أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ * إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ [النمل:76-81].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! تقدم في السياق الكريم تقرير المبادئ الثلاثة: التوحيد والنبوة والبعث الآخر، وبين هذا الكتاب أيما تبيين، وهنا يقول تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ [النمل:76] العظيم، وأل فيه للتعظيم والإجلال والإكبار، فقال: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ [النمل:76].
ووصفه الله بالعظمة فهو عظيم، وهو هذا القرآن الذي كذب به المكذبون، وحارب رسول الله من أجله المحاربون، وادعوا أنه من الشعر أو من السحر أو من أساطير الأولين.
وهذا القرآن العظيم يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النمل:76]. وبنو إسرائيل هنا يدخل فيهم اليهود والنصارى؛ إذ اختلف اليهود والنصارى اختلافاً بيناً، وعلى سبيل المثال فقط: النصارى قالوا في عيسى: ابن الله وإله مع الله، وهذا غلو فوق العادة، واليهود قالوا: عيسى ابن زنا وأمه عاهرة. واختلفوا أيضاً في كثير من مسائل العقيدة، واختلفوا في مسائل الدار الآخرة. وهذا الخلاف لا يخلصهم منه إلا القرآن، ووالله لو آمنوا بالقرآن لاتحدت كلمتهم وعقيدتهم، وأصبحوا أمة واحدة، ولكن تكبروا، ورفضوا الإيمان بالقرآن، ورفضوا سماع من يقرأه عليهم، ولهذا سيبقون في فتنتهم إلى أن يدخلوا دار البوار جهنم والعياذ بالله تعالى.
وقوله: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ [النمل:76] الذي نزلناه على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النمل:76] فيما بينهم. ومعنى هذا: لو آمنوا بالقرآن من اليوم واجتمعوا عليه لاتحدت كلمتهم، وطابت نفوسهم، وسعدوا في الدنيا والآخرة.
وقال في سورة الشورى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]. وهو القرآن. وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ [الشورى:52]. وإي والله فقبل الأربعين سنة التي قضاها ما كان يدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن ما إن نزل عليه القرآن حتى أصبح أكمل الخلق على الإطلاق علماً وكمالاً. وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]. وهنا قال: وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [النمل:77]، أي: جعلنا القرآن نوراً ليهتدي به المؤمنون، والنور تعرفونه في أنواركم المادية، فإذا كنت تمشي في الظلام وعندك نور فإنك تستطيع أن تخلص من الحيات .. من الأفاعي .. من السقطات .. من اللصوص .. من غير ذلك؛ لأن النور بين يديك، حتى تصل إلى غايتك التي تريدها، وإن كنت تمشي في الظلام بلا نور فلن تسلم، ولن تأمن والمسافة بعيدة طويلة، ولن تصل إلى غايتك حتى تهلك وتتمزق.
ولهذا من طلب الهداية خارج القرآن فوالله لن يهتدي، ووالله لن يهتدي العبد إلا إذا آمن بالقرآن وبمن نزل عليه، وأخذ يعمل بما فيه من هدى، ويمشي على ما فيه من نور، حتى يقرع باب الجنة بمجرد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، فهي مستقر روحه.
ولما عرف العدو هذا في القرن الثالث وما بعده تساءلوا كيف يستطيعون أن يصرفوا المسلمين عن القرآن، وهو مكتوب في سطورهم ومحفوظ في صدورهم، أو يأخذونه منهم، وعقدوا لذلك مؤتمراً في السودان حضره القسس والرهبان من النصارى، وحاولوا أن يسقطوا كلمة (قل) فقط من القرآن، وقاموا وقعدوا، وكتبوا وتداولوا الأمر، ولكنهم عجزوا، وقالوا: لو نستطيع أن نحذف من القرآن (قل) من مثل كلمة: قُلْ هُوَ اللَّهُ [الإخلاص:1]، و قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ [الأعراف:158]! و قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]! لأن الرسول مأمور بأن يقول، والذي أمره الله، ولولا هذه لقلنا هذا كلام محمد، وقد كان ذكياً وكذا؛ لأنه في بلاد عروبة فصاحة بلاغة، وهذا ليس وحي الله، بل هذا كلام محمد فقط، ولكن كلمة قل منعتهم؛ لأن الذي يتكلم لا يقول لنفسه: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ [الأعراف:158]! أو قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ [الجمعة:6]! أو قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]! أو قُلْ هُوَ اللَّهُ [الإخلاص:1]. بل معنى هذا إذاً أنه مأمور من فوق، إذاً: فالرسول مرسل ومنبأ، والله منبئه ومرسله. وعجزوا عن هذا.
ولكنهم نجحوا في تحويل المؤمنين عن القرآن، فأصبحوا لا يجتمعون عليه اجتماعنا هذا والله إلا نادراً، بل لا يجتمعون على القرآن ليسمعوه ويتدارسوه أبداً، وإنما يجتمعون عليه ليلة الموت وليال الوفاة والعزاء، فيقرأ عليهم، ويعطون مقابل القراءة طعاماً أو مالاً. وأصبحت هذه مهمة القرآن والقراء قرون عديدة أكثر من سبعمائة سنة. فقد كان لا يقرأ القرآن إلا لهذا الغرض فقط.
والحمد لله فقد فتح الله علينا، وانتشر النور بيننا، وأصبح القرآن يطلب للقرآن لا للموتى، وأصبحت مدارس القرآن وكتاتيب القرآن لا حد لها؛ لأن المسلمين يريدون أن يعرفوا الله، ويعملوا بما يحب ويرضى، وهذا من فضل الله. وبهذا خاب العدو، وقد خيبناه والحمد لله. والآن اسأل طالب يقرأ القرآن لم يقرأ، فسيقول: ليحفظ كلام الله، ولا يقول: لأقرأه على الموتى.
ومن اللطائف: أن والدتي رحمة الله عليها فاطمة بنت أحمد سالم عندما كنت يتيماً في حجرها كانت تسأل الله عز وجل أن يجعلني إما جزاراً وإما حافظ قرآن والله العظيم؛ لأني إن كنت جزاراً فسآتيها بالكبد واللحم يومياً، ولم نكن نجد اللحم عندنا من السنة إلى السنة إلا مرة، أو من الشهر إلى الشهر، وإن كنت من أهل القرآن فسأقرأ على الميت، ويعطونني لحمة، وسألفها في منديل وآتيها بها.
وهكذا كان العالم الإسلامي من أندونيسيا إلى موريتانيا، ما يعرفون القرآن إلا من أجل الموت، أي: ليقرأ على الموتى. ولكن الله فتح علينا، وشرح صدورنا، وأصبحنا نجتمع على كتاب الله نتدارسه، وإن كنا ما زلنا أقلية؛ لأن هذه الحلقة الحلقات التي في العالم مثلها معدودة على رءوس الأصابع؛ إذ ما زال المبطلون يفهمون أن القرآن لا يقرأ إلا على الموتى، ولذا يدعون القراء إلى الميت؛ ليقرءوا عليه القرآن. مع أنه تعالى يقول: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [النمل:76-77]. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم.
والمؤمنون ليسوا البيض أو السود، ولا العرب ولا العجم، بل المؤمنون هم الذين آمنوا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. وآمنوا بمعنى: صدقوا تصديقاً جازماً، بحيث لا يمكن أن يرجعوا عنه بحال من الأحوال، وكأنهم يشاهدون الله وملائكته، وكأنهم يعيشون مع رسوله وفي اليوم الآخر. هذا هو الإيمان الجازم، وهؤلاء هم المؤمنون.
والمؤمن حي، فإذا ناديته فسيقول: لبيك وحاضر، ومره يقول: سمعاً وطاعة، ويترك المأمور بتركه، ويفعل المأمور به؛ وذلك لكمال حياته.
ثانياً: لأنه عليم بكل دقائق الكون وذراته، فلا يمكن أن يختفي مجرم أو يختفي جماعة، ويقولون: لا يعلم بنا، ولذلك لن يجزينا ويحاسبنا وهو لا يدري ما عملنا، ولا يعلم أين نحن.
وهاتان صفتان عظيمتان، وهما العزة والعلم، وبهما يتم الحكم العادل. ومن فقد العزة والقوة لم يمكنه أن يصدر حكمه أو ينفذه، ومن فقد العلم لم يكن حكمه عادلاً؛ لأنه لا يدري هل هذا ظالم أو مظلوم، ولا يدري الحق مع هذا أو مع هذا. ولذلك فلا بد للحاكم أن يتوفر فيه صفتا العزة والعلم؛ لأن الحاكم الجاهل لا يعدل، ووالله ما يعرف أن يعدل، والحاكم العاجز لن ينفذ حكم الله ولن يطبقه، فلذلك لا بد من قوة تسنده وتدعمه.
واسمع قوله تعالى في هذا: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ ، أي: بين المشركين والكافرين واليهود والنصارى والظالمين والمجرمين، فالكل يقضي بينهم يوم القيامة، ويقضي بينهم بحكمه، وليس بحكم آخر، بل بحكمه هو، وحكمه لن يخطئ أبداً العدل ولن يفارقه؛ لتوفر صفتين كاملتين فيه، وهما القدرة والعلم، فهو العزيز الغالب القادر على كل شيء، والعليم الذي لا يخفى عليه شيء، ولا حتى ذرة في الكون. وهذا بخلاف ما لو كان يجهل بعض الشيء، فقد يصدر حكماً ما يصيب فيه، بل يخطئ، وقد يحكم على فلان وفلان بريء. ولذلك قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [النمل:78].
وهنا يخبر تعالى رسوله بعد أن أمره بالصبر والثبات وتفويض الأمر إليه والتوكل عليه بأنه على الحق المبين، ألا وهو الإسلام دين الحق، فهو الحق المبين؛ لأنه حق بيّن واضح ظاهر. فانظر إلى كتابه الذي نزل به ماذا فيه من العلوم والمعارف، وانظر إلى شرائعه وأحكامه، وانظر إلى آدابه وأخلاقه، فوالله لن تجد كمالاً خارجاً عن القرآن أبداً، ولا عن الإسلام أبداً، سواء في الآداب أو الأخلاق، أو السياسة أو العدل أو رحمة. ولا إله إلا الله!
وأنتم تشاهدون هذا في أنفسكم، فمن استقام منكم على منهج الحق والإسلام يرى نفسه أسعد الناس، وأطهرهم وأطيبهم.
وبناء على هذا فالفاء تفريعية في قوله: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ يا رسولنا! إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النمل:79]، أي: البيّن الظاهر.
وهذه الآية احتجت بها أمنا الصديقة عائشة رضي الله عنها، وما علمت، فلما بلغها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كلم أهل بدر لما ألقوا في ذاك السرداب وناداهم وأسمعهم كلامه، قالت: كيف تقولون هذا، والله يقول: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ؟ وحقاً الرسول لا يسمع الموتى إلا إذا أراد الله أن يسمعهم، وقد أراد الله أن يسمعهم هنا، فناداهم، وأحياهم الله واستجابوا له، وقال لهم: أنتم أم نحن على الحق؟ وهذا عندما نادى قتلى بدر في بدر.
وإذا أراد الله أن يسمع رسوله فإنه يكلم حجراً فيسمع، ويكلم شجراً فيسمع، ولكن إذا لم يرد الله ذلك فإنه بطبعه وبشريته ما يسمع الموتى أبداً.
ولذلك قال تعالى: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النمل:80]. فأنت لا تسمع الموتى، وأيما ميت مات وناديته فإنه لا يستجيب، وهؤلاء موتى، والذين ما آمنوا بالقرآن فقدوا الروح، والذين فقدوا الروح أموات، وليسوا أحياء. فإذاً: هؤلاء موتى، وأنت لا تسمع الموتى، ولذلك جلس ثلاثة عشر سنة في مكة وكان عدد من آمن به على رءوس الأصابع؛ لأنهم ما يسمعون؛ لأنهم موتى.
وثانياً: قال تعالى: وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ . والأصم هو الذي فقد السمع، فإذا ناديته بعدما يدبر ويرجع إلى الوراء ما يصل دعاءك إليه، ولا يستجب. فأنت لا تُسْمِعُ الصُّمَّ من الناس الدُّعَاءَ ، أي: النداء، فإذا ناديته: يا فلان! .. يا أبا جهل ! .. يا عمرو بن هشام ! فهم معرضون مدبرون، وما يسمعون صوتك أبداً، أولاً لإدبارهم، وثانياً لصممهم. هاتان علتان.
ولو كان أصماً ومقبلا عليك فيمكن أن تفهمه بالإشارة والإيحاء، ولكن إذا كان مدبراً وأعطاك ظهره ومشى فإنك تناديه ولا يستجيب ولا يسمع.
فاعرفوا هذه اللطيفة، وهي: أنه لو كان الأصم بين يديك فإنك تستطيع أن تفهمه شيئاً فشياً حتى بالإشارة، ولكن إذا كنت تناديه وهو معرض، وقد أعطاك ظهره وهو ماشٍ فإنه لا يسمع صوتك. وهذه حقيقية المشركين.
وقوله: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى جمع ميت. وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ جمع أصم. الدُّعَاءَ ، أي: النداء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النمل:80]. وأما إذا أقبلوا فممكن، ولكن إذا ولوا ورجعوا مدبرين لم يمكن هذا.
وبعد أن قال له: وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ [النمل:81] قال له: إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا [النمل:81]. وهؤلاء ما آمنوا، بل كفروا، وردوا دعوتك ولعنوها، وفعلوا العجب في إبطالها، فهم معرضون مدبرون عنك، ولذلك لن تسمعهم، وأنت لا تسمع إلا من يؤمن بآياتنا. فإذا قلت لمؤمن: أذن يؤذن .. صل يسمع، وإذا قلت ليهودي: قم صل لا يسمع والله أبداً؛ لأنه ميت.
وكذلك لو رأيت مؤمناً يشرب الخمر فقل له: حرام عليك يا عبد الله! ألق هذه الكأس من بين يديك وقم فإنه يستجيب ويسمع، وإذا قلت هذا لكافر فإنه يضحك منك ويسخر، ولا يلقي الكأس.
ولهذا على الدعاة أن ينزلوا هذه المنازل النبوية التي نزلها رسول الله بأمر الله وتعليمه؛ ليبلغوا دعوة الله عز وجل بلا كرب ولا حزن، ولا غم ولا هم. فقد قال تعالى هنا: وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ [النمل:81]، أي: ما تسمع إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ [النمل:81]. والمؤمنون بالقرآن صدقاً وحقاً الذين قرءوه وعملوا بما فيه هم المسلمون، الذين أسلموا قلوبهم لله، فهي لا تتقلب إلا في معرفة الله ومحاب الله، ووجوههم لا يتجهون بها إلا إلى الله، لا إلى صنم ولا حجر، ولا شمس ولا قمر. بل المسلمون هم الذين أسلموا قلوبهم ووجوههم لله، فانقادوا وأطاعوا، فأحلوا ما أحل الله، وحرموا ما حرم الله من العقائد والآداب، والأخلاق والأعمال، واستجابوا أيضاً ففعلوا ما أمر الله بفعله، ومن أعظم أوامره إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً.
[ من هداية هذه الآيات:
أولاً: شرف القرآن وفضله ] وقد عرفنا هذا من قوله تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [النمل:76].
[ ثانياً: لن ينتهي خلاف اليهود والنصارى إلا بالإسلام، فإذا أسلموا اهتدوا للحق، وانتهى كل خلاف بينهم ] فاليوم وقبل اليوم وبعد اليوم اليهود والنصارى في خلاف عجب، ما عرفت الدنيا نظيره. وقد كررت القول آلاف المرات أنه قبل أن يستعمل اليهود البلشفية الشيوعية الإلحادية وينشرونها في أوروبا وأمريكا قبل ذلك والله كان النصراني ما يستطيع أن ينظر إلى يهودي في وجهه؛ لأنه عدوه، فقد قتل ربه، وهكذا كانوا يعتقدون، فلما ضاقت الدنيا باليهود عرفوا ما يصنعون بتزيين الشيطان وتحسين الأباطيل، فوضعوا مذهب لا إله والحياة مادة، فانمسخت أوروبا، وأصبح أكثر أهلها لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ومن ثم أصبحوا يعزون ويكرمون اليهود، ويعطفون عليهم، وينزلونهم منازلهم. والسبب هو: أن اليهود أفسدوا قلوبهم أولاً.
وهذا المذهب البلشفي انتقل إلى العالم الإسلامي، فأصيب به رجال ونساء، فأصبحوا ماديين بحتاً، لا يبالون صلوا أم لم يصلوا .. صاموا أم لم يصوموا، وقد لا يقولون: لا إله، ولكنهم لا يعبدون الله؛ لأنهم متأثرون بهذا المذهب البلشفي.
ولما انهزمت الشيوعية جاء اليهود بالعلمانية وارثة للشيوعية، فقد كانت الشيوعية تقول: لا إله والحياة مادة فقط، وهذا يقول: العلم. فإذا قلت لأحد هؤلاء: صل حتى تفوز، يقول: لا، العلم فقط، وغطوا العبادة والطاعة والإيمان بكلمة العلم، فسموا بالعلمانيين، أو وصفوا بالعلمانيين.
[ ثالثاً: كل خلاف بين الناس اليوم سيحكم الله تعالى بين أهله يوم القيامة بحكمه العادل، ويوفي كلاً ما له أو عليه، وهو العزيز العليم ] وينجي من كانوا أهلاً للنجاة، ويشقي من كانوا أهلاً للشقاوة، فالله يحكم بيننا يوم القيامة، ويحكم بين أهل الحق والباطل، وبين أهل الظلم والعدل، حتى يدخل النار من هو مستحق لها، ويدخل الجنة من هو أيضاً مستحق لها.
[ رابعاً: الكفار أموات لخلو أبدانهم من روح الإيمان؛ فلذا هم لا يسمعون الهدى، ولا يبصرون الآيات مهما كانت واضحات ] وهذا كما علمتم من الكفار من يهود .. من نصارى .. من مجوس .. من بوذيين .. من وثنيين أموات، فلهذا لا يستجيبون لنداء الحق، ولا يسألون عنه، ولا يطلبونه، إلا من شاء الله رحمته وهدايته يجعل في قلبه رغبة، فيسأل عن الإسلام ما هو، ويدخل فيه [ فعلى داعيهم أن يعرف هذا فيهم، وليصبر على دعوتهم ودعاويهم ].
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر