فورد في الأحاديث الجياد المختارة، والحديث إسناده حسن، عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوه ).
هل طبق هذا أبي؟
كان أبي -كما في المسند- في مجلس، فبدأ بعض الناس يفتخر بالأحساب والأنساب ويشيد بقدره، فقال له أبي : اعضض أير أبيك. وفي المجلس أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام. فقالوا: يا أبا المنذر ! ما كنت فحاشاً. أي: هذه الكلمة أنت تتكلم بها وأنت إمام القراء؟! فقال: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( من تعزى بعزاء الجاهلية )، جاء بنغمة الجاهلية يريد أن يحيها في الإسلام ( فأعضوه بهن أبيه )، والهن هو العضو.. ( ولا تكنوه )، ليس هناك داعٍ للكناية، قل له باللفظ الصريح: أعضض كذا، ولا داعي للكناية. لماذا؟ لأن هذا لفظ جاهلي لابد من إزالته بهذا المظهر القوي لئلا يعود، وليستحي هو من نفسه بعد ذلك.
والأثر رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: ( من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه وأمصوه )، قل له: أعضض وامصص متاع أبيك ومتاع أمك، واكفنا من شر الجاهلية ومن خصالها، ولا تجلس بين المسلمين ولا زلت وثنياً جاهلياً. لا إله إلا الله!
هؤلاء الصحابة الكرام طهروا أنفسهم بهذا المطهر ولعل بعض الدعاة في هذه الأيام ذهنه ممتلئ بمثل هذه الأمور، ولا زال يحمل أفكار الجاهلية والوطنية والقومية وما شاكل هذا، وكل إنسان يجلس يمجد في نفسه وفي دولته، وكأن ذلك المسلمين الذين هم في بلاد أخرى قطيع من الغنم، أو لعلهم فوج من الحمير. سبحان ربي العظيم!
هذا لا يوجد في شريعة الله المطهرة، فلابد من الحذر من خصال الجاهلية، والعرب كم كان عندهم من التفاخر بالأحساب والأنساب قبل مجيء الإسلام؟ كل هذا قضي عليه عندما جاء الإسلام، وصار الناس ينتسبون إلى الإسلام ولا يتمايزون فيما بينهم إلا بالتقوى، ولا يتفاضلون إلا بالعلم النافع والعمل الصالح، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يوجههم صباح مساء بهذا الأمر؛ لئلا يعودوا إلى شيء من خصال الجاهلية.
وبالنسبة لسؤال الصحابة الكرام أنا أجزم جزماً دون تردد وإن لم أقف على ذلك في كتاب أن الصحابة رضوان الله عليهم ما سألوا هذا السؤال استبعاداً لهذا التوجيه، وأننا كيف ننفذه، لا، إنما كأن الله جل وعلا ألهم بعضهم أن يسأل هذا السؤال ليعتبر من بعدهم، وأما هم فهم أطوع لله من أن ينظروا إلى اعتبارات الجاهلية بعد أن دخلوا في الإسلام، لكن هذا إيحاء من الله لبعض الصحابة، كأنهم يقولون: نحن نستجيب، لكن الحكم ينبغي أن يعلم، لو قلت: ( إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ) ، ووقف الأمر عند هذا الحد، يعني قد يأتي المتأخرون يقولون: فزوجوه إذا اكتملت فيه الشروط الأخرى من نسب وغنى وجمال وما شاكل هذا، وكنا نرغب فيه وصاحب دين نزوجه، وإلا يعني بقي بالأمر لنا خيار، فالله أوحى إلى بعض هؤلاء الصحابة وألهمه وألقى في روعه أن يسأل: وإن كان فيه اعتبار لا يرغب عند أهل الدنيا فماذا نفعل؟ قال: زوجوه، وأعادوا فهذا غريب ومستغرب بين الناس, يعني هذا هو حكم فصل أم أن في الأمر فيه سعة، فقال للتأكيد في الثالثة: ( فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) ، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يمتثلون هذا، ويطبقونه غاية التطبيق رضوان الله عليهم أجمعين.
سبحان ربي العظيم! هالة أخت عبد الرحمن يتزوجها بلال ؟! طيب وأي غرابة في ذلك؟! إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، أي غرابة في ذلك؟ وعبد الرحمن بن عوف يفتخر عندما زوج أخته هالة لمن يسمع قرع نعله في الجنة.
هل في ذلك منقصة إذا كانت البشرة سوداء والقلب أضوء من القمر وأشرق من الشمس؟ ماذا يضر؟ والقرب هو قرب القلوب وتقاربها, فتقارب بعد ذلك البشر وألوانها هذا لا قيمة له ولا وزن ولا اعتبار، إنما هذه على مشربه وهو على مشربها، وكل منهما يحب الآخر في الله فماذا جرى؟
هالة أخت عبد الرحمن بن عوف يتزوجها بلال الحبشي رضي الله عنه وأرضاه، ولما ذهب بلال مع أبي رويحة وكل منهما كان مولى عند نبينا عليه الصلاة والسلام، ذهبا إلى أهل الشام، فدخلا على أسرة عندما كان أهل الشام كراماً، وفي الحديث: ( إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم ) دخلا على أسرة فقال بلال : أنا مولى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهكذا أبو رويحة ، فإن زوجتمونا حمدنا الله، جئنا خاطبين، وإن رددتمونا فلا حول ولا قوة إلا بالله، ماذا تفعلون؟ فقال أهل ذلك البيت أسرة كريمة: والله لا تبرحا مكانكما حتى نزوجكما، أنت بلال وترد؟! لا إله إلا الله، انظر لهذه المعاني عند السلف الكرام.
في يوم من الأيام قال النبي عليه الصلاة والسلام لـجليبيب: ( ألا تتزوج؟ قال: بلى أتزوج لكن من يزوجني؟ قال: اذهب إلى أسرة كذا من الأنصار، وقل لهم: إن النبي عليه الصلاة والسلام يأمركم أن تزوجوني فتاتكم)، فذهب جليبيب وطرق الباب وخرج صاحب البيت الصحابي المبارك فعرض عليه الأمر، وأن النبي عليه الصلاة والسلام يطلب أن تزوجوني ابنتكم، فقال: يعني تفضل وأستشير الأم، يعني نتداول الأمر ونخبرك، فكلم الزوج زوجته وقال: إن النبي عليه الصلاة والسلام يخطب ابنتنا، وقالت: أنعم بذلك وكرامة عين، يعني غنيمة لنا، كون النبي عليه الصلاة والسلام يتزوج منا، قال: لا يريدها لنفسه، يريدها لـجليبيب، قالت: لـجليبيب؟ يعني هذا العبد الأسود خطبها فلان وفلان وفلان فما أعطينها، فبعد ذلك جليبيب, يعني ولا زالت البنت في أول أمرها. تقول: يعني نحن نكلم رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لعله يعرض علينا غيره، ومن هو أحسن صورة منه، فقال له هذا الأمر، وأننا نحن نتفاهم مع رسول الله عليه الصلاة والسلام في هذه القضية، فخرج الرجل، فالبنت سمعت الكلام فقالت لأبويها: ما الذي حصل؟ قال: جاء جليبيب من قبل النبي عليه الصلاة والسلام وطلبك له وأمك تقول: نحن نبحث الأمر مع النبي عليه الصلاة والسلام. يعني كيف نزوجها لهذا الإنسان؟! قالت: أتردون على رسول عليه الصلاة والسلام أمره؟ النبي عليه الصلاة والسلام اختاره لي، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم عليه صلوات الله وسلامه في الحب والنصرة والطاعة، يقدم على كل شيء، ولا يؤمن الإنسان حتى يقدم حب النبي عليه الصلاة والسلام على نفسه حباً عن ما عداها من والديه وولده والناس أجمعين، كيف نرد على النبي عليه الصلاة والسلام أمره؟
فرضيت البنت فاستدعي جليبيب قبل أن يصل إلى النبي عليه الصلاة والسلام وزوجوه، فدخل بزوجه، ثم لما بعد ذلك حصل المسير في سبيل الله، ودعا داعي الجهاد فخرج، ثم قدر الله أن يستشهد في تلك الموقعة، فبعد أن انتهت قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( من تفقدون؟ قالوا: نفقد فلاناً وفلاناً، قال: ومن تفقدون؟ فلاناً وفلاناً، قال: ومن تفقدون؟ قال: ما بقي أحد، قال: لكني أفقد
يقول الراوي أنس وأبو برزة رضي الله عنهم أجمعين: فكانت هذه المرأة أنفق أيم في المدنية. يعني: بعد موت زوجها جليبيب يسر الله عليها الزواج، وتزوجت وما بقيت بعد ذلك أرملة، كانت أنفق أيم، أي: تزوجت بسرعة ببركة طاعتها لنبيها عليه الصلاة والسلام. هذا حال الإيمان.
إذاً: خصال الجاهلية ينبغي أن نحذرها، فهذه الفتاة تقول لأبويها: تردون على النبي عليه الصلاة والسلام أمره؟ جليبيب أسود وإذا كان أسود ماذا جرى فهو مؤمن صالح أتزوجه، والحمد لله على ما قدره واختاره الله لي.
ومثل هذا إخوتي الكرام كان يقع بكثرة، وهذا لو وضع في ميزان الجاهلية قبل بعثة خير البرية عليه الصلاة والسلام لكان من أشنع الشناعات، وأكبر الكبائر، عبد أسود جليبيب دميم الخلقة يتزوج بعد ذلك امرأة عربية حسيبة نسيبة أنصارية، يعني هذا في الحقيقة لا يستقيم في موازين الناس قبل الإسلام، ولا يمكن أن يقع، وممكن أن تراق دماء بحيث يسيل منها السيول، ولا يتم هذا الزواج.
والأولى أن يقولوا كيف زوجته وهو لا يتقي الله، وإن كان عنده رتبة بعد ذلك دنيوية كبيرة؟! كيف زوجت من يشرب الخمر؟ كيف تقيم هذه الحفلة المنكرة؟ كل هذا لا يبحث ولا يذكر ولا وجود له، إنما فقط نسبه.. هذه أحوالنا في هذه الأيام، وانظروا الفرق فيها مع أحوال الصحابة الكرام.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر