخلاف كثير من المتأخرين، الذين وإن درسوا الأصول لكن عندهم شقاشق وكلامٌ كثير يحتاج إلى نظر، حتى أن بعضهم حرر بعض الأصول تحريراً فيه نظر، لا يعرف إلا عن بعض المتأخرين ولم تكن أحد من المتقدمين يقوله، فالحاصل أن التأويل كما يقول بعض العلماء عدو الأديان، وما زل من زل إلا بسبب التأويل والتوسع في التأويل، وبدعوى أن هذا تأويل حرفوا كلام الله تبارك وتعالى، وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يهيئ لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل ما قلناه وما سمعناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً ليوم القدوم عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر