يقول الله عز وجل:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الممتحنة:12].
قوله:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ قال
ابن كثير : يعني: لا يسرقن أموال الناس الأجانب، فأما إذا كان الزوج معسراً في نفقتها فلها أن تأكل من ماله بالمعروف ما جرت به عادة أمثالها، وإن كان من غير علمه؛ عملاً بحديث
هند بنت عتبة أنها قالت: (
يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، فهل علي جناح إن أخذت من ماله بغير عمله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلي من ماله ما يكفيك ويكفي بنيك بالمعروف). وهذا الحديث متفق عليه.
وقد قيد الإمام
ابن العربي رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال: وهذا إنما هو فيما لا يخزنه عنها في حجاب، ولا يضبط عليه بقفل، فإنه إذا هتكته الزوجة، وأخذت منه كانت سارقة تعصي به، وتقطع يدها.
إذاً: يحل للمرأة إذا كان زوجها شحيحاً يمسك عليها في النفقة، ولا يعطيها ما يكفيها هي وأولادها، وله مال آخر في درج مفتوح، أن تأخذ ما يكفيها بالمعروف، ولا تزيد على حاجة ما جرت به عادة أمثالها، لكن إذا كان له مال ووضعه في خزانة، وأقفل عليه، أو وضعه في حرز، فإنها إذا أخذت منه في هذه الحالة فهي سارقة؛ لأنها أخذته من الحرز.
حكم إجهاض الجنين
قوله:
وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ قال
الزمخشري : يريد وأد البنات.
قال
ابن كثير : هذا يشمل قتله بعد وجوده كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق، ويعم قتله وهو جنين كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء، فإنها تطرح نفسها لئلا تحبل، إما لغرض فاسد أو ما أشبهه.
وهذه المسألة يحصل فيها تساهل؛ لأن الأمور قد اختلطت، وتأثر المسلمون كثيراً بمناهج الكفار الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يخشون يوم الحساب، خاصة في قضية الإجهاض، فهنا
ابن كثير يقول: إن قوله تعالى: (( وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ )) عام يشمل قتل الطفل بعد وجوده، وهذه الحالة وجدت في أهل الجاهلية، فقد كانوا يقتلون الأولاد خشية الفقر والإملاق، ويشمل قتله وهو جنين، وذلك يكون بعد مضي مائة وعشرين يوماً رحمياً، ويبدأ حساب ذلك من التلقيح.
فلو مرت مائة وعشرون يوماً ويوم، ونفخت فيه الروح، فهذا إنسان محترم، وحياته محترمة لا يجوز التعدي عليها، وبعض الناس -لسبب أو لآخر- يتأولون تأويلات غريبة، وذلك كأن يأتي مثلاً بعض الأطباء ممن لا فقه عندهم فيقول: هذا جنين مشوه، ويكون قد نفخت فيه الروح وقد كان في الشهر السادس أو السابع مثلاً، فيقتلونه ويجهضونه رحمة به زعموا، فهذه جريمة قتل؛ لأنه ما دام أنه قد نفخت فيه الروح فقد انتقل من الحياة النباتية إلى الحياة الحيوانية بنفخ الروح، فهذا إنسان له حرمة، والإسلام يأمرنا مع الضعيف أن نرحمه لا أن نقتله، فمثلاً لو كان هناك شخص عنده عاهة من عمى، أو أي عاهة أخرى، فهل تقتله من أجل أن تخفف عنه؟! كذلك نفس الشيء إذا حصل تشوه ولم يكتشف، أو لم يقطع بدون تشويه إلا بعد مضي مدة تزيد على مائة وعشرين يوماً فلا يجوز الإجهاض قولاً واحداً، حتى ولو كان مشوهاً؛ لأن المشوه قد يمكن علاجه.
فالطب الآن -بفضل الله سبحانه وتعالى- قد تطور وتقدم، وهناك حالات كثيرة يتم علاجها، أو التخفيف من آثارها، حتى ولو افترضنا أن الطفل سيخلق -والله تعالى أعلم- متخلفاً عقلياً مثلاً فلا يجوز قتله، فهل كل من عنده تخلف عقلي يقتل؟! وما الفارق بينهما: فهذا حي داخل الرحم، وهذا حي في الخارج؟ لا فرق بينهما في الإسلام، فهذا الجنين له حرمة لا يجوز الاعتداء عليها، وقاتله مجرم آثم قاتل للنفس التي حرم الله عز وجل، فلينتبه إلى هذا.
أما ما قبل مائة وعشرين، أو قبل الأربعين، فهذه قضية أخرى تخرجنا عن موضوعنا.
قوله:
وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ قال
ابن عباس: أي: لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم.
أي أن المرأة تلتقط لقيطاً وتقول للرجل: هذا ابني منك، أو تفحش وتنجب ولداً، فتنسبه لفراش زوجها، فهذا أيضاً مما ينهى عنه.
فللمفسرين في ذلك ثلاثة أقوال: الأول: لا يُلحقن بأزواجهن غير أولادهم.
القول الثاني: إنه السحر.
القول الثالث: المشي بالنميمة، والسعي بالفساد.
ولعل هذه البيعة التي أُخذت على النساء كانت تؤخذ على الرجال كما في بعض الروايات.
وقال
ابن عباس: (( وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ )) أي: لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم.
وأوضحه
الزمخشري بقوله: كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هو ولدي منك. كنى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذباً؛ لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين، وموضع الولادة بين الرجلين.
وهذا الأمر في هذه الآية مخالف للزنا.
وقال
الشهاب في شرح
البخاري: لا تأتوا ببهتان من قبل أنفسكم، واليد والرجل كناية عن الذات؛ لأن معظم الأفعال بهما، ولذا قيل للمعاقب بجناية قولية: هذا ما كسبت يداك، مع أنه ما فعله بيديه، ولكنه قاله بلسانه، فيعبر عن أفعال الإنسان باليدين؛ باعتبار أن معظم الأفعال تمارس باليدين، أو بالرجلين أحياناً.
أو معناه: (( وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ )) أي: لا تنشئوا البهتان والافتراء من ضمائركم وقلوبكم؛ لأنه من القلب الذي مقره بين الأيدي والأرجل، والأول كناية عن إلقاء البهتان من تلقاء أنفسهم، والثاني كناية عن إنشاء البهتان من دخيلة قلوبهم مبنياً على الغش الباطني.
وقال
الخطابي : معناه لا تبهتوا الناس كفاحاً ومواجهة، كما يقال للآمر بحضرتك: إنه بين يديك، ورُدَّ: بأنهم وإن كنوا عن الحاضر بكونه بين يديه فلا يقال: بين أرجله، وهو وارد لو ذكرت الأرجل وحدها، أما مع الأيدي تبعاً فلا، فالمخطئ مخطئ، وهو كناية عن خرق جلباب الحياء والمراد النهي عن القذف ويدخل فيه الكذب والغيبة.
قوله:
وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ يعني: من أمر الله تأمرهن به، وقد شاع عند بعضهم ممن يريد أن يحارب ويحذر من التقليد الأعمى، واتباع أقوال الرجال وتقديمها على الكتاب والسنة، شاع عندهم الاستدلال بقوله تعالى:
وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يطاع إلا في المعروف فكيف بغيره؟! والمفروض التحرز في التعبير وأن يكون فيه شيء من الدقة؛ حتى لا يفهم الكلام خطأً.
فهنا قيد عدم المعصية بكونها في معروف، أي: ما دمت تأمرهن بالمعروف فلا يعصينك، فهذا القيد إنما هو للبيان، والمعنى: ولا يعصينك في معروف، وكل ما تأمر به معروف؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يأمر إلا بالمعروف، ولا يمكن أن يأمر بمعصية، أو منكر معاذ الله وحاشاه عليه الصلاة والسلام، فالقيد هنا للبيان، ولا مفهوم له، فهو مثل قوله:
قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ [الأنبياء:112] فهذا ليس له مفهوم، ولو قال: (قال رب احكم) لكفى؛ لأن الله لا يحكم إلا بالحق، ومثله أيضاً قوله تعالى:
وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:112] فهذا لا مفهوم له، فلا يمكن أن يقتل نبي ويكون قتله بحق، فهذا هو أشقى الناس كما قال عليه الصلاة والسلام: (
أشقى الناس من قتل نبياً أو قتله نبي).
إذاً: فهذا القيد للبيان، وليس له مفهوم، فكل ما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم معروف، وفيه حياة للمؤمنين:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، فكل ما يأمرنا به النبي عليه الصلاة والسلام هو حياة لنا، وقال تعالى:
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80] وقال عليه الصلاة والسلام: (
ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه).
معنى المعروف في قوله: (ولا يعصينك في معروف)
أما كلام المفسرين في المقصود بالمعروف في هذه الآية:
ففي صحيح
مسلم عن
أم عطية رضي الله تعالى عنها قالت: (
كان منه النياحة، فكان يأمرنا ألا ننوح)، وجاء في بعض الروايات في كلام ولا ينحن النياحة، ومنها: لا يدعين ويلاً، ولا يخدشن وجهاً، ولا ينشرن شعراً، ولا يسرقن ثوباً.
فهذه من أفعال الجاهلية، فلا يجوز لامرأة مسلمة أن تأتي بشيء من هذه الأفعال.
(لا يدعين ويلاً) أي: لا يصرخن، وهذا غالباً مما يحصل من المرأة، لأنها عبارة عن كتلة من العاطفة، فإذا لم تحجزها التقوى ورزانة الإيمان الصادق فإنها تخرج عن طورها وتجزع، خاصة عند المصيبة الكبرى التي هي مصيبة الموت، فنجد بعض النساء قد يتلفظن بألفاظ شنيعة ويأتين بأفعال تتنافى مع الإيمان، فكان مما بايعهن عليه الرسول عليه الصلاة والسلام أيضاً أن لا يدعين ويلاً، أي: لا تقل يا ويلتاه!
(ولا يخدشن وجهاً ولا ينشرن شعراً) نشر الشعر أن تفرق شعرها كأمارة على الجزع من قضاء الله سبحانه وتعالى، وفي معنى نقض الشعر ما يفعل بعض الرجال من إطلاق وإعفاء اللحية عند المصيبة، فترى الرجل يحلق لحيته دائماً، فإذا حصل مصاب عنده من موت قريب له أو حبيب فإنه يعبر عن جزعه بأن يعفي لحيته ولكن لفترة مؤقتة، فنقول: هذا حرام؛ لأنه في معنى النهي عن نشر الشعر، وإن كان يجب عليه أن يعفي لحيته في كل أحواله، لكن الأمر هنا فيه موافقة لهذا الفعل الجاهلي، وهو نشر الشعر عند المصيبة، فالمرأة تنشر شعرها تعبيراً عن الجزع، وهذا يترك لحيته تعبيراً عن الجزع، لذلك فهو في معناه.
قوله: (ولا يشققن ثوباً): هذه أيضاً من أفعال الجاهلية.
وقيل: (( لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ )) يعني: كل ما يأمر به النبي عليه الصلاة والسلام من شرائع الإسلام وآدابه.
فالمعروف اسم جامع لكل ما عُرف من طاعة الله، والإحسان إلى الناس، وكل ما أمر به الشرع ونهى عنه.
وقوله: (( إِذَا جَاءَكَ )): جملة شرطية، و(إذا) أداة شرط غير عاملة مثل: لو، ولولا، و(جاء) فعل الشرط.
كيفية مبايعة الرجال والنساء
الأدلة على منع مصافحة النساء
ثم نبه تعالى في آخر السورة بما نبه به في فاتحتها من النهي عن موالاة محاربي الدين؛ تحذيراً من التهاون في ذلك، وزيادة اعتناء به، فقال سبحانه وتعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [الممتحنة:13].
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )) هذه الآية الأخيرة من السورة، وفيها الخطاب بالإيمان: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )) ويدخل في هذه الآية
حاطب بن أبي بلتعة قبل غيره؛ لأن الله قال في أول السورة:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة:1] فالخطاب كان لـ
حاطب ، وقلنا قبل: إن في ذلك إثباتاً لإيمان
حاطب رغم ما أتى به
حاطب ، والمخاطب هنا أيضاً
حاطب وغيره.
(( لا تَتَوَلَّوْا )) يعني: لا تناصحوهم، فرجع تعالى بقوله وفضله على
حاطب ، فكما بدأ الآية بالفضل والإكرام لـ
حاطب بوصف الإيمان، كذلك ختمها بوصفه بالإيمان.
(( قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ )) أي: سخط عليهم؛ لمعاداتهم الحق، ومحاربتهم الصلاح، ونشرهم للفساد، وهو عام في كل محارب، ومن المفسرين من خصه باليهود؛ لأنه عبر عنهم في غير هذه الآية بالمغضوب عليهم، واقتصر عليه
الزمخشري فقال: إن المقصود بقوله: (( لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ )) اليهود لعنهم الله.
قال
الناصر : قد كان
الزمخشري ذكر في قوله تعالى:
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ [فاطر:12] إلى قوله:
وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا [فاطر:12] إن آخر الآية استطراد، وهو فن من فنون البيان مبوب عليه عند أهله، وآية الممتحنة هذه قد تكون من هذا الفن، فإنه ذم اليهود واستطرد في ذمهم بذم المشركين: (( لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ )).
فذم اليهود أولاً، ثم استطرد من ذمهم إلى ذم المشركين على نوع حسن من النسبة، ولا يمكن أن يوجد للفصحاء في الاستطراد أحسن ولا أمكن منه، ومما صدروا به هذا الفن، قوله:
إذا ما اتقى الله الفتى وأطاعه فليس به بأس وإن كان ذو الجرم
وقول
حسان :
إن كنت كاذبة الذي حدثتني فنجوت من ذا الحارث بن هشام
وقوله:
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ونجا برأس طمرة ولجام
فلما بدأ السورة بقوله:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1] إلى آخر الآيات، أنهى نفس السورة بقوله:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [الممتحنة:13] فهي كلها تحيط بالكفار، فهذا كما قلنا: يحتمل أن يكون استطراداً من ذم اليهود إلى ذم المشركين، أو أنه -إذا قلنا إنه في الكفار- من باب رد العجز على الصدر، كما يسمى التصدير، ومنه قوله تعالى:
فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ [الأنعام:136] فذكر كلمة شركاء أولاً ثم رد العجز على الصدر، ومنه قولهم: القتل أنفى للقتل، فهذا من رد العجز على الصدر، ومنه أيضاً قولهم: الحيلة ترك الحيلة، ومنها قول الشاعر:
تسير نجوم الدائرات بحكمه وذاك إذا عدت علاه يسير
ومنها أيضاً:
لقد حاز أنواع الفضائل كلها وأمسى وحيداً في فنون الفضائل
ومنها قوله:
سألت صروف الدهر حظ مملك فشحت وجادت لي بحظ أديب
يقصد بحظ الأديب الفقر، فإن الأدباء يقولون: إن من حكمة الله سبحانه وتعالى أننا نجد الشخص الأديب العالم فقيراً، ونجد الجاهل المغرق في الجهل غنياً.
فائدة في معنى الاستطراد
معنى قوله: (قوماً غضب الله عليهم)
قوله: ((غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) يقول الشيخ
عطية سالم رحمه الله تعالى: يرى المفسرون أن هذه الآية في ختام هذه السورة كالآية الأولى في أولها، وهذا ما يسمى عوداً على بدأ.
قال
أبو حيان : لما افتتح هذه السورة بالنهي عن اتخاذ الكفار أولياء ختمها بمثل ذلك؛ تأكيداً لترك موالاتهم، وتنفيراً للمسلمين عن توليهم، وإلقاء المودة إليهم.
وقال
ابن كثير : ينهى تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر هذه السورة كما نهى عنها في أولها.
قال الشيخ
عطية سالم : يظهر لي -والله تعالى أعلم- أنها لم تكن لمجرد التأكيد للنهي المتقدم، ولكنها تتضمن معنى جليلاً وذلك للآتي:
أولاً: أنها نص في قوم غضب الله عليهم، وعلى أنها للتأكيد حملها البعض على العموم؛ لأن كل كافر مغضوب عليه، وحملها البعض على خصوص اليهود؛ لأنه صار وصفاً لهم، وهو قول
الحسن و
ابن زيد ، قاله
أبو حيان .
ومما تقدم للشيخ
الشنقيطي في مقدمة (الأضواء): أنه إذا اختلف في تفسير آية وكان أكثر استعمال القرآن لأحد المعنيين فإنه يكون مرجحاً له على الآخر، وهو محقق هنا كما قال
الحسن ؛ لأن صفة الغضب أصحبت عرفاً على اليهود، فإذا قلنا: أمة الغضب، انصرف الذهن مباشرة إلى اليهود لعنهم الله، فهذا الوصف أصبح من جهة العرف وصفاً لليهود، وقد خصهم الله تعالى بهذا الوصف في عدة آيات مثل قوله تعالى:
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [المائدة:60] وقال تعالى:
فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ [البقرة:90]، وقد فرق الله بينهم وبين النصارى في قوله تعالى:
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، وصحت الأحاديث بأن المقصود بالضالين: النصارى، وغير المغضوب عليهم: اليهود.
ولو قيل: إنها في اليهود وفي المنافقين لما كان بعيداً؛ لأنه تعالى نص على غضبه على المنافقين في سورة المجادلة في قوله تعالى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [المجادلة:14] وعلى هذا فهي تشمل اليهود والمنافقين.
والغرض من تخصيصها بهما، وعودة ذكرهما بعد العموم المتقدم في: (عدوي وعدوكم) هو -والله تعالى أعلم- أنه لما نهى أولاً عن موالاة الأعداء، وأمر بتقطيع الأواصر بين ذوي الأرحام، جاء بعدها ما يشيع الأمل فقال:
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً [الممتحنة:7]، و(( عَادَيْتُمْ )) عامة باقية على عمومها، ولكن اليهود والمنافقين لم يدخلوا في مدلول (عسى).
يعني: لأن احتمال إسلام اليهود نادر جداً، فيكاد أن ينقطع الأمل في إسلامهم، لذلك لو عملت إحصائية في عدد اليهود الذين دخلوا في الإسلام فستجد ذلك نادراً جداً، ولا ننكر وجود ذلك فإن الله على كل شيء قدير، فيصطفي من يشاء من عباده، لكنه نادر، بخلاف النصارى وغيرهم فإن أعداداً ضخمة منهم تدخل في الإسلام.
يقول: ولكن اليهود والمنافقين لم يدخلوا في مدلول (عسى) هنا، فنبه تعالى عليهم بخصوصهم في هذه الآية؛ لئلا يطمع المؤمنون أن ينتظروا شيئاً من ذلك، فأيأسهم من موالاتهم ومودتهم، العدم الإيمان الذي هو رابطة الرجاء المتقدم في (عسى) أي:
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً [الممتحنة:7] بأن يدخلوا في الإسلام بعد أن قاطعتموهم لوجه الله وصدقتم في ذلك، فالله قادر على أن يكافئكم بأن يهديهم للإسلام فتنقلب المعاداة إلى مودة.
فكان الأمر كما أخبر الله سبحانه وتعالى، فقد جعل المودة من بعض المشركين، وذلك أن كثيراً منهم آمن بعد ذلك، ولم يجعلها من المنافقين ولا اليهود، فهي إذاً مؤسسة لمعنى جديد، وليست مؤكدة لما تقدم، والعلم عند الله تعالى.
فهذا فيما يتعلق باختيار الشيخ
عطية سالم في تفسير هذه الآية.
معنى قوله: (قد يئسوا من الآخرة)
قوله: (( قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ )) يعني: قد يئسوا من جزاء الآخرة؛ لأنهم كذبوا بها،ولذلك طغوا وبغوا وعاثوا، فإذا قلنا: إن الذين غضب الله عليهم هم اليهود، فاليهود قد يئسوا من الآخرة؛ لأنهم بتكذيبهم للنبي محمد عليه الصلاة والسلام قد يئسوا من أن يكون لهم في الآخرة خير؛ ولذلك طغوا وبغوا وعاثوا.
وقوله: (( غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ )) صفة لـ(قوماً) في محل نصب، وقوله: (( قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ )) صفة ثانية.
وقيل: (( قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ )) يعني: من جزاء الآخرة، (( كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ )) أي: كما يئس سلفهم من إخوانهم الكفار المقبورين، يعني: أنهم على شاكلة من قبلهم، وكل مؤاخذ بكفره.
وقيل المعنى: كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا، وقيل: كلاهما ييئس من جزاء الآخرة.
وقيل: إن كلمة (يئس) مرتبطة بحرف (من)، أي: أن الكفار الأحياء يئسوا من أصحاب القبور؛ لأنهم هم الذين يقولون:
وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24] فلا آخرة ولا بعث ولا نشور بزعمهم.
وعلى القول بأن المعنى: كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا، يكون في الآية وضع الظاهر موضع المضمر، أي: قد يئسوا من الآخرة كما يئسوا من أصحاب القبور، لكن آثر المظهر على المضمر فقال: (( كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ ))؛ لكي يثبت عليهم صفة الكفر، وأيضاً ليبين لهم ما هو الشيء الذي اقتضى الغضب عليهم، وهو الكفر.
وهذا آخر ما تيسر في تفسير سورة الممتحنة.