بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [الممتحنة:1].
قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ )) أي: أنصاراً، فهذا نهي لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن موالاة مشركي مكة المحاربين لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وقتئذ، لما فيها من الفتنة بالدين وأهله كما يأتي.
لفظ (العدو) معناه وإطلاقه
سبب تقديم قوله تعالى: (عدوي) على (عدوكم)
يلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى قدم ذكر عداوته على عداوة المؤمنين: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ )) فذكْرُ المقابلة هنا بين: عدوي وعدوكم فيه إبراز صورة الحال وتقبيح الفعل؛ لأن العداوة تتنافى مع الموالاة، وتتنافى أيضاً مع المسارة للعدو بالمودة.
قال
الفخر الرازي في سر تقديم (عدوي) على (عدوكم): سر التقديم أن عداوة العبد لله بدون علة، فالذي يعادي الله سبحانه وتعالى ليس له علة تعلِّل هذه العداوة، أما عداوة العبد للعبد فإنما تكون لعلة.
يقول: وما كان بدون علة -يعني: كعداوة الكفار لله- فإنه يقدم على العداوة التي تكون لِعلة، وهي عداوة الناس بعضهم لبعض.
ويقول الشيخ
عطية سالم رحمه الله تعالى: والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن التقديم لغرض شرعي وبلاغي، وهو أن عداوة العبد لله هي الأصل، يعني: أن من عادى الله فإنه بعد ذلك يعادي أولياء الله، وعداوة العبد لله أشد قبحاً من عداوته لعبد مثله؛ فلذا قدمت، وقبحها في أنهم عبدوا غير خالقهم، وشكروا غير رازقهم، وكذبوا رسل ربهم، وآذوهم، فلا يتصور أن يعادي عبدٌ الله سبحانه وتعالى وهو مفتقر في وجوده إلى الله، فهو الذي خلقه، ورزقه، ووهبه الحياة، وأسبغ عليه النعم ظاهرة وباطنة، فلم يأته من الله سبحانه وتعالى إلا كل خير، فمقابلة هذا الإحسان الذي لا إحسان مثله بالعداوة لا شك أنه أقبح ما يكون، ولذلك روي في بعض الأحاديث الإلهية: (
إني والجن والإنس في نبأ عظيم: أخلق ويُعبد غيري، وأرزق ويُشكر غيري)، وفيه أيضاً: (
خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إلي بالمعاصي!) وهذا الحديث وإن لم يصح فإن معناه صحيح.
كما أن تقديم عداوة الله سبحانه وتعالى على عداوة الخلق يؤكد بأنها هي السبب في العداوة بين المؤمنين والكافرين، فإن العداوة التي تقع بين المؤمنين والكافرين إنما هي ناشئة عن عداوة الكفار لله تبارك وتعالى، فتراهم يسبون الله، ويشركون به، ويكذبون أولياءه، فلما كانوا أعداء لله وجب على المؤمنين أن يتخذوهم أيضاً أعداء.
والدليل على تقديم عداوة الله على عداوة المؤمنين، وأنها هي الأصل: أن الكفار لو آمنوا بالله وانتفت عداوتهم لله لأصبحوا إخواناً للمؤمنين كما قال الله تعالى:
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11] فبمجرد التوبة، والدخول في الإسلام، والانقياد لشرع الله؛ يصبحون إخواناً للمؤمنين، وتنتفي العداوة بينهما، فقد جعل هذا الأمر مغياً لغاية في قوله تعالى:
فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:89]، ومثله أيضاً قول الله تعالى في قوم إبراهيم:
وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4] فإذا آمنوا بالله صاروا بالتبع إخواناً لهم، وانتفت هذه العداوة، فإذا هاجر المشركون وآمن الكافرون انتفت العداوة، وحلت محلها الموالاة، فسبب النهي عن موالاة الأعداء هو الكفر.
بيان أنه ليس كل عداوة تقتضي المقاطعة وعدم الموالاة
تفسير قوله تعالى: (تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم)
قوله: (( تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ )).
قيل: بصميم المحبة، والمعنى: تلقون إليهم المودة، وقال بعض العلماء: المقصود بالمودة المودة الظاهرة؛ لأن هذه السورة نزل جزء منها في شأن
حاطب بن أبي بلتعة لما دل قريشاً على أخبار النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه قد أعد جيشاً ليغزوهم كما سنبين إن شاء الله تعالى بالتفصيل.
وقد اعتذر
حاطب للنبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الفعل، وذكر أنه محب لله ورسوله، وموال لله ورسوله، وأنه مبغض للكافرين، وإنما عذره كذا وكذا مما تأوله، فمن ثم قيد بعض المفسرين المودة هنا بأنها المودة الظاهرة، وليست المودة القلبية؛ لأن قلب
حاطب كان سليماً؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة بعدما اعتذر إليه
حاطب : (
أما صاحبكم فقد صدق) يعني: أنه تأول ولم يكن فعله عن كفر، أو عن حب للكفار والعياذ بالله.
والباء في قوله: (( بِالْمَوَدَّةِ )) زائدة كما في قوله تعالى:
َومَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ [الحج:25] أي: ومن يرد فيه إلحاداً بظلم.
أو أن الباء ثابتة، ويكون الضمير متعلقاً بقوله: تلقون، تقول: ألقيت إليه بكذا، والمراد: تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إن الباء هنا سببية، أي: تلقون إليهم بسبب المودة التي بينكم وبينهم.
والواو في قوله: (( وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ )) هي واو الحال؛ أي: والحال أنهم قد كفروا بما جاءكم من الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكتابه الذي هو نهاية الهدى وغاية السعادة.
ثم أشار إلى أن هؤلاء الذين توالونهم، أو تودونهم، أو تلقون إليهم بالمودة، لم يكتفوا بالكفر بما جاءكم من الحق، بل آذوا المؤمنين، فأضافوا إلى الكفر أذية المؤمنين، وهذا الأمر يقتضي قطع العلائق معهم بأي نوع من المودة.
فانظر إلى الجريمة الثانية بعد الكفر بالله والكفر بالقرآن، (( يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ )) فقد آذوا الرسول، وآذوا المؤمنين، فهذا الأمر يستوجب قطع العلائق معهم رأساً، والمعنى يخرجون الرسول وإياكم من أرضكم ودياركم.
قوله: (( أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ )).
أي: ما يخرجونكم إلا لأنكم آمنتم بالله ربكم، فلم تظلموهم، ولم تبخسوهم حقاً، ولم تؤذوهم في شيء، وإنما الأمر كما قال تعالى:
وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8] فالجريمة إذاً هي الإيمان بالله عز وجل، والمعنى: يخرجونكم لإيمانكم بالله الجامع للكمالات المقتضية انقياد الناقص له، لاسيما باعتبار اتصافه بكونه رباكم بالكمالات، فهي في الحقيقة عداوة مع الله عز وجل، فقوله: (( أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ )) أي: ربكم الذي أحسن إليكم، وغذاكم بنعمه، وأفاض عليكم من خيراته، فهم ما نقموا منكم إلا أن تؤمنوا بالله ربكم.
قال
ابن كثير : هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم وعدم موالاتهم، فهذه الأسباب الثلاثة المذكورة في الآية كلها مما يهيج المؤمنين ويوقظ في قلوبهم عداوة الكفار، وعدم موالاتهم، (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ )) هذه واحدة، (( يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ )) وهذه الثانية، وثالثاً: (( أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ )) بسبب إيمانكم؛ لأنهم أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من بين أظهرهم كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده؛ ولهذا قال تعالى: (( أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ )) أي: لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله رب العالمين كقوله تعالى:
وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]، وكقوله تعالى:
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج:40].
ثم يقول تبارك وتعالى: (( إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي )) أي: بالجهاد في طريقي الذي شرعته لكم، وديني الذي أمرتكم به، والتماس رضائي عنكم الذي لا ثواب فوقه، والشرط متعلق بقوله: (( لا تَتَّخِذُوا )) أي: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي.
فقوله هنا: (( إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي )) هذا شرط، وجوابه متقدم، أي أن الكلام فيه تقديم وتأخير، فيكون تفسير الآية هكذا: إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء.
وهناك قول آخر: وهو أن في الكلام حذفاً، أي: إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تلقوا إليهم بالمودة.
وقوله تعالى: (( تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ )) الباء في قوله: (بالمودة) كالباء في لفظة (بالمودة) السابقة في قوله: (( تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ))، فـ(تسرّون) بدل من قوله تبارك وتعالى: (( تُلْقُونَ ))؛ لأن الأفعال تبدل من الأفعال، وذلك مثل قوله تعالى في سورة الفرقان:
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا *
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:68-69] وقول الشاعر:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا
(( تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ )) أي: من المودة معهم وغيرها، (( وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ )) والهاء تعود إلى المصدر نفسه وهو الإسرار، فمع أن المذكور هو الفعل لكن يفهم منه المصدر، (( وَمَنْ يَفْعَلْهُ )) أي: الإسرار والإلقاء إليهم بالمودة، أو الإسرار إليهم واتخاذهم أولياء.
(( فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ )) أي: جار عن السبيل السوي الذي جعله الله سبحانه وتعالى هدى ونجاة.
وقد أشرنا أن هذا السياق كله نزل في شأن
حاطب بن أبي بلتعة ، فقد وقع منه هذا الأمر، وهو إخبار الكفار بسر الرسول عليه الصلاة والسلام لعلة سوف نبينها، مع أن
حاطباً رضي الله عنه من أهل بدر، وله فضل عظيم جداً، لكن كل هذا السياق كما نلاحظ يؤخذ منه معاتبة
حاطب رضي الله تعالى عنه.
فقوله: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )) خطاب للمؤمنين، لكن سبب نزولها في
حاطب .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [الممتحنة:1] فالمعاتبة من الله سبحانه وتعالى لـ
حاطب رضي الله عنه، وهي في حد ذاتها تدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق إيمانه؛ لأن المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيبه، وأما الشخص الذي تيئس منه فإنك تطرحه ولا تبالي بما فعل؛ لأن شأنه لا يهمك، أما الشخص الذي بينك وبينه مودة فهذا الذي يستحق أن تعاتبه، ولذلك يقول الشاعر:
أعاتب ذا المودة من صديق إذا ما رابني فيه اجتناب
إذا ذهب العتاب فليس ود ويبقى الود ما بقي العتاب
يعني: يبقى الود إذا كان هناك أمل في هذا الشخص ومحبة، فيستحق أن تعاتبه، أما إذا ارتفع العتاب فهذا يعني ارتفاع المحبة أصلاً.
قال تعالى:
لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الممتحنة:3].
(( لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ )) يعني: قراباتكم، وليست على ظاهرها، فالأرحام هنا ليس المقصود بها الأرحام نفسها، لكن المقصود ذوو الأرحام، يعني: لن تنفعكم ذوو أرحامكم، أي: قراباتكم، (( وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )).
وجاء هذا السياق لأن السورة نزلت في
حاطب بن أبي بلتعة ، و
حاطب إنما أراد أن تكون له يد -أي: جميل- عند أهل مكة المشركين؛ لأنه لم يكن له في مكة من يحمي عشيرته من أذى المشركين، فأراد أن يسدي إليهم جميلاً حتى يكفوا الأذى عن أهله وعشيرته، فالله سبحانه وتعالى يبين أنه يوم القيامة لن تنفعكم هذه القرابات، أي: القرابات التي ارتكب
حاطب هذه الكبيرة بسببها: (( لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ )) بإثابة المؤمنين، ومعاقبة العاصين.
وقوله: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) فيه عدة قراءات، منها: (يوم القيامة يُفصَل بينكم)، وقرئ: (يوم القيامة يُفصَّل بينكم)، وفي قراءة: (يوم القيامة يُفصِّل بينكم)، وقرئت: (يوم القيامة نُفصِّل بينكم) على العظمة، وقرئت أيضاً: (يوم القيامة نَفصِّل بينكم).
وقال
القاشاني : أي لا نفع لمن اخترتم موالاة العدو الحقيقي لأجله؛ لأن القيامة مفرِّقة، (( يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ )) فهؤلاء الذين اختاروا موالاة العدو الحقير لأجلهم، وهو
حاطب والى العدو الحقير لأجل قرابته الذين في مكة، فهؤلاء القرابة الذين تهلكون أنفسكم بسببهم لن ينفعوكم يوم القيامة، ولن يغنوا عنكم شيئاً؛ لأنه يوم القيامة يفصل بينكم: أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار؛ لأن القيامة مفرقة، وهذا معنى قوله تعالى: (( يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ )) أي: يفصل الله بينكم وبين أرحامكم وأولادكم كما قال تعالى:
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ *
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ *
وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [عبس:34-36]. وهذا تأويل جيد.
أما فيما يتعلق بالقراءة في قوله تعالى: (( يَوْمَ الْقِيَامَةِ )) فيجوز في قوله تعالى: (( يَوْمَ الْقِيَامَةِ )) وجهان:
الأول: أن يتعلق بما قبله أي: لن تنفعكم أرحامكم يوم القيامة، فيوقف عليه هنا، ويبتدأ بقوله: (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ).
والوجه الثاني: أن يتعلق (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) بما بعده، أي: يفصل بينكم يوم القيامة، فيوقف على أولادكم، ويبتدأ بيوم القيامة.
وقوله: (( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )) يعني: فيجازيكم عليه.
قصة حاطب بن أبي بلتعة مع المشركين
منزلة الولاء والبراء في الدين
إن هذه السورة كلها أصل في النهي عن موالاة الكفار، فضلاً عما أشرنا إليه وما لم نشر إليه من الآيات؛ لأن قضية موالاة الكفار تحتل في الإسلام المرتبة الثانية من حيث كثرة الأدلة عليها بعد قضية التوحيد، فما عرفت قضية تكثر أدلتها بعد قضية التوحيد مثل قضية الولاء والبراء، وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، بل إنها في الحقيقة من حقوق التوحيد، ولذلك فإن أي خلل في قضية الولاء والبراء فأمره خطير، قال الله سبحانه وتعالى:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73].
فإذا ذاب هذا الحاجز النفسي بين المؤمنين والكافرين ترتب على ذلك اختلاط الأمور على الناس، فمثلاً:
ياسر عرفات زوجته نصرانية، وأعلنت أنها ترغب في أن تدخل في الإسلام، فقال لها: لا داعي لذلك؛ فإن هذه الأديان كلها شيء واحد! والله المستعان.
فانظر إلى الخلل في الولاء والبراء، فإنه أوصل إلى تسوية الإسلام بالكفر وصدور هذا التصرف الخطير، هذا أنموذج عملي واحد وإلا فكل ما نحن فيه من خلل واختلال في أحوالنا وأمورنا هو بسبب الاختلال في قضية الولاء والبراء، ولذلك تجد الآن من يحملون أسماء المسلمين وهم أشد عداوة للإسلام وأهله من
أبي جهل و
أبي لهب ؛ بسبب الخلل في قضية الولاء والبراء، فإذا أردت أن تفتش عن سبب هذا الفساد فاقرأ قوله تعالى:
إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73] أي: فتنة الناس في دينهم؛ لأنه حينئذ يتلاشى الخط الفاصل بين الكفر والإيمان، بين النور الظلام، بين الهدى والضلال.
وكان ينبغي أن نقف وقفة طويلة عند قضية الولاء والبراء، لكن الوقت يضغط علينا، فإننا نريد أن ننجز ما نحن فيه بقدر المستطاع، وسوف نقف عند هذا الأمر المهم ونعطيه أو نوفيه حقه لاحقاً إن شاء الله تعالى.
وقد قبل الله سبحانه وتعالى عذر
حاطب لما قام في ظنه من كون ذلك ليس بكبيرة وإن أخطأ، والمجتهد المخطئ معذور، وقد تبين خطؤه بصريح النهي عن معاودة مثله، ولأجله نزلت السورة، فقد كان متأولاً في أن هذا جائز، وقال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام بأي حال من الأحوال سوف ينصره الله على هؤلاء المشركين، فأنا أسدي إليهم هذا الجميل حتى يدفعوا عن أقاربي في مكة. وقد أخطأ في هذا الاجتهاد، لكن قلبه عامر بالإيمان، ومحب لله ولرسوله، وموال للمؤمنين، ولذلك ذكر أن
حاطباً لما سمع صدر السورة: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ )) غشي عليه من الفرح بخطاب الإيمان، أي: أنه سر جداً بأن الله ما زال يخاطبه بوصف الإيمان.
الاعتدال في الحكم على الأشخاص والمناهج
يستفاد من هذه السورة أن الإنسان إذا أراد أن يحكم على شخص فلابد من الاعتدال والموازنة؛ لأن من الخلل عند الحكم على الأشخاص، أو على المناهج، أو على المواقف من خلال موقف واحد، فنهدر كل ما عند الشخص من الحسنات، فلا نذكر عنه إلا المساوئ.
فترى بعضهم يقول: إن هذا العالم أخطأ في قضية كذا، وأخطأ في الموضوع الفلاني، ويحبط كل حسناته بسبب هذا الخطأ، فهذا غير صحيح؛ فانظر إلى
حاطب بن أبي بلتعة تحصل منه هذه المصانعة للمشركين، ومع ذلك عرف له الرسول عليه الصلاة والسلام حقه، فكون الرجل بدرياً شرف وفضل عظيم جداً لا يمكن أن يقارن: (وما يدريك يا
عمر ! لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
فموقعة بدر وقع فيها الفرقان ونصرة الحق، وكانت فيها بداية انطلاق الدعوة إلى الأمام، وهي موقعة أذل الله فيها الكفار وأعز المسلمين، وهؤلاء البدريون لاشك أنهم أعلى طبقة في الصحابة، ففي هذا مراعاة مقام الناس والإحسان، وعدم نسيان حسناتهم إذا ما أساءوا.
وقد أحزنني كثيراً الحوار الذي يجري بين بعض الشباب حول الدكتور
طارق سويدان ، فإنه أخ فاضل على خير، وقد فتح الله على يديه خيراً كثيراً، فكم رأيته في أمريكا، فإنه في غاية النشاط في الدعوة إلى الله تعالى، فله محاضرات كثيرة جداً باللغة الإنكليزية، فالرجل له نشاط وهمة عالية في الدعوة إلى الله، وكذلك أشرطته يغلب عليها الخير، وموضوع أشرطة السيرة جيدة ونقول للمثبطين:
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
أما كلامه في قضية الفتنة بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقد أوضحناه أكثر من مرة، وقلنا: إن فيه نوعاً من الخطأ، وهو خطأ محدد في أن هذه القضية لا ينبغي أن تثار للعامة، بل ينبغي أن نشغل العامة بمناقب الصحابة وفضائلهم، ولا نفتح عليهم الكلام فيما شجر بين الصحابة، وهذا منهج أهل السنة.
والرجل -إن شاء الله- لعله يكون قد انتفع بهذه النصيحة، وهذا هو الظن به، وقد بلغني أنه أمر بإيقاف هذه الأشرطة بالذات، وبلغني بعض الشباب أنه الآن -عافاه الله وعافى سائر المسلمين- مصاب بالسرطان، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يشفيه ويعافيه، وأن يصرفه عنه وعن سائر المسلمين.
فيخوض بعض الشباب ويقول: أليس هذا الذي فعل كذا، أليس هذا الذي عمل الأشرطة التي فيها كذا!! فما هذا أيها الإخوة؟! الرجل مسلم وداعية إلى الله سبحانه وتعالى، وهو ليس من كبار علماء المسلمين، إلا أنه داعية ناصح، وقد خدم الدعوة كذا وكذا، فينبغي أن نعتزل عند نزال الأقران، ونستحضر موقف
حاطب بن أبي بلتعة ، وأن كونه بدرياً هو الذي أنقذه من وصف النفاق، ومن معاقبته بسبب تجسسه لصالح الأعداء كما بينا.
الخوف على المال والولد لا يبيح التقيّة بإظهار الكفر
قال القاضي
أبو يعلى : في هذه القصة دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إظهار الكفر كما يبيح في الخوف على النفس، ويبين ذلك أن الله تعالى فرض الهجرة ولم يأمرهم بالتخلف لأجل أموالهم وأولادهم.
فالعذر المعتبر للإنسان في النطق بكلمة الكفر هو إنقاذ نفسه من القتل كما قال الله:
إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28].
ففي حالة الخوف على النفس من العطب والقتل يجوز للإنسان أن ينطق بكلمة الكفر، ولو صبر فهو أولى وأفضل، لكن هل الخوف على المال والولد يبيح له التقية في إظهار الكفر؟
يقول القاضي
أبو يعلى : لا؛ لأن في هذه القصة دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إظهار الكفر كما يبيح ذلك في الخوف على النفس، فلو كان الخوف على المال والأولاد عذراً في إظهار التقية لجاز للمؤمنين الذين هاجروا إلى المدينة أن يبقوا في مكة ويظهروا التقية، ويبقوا على إيمانهم خفية؛ حفاظاً على أموالهم وعلى أولادهم، ولكن لم يحصل هذا لأن الله أوجب عليهم الهجرة، فدل على أنه لا تقية في حالة الخوف على المال والولد.
يقول: ويبين ذلك أن الله تعالى فرض الهجرة، ولم يأمرهم بالتخلف لأجل أموالهم وأولادهم.
وقال
عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق؛ لأنه ظن أنه فعل ذلك من غير تأويل.
فقبل الرسول عليه الصلاة والسلام عذره فيما قام في ظنه من كون ذلك ليس بكبيرة وإن أخطأ، والمجتهد المخطئ معذور، وقد تبين خطؤه بصريح النهي عن معاودة مثل الذي لأجله نزلت السورة، ولذا قال الإمام
ألكيا الهراسي : يؤخذ من الآية أن الخوف على المال والولد لا يبيح الفتنة في دين الله، وهو ظاهر، وليس هذا من التقية؛ لأنها في موضوع آخر.
أنواع الموالاة للناس
بسط الكلام في موضوع الولاء والبراء المتعلق بهذه الآية
ابن الوزير في إيثار الحق على الخلق، في المسألة الثامنة، وبعدما أورد الآيات والأحاديث في هذا قال: هذا كله في الحب الذي هو في القلب والمخالطة لأجل الدين؛ وذلك للمؤمنين المتقين بالإجماع، وللمسلمين الموحدين إذا كان لأجل إسلامهم وتوحيدهم عند أهل السنة.
وأما المخالقة، والمنافعة، وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف، ونحو ذلك؛ فيستحب بذله لجميع الخلق.
هو هنا يتكلم على قضية الموالاة لمن تكون فيقول: الموالاة التي هي بمعنى الحب الخالص في القلب والإخلاص الشديد في هذا الحب من أجل التوحد في الدين، ومن أجل وحدة العقيدة، فهذه الموالاة مختصة بالمؤمنين المتقين بالإجماع، وللمسلمين الموحدين إذا كان لأجل إسلامهم وتوحيدهم، وأما المخالقة، أي: حسن الخلق، وتبادل المنافع، وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف، ونحو ذلك؛ فيستحب بذله لجميع الخلق، أي: أن الإنسان مطالب بحسن الخلق مع كل خلق الله، حتى مع الكافرين، وليس معنى حسن الخلق أنه يحبه بقلبه، بل لابد أن يبغضه بقلبه، لكن حسن الخلق في المعاملة وأداء الحقوق ونحو ذلك.
يقول: وأما المخالقة، والمنافعة، وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف، ونحو ذلك؛ فيستحب بذله لجميع الخلق، إلا ما كان يقتضي مفسدة كالذلة، فلا يبذل للعدو في حال الحرب كما أشارت إليه الآية.
أي: إذا كان الوضع كحالة الحرب فإنه لا يصلح أن تسلك هذه المسالك؛ لأنها في حالة الحرب تكون بمعنى التذلل للعدو، والمسلم لا يذل، وأما الشخص الذي لا يكون محارباً للمسلمين فإنه يتعامل معه معاملة حسنة، ولو كان كافراً، وأما المحارب الذي يحارب الله ورسوله، ويقاتل المسلمين فهذا لا يستحق هذه المعاملة، فالمعاملة بحسن الخلق ونحوه إنما تكون لمن لا يحاربوننا في الدين.
قال: وإليه أشارت الآية الكريمة:
لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ [الممتحنة:8-9].
قال: أما التقية فتجوز للخائف من الظالمين القادرين.
أي: لأنه قد يكون الإنسان ظالماً ولكنه لا يقدر على إنفاذ ظلمه، أما إذا كان ظالماً وقادراً على الأذية فهذا لك أن تتقي منه.
قال: وأما الفرق بين ما يجوز من المنافعة والمداهنة وما لا يجوز من الرياء: فما كان من بذل المال والمنافع فهو جائز، وهو المنافعة، وربما عبروا عنه بالمداهنة والمداراة والمخالقة، وما كان من أمر الدين فهو الرياء المحرم.
ومن كلام الإمام
يحيى بن المحسن في كتابه (الرسالة المخرسة لأهل المدرسة)، يقول: لا يجوز أن تكون الموالاة هي المتابعة فيما يمكن التأويل فيه؛ لأن كثيراً من أهل البيت عُرف بمتابعة الظلمة لوجه يوجب ذلك، فتولى
الناصر الكثير منهم وصلى بهم الجمعة
جعفر الصادق ، وصلى
الحسن السبط على جنائزهم، وذكر
المهدي أن الموالاة المحرمة بالإجماع هي موالاة الكافر لكفره والعاصي لمعصيته ونحو ذلك.
والحجة على صحة الخلاف فيما عدا ذلك أشياء كثرة:
منها قول الله تعالى في الوالدين المشركين بالله:
وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15] فأمر الله سبحانه وتعالى ببر الوالدين وإن كانا مشركين، وقال عز وجل:
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15] فانظر إلى هذين الوالدين: فهما مشركان، ويدعوان ولدهما إلى الإشراك، بل ويجاهدانه في سبيل الإشراك، ويبذلان أقصى ما في وسعهما لأجل فتنته عن دينه وإدخاله في الشرك، ومع ذلك يقول الله تعالى: (( فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ))، وقال تعالى:
لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ [الممتحنة:8] إلى آخر الآية.
وفي الحديث أنها نزلت في
قتيلة أم
أسماء بعد آيات التحريم، وسوف يأتي ذلك بالتفصيل.
إشكال وجواب
فإن قيل: قد دلّ القرآن على أن
حاطباً أذنب؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (( وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ )) فكيف يقبل ما ذكره من العذر؟
فالجواب: إنما قبل عذره في بقائه على الإيمان، وعدم موالاة المشركين لشركهم، أي: أن هذا الذي حصل ليس لمودة ومحبة وموالاة موجودة في قلبه، ولذلك خاطبه الله بالإيمان فقال: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )) والعموم نص في سببه، فاتفق القرآن والحديث، وأما ذنبه فإنه لا يحل، فهو مثل ذنب فعله أحد الجيش بغير إذن أميرهم، قال الله تعالى:
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ [النساء:83] إلى آخر الآية؛ ولأن تحريم مثل ذلك بغير إذن الأمير إجماع، ومع إذنه يجوز، فقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من الحيل لحفظ المال، فلو كان مثل ذلك موالاة لم يأذن فيه صلى الله عليه وسلم، فدل على أن ذنب
حاطب هو الكتم؛ لما فيه من الخيانة، فلو تجرد نفس الفعل من الكتم والخيانة لجاز، والله تعالى أعلم.
ويضاف إلى الكتم والخيانة ما أفادته الآية من التودد بذلك إليهم، والمناصحة لهم، مما يشف عن كون الآتي بذلك متزلزلاً في عقله، مضطرباً في حقه، فيصبح عمله حجة على دينه، ويكون ذلك سبباً لافتتان المشركين المفسدين بصحيح الدين القويم، وهذا هو السر في هذا الأمر الخطير.
أي: لأن المشركين يرون
حاطباً وهو يفعل هذا، فيزيدهم ذلك فتنة بما هم عليه من الشرك، ويظنون أنه ترك دينه، أو أنه متشكك في دينه وعقيدته؛ فلذلك يواليهم، فهذا السلوك مما يزيدهم فتنة أو يكون سبباً لفتنتهم وإعجابهم بما هم عليه من الشرك، وذلك يبينه قوله تعالى: (( رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا )).
قال تعالى:
رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الممتحنة:5].
قال
مجاهد : قوله تعالى: (( رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا )) أي: لا تعذبنا بأيديهم؛ لأن الفتنة تطلق على العذاب كقوله تعالى:
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ [الذاريات:14] يعني: عذابكم، فالمعنى: لا تعذبنا على أيدي الكفار، ولا بعذاب من عندك فيفتن الكفار ويقولون: لو كانوا على حق لما أنزل الله بهم العذاب، وكذا قال
قتادة : لا تظهرهم علينا فيفتتنوا بذلك، ويرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه.
ومآل هذا الدعاء هو التعوذ من مثل صنع
حاطب مما يورث افتتان المشركين بالدين؛ إذ يكون ذلك مدعاة لقولهم: لو كان هؤلاء على حق، وما يزعمون به من الظفر بالحق، لما صانعنا مؤمنهم.
إذاً: ما هم عليه أماني، فانتبهوا لهذا الفرق بين هذه الدعوة وبين غيرها من الدعوات، فهذا الدعاء حينما نفهمه ونفقهه يئول إلى التعوذ من مثل فعل
حاطب ؛ لأن الذي فعله
حاطب قد يكون من عواقبه وآثاره أن يصير سبباً لفتنة الذين كفروا فيقولون: لو كان الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه على حق، ولو كان الوعد الذي وعدوه من الغلبة والظفر حقاً؛ لما صانعنا هذا المؤمن ولما داهننا، ولما جاملنا، فيتمسكون بما هم عليه.
ففي الآية معنى كبير، وتأديب عظيم، أي: ربنا لا تجعلنا نهمل من ديننا ما أمرنا به، أو نتساهل فيما عزم علينا منه، حتى لا تنحل بذلك قوتنا، ويتزلزل عمادنا، ويُفتح لعدو الدين الافتتان به؛ لأن المؤمنين إذا ما زالوا متمسكين بآداب الدين، ومحافظين عليها، وقائمين بها حق القيام، فإن النصر قائدهم، والظفر رائدهم، ولذلك أصبح المسلمون في القرون الأخيرة بحالهم السيئ حجة على دينهم أمام عدوهم، ولا مسترد لقوتهم، ولا مستعاد لمجدهم إلا بالرجوع إلى كتابهم، والعمل بآدابه، والمحافظة على أحكامه، ونبذ ما ألصق به مما يحرف كلمه، ويجافي حقيقته.
تصرّف المسلمين السيئ وأثره على هذا الدين
إن السلوك السيئ لبعض المسلمين قد يكون فتنة للذين كفروا، فتخيل مثلاً بعض الملوك أو الرؤساء الكفرة حينما يتعاملون مع عيّنة من الناس في حلبة السياسة، ويرونهم يبيعون أوطانهم، ويخونون شعوبهم، ومع ذلك ينتسبون للإسلام، فهل سيرغب هؤلاء في الإسلام؟!!
وقد سبق أن تكلمنا في تفسير سورة النحل، عند قوله تبارك وتعالى:
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.. [النحل:94] إلى آخر الآية، أن قوله: (( وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ )) يعني: لا تخادعوا الناس، وتستغلوا اسم الله والحلف به، فتقول: والله العظيم هذا الشيء ما كسبت فيه كذا، ووالله سأكون خاسراً في البيعة الفلانية، أو يعقد عقداً ويغش ويخدع، والرجل يصدقه؛ لأنه حلف، ثم يكتشف بعد ذلك أنه ما انخدع إلا بسبب تصديقه له لما حلف، ويترتب على فعل ذلك أمران خطيران:
الأول: أنكم بعد أن كنتم توصفون بالاستقامة سوف توصفون بالفسق والخروج عن طاعة الله: (( فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا )) أي: إذا انحرفتم عن الاستقامة وخادعتم الناس بالأيمان الكاذبة فحينئذ ستزل قدم بعد ثبوتها.
الثانية:
وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ يعني: أن هذا السلوك يترتب عليه فتنة الناس عن الدخول في الدين؛ لأنهم يقولون: لو كان ما هم عليه حقاً لزجرهم عن الغش، ولزجرهم قرآنهم عن الحلف بالله وهم كاذبون.
فإذاً: هذا الأمر ليس أمراً سهلاً، بل فيه عذاب وفيه عقاب، فالسلوك الذي يترتب عليه فتنة الكفار عن الدخول في الدين تشويه لجمال الإسلام، وصد عن سبيل الله، فعلى فاعل ذلك إثم كبير، ووزر عظيم، ولذلك قال تعالى:
وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فهذا لفت إلى خطورة أن نكون نحن فتنة للكفار بأن ننفرهم من الدين بسبب سوء سلوكنا.
فهناك بلاد عظيمة جداً وتعدُّ أكبر بلاد العالم الإسلامي من حيث عدد السكان وهي إندونيسيا، وهي في شرق آسيا، وكل هذه المناطق دخل الملايين من أهلها في دين الله عز وجل، ولم تفتح بالسيوف ولا بالجهاد، بل فتحت عن طريق تجّار كانوا يخرجون للتجارة، وقد كانوا دعاة يتقمصون زي التجار، فكانوا يخرجون ويتعاملون مع هذه الشعوب معاملة حسنة، فكان أبناء تلك الشعوب ينبهرون جداً بخلق المسلمين، وبأمانة المسلمين، وبتقواهم لله سبحانه وتعالى، فكل هذه البلاد إنما فتحت بالأسوة الحسنة فقط، فلم تُفتح بسيف ولا بجهاد.
وهذا الكلام قاله أناس ليسوا من المسلمين كصاحب كتاب: (دعوة الإسلام) واسمه
أرنلد كونجي ، وهو بريطاني له باع كبير جداً في معرفة حقائق الدعوة الإسلامية، فكان مما قاله هذه العبارة: إن هؤلاء كانوا دعاة في زي تجار، وهم الذين فتحوا هذه البلاد بالدعوة فقط، ولم يرفعوا السيوف أمامهم قط!