والشيخ قد تحدث في هذه الخطبة عن ذلك، كما دعا إلى الوحدة الإسلامية، وأوصى المسلمين باغتنام مواسم الحج، كما حث على مراجعة الأمة حساباتها، وإصلاح ما اضطرب من شئونها حتى تكون أمة واحدة قاهرة لعدوها.
أما بعــد:
يقول الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل عمران:96-97].
أيها المسلمون: بيت الله المعظم هو ملتقى جموع المسلمين، وقبلة أهل الإسلام، تتوجه إليه القلوب والأبدان، ويفد إليه الحجاج والعمار رجالاً ونساءً: وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:27-28] مجيبين ملبين: لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك!
وما برح هذا البيت المُشرف بحفظ الله وكنفه يطاول الزمان؛ شامخ البنيان، في مناعة من الله وأمان، يتطلع إليه المسلمون، ويتنافس في بلوغ رحابه المتنافسون، يعيشون في أمنه وأمانه، وتوافر أرزاقه، وتكاثر خيراته، قال تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص:57] وقال عز من قائل: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67] لقد جمع الله لهذا البيت وأهله مزيتين بهما تحصل السعادة بتمامها، والطمأنينة بكمالها: ضمان الأرزاق، والأمان من الخوف: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3-4] إنها إجابة دعوة إبراهيم الخليل عليه السلام: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ [البقرة:126].
أيها المؤمنون: وإن من التحدث بنعم الله الإشارة إلى جلائها بين المزيتين، وظهورهما واقعاً معاشاً، وأثراً ملموساً، فلله الحمد والمنة، رغدٌ في العيش، واستتبابٌ في الأمن، وتوفرٌ في المطاعم والمشارب، ورخصٌ في الأسعار، ويسرٌ في الحصول عليها، مما يشهده الحاضر والباد.
ولقد أعان الله القائمين على أمر هذه البلاد، وهيأ لهم خدمة الحرمين الشريفين على وجه يستبشر به أهل الإيمان، وقبل ذلك وبعده حكَّموا الكتاب والسنة، وأظهروا أمر الشريعة، فراية الدين مرفوعة، وأهل الحق ظاهرون، فزادهم الله صلاحاً وإصلاحاً وإعانة وسداداً.
وإن هذا الخير المشهود مع ما يرجى من أملٍ في المزيد المنشود، عائدٌ إلى الاستقامة على الحق، والقيام بواجب الشكر، ومعرفة نعم الله وقدرها حق قدرها: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].. رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37].
إنهم يأكلون ويطعمون ويشربون ويستمتعون؛ ولكن: لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37] فهدف السكنى بجوار البيت الحرام هو: إقامة الصلاة على أصولها، وأداؤها على وجهها، والشكر على نعم الله المتوافرة ورزقه الكريم.
وإن من أسرار هذه الشعائر والمشاعر: وقوعها بعد شهر رمضان وفي الأشهر الحرم؛ أما شهر رمضان فالشأن أن يخرج منه الصائم القائم، وقد تطَّهر من الأرجاس والأنجاس، ولا سيما رجس الشحناء ودغل القلوب، أما الأشهر الحرم فقد قال الله فيها: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36] مما يشعر بالكف عن كافة وسائل الظلم، والمجاوزات، والتزام الاستقامة والأدب مع هذا البيت وأهله وضيوفه، يؤيد هذه الأسرار الدقيقة والأهداف السامية النبيلة الآية الكريمة: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197].
إن أمة الإسلام تعيش في هذه الأعصار ليالٍ حالكة، وسراديب مظلمة، يسودها تفرقٌ واختلاف، وتناحرٌ وتطاحن، فمتحتمٌ عليها أن تفوق إلى نفسها، وتجمع صفوفها، وتأخذ من هذه المناسبة، وهذا التجمع الإسلامي العظيم فرصة التصحيح لروح الإخاء، واليقين لحقيقة الرابطة، والتجسيد لمنابع الحج، التي أهمها وأعظمها الوئام والتكاتف ضد أعداء الأمة المتربصين بها الدوائر.
لماذا لا يكون ذلك ونبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم قد وضعنا على المحجة وقال في مثل هذا الموسم : {تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله }.
فالإيمان بهذه الحقيقة، واطمئنان القلب إليها، يُوقظ في أعماق النفس النداء النبوي الكريم في مثل هذه المناسبة أيضاً حيث قال عليه الصلاة والسلام: {ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض } فبمثل هذا التوجه، وعلى هذا النحو، تقتحم الصعاب، وتتحقق الآمال، وتكون للمسلمين عزة وقوة، قوة لا للتخريب والاستلاب، ولكن لدفع شر المعتدي، واسترداد الحق من المغتصب في أفغانستان وفلسطين ، وسائر المغتصبات من ديار المسلمين.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وجمع كلمة المسلمين على الحق.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعــد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون! واغتنموا فرصة هذه اللقاءات المباركة في هذه الرحاب الطاهرة الآمنة الوادعة، واعقدوا العزم على العمل الصالح لجماعة المسلمين، والدعوة لإحياء ما اندرس من معالم الحنيفية ، والبعد عن كافة أشكال الوثنية وأرجاسها، فجمع الحجيج فرصة للأمة لتعيد فيه كل عامٍ ما تصدع من بنيانها، وتصلح ما اضطرب من شئونها، فهي أمة واحدة، وإن تناءت الديار، وتباعدت الأوطان، وهي جسدٌ واحد وإن اختلفت الألسن، وتعددت الألوان.
هذا وصلوا وسلموا على المصطفى من ولد عدنان، فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذِّل الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين، ودمر اليهود ومن شايعهم، وسائر الطغاة والملحدين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمنّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحين.
اللهم وفق قادة المسلمين للعمل بكتابك، والحكم بشريعتك، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم وفق قادة المسلمين للعمل بكتابك، والحكم بشريعتك، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ، يعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، الذين يجاهدون لإعلاء كلمتك، وإعزاز دينك. اللهم أيدهم بتأييدك، وانصرهم بنصرك، وكن معهم ولا تكن عليهم، واجعل الدائرة على أعدائهم يا قوي يا عزيز.
اللهم تقَّبل من الحجاج حجهم، اللهم وفقهم لحجٍ مبرور، وسعيٍ مشكور، وذنبٍ مغفور، ويسر لهم جميع الأمور.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر