اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزخرف: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:9-14].
في هذه الآيات من سورة الزخرف يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى قدرته العظيمة على الخلق والإيجاد، التي عرفها الخلق جميعهم المؤمنون منهم والكافرون أيضاً، فلئن سألت هؤلاء الكفار الذين يشركون بالله سبحانه: من خلق السموات والأرض؟ لاعترفوا بأنه الله سبحانه، سواء صرحوا بذلك بألسنتهم أو أنهم أخفوا وكذبوا فيما يقولون، وقد جعلوا صفات الله العظيمة لغير الله سبحانه كما يقول الملحدون: الطبيعة خلقتنا، الصدفة أوجدتنا, فإذا سئلوا عن هذه الطبيعة وهذه الصدفة التي توجد: هل فيها قوة؟ هل عندها علم؟ هل لها صفات الإيجاد؟ فأعطوا هذه الطبيعة وهذه الصدفة قوة الله وقدرة الله وصفات الله سبحانه وتعالى, فهربوا من أن يقولوا: الله، وقالوا: غيره، وأعطوا لغير الله عز وجل الذي لا يكون إلا لله سبحانه, فهم إن أظهروا وقالوا: الله الذي يفعل ذلك اعترفوا وقالوا الحق, وإن أضمروا فقد كذبوا في الظاهر، ولكن الله يشهد على ما في قلوبهم من أنهم يعرفون الله سبحانه ولكنهم يجحدون آياته سبحانه وتعالى.
وكان الكفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يعترفون ويقرون، قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، بل كان أحدهم يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقسم عليه ويقول: إني سائلك ومشدد عليك -يعني في السؤال- ويسأل النبي صلى الله عليه وسلم: أسألك بالذي خلق السماوات، وخلق الأرض، وخلق الجبال، وخلق البحار، آلله أرسلك؟ فهم في كفرهم يعرفون أن الله هو الذي خلق السماوات، وخلق الأرض، وخلق الجبال، وخلق الأشجار، وخلق البحار، وخلق الأنهار، قال تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16], فكانوا يقولون ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم, وإذا سألهم صلى الله عليه وسلم: من الذي خلقهم؟ ومن الذي يرزقهم؟ ومن الذي يرجون نفعه وضره؟ أخبروا أنه الله الذي في السماء سبحانه وتعالى, فالاعتراف بأن الله هو الرب القادر لم يكن المشركون يجادلون فيه، ولم يكن هناك جدال في أن الرب قادر وخالق وواحد، وأنه على كل شيء قدير، لم يكن عندهم خلاف في ذلك, إنما كان كلامهم ومخالفتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في أنهم من يعبدون؟ هل يعبدون هذا الرب العظيم الذي خلق وأوجد وقدر وعلم أو يعبدون غيره؟ فكانوا يعبدون غيره؛ لأنهم يقولون: هي التي تقربنا إلى الله، سبحانه وتعالى عما يقولون علو كبيراً, فهنا القرآن يشهد عليهم بأنهم أقروا بذلك، قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف:9] علموا أن الله عزيز وأن الله عليم ومع ذلك عبدوا غيره سبحانه.
وقوله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا[الزخرف:10] أي: طرقاً تسيرون فيها وتذهبون إلى معايشكم، وقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ[الزخرف:10] أي: تهتدون حين تعرفون هذا طريق كذا، وهذا طريق كذا، فلم يدع الطرق جميعها طريقاً واحدة فيضيق عليكم، ولم يجعلها كلها مشتبهة فتضلون فيها، ولكن ميز لكم بين هذا وهذا؛ لعلكم تهتدون إلى طريقكم في ذهابكم إلى معايشكم، فإذا اهتديتم في الدنيا إلى معاشكم، كذلك تهتدون أن الذي جعل ذلك كله وخلقه وأوجده هو الله الذي يستحق العبادة، فلعلكم تهتدون لعبادته مما ترون من عظيم نعمه وآلائه وآياته سبحانه، ولعلكم تهتدون إلى ربكم سبحانه وتعالى فتعبدونه وحده.
وقوله تعالى: فَأَنشَرْنَا [الزخرف:11] أي: فأحيينا.
قال تعالى: بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [الزخرف:11] كما ترون الأرض الميتة يحييها الله سبحانه، قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس:33] هذه الأرض الميتة أحياها الله سبحانه وتعالى، وأخرج منها الثمار، وأخرج منها الحبوب، ورأيتم كيف كانت مقفرة فصارت زاهرة مثمرة، تخرج ما فيها من ثمار، كذلك يخرج لله عز وجل أجسادكم وأبدانكم من الأرض بعد أن تموتوا وتذهب هذه الأجساد، وتذهبون إلى ربكم سبحانه، كذلك يحييكم مرة ثانية، قال: كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [الزخرف:11] من قبوركم بعد أن صرتم رميماً وعظاماً.
وقال الله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ [الزخرف:12]أي: أوجد لكم وخلق لكم سبحانه وتعالى وهداكم في تفكيركم إلى أن تصنعوا هذه الأشياء، فجعل لكم الفلك تصنعونها، وعلم نوحاً كيف يصنع الفلك، فإذا بالعباد يصنعون كما صنع عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام, وهداهم الله إلى أن صنعوا السيارات والطائرات والصواريخ، وجعل لهم ما يركبونه سبحانه وتعالى، وسخر لهم ذلك حتى يذكروا نعمة الله، فسخر لنا الخيل والبغال والحمير، وجعلها لنا للركوب وجعلها لنا زينة، قال تعالى: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8]سبحانه وتعالى, وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ [الزخرف:12] أي: السفن، وَالأَنْعَامِ [الزخرف:12] أي: بهيمة الأنعام، والأنعام تطلق على ثلاثة أشياء: على الإبل، وعلى البقر، وعلى الأغنام، فكأن هذا من العموم الذي يراد به الخصوص، فهنا الأنعام ليست كلها تركب، ولكن الذي يركب منها الإبل، وقد يركب الإنسان شيئاً آخر على وجه الندرة، ولكن لم يخلق لذلك ولذلك جاء في حديث في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل راكب على بقرة التفتت إليه فقالت: لم أخلق لهذا، وإنما خلقت للحراثة) بقرة تتكلم في الحديث يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً ركب على بقرة، وبينما هو يمشي بها، إذا بالبقرة تلتفت إليه وتقول له: لم أخلق لهذا، إنما خلقت للحراثة، وليس للركوب، فتعجب الناس وقالوا: بقرة تتكلم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (آمنت به أنا و
ويخبر البعض أنه رأى الحصى يسبح بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي) صلوات الله وسلامه عليه، ورأى بعضهم السحابة تظل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسير، وعرفوا أنه نبي صلوات الله وسلامه عليه، ورأى بعضهم انشقاق القمر لما طلبوا آية من النبي صلى الله عليه وسلم يرونها، فأشار إلى القمر وانشق القمر فلقتين، فلقة أمام الجبل وفلقة وراء الجبل، ولكن كانت آيات للبعض وليست للجميع رحمة من رب العالمين سبحانه وتعالى.
فقوله سبحانه: وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا [الزخرف:12] أي: الأجناس والأنواع والأصناف كلها، وقوله: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ [الزخرف:12] أي: ما تركبون عليه.
هذا الذكر الذي ذكره الله عز وجل في هذه الآية يذكرنا بأن سفر الإنسان سفران: سفر في الدنيا من بلد إلى بلد, وسفر آخر طويل إلى الله عز وجل حتى تصل إلى الجنة في النهاية، فيقول سبحانه: ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:13-14]، فحين تخرج من بيتك مسافراً وتريد أن ترجع إلى بيتك لا تنس بيتك الأصلي الجنة، التي أهبط منها آدم فترجع إليها مرة أخرى، وكما أنك في سفرك تتزود بطعام وشراب ونفقة، فتزود للسفر الأكبر حتى ترجع إلى الجنة بتقوى الله سبحانه، فيذكرنا الله عز وجل في كتابه دائماً بسفر الآخرة, فلما ذكر الله الحج قال: وتَزَوَّدُوا [البقرة:197] ثم ذكرنا أننا مسافرون إليه، قال تعالى: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197], وعندما يذكرنا الله أنه أنعم على العباد وأنزل عليهم لباساً وريشاً قال: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26] وعندما تذكر وأنت تلبس الثياب أن الله خلقها لك لتتزين بها وتتجمل بها، فتذكر لباساً هو أعظم من ذلك؛ لباس التقوى، قال الله عز وجل: ذَلِكَ خَيْرٌ ، فدائماً تستدل بما أوجده الله عز وجل لك على ما أخبرك عنه وغاب عنك من أمر الآخرة.
فقوله تعالى: وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هذا [الزخرف:13] سبحان: مصدر ومعناها أسبح الله تسبيحاً؛ لأن هذه الكلمة تغني عن جملة؛ لأن أصلها تسبيحاً لله: وهو مصدر أغنى عن جملة أصلها أسبح الله تسبيحاً عظيماً، وبدل هذه الجملة كلها كلمة سبحان الله أي: أنزه الله وأقدسه، فهو الذي ينزه عن كل عيب ونقص وشين سبحانه وتعالى، وما أعجب خلقه سبحانه وتعالى! فهو خلق عظيم وعجيب، فالإنسان يركب هذه الدواب ليس بقدرته، ولكن الله عز وجل هو الذي سخرها له ليركب عليها، وهي أقوى منه بكثير, فالحمار يحمل ما لا يقدر الإنسان أن يحمله، فهو أقوى من الإنسان بكثير، فلو أنه غضب على صاحبه لعضه ورفسه وأهلكه، ولكن الله عز وجل يذلِله ويسخره، فلا يتسلط الإنسان ويتكبر فيسلط الله الحيوان عليه.
فلذلك الإنسان حين يركب الدابة عليه أن يذكر نعمة الله، وحين يركب على الحصان فلا يركب زهواً وفخراً وكبراً وخيلاء، أو يركب على الجمل فيرى نفسه أعلى من الناس وفوق الناس، فإن الله قد يكبه على وجهه، وكم من راكب ركب على جمل وعلا فوق الناس فإذا بهذا الجمل يعثر في الطريق في حفرة لفأر، وهذا من أشق الأشياء على الجمل، فلو أن حفرة فأر في الأرض وطئها الجمل لو قع الجمل، ويذكر العلماء قصصاً كثيرة في هذا المعنى، فيقول بعض أهل العلم في ذلك: يقول سليمان بن يسار : أن قوماً كانوا في سفر فكانوا إذا ركبوا قالوا: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:13-14]، وفيهم رجل على ناقة له رازم، أي: أنها بطيئة وضعيفة وهزيلة فكان يقول: إنها ناقة رازم، وليست محتاجة لهذا الذكر، أي: كل الذين يركبون الجمال يقولون: سبحان الذي سخر لنا هذا، لأن جمالهم عظيمة وقوية وجمله ضعيف، وهو الذي يمسكه، فهو ليس محتاجاً أن يقول: هذا الذكر، قال: أما أنا فإني بهذا لمقرن، قال: فقنصت به فدقت عنقه.
فالإنسان حين يغتر ويرى أنه قادر يسلط الله عليه ما يهلكه، وانظر إلى مروضي الثعابين والأسود والنمور في السيرك ترى العجب من هؤلاء، عندما يغتر ويحس أن الأسد تحت يده يتسلط عليه الأسد ويمزقه, وكم من مرة يركب على هذا الأسد ويضربه بالكرباج ويعمل فيه، فإذا به يفعل بصاحبه ما فعله به ويمزقه.
ورجل آخر يمسك التمساح ويلعب به، ويصل به غروره إلى أن يضع رأسه داخل فم التمساح، فإذا بالتمساح يطبق على رأسه.
فالإنسان حين يغتر ويرى نفسه أقوى ما في الكون، يسلط عليه هذا الذي يتقوى عليه، فلا تغتر وقل: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وقس على ذلك حين تركب السيارة، ولا تقل: هذه سيارة اشتريتها الآن وتنسى الله سبحانه وتعالى، فقد تسرع شمالاً ويميناً فإذا بها تدمر وتنقلب بصاحبها ويهلك ويهلك معه من خلق الله ما يعلمه الله سبحانه وتعالى، إياك والغرور, فالسيارة تسير برحمة الله سبحانه وتعالى فلا تغتر، وقل ذكر الله سبحانه وتعالى: فإن الذي خلق لها هذه القوانين التي تسير بها هو ربها سبحانه، والقادر على أن يسيرها بغير قوانينها هو الله سبحانه وتعالى, فلابد للسائق أن يقول: وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:13-14].
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر