يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فصل:
وفرائض الغسل ثلاثة أشياء: النية، وإزالة النجاسة إن كانت على بدنه، وإيصال الماء إلى جميع الشعر والبشرة.
وسننه خمسة أشياء: التسمية، والوضوء قبله، وإمرار اليد على الجسد، والموالاة، وتقديم اليمنى على اليسرى ].
الركن الأول: النية شرط أو ركن على الخلاف المشهور الذي تقدم الكلام عليه.
الركن الثاني: تعميم الجسد بالماء.
الركن الثالث: إزالة النجاسة، وهذا ليس ركناً مستقلاً، بل هو ركن معلق بوجود النجاسة.
والأدلة على ذلك كثيرة، فمن السنة القولية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أما أنا فيكفيني أن أفيض الماء على رأسي ثلاثاً) وهذا فيه دلالة واضحة على أن إفاضة الماء دون الدلك تكفي، والدلك مستحب ولكنه لا يشترط.
أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم (رأى رجلاً في المؤخرة فسأله: لم لم تصل معنا؟ ألست مسلماً؟! فقال: يا رسول الله! كنت على جنابة ولا ماء، فعلمه كيف يتيمم، ثم أتي بماء فقال له: أفرغ هذا على جسدك) فهذه دلالة واضحة جداً من الشرع على أن تعميم الجسد بالماء يكفي لرفع الحدث.
والاغتسال في اللغة: هو تعميم الجسد بالماء، وهذا الذي يجزئ، وأقل من ذلك لا يجزئ، ويستحب أن يسمي الله إذا توضأ، وإن لم يتوضأ فلا دليل على الاستحباب في الغسل، فالتسمية ثبتت في الوضوء لا في الغسل، ولا قياس في كل العبادات، وهذا فيه خلاف بين العلماء، وبعضهم يقيس النظير بالنظير في مسألة العبادات كالاغتسال والوضوء، ولذا نقول: له أن يسمي إذا عمم الجسد، والأحوط ألا يسمي إلا إذا توضأ؛ لأن التسمية جاءت في الوضوء فقط.
وغسل الكمال لمن أراد أن يأتسي ويستن برسول الله صلى الله عليه وسلم موجود في حديثين عن عائشة وميمونة، فيهما كيفية غسل النبي صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة وميمونة رضي الله عنهما: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل يديه ثم يغسل فرجه ثم يضرب بيده على الحائط) والضرب على الحائط هذا للتنظيف، فإن استطاع أن يستعمل الأشنان أو يستعمل الصابون كفاه، وإن أراد أن يأتسي ويضرب الحائط فله أن يضرب الحائط، ثم بعد ذلك يتوضأ وضوءه للصلاة وضوءاً كاملاً، وهذا هو الأكمل، أو وضوءاً كاملاً سوى الرجلين، ففي حديث ميمونة : (أنه ما غسل الرجلين إلا بعد الاغتسال).
قالت عائشة : (ثم يفيض الماء على رأسه ثلاثاً، ويدخل أصابعه في أصول الرأس حتى يرى أنه أروى بشرته، فيغسل الجانب الأيمن ثلاثاً، ثم يغسل الجانب الأيسر ثلاثاً، ثم يغسل سائر جسده)، وله أن يستخدم المنديل أو لا يستخدمه، وفي حديث ميمونة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم رد المنديل)، وفي أدلة أخرى استخدام المنديل، وفي غسل الكمال يسمي قبل أن يتوضأ، ويبدأ بالشق الأيمن قبل الأيسر.
ألا يغتسل المرء عرياناً إذا كان في خلاء كحمام، أما بين الناس فيجب ستر العورة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (احفظ عورتك)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) وفي رواية: (أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله)، وفي رواية أخرى: (لا يستتر من بوله) يعني: ما حفظ عورته عن الناس.
فيجب حفظ العورة بين الناس، أما إن كان خالياً فيستحب أن يستتر بسراويل أو بإزار أو بملحفة، والدليل على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (احفظ عورتك، قيل: إذا كان أحدنا خالياً؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الله أحق أن تستحي منه).
أما دليل جواز أن الإنسان يغتسل عارياً دون أن يستتر الحديث الذي في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (أن بني إسرائيل كانوا يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى عورة بعض، وكان موسى عليه السلام لا يغتسل معهم حتى لا ترى عورته، فكان يغتسل وحده عرياناً، وأنه خلع ثوبه ووضعه على الحجر فاغتسل عرياناً) ثم ذكر: أن الحجر هرب بثوب موسى، وكان لله جل في علاه حكمة في ذلك؛ ليري بني إسرائيل براءة موسى عليه السلام مما اتهموه به، فكان يقول: (ثوبي حجر! ثوبي حجر! حتى نظر إليه بنو إسرائيل)، فهم كانون يعيبون عليه أنه آدر، فلما نظروا إليه قالوا: والله ما به من عيب، فأراد الله أن يبين لهم أنه ليس فيه ثمة عيب.
فهذا دليل يدل على الجواز، لكن الأولى والأكمل والأحسن أن يغتسل المرء وهو مستتر بثوبه، وهذا كان فعل كثير من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من الأدب أيضاً: ألا يسرف بالماء فالإسراف مذموم في كل شيء قال الله: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف:31].
وهناك حديث ضعفه المحدثون ولكن صححه الشيخ الألباني : (لا تسرف ولو كنت على نهر جار) ، وكان جابر رضي الله عنه وأرضاه إذا سئل عن اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد) والصاع أربعة أمداد، وهذا روته أيضاً عائشة رضي الله عنها وأرضاها وأيضاً أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه.
ومن الآداب التي تكون بين يدي الاغتسال: أن يسمي الله عند الوضوء، وأن يقول في آخره دعاء: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ لأنه قد توضأ خلال اغتساله، فيقول الدعاء على أنه الدعاء الخاص بالوضوء الذي كان داخلاً تحت الاغتسال.
وفي هذا دليل على جواز اغتسال أو وضوء الرجل بفضل وضوء المرأة، ويخالف في ذلك الحنابلة، والدليل على جواز ذلك حديث عائشة المتقدم، وفيه: (أبق لي) وحديث ميمونة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل من الجنابة بماء قد اغتسلت منه -يعني متبقى-، فقلت له: قد اغتسلت بهذا الماء وأنا على جنابة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: إن الماء لا يجنب) وهذا دليل من النبي صلى الله عليه وسلم على أنه يجوز للإنسان أن يغتسل بفضل طهور المرأة.
الصورة الثانية: رجل أحدث وهو يغتسل فهل يصح غسله؟
الصورة الثالثة: أن يشك في الحدث الأصغر هل كان قبل الاغتسال أم بعد الاغتسال؟
أما الصورة الأولى فيكفيه تعميم الجسد بالماء، وهذا هو نص ما قاله الشافعي في الأم، فإنه قال: الأدنى يندرج تحت الأعلى، فمن أحدث حدثاً أصغر ثم تلبس بالحدث الأكبر فاغتسل فإن الحدث الأصغر يندرج تحت الحدث الأكبر، فإذا عمم جسده بالماء دون الوضوء ودون الدلك فله أن يصلي وتصح صلاته، وهذا الراجح الصحيح في المذهب.
أما الصورة الثانية: وهي من أحدث وقت الاغتسال، كأن أخرج ريحاً أو أفضى بكفه إلى فرجه، فالصحيح الراجح: أنه يصح الاغتسال، لكن يلزمه الوضوء؛ لأنه حال رفع الحدث الأكبر تلبس بالحدث الأصغر فيلزمه الوضوء.
أما الصورة الثالثة: وهي إذا شك هل أحدث قبل الاغتسال أم أحدث بعده؟ فنقول: الأصل عدم الحدث، فيصح له أن يعمم الجسد بالماء ويصلي ولا يلزم بالوضوء.
الدليل الثاني: حديث صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)، والأفضلية تدل على وجود الفضل في الاثنين، بل جاء التصريح بقوله: (فبها ونعمت).
الدليل الثالث: أثر عثمان عندما توضأ ودخل المسجد وعمر يخطب.
واستدل من قال بوجوب غسل الجمعة: بحديث: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)، والجواب عن هذا: أن الواجب هنا بمعنى المتأكد، قالوا لنا: لم تقولون: المتأكد وهو يقول: (واجب) وهذا خلاف الظاهر، والأخذ بالظاهر هو اللازم؟!
قلنا: الأدلة الأخرى هي التي جعلتنا نؤول الظاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فبها ونعمت)؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ أحدكم يوم الجمعة) ، وعمر بن الخطاب لا يرضى بمنكر وقد رأى عثمان رضي الله عنه وأرضاه دخل يوم الجمعة بعد الأذان وقال له: ما بال أقوام يأتون بعد الأذان؟! فقال: والله ما زدت على الوضوء، فقال: والوضوء أيضاً، ولو كان واجباً لقال له: اذهب فاغتسل، وقد قيل: لو اغتسل فستضيع عليه الصلاة، وهذا الكلام فيه نظر، وعلى كل فعندنا حديث صحيح صريح جداً في المسألة وهو قوله: (إذا توضأ أحدكم يوم الجمعة)، وقد قال بعض العلماء بوجوب الاغتسال يوم الجمعة لمن تظهر منه رائحة، وهذا القول هو أرجح الأقوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من وجد منهم الريح وقال: (لو اغتسلتم في هذا اليوم)، وهذا الذي تميل إليه عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فمن قال بهذا القول فما أبعد، لكن نحن الآن نتكلم على المذهب وأنه مستحب وهذا قول جماهير أهل العلم.
وهكذا غسل العيدين مستحب، والحكمة من ذلك: إزالة الرائحة في اجتماع الناس.
والاغتسال للجمعة يبدأ من بعد طلوع الفجر إلى آخر ساعة رواح إلى الجمعة، والأولى والمستحب والمتأكد: أن يغتسل قبل الذهاب إلى الجمعة حتى تحصل الحكمة من الغسل، وهي عدم وجود الرائحة.
وأيضاً يستحب الاغتسال للإحرام وللحل من الإحرام عند طواف الإفاضة، قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم حين إحرامه وحين حله) .
وعرفة أيضاً يستحب الاغتسال لها لوجود الجمع الغفير حتى لا تظهر الرائحة التي يتأذى منها الناس.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر