إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد فى الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء، وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك ومولاه.
أحبتي في الله: "في رحاب الدار الآخرة" سلسلة علمية تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، الهدف منها تذكير الناس بالآخرة في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، وانصرف كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسماوات، ليتداركوا ما قد فات قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون (
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس:50].
ونحن اليوم على موعد مع اللقاء السابع عشر من لقاءات هذه السلسلة العلمية الكريمة، وكنا قد توقفنا في اللقاءات الأربعة الماضية مع مشهد الحساب، وتعرفنا على أهم قواعد العدل التي يحاسب الله بها عباده يوم القيامة، وعلى أول من يقضي الله بينهم، وأول ما يحاسب عليه العبد من حقوق الله، وأول ما يحاسب عليه العبد من حقوق العباد.
موقف عصيب ومشهد رهيب، فالبشرية كلها تقف على بساط العدل بذل وانكسار للحساب بين يدي الواحد القهار، منهم من أخذ كتابه بيمينه وحاسبه الله حساباً يسيراً، ومنهم من أخذ كتابه بشماله وحاسبه الله حساباً عسيراً، ومنهم من ينطلق مباشرة إلى الجنة بلا حساب ولا عذاب، اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
أقول: تقف البشرية كلها على بساط العدل بذل وانكسار للحساب بين يدي الواحد القهار، منهم من أخذ كتابه بيمينه وحاسبه الله حساباً يسيراً، ومنهم من أخذ كتابه بشماله وحاسبه الله حساباً عسيراً، ومنهم من ينطلق مباشرة إلى الجنة بغير حساب ولا عذاب، فمن هؤلاء السعداء؟
والجواب: هو موضوع لقاؤنا اليوم مع حضراتكم بإذن الله جل وعلا، فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يجعلنا منهم بمنه وكرمه، إنه على كل شيء قدير.
من هم الداخلون الجنة بغير حساب
رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته وسؤاله لهم الدرجات العالية
إنهم قوم حققوا التوحيد لله وتركوا الشرك كله دقه وجله، وأنزلوا حوائجهم كلها بالله سبحانه، ولم ينزلوها بأحد من خلقه مهما كان، فهم لا يتطيرون -أي: لا يتشاءمون- فلقد كان من عادة العرب في الجاهلية أن يأخذ أحدهم طيراً فيطيره فإن طار الطائر يميناً استبشر هذا الرجل بسفره وقال: إذاً نسافر، فإن طار الطائر يساراً تشاءم الرجل وقال: إذاً لا أخرج من بيتي ولا أسافر، فجاء الإسلام ليقضي على هذه الطيرة وعلى هذا التشاؤم، وليعلم الناس أن الضار النافع هو الله وأن الأمور كلها بيد الله سبحانه وتعالى، فهم لا يتشاءمون بمكان ولا بزمان؛ لأنهم يعلمون أن خالق الزمان والمكان هو الله، وأن الذي يدبر أمر الزمان والمكان هو الله، قال تعالى: (
قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [آل عمران:154]، فلا يدبر الأمر نبي، ولا يدبر الأمور ولي، ولا يدبر الأمور إلا الملك العلي كما في حديث
ابن عباس: (
يا غلام! إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) .
يا صاحب الهم إن الهم منفرج أبشر بخير فإن الفارج الله
وإن بليت فثق بالله وارض به إن الذي يكشف البلوى هو الله
الله يحدث بعد العسر ميسرة لا تجزعن فإن الصانع الله
والله ما لك غير الله من أحد فحسبك الله في كل لك الله
وقوله: (ولا يكتوون ولا يسترقون)، أي: لا يطلبون الكي ولا الرقية من أحد.
قبول الرقية لا يمنع وصف (لا يسترقون)
أخي! انظر إلى عظيم التوكل، فإن الأمر ليس بالأمر الهين، فهم لا يطلبون الكي والرقية من أحد، ولا مانع إن تقدم أحد لرقيتهم أن يقبلوا منه، لكنهم لا يطلبون من أحد، فلم ينزلوا حوائجهم في باب أحد أو عند باب أحد من الخلق، ولم ينزلوا حوائجهم إلا على باب الحق سبحانه وتعالى، فقلوبهم متعلقة بالله، والذي حملهم على هذا كله تمام توكلهم على الله، وكمال تفويضهم الأمر إلى الله، وعظيم اعتقادهم أن الضر والنفع بيد الله، وأن الأمور كلها بيد الله، شعار أحدهم:
اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، وأبرأ من الأمل إلا فيك، وأبرأ من التسليم إلا لك، وأبرأ من التفويض إلا إليك، وأبرأ من التوكل إلا عليك، وأبرأ من الصبر إلا على بابك، وأبرأ من الذل إلا في طاعتك، وأبرأ من الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين.
حقيقة التوكل
(وعلى ربهم يتوكلون) والتوكل الحقيقي هو صدق اعتماد القلب على الله، وهو جماع الإيمان، ونهاية تحقيق التوحيد.
- التوكل هو جماع الإيمان، ونهاية تحقيق التوحيد، والأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل ولا يقدح فيه، ومن ظن أن الأخذ بالأسباب قدح في التوكل، ففهمه فهم مغلوط، فالأخذ بالأسباب لا يقدح في التوكل ولا يؤثر فيه.
قال
الشاطبي : إن الدخول في الأسباب أمر واجب شرعاً.
قال
ابن القيم : لا يتم التوحيد إلا بمباشرة الأسباب، والأخذ بالأسباب لا يقدح في التوكل.
قال جمهور السلف: يحصل التوكل إذا وثق العبد بربه وعلم أن الأمور كلها بيده، ثم أخذ بالسنة فباشر الأسباب، مع اعتقاده أن الأسباب وحدها لا تضر ولا تنفع إلا بأمر مسبب الأسباب جل جلاله.
إذاً: التوكل الحقيقي يا طالب العلم أن تذاكر وأن تجتهد، وأن تسهر الليل وأن تخلص العمل، وأن تعتمد بقلبك على توفيق الله سبحانه.
- التوكل الحقيقي في مواجهة اليهود الخبثاء المجرمين الذين يسومون الأمة الآن سوء العذاب، هو أن تأخذ الأمة بالأسباب فتعد القوة على قدر استطاعتها، وتتعلق بالله سبحانه، ولتعلم الأمة يقيناً بعد ذلك أن النصر من عند الله.
- التوكل الحقيقي هو ألا تترك الأمة العراق ليبتر من جسدها، وليتحكم شرطي العالم الوقح أمريكا في بلاد المسلمين كيفما يشاء.
- التوكل الحقيقي هو أن تقف الأمة كلها على قلب رجل واحد لتقول بأن بغداد عاصمة الخلافة لسنوات مضت إنما هو عضو لا ينفصم عن جسد الأمة، ومحال أن يعيش الإنسان بدون عضو حقيقي في جسده، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (
مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
- التوكل الحقيقي هو أن نأخذ بالأسباب وأن نعتمد على مسبب الأسباب، وأن نكون على يقين بأن الأسباب وحدها لا تضر ولا تنفع إلا بأمر الله جل وعلا.
هذا التوكل أمر الله به سيد المتوكلين محمداً صلى الله عليه وسلم فقال تعالى:
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ [الفرقان:58].
إبراهيم ومحمد عليهما السلام
موقف هاجر أم إسماعيل في التوكل
ومن أجل وأسمى مقامات التوكل: ما كان من أمر
هاجر عليها السلام، فأم إسماعيل وقد خرجت من مصر، واسمحوا لي أن أقول: إن التوكل كله ما خرج إلا من مصر، وأسأل الله أن يرد التوكل الحقيقي مرة أخرى إلى مصر، وأن يحفظ مصر وأن يجعلها واحة أمن وأمان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
جاء في صحيح
البخاري من حديث
ابن عباس ، لما أخذ إبراهيم
هاجر مع ولدها إسماعيل ووضعها عند دوحة فوق زمزم، ولم يبن البيت بعد، وكانت صحراء مقفرة، وكل من سافر إلى الحج والعمرة يعرف طبيعة هذه الأرض، فهي صحراء جرداء، ورمال ملتهبة، تعكس أشعة الشمس عليها فتكاد الأشعة المنعكسة أن تخطف الأبصار، ففي هذه الصحراء المقفرة يضع إبراهيم عليه السلام
هاجر ورضيعها ويضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاءً فيه ماء وينصرف، فتنظر
هاجر ، فلا ترى إنساً بل ولا أُنساً.. لا ترى إنسياً ولا جنياً.. لا ترى شيئاً على الإطلاق.. فلا ترى بيتاً.. ولا ترى شيئاً!
ولك أن تتصور هذا المشهد الذي يكاد يخلع القلب.. لو رأيت نفسك في صحراء لا ترى فيها شيئاً ولا تعرف فيها طريقاً ولا إنساً ولا أُنساً، ولا تملك ماءً ولا طعاماً ولا شراباً، كيف يكون حالك؟
ولما همَّ إبراهيم بالانصراف تعلقت به
هاجر عليها السلام وقالت: يا إبراهيم! إلى من تتركنا في هذا المكان الذي لا إنس فيه ولا شيء؟ فسكت إبراهيم عليه السلام، وتعلقت به فأشار برأسه إلى السماء، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا. أي: ما دام الملك هو الذي أمر فانصرف، والله يسمع، ويرى، فهو يسمعنا ويرانا، إذاً: لا يضيعنا!
فانصرف إبراهيم عليه السلام وجلست
هاجر ، فنفد الطعام والشراب، ولكنها تحمل في قلبها توكلاً على الله جل وعلا لا تقوى الجبال على حمله، بل والله يعجز عن حمله الرجال.. إنه اليقين.. إنه التوكل.. إنه صدق الثقة بالله.. إنه صدق اللجوء إلى الله جل جلاله، فأتاها جبريل وقال: من أنت؟ قالت: أنا أم ولد إبراهيم، فقال جبريل: إلى من وكلكما -إلى من ترككما- في هذا المكان؟ فقالت
هاجر: إلى الله، فقال جبريل: وكلكما إلى كافل، قال تعالى:
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، وقال تعالى:
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] فمن توكل عليه كفاه، ومن اعتصم به نجَّاه، ومن فوض إليه أموره هداه، قال جل في علاه:
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].
موقف أم موسى في التوكل
ومن أسمى المواقف في التوكل على الله: موقف أم موسى، فهذه مواقف نساء يعلمن الرجال!
هل تظنون يا إخوة أن أماً تخشى على ولدها فتلقيه في البحر؟
إن الأم إن خافت على ولدها ألصقته بصدرها وأرضعته، وأضفت عليه من حنانها وشفقتها ورحمتها ما تعلمون، ولكن أم موسى يأمرها الله إن خافت عليه أن تلقيه في اليم، قال الله:
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7].
فرعون اللعين يذبح الأطفال ويستحيي النساء ويقتل الرجال، بل ورفع الطوارئ إلى الدرجة القصوى، فإنه يبحث عن غلام من بني إسرائيل ينشأ فيهم يكون هلاك
فرعون على يديه، فيبحث عن كل طفل ذكر ليقتله في التو واللحظة.
كم من الآلاف قتلهم
فرعون من الرجال بل ومن الأطفال! ولكن الملك جل جلاله قد أذن سبحانه وتعالى بأن موسى لن يترعرع ولن يتربى إلا في حجر
فرعون وفي قصره.
أيها الأحبة! تعلموا هذا الدرس لتعلموا أن الملك كله بيد الملك، يعز من يشاء ويذل من يشاء، فالأمور كلها بيد الله، الأمة الآن تضع الخطط السنوية والخمسية ولا تضع ضمن خطة واحدة أبداً عظمة وقوة رب البرية .. أمة غافلة عن عظمة الله وجلاله.. أمة لا تعرف قدر الله إلا من رحم ربك من أفرادها!!
الله سبحانه وتعالى يأذن ويقدر ألا يربي موسى إلا
فرعون فسبحان الله!
تضع أم موسى موسى في التابوت، ويتهادى التابوت بحفظ الله إلى أن يصل إلى قصر
فرعون، وبستار رقيق جداً يحمي الله نبيه موسى، لا بالجنود ولا بالطائرات ولا بالدبابات، بل بستار رقيق جداً قد لا يتصوره البعض، ألا وهو أن الله قد ألقى في قلب امرأة
فرعون حب موسى، فتشبثت به، وقالت: قرة عين لي ولك، فأذعن
فرعون لامرأته وهو الذي يذبح كل طفل، ولكن الله قد ألقى المحبة لموسى في قلب امرأته لتتولى هي و
فرعون تربية هذا الطفل الكريم المبارك، بل لم يقف الفضل عند هذا الحد كثمرة من ثمرات توكل أم موسى، بل أذن الله ألا يقبل موسى ثدي امرأة أبداً، لأن الله قد وعد أم موسى لثقتها في ربها ولعظيم توكلها عليه أن يرده إليها، فأبى موسى أن يلتقم ثدي امرأة أخرى إلى أن جاءت أمه عليها السلام فالتقم موسى ثديها، وكانت ترضعه قبل أيام على خوف من
فرعون وملئه، وهي الآن ترضعه في قصر فرعون بأمره، فتدبر!
ترضعه الآن في قصر فرعون بأمر
فرعون :
إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7] والهدية إن جاءت من الملك تأتي مضمخة بطيبه وفضله وجلاله، فلم يرد ربنا موسى إلى أمه، بل شرفه بالنبوة:
إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7] .
أيها الأحبة! إنه موقف يحتاج منا إلى وقفات لنتعلم ولنتذوق حلاوة التوكل على رب الأرض والسماوات، أسأل الله أن يملأ قلوبنا بالتوكل عليه والثقة فيه، إنه ولي ذلك ومولاه.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
موقف الصديق رضي الله عنه في التوكل
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد.
فيا أيها الأحبة الكرام: لو تجولنا في بستان المتوكلين ربما قضينا العمر كله، وما استطعنا أن نقف أمام كل زهراته ووروده ورياحينه لنستنشق عبيرها ولنستمتع بأريجها وعطرها، فإن هؤلاء الأطهار هم عمر الزمن ونبض الحياة، ومن المحال أن نحسب أنفاس الزمن أو أن نقدر نبض الحياة، فلقد أنجبت الأمة الميمونة المرحومة أمة الحبيب المصطفى محمد؛ أنجبت على طول تاريخها رجالاً من المتوكلين، لو وقفنا أمام سيرهم العمر كله لانقضت الأعمار وانقضت الآجال وما انتهينا من التطواف والتجوال في هذا البستان العظيم.
فهذا هو صاحب ذروة سنام الصديقية في هذه الأمة،
أبو بكر ، الذي يقول
ابن القيم:
هذا هو
أبو بكر الصديق الذي عاين طائر الفاقة يحوم حول حب الإيثار، فألقى له الصديق حب الحب على روض الرضا، واستلقى الصديق على فراش الفقر آمناً مطمئناً، فرفع الطائر الحب إلى حوصلة المضاعفة، ثم تركه هنالك وعلا على أفنان شجرة الصدق ليغرد
للصديق بأغلى وأعلا فنون المدح، وهو يتلو في حقه قول ربه:
وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى [الليل:17].
أبو بكر الذي أمر النبي أصحابه بالإنفاق فجاء بكل ماله. وهذا أمر عظيم من منا يقدر عليه الآن، بل من منا يقدر الآن على ربعه، بل من منا الآن يقدر على أن يتخلص من جزء كبير من ماله لله؟!
وهذا
عمر رضوان الله عليه جاء بنصف ماله، لكن
الصديق جاء بكل ماله، فقال له المصطفى: (
ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله)، توكل ورب الكعبة لا يستطيع بليغ أن يجسده لحضراتكم الآن.
وهذا
عمر كما روى
ابن أبي الدنيا بسند صحيح -يرى أناساً من اليمن، فيقول: من أنتم؟ فقالوا: نحن المتوكلون، قال: بل أنتم المتواكلون، إن المتوكل من ألقى الحب وتوكل على الله.
أيها الأحبة الكرام: لا أريد أن أزيد على الساعة ففيها الكفاية، وأسأل الله أن ينفعني وأن ينفعكم بها، وأن يتقبل منا ومنكم جميعاً صالح الأعمال.
اللهم ارزقنا التوكل عليك، اللهم ارزقنا التوكل عليك، اللهم ارزقنا الثقة فيك، اللهم ارزقنا الثقة فيك، اللهم ارزقنا الثقة فيك.
اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم كن لنا ولا تكن علينا، اللهم كن لنا ولا تكن علينا!
اللهم احقن دماء المسلمين في العراق وفي أفغانستان وفي السودان وفي فلسطين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم عليك باليهود وأعوانهم، اللهم عليك باليهود وأعوانهم، اللهم عليك باليهود وأعوانهم.
اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم لا تحرم مصر من الأمن والأمان.
اللهم لا تحرم مصر من نعمة الأمن والأمان، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وسائر بلاد المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم لا تجعل لأحد منا في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً بيننا إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا طائعاً معنا إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً.
اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى!
اللهم استر نساءنا، اللهم استر نساءنا، واحفظ بناتنا، وأصلح شبابنا، واهد أولادنا واجعلهم قرة عين لنا يا رب العالمين.
اللهم رب أولادنا في ظلال القرآن، اللهم رب أولادنا في ظلال القرآن، اللهم رب أولادنا في ظلال القرآن، اللهم اقبلنا وتقبل منا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم!
أحبتي في الله؛ هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه!