أما بعد..
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنا قعوداً مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعنا
وعلى النقيض من ذلك فإن الخوارج يخرجون الرجل من الجنة إلى النار إن فعل أية معصية.
وأهل السنة وسط دائماً، فيستحيل أن يكون الإيمان المنجي صاحبة قول دون عمل، وإذا كان الأمر كذلك فالزاني يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وآكل الربا يقول ذلك، بل وقاتل النفس يقول ذلك، إذاً إن كان القول فقط هو الذي يدخل الجنة فلم يدخل بعض أهل التوحيد النار بالذنوب والمعاصي التي يرتكبونها؟!
بل بلغ القول ببعض هؤلاء المرجئة.. وبكل أسف نشر هذا الكتاب حديثاً وهو كتاب جزء صغيراً سماه مؤلفه (دش الأفكار على المقطوع لهم بالجنة والمقطوع لهم بالنار) وتستغرب منه أنه جعل فرعون من المقطوع لهم بالجنة، والقرآن الكريم في آياته الكثيرة يذم فرعون، هل يمكن أن يكون هناك رجل ينتسب إلى العلم من المسلمين يقول: إن فرعون في الجنة؟!
قال: نعم. والقرآن دل على ذلك!! قال تعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90] يقول: ففرعون قال الكلمة: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ [يونس:90] قالوا: فقد صرح بالكلمة والنبي صلى الله عليه وسلم علق دخول الجنة على من تلفظ بالكلمة وإن لم يعمل عملاً، وانظر إلى هذا الفهم المعكوس، مع أن الله تبارك وتعالى عقب على مقالة فرعون، قال له: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:91] والآية واضحة جداً وصريحة، بل إن هذه الكلمة التي خرجت من فرعون فيها علو وكبر، فلم يقل: آمنت أنه لا إله إلا الله، وإنما قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ [يونس:90]، أي: يأبى أيضاً أن يصرح بها حتى أثناء الغرق، فما قال: لا إله إلا الله، وإنما: لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ [يونس:90]. فالله عز وجل يقول له: آلآنَ [يونس:91] أي: الآن وقد أدركك الغرق تشهد أن لا إله إلا الله؟!
إن توبة اليائس لا قيمة لها، ولذلك جاء في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) أي: ما لم تخرج نفسه وهو يعاني سكرات الموت، إذا آمن وروحه تخرج فلا قيمة لهذا الإيمان، بل هذا إيمان اليائس، إنما إن كان الرجل يؤمل أن يرجع إلى الدنيا أو يؤمل أن يبرأ من مرضه ولم تظهر عليه علامات الموت التي لا يحس بها إلا المحتضر وحده، فإذا آمن ورجع وتاب تقبل توبته؛ لأنه يؤمل أن يرجع، أما اليائس الذي لا يؤمل في الرجوع فما قيمة توبته.
عندما فتشت في ترجمة هذا المؤلف وجدته صوفياً، فهذا ليس بغريب عليه، فقد وجد في هؤلاء الصوفية من قال مقولات أبشع من ذلك، كالقول بوحدة الوجود: وهي أن كل شيء تراه بعينك فهو الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وقائل هذا محيي الدين ابن عربي الذي كفره جماهير علماء المسلمين، وقد ساق الحافظ ابن حجر واقعة له في كتابه الفريد (إنباء الغمر بأنباء العمر) وهو كتاب سرد فيه حياة الأمة المسلمة في أيامه يوماً بيوم، حتى دون فيه غلاء الكتان والشعير والقمح، واحتجاج التجار وملاقاتهم مع الوالي، فسرد الشيء الكثير في هذا الكتاب، ويقول في هذا الكتاب: اختصمت أنا ورجل في شأن ابن عربي فقال لي: إنه ولي من أولياء الله، وقلت: إنه كافر! فقال الرجل: بل إنه ولي، قلت له: نتباهل، والمباهلة: أن يلعن الرجل نفسه إن كان من الكاذبين، قال الحافظ ابن حجر : فتباهلنا، فقلت: اللهم إن كان ابن عربي مؤمناً فالعني بلعنتك، وقال الرجل: اللهم إن كان ابن عربي كافراً فالعني بلعنتك، قال الحافظ ابن حجر : فما مرت عليه ثلاث ليال وكان قاعداً في ليلة مظلمة فمر شيء أملس من على قدمه فمات لوقته.
فهذا الرجل الذي يقول: إن فرعون من المقطوع لهم بالجنة أداه إلى هذا القول القبيح المخالف للقرآن الكريم أنه يزعم أن الإيمان قول فقط، وأهل السنة والجماعة وسط بين أهل البدع، يقولون: إن الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، ولذلك فهذا القيد الذي ورد في حديث أبي هريرة : (من قابلته خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة)، ما قيمة هذا القيد: (مستيقناً بها قلبه)؟ يستحيل لرجل يستيقن أن الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له ثم يشرك به، ويستحيل على رجل يعتقد اعتقاداً جازماً أن الله تبارك وتعالى هو المشرّع وله الحكم والأمر ثم يحتكم إلى غيره، ويستحيل على رجل مس الإيمان قلبه أن يعصي الله تبارك وتعالى مستمرئاً للمعصية، هذا كله مستحيل؛ لذلك هذا الحديث رد على هؤلاء، وعلى أولئك الذين يكفرون جماهير المسلمين بالمعاصي.
وفي هذا الحديث من الفوائد الشيء الكثير، فمنها أيضاً:
فكانوا يعظمونه غاية التعظيم، حتى إن عمرو بن العاص لما أدركه الموت وحكى لابنه عبد الله مراحله في الإيمان والكفر قال من جملة ما قال وهو يحكي عن حال كفره: (ولم يك شيء أحب إليَّ من أن أكون استمكنت من النبي صلى الله عليه وسلم فقتلته، وإنني إن قتلته دخلت النار) فلما آمن قال: (ولو طلب مني أن أصفه ما استطعت أن أصفه، فإنني ما كنت أملأ عينيّ منه إجلالاً له) أي: من الحياء وشدة الإجلال ما كان يطيق أن يطيل النظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فمن رآه هابه، ومن خالطه أحبه.
فهذه كانت سمة عامة، وهذه السمة هي أهم ما يفتقده المسلمون الآن، فمشكلتهم الآن أنهم لا يجلون النبي عليه الصلاة والسلام الجلالة الواجبة، ولا يعظمونه الإعظام الواجب، إنما يردون أحاديثه، ولا يتأدبون في الخطاب معه.
والله إن بعض الناس قال اليوم مقالة لو قالها في زمان الصحابة لقتل ردة، لا أقول: يقتل حداً، بل ردة، وهو الذي يسمع قوله عليه الصلاة والسلام: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود) وهذا حديث رواه مسلم قال أبو ذر : يا رسول الله! فما بال الكلب الأسود من الأحمر من الأصفر؛ لماذا الكلب الأسود بالذات؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: الكلب الأسود شيطان) من الواضح هنا أن النبي عليه الصلاة والسلام فرق ولم يسو بين الكلاب كلها، فيأتي هذا الراد غير المتأدب فيقول: (الكلاب كلها سواء لا فرق بين أصفر ولا أسود ولا أحمر)، والنبي عليه الصلاة والسلام يفرق، وقد سأله أبو ذر : ما بال الكلب الأسود من الأحمر من الأصفر؟! فقال له إجابة واضحة في التفرقة: (الكلب الأسود شيطان)، ويأتيك هذا فيقول: بل الكلاب كلها سواء! أهذا من إعظام قول النبي عليه الصلاة والسلام؟
ويسمع قوله صلى الله عليه وسلم: (الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام)، وهذا حديث رواه الشيخان البخاري ومسلم ، والحبة السوداء هي حبة البركة، فيأتي ويقول: كيف يقال: إن الحبة السوداء شفاء من كل داء؟ هل الرجل الذي عنده الكلى يأخذ الحبة السوداء؟ هل الرجل الذي عنده برودة يأخذ الحبة السوداء؟ هل الرجل الذي يعاني من القولون يأخذ الحبة السوداء؟ ويعترض على الحديث.
فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (شفاء من كل داء) وهو يقول: ليست شفاء من كل داء!! وبلاؤنا فيه أنه له عمامة كبيرة، ورجل له قدم، هذه هي مصيبتنا، فما يأتيك من عدوك لا يضيرك، إنما ما يأتيك من أهل جلدتك ومن يتكلمون بلغتك هذه هي المصيبة.
ولو كان سهماً واحداً لتقيته ولكنه سهم وثانٍ وثالث
هذه هي المشكلة أنه لا يعظم قول النبي عليه الصلاة والسلام، ويزعم أن الأحاديث على غير ظاهرها، وأن الذين أخذوا بظاهرها جهلة، ولم يعلم أن الذين أخذوا بظاهرها هم الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين.
هذا هو الفرق بيننا وبينهم، فكان شدة الحب الذي كان في قلوبهم للنبي عليه الصلاة والسلام يدفعهم على اتباعه في كل شيء، حتى وصل الأمر بـعبد الله بن عمر أنه كان يمشي مع أصحابه من التابعين يوماً، فرأى قبواً فدخل فيه، فقال التابعون لـنافع وكان مولى لـابن عمر : أهو داخل يستريح؟ قال لا: وإنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتبول في هذا المكان فهو يحب أن يتبول فيه.
ولما قال عبد الله بن عمر حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) قال ولده: (والله لنمنعهن يتخذنه دغلاً) ، فرماه عبد الله بن عمر بحصيات كن معه ومنعه من الدخول عليه، فمات ابن عمر ولم يدخل ولده عليه؛ لأنه عارض الحديث برأيه، وإن كان ولده وحاشاه أن يعارض الحديث جحوداً وضرباً في نحر النص، لكنه تأول الحديث، فقال: إن كانت المرأة تدعي أو تريد أن تخرج إلى المسجد لتقضي أشياء أخرى تحت ستار الذهاب إليه لنمنعهن، فاستعظم عبد الله بن عمر أن يرد ولده كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فحصبه ومنعه من الدخول عليه فشفقتهم وحبهم للنبي عليه الصلاة والسلام كان أعظم ما يميزهم.
حتى لا يقع بصرك على عورات الناس، فإذا دخل البصر فما قيمة الإذن، ما قيمة أن تنظر وتتسمع كلام الناس ثم تدق الباب؟! إنما جعل الاستئذان من أجل ألا يسبق بصرك إلى عورات الناس، ولذلك قال: (لو رأيتك لطعنت بها في عينك ولا دية لك) أي: لو رأيت رجلاً ينظر في بيتك بغير إذنك فطعنته في عينه فذهبت فلا دية له، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر، هذا هو الأصل، لكن هب أنك سمعت صراخاً في بيت الجار واستغاثة، أو رأيت حريقاً أو أي شيء ضار، فالاستئذان لا يسع في هذا، ولكن ادخل، وهذا خروج عن الأصل للضرورة ودليله هذا الحديث، أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ينكر على أبي هريرة ، فلم يقل له: كيف تدخل ملك الناس بغير إذن، هل استأذنت؟! فلما لم يقل النبي عليه الصلاة والسلام ذلك دل على جوازه، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يسكت عن الخطأ: (قال:
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي هريرة : (اذهب بنعليّ هاتين فمن لقيته خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة) وفي هذا دليل على جواز إعطاء الأمارة، فلو قلت لفلان: اذهب إلى فلان فقل له بأمارة كذا وكذا أعطني كذا جاز، ونعل النبي صلى الله عليه وسلم كانت معروفة للصحابة جميعاً؛ لذلك أراد أن يهدئ من روع هؤلاء، فقال: (خذ نعلي هاتين -كدليل على أنك قابلتني (أمارة)- فمن لقيته خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة).
وهنا فائدتان:
الفائدة الأولى: جواز نزول رأي الفاضل على رأي المفضول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل إلى رأي عمر ، وقد نزل النبي عليه الصلاة والسلام إلى رأي عمر كثيراً، إن عمر رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين قال على المنبر يوماً: (وقد كنت أجرؤكم على النبي صلى الله عليه وسلم)، وتعجب عمر من جرأته، وكيف كان يتجرأ؛ حتى أن النبي عليه الصلاة والسلام عندما أراد أن يصلي على عبد الله بن أبي ابن سلول صلاة الجنازة وقف عمر أمام الجنازة وأراد أن يمنع النبي عليه الصلاة والسلام من الصلاة عليه، حتى قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (خلِّ عني يا
فكان عمر يتعجب من هذه الجرأة، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في غزوة تبوك أنه قلت أزواد القوم، فهموا أن ينحروا بعض الإبل، فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بنحر بعض الإبل يأكلونها ويشربون الماء الذي في أجوافها ويدهنون بها، فذهب عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إننا إن ذبحنا الإبل قل الظهر، ولكن اجمع ما في أزواد القوم ثم سم الله عليها) ، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم على رأي عمر فجاء صاحب البر ببره، وصاحب التمر بتمره، وجاء هذا بكف من ذرة وهذا بكف من شعير، وهذا بكسرة، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم الله تعالى عليه، فحملوا كثيراً في أزوادهم وفضلت فضلة.
فهذه من الفوائد المنثورة في حديث أبي هريرة ونسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ما قلناه وما سمعناه بقبول حسن، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، رب آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر