وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون! حديثنا موصول في العلم والتعليم والتربية والتزكية، وذلك للأهمية القصوى، والغاية العظمى المنشودة من ذلك، ولئن تحدثنا من قبل عن النهج القرآني في الربط الوثيق بين العلم والتعليم من جهة، والتربية والتزكية من جهة أخرى، فلعلنا اليوم نوجه حديثنا مباشرة إلى المعلمين والمعلمات فيما هم عليه من صفة، وما لهم من منزلة، ثم ما عليهم من أمانة، وما في عنقهم من مسئولية، لنخلص بعد ذلك إلى الأساليب العملية والطرائق التربوية التي ينبغي الأخذ بها وصولاً إلى تغذية العقول بالفكر والعلم، وإلى تزكية النفوس بالتطهير والتنقية، وإلى إحياء القلوب بالمعرفة والإيمان، وإلى تقويم السلوك بالاستقامة والخلق الفاضل، فإننا في مهمة التربية والتعليم، نقوم بأعقد وأعظم مهمة، إنها صناعة الإنسان، وصياغة فكره، وتهذيب نفسه، وتطهير قلبه، وتقويم فكره، وتهذيب سلوكه، مسألة بها مفتاح التغيير في المجتمعات وفي سائر جوانب الحياة.
إلى المعلمين والمعلمات، حتى يُدْرك من هم؟ وما هي مكانتهم؟ فنقول: أنتم المرفوعون المأجورون، المرفوعون رتبة المأجورون ثواباً ومنزلة: يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ [المجادلة:11]، فأنتم من بين معاشر أهل الإيمان مخصوصون بدرجة ومنزلة خاصة بالعلم، ثم استمعوا إلى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم من جملة أحاديث وافرة: (من علم علماً فله أجر من عمل به، لا ينقص ذلك من أجر العامل شيئاً)، فكل كلمة ومعرفة وهدي تغرسه في القلوب والعقول والنفوس، فإنما ينبني عليه من عمل وما يؤثر من بعده من توجيه مسجل لك في صحيفة الأعمال، فضل من الله سبحانه وتعالى، ومنة وكرم، وحث وحض، وتشجيع وتحفيز.
وأنتم كذلك الوارثون المورثون أنتم أربابها وأصحابها، وأنتم أعظم المنتفعين بها بعد انقطاع الحياة، (العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، هكذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأما بعد انقطاع الحياة فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ولئن كان هذا الحديث فيه قسم مباشر لأهل العلم، في العلم الذي ينتفع به، فإن أهل العلم قد قالوا: إن لهم في الحقيقة حظاً وافراً من ذلك كله، فإن الصدقة التي يبقى أجرها، إنما مبعثها التعليم على فضلها، والإرشاد إلى أجرها، فمن كان له ذلك العلم والتعليم، فهو شريك فيما ينبني عليه من الصدقات والأوقاف والوصايا، والولد الصالح إنما هو ثمرة في غالب الأحوال لذلك العلم والتربية والتزكية، فإن أهل العلم حينئذ يكونون قد أخذوا بهذه الأمور كلها، فما أعظم ما يخلفون وراءهم مما يعظم أجرهم، ويصل أعمالهم بفضل الله سبحانه وتعالى.
ثم لننظر كذلك إلى هذا المعنى من جهة أخرى، فهو أمر عظيم وأجره جزيل، وهو في الحقيقة -كما سماه العلماء-: جهاداً وهو جهاد عظيم، أي: جهاد العلم وجهاد التربية، فإن ذلك هو الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم رحمه الله في بيان ذلك: إنما جعل طلب العلم في سبيل الله -ونحن نعرف الأحاديث: (من ابتغى طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) وقد وردت الأحاديث بأن طلب العلم من القصد والنهج إلى سبيل الله- لأن به قوام الإسلام، كما أن قوامه بالجهاد، ولهذا كان الجهاد نوعين:
جهاد باليد والسنام، وجهاد بالحجة والبرهان:
والجهاد بالحجة والبرهان هو جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين لعظمة منفعته، وشدة مؤنته، وكثرة أعدائه، ثم استشهد بقوله جل وعلا: وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً * فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً [الفرقان:51-52] قال: وهذه الآية مكية لم يكن قد نزل فيها تشريع الجهاد، فدل على أن المقصود جهادهم بالحجة والبرهان بما جاء في آيات القرآن، وذلك هو جهاد الإقناع، والتعليم، ودحض الشبهات، وتزكية النفوس، والربط بالخالق سبحانه وتعالى، مما هو من أخص خصائص المعلمين.
ثم نعلم كذلك ما حثنا وندبنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما هو مظنون أنه أبعد الأمور، حتى إذا جئت لتذبح الذبيحة هناك وصية في الإحسان: (فليحد شفرته وليرح ذبيحته)، فويحنا وويحنا إن كان هناك إحسان في القتل والذبح ثم لا يكون إحسان في التربية والتعليم! تلك مهمة خطيرة وعظيمة، ولذا نوجه القول للمعلمين والمعلمات، وأنا وأنت معلم ومعلمة في الوقت نفسه؛ لأننا نعلم أبناءنا ونربيهم، فكل حديث نوجهه إليهم هو موجه إلينا أصالة وليس تبعاً، فهذه المهمة ترتكز على أربعة جوانب:
وجاء في الحديث المشهور من رواية أبي ذر لما جاء الصحابة وقالوا: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور -أصحاب الأموال- يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، ونحن ليس عندنا أموال فلا نتصدق ولا نؤجر، قال: أو ليس قد جعل لكم ما تصدقون به، ودلهم على التسبيح والتحميد والتكبير وكف الأذى وغير ذلك، ثم جاءت المنافسة مرة أخرى فقالوا: يا رسول الله! سمع إخواننا بما قلت لنا ففعلوا مثلما فعلنا -ميدان تنافس تنطلق فيه الطاقات- قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يوفقنا وأن يوفق معلمينا ومعلماتنا لما يحب ويرضى، ولما فيه خير أبنائنا وبناتنا.
أقول هذا القول، واستغفروا الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى الحرص على التربية والتعليم من قبل الآباء والأمهات، والمعلمين والمعلمات، ووسائل الإعلام ومناهج التعليم، كلنا مسئولون عن هذا الجيل أن نغرس في قلوبهم وعقولهم العلم النافع، والخلق الفاضل، والعمل الصالح، والهمة العالية.
ولعلنا نشير في ومضات إلى أساليب من أساليب كثيرة ويحتاجها المعلمون والمعلمات.
ولقد أحبه عليه الصلاة والسلام أصحابه الذين علمهم حباً عجيباً، حتى إن زيد بن حارثة وكان مولى للنبي صلى الله عليه وسلم جاء أهله وعثروا عليه بعد أن خطف منهم وصار رقيقاً في مكة، فقال لهم: (دونكم
وهذه وغيرها كلمات وتوجيهات وأمنيات نسوقها إلى المعلمين والمعلمات، ونذكر بها أنفسنا معاشر الآباء والأمهات؛ لنقوم بهذه المهمة، في هذا الظرف الدقيق والعصر الحرج الذي يحيط بأمتنا، والذي تلاقي فيه هجوماً شرساً على مناهج تعليمها، وطرائق تربيتها، وأسلوب حياتها الاجتماعية، وغير ذلك مما هو معلوم، نسأل الله عز وجل أن يحفظ أمتنا، وأن يحفظ علينا سلمنا وإسلامنا، وأمننا وأماننا.
نسألك اللهم أن توفقنا للصالحات، وأن تصرف عنا الشرور والسيئات، وأن تغفر لنا ما مضى وما هو آت، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم أفض علينا الخيرات، وأنزل علينا الرحمات، وضاعف لنا الحسنات، وكفر عنا السيئات، وارفع لنا الدرجات، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا يا رب العالمين!
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، ومن جندك المجاهدين، ومن ورثة جنة النعيم.
اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا هداة مهديين، اللهم نطق ألسنتنا بذكرك، واملأ قلوبنا بحبك، وسخر جوارحنا لطاعتك، واستخدمنا لنصرة دينك، واجعلنا ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين يا رب العالمين!
اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، وخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، اللهم وفقنا لطاعتك ومرضاتك برحمتك وقوتك يا رب العالمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء!
اللهم إنا نسألك رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وفك أسرهم، وزد أمنهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين.
اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء!
اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداًًً، ورد كيدهم في نحرهم، وأشغلهم في أنفسهم، وخالف كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، اقذف الرعب في قلوبهم، وزلزل الأرض تحت أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم اشف فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم لا تبلغ لهم غاية، ولا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء!
اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم ثبت أقدامهم، ووحد كلمتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وأعل رايتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين!
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر