وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة الأعراف المكية والتي تعالج العقيدة الإسلامية، ومع هذا الآيات فلنصغ مستمعين إلى تلاوتها متأملين متدبرين ثم نأخذ في دراستها، والله نسأل أن يفتح علينا وينفعنا بما نقول ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ * قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ * وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ [الأعراف:142-145].
ولطيفة أخرى، وكررنا هذا ولكن:
لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي.
لقد استقل بنو إسرائيل وتحرروا من المستعمرين الجبابرة فرعون وملئه واستقلوا خارج الديار المصرية، فاحتاجوا إلى دستور يحكمون به ويساسون، وقد كانوا مستعمرين مستعبدين، هنا قال موسى لقومه: اجلسوا هنا حتى آتي ربي وآتيكم بدستور أحكم به.
حدثني شيخ كبير السن أيام تعلم القرآن في الكتاب، قال: يقولون: إن ابن سعود قطع أصبع رجل خطف بأصبعه كيساً فيه نقود، فاعترف فقطع أصبعه الذي مس به الذهب أو الدراهم.
الشاهد عندنا: أن كل العالم عرف أن دولة الإسلام وجدت وأن الشريعة تطبق والأمة مستعمرة، إذاً: كان الواجب الحتمي المفروض الإلهي الرباني أنه أيما إقليم يستقل من بريطانيا أو فرنسا أو إيطاليا أو بلجيكا أو هولندا يأتي رجاله أهل الحل والعقد إلى السلطان عبد العزيز ويقولون: لقد استقل هذا القطر، والعالم الإسلامي بلد واحد في حكم الله وقضائه، دولة واحدة، والتقسيم حرام، ويقولون: ابعث لنا قضاة ورجال علم يطبقون الشريعة عندنا، فيبعث ما شاء الله أن يبعث من قضاة ويبعث رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأهل البلاد يقومون بهذا، وتصبح تلك البقعة تابعة للحكومة، تابعة لخلافة المسلمين، وتطبق فيها شريعة الله، ثم يستقل الإقليم الثاني بعد عام بعد عامين؛ لأنهم استقلوا متفرقين، كل إقليم يستقل فيأتي يقول ذلك، وتتم الاستقلالات والأمة الإسلامية أمة واحدة دولتهم واحدة، ولا تسأل عما يتم من الخير والفضل والهدى والكمال، لكن أن يستقل فيذهب إلى بريطانيا أو فرنسا يأتي بالدستور والقانون فذلك هو الضلال، فموسى ذهب يأتي بالدستور من عند من؟ من عند الله عز وجل؛ ليحكم به بنو إسرائيل؛ حتى يسودهم الأمن والطهر وتصفو أرواحهم وتزكو نفوسهم.
قال: فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ [الأعراف:142]، والميقات: الموعد والمواعدة، أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف:142]، هي الشهر الأول، ثم لما استاك وأزال رائحة فمه أمر أن يكمل بعشرة أيام حتى تعود الرائحة كما كانت غير محمودة، لكن الله تلك الرائحة أحب إليه من ريح المسك، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك )، فكان الإمام أحمد رحمه الله يقول لتلاميذه: إذا أذن الظهر وتوضأتم فلا تستاكوا بعد الظهر؛ لتبقى الرائحة إلى الليل.
اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ [الأعراف:142]، أنت خليفتي في قومي أصلح ما يفسده المفسدون، أصلح ولا تفسد، والأمة في حاجة دائماً إلى الإصلاح.
وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142]، إذا ظهر فاسد أو مفسد في القوم فلا تتبع باطلهم، ومع الأسف تم هذا؛ إذ عبدوا العجل السامري لعنه الله، قال لنساء بني إسرائيل: اجمعن الحلي الذي كان عندكن وأخذتنه من نساء الأقباط، وهذا لا يحل لكم. فأذابه وصنع منه عجلاً من ذهب، وقال: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88]، لما ذهب موسى إلى ربه فعل هذا الطاغية هذه الفعلة القبيحة.
وهنا: وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142]، واعتذر هارون كما في سورة طه، فالقصة مفصلة هناك.
لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143]، لماذا؟ أتدرون لم؟ لأن بصرنا ضعيف ما يقوى، بدليل: أن الأشياء إذا دقت أو بعدت ما نراها، هذه اللحمة هذه القطعة كاللسان ينطق بحدود، صوتنا محدود أم لا؟ هل تستطيع أن تسمع إلى أمريكا بصوتك؟ مستحيل، ولا عشرة كيلو ولا خمسة كيلو، بصرك كذلك تنظر إلى أجل محدود، سمعك تسمع مدى محدوداً، قدرتك البدنية تحمل على قدر ما تطيق، فبصرنا ضعيف ما يستطيع أن يرى الله، وأوضح من هذا أن الملائكة عليهم السلام يحفون بنا، فهل شاهدتموهم؟ والله! ليحفون بالحلقة، وما نراهم، لم؟ لضعف قوتنا، لو أعطانا الله أبصاراً أخرى كأبصار أهل الجنة لرأينا الله والملائكة.
قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف:143]؛ لتتأكد من ضعفك وعجزك وأنك لا تستطيع أن تراني انظر إلى الجبل أمامك، فإذا رأيته استقر وثبت وبقي كما هو فسوف تراني، عملية واقعية بالتجربة.
إذاً: قال صلى الله عليه وسلم: ( فأكون أول من يفيق، فإذا بأخي موسى آخذاً بقوائم العرش، فلا أدري أأفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور )، حديث البخاري ، فهو أول من يفيق، فهذه الصعقة كالتدريب، البشرية واقفة، وبنفخة كلهم يصعقون، وبالنفخة الثانية يقومون.
إذاً: من كلم من الرسل؟ اثنان: أحدهما: في الأرض. والثاني: في السماء، موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم.
قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ [الأعراف:143]، وهذا معناه أن كل من يشعر بأنه أساء الأدب مع ربه عليه أن يفزع إلى هذه الكلمة، قد تتحدث مرة فتدعو الله وتسيء فتتلافى ذلك وتقول: سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143]، لأنه شعر بأنه ما من حقه أن يسأل رؤية الله عز وجل.
وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف:144]، الذين يشكرون الله على نعمه قلت أو صغرت، كبرت أو كثرت دائماً، تنظر إلى نفسك فبصرك مفتوح تبصر به وهو نعمة، فتقول: الحمد لله الذي حفظ علي بصري، تمر برجل يمشي على رجل واحدة: الحمد لله الذي حفظ علي رجلي، وهذا الله عز وجل يقول لموسى: وَكُنْ [الأعراف:144]، على سبيل الوجوب، مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف:144] على الآلاء والإنعام الإلهي.
الدستور موجود، تنظيم سياسي عجيب في كل شئون الحياة، والله! ما تصل إليه أمريكا ولا بريطانيا، من تكوين الحكومة وإمام المسلمين ومن معه إلى المقابر، وكيف تكون؟ في المال، في الاقتصاد، في الجيش، في التعليم للبنات، للرجال، للصناعة، للمشاركة، للاتصالات مع الدول، في السفارات وما إلى ذلك، أمر عجب، ومات، فما هناك طالب علم قال: ينبغي أن يطبق هذا الدستور أبداً، فلا عجب أن تكون الدولة السعودية قد قامت أقامها الله، ولاحت أنوار الهداية فيها، ودويلات تستقل من بريطانيا، من فرنسا، فما تأتي دولة وتقول: أعطنا قضاة يا إمام، علمنا كيف نطبق الشريعة؛ لأننا مسلمون، هل حصل هذا في بلد؟ والله ما كان، والذي كان هو الطعن والنقد والسخرية، وبآذاننا سمعنا هذا، أمة هابطة.
والبرهنة السهلة: هذا الدستور الإسلامي بعثناه لهم، قدمناه، فماذا أقول؟!
فإذا كانوا راضين بواقعهم فوالله! لتنزلن بهم العقوبة؟ فالله بالمرصاد.
يا شيخ! كيف يعاقبهم الله؟ الجواب: أما عاقب آباءهم وأجدادهم فسلط عليهم الكفار؟ وتقول: كيف؟ والآن هم أفجر من الأولين وأعلم وأعرف بالدنيا والحياة وهم مصرون على إبعاد القرآن وشرائع الإسلام من بلادهم.
إذاً: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ [الأعراف:145]، ورقات الدستور، في اللوح تكتب لا في ورق، وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [الأعراف:145].
ما زلت أقول وليغضب من شاء أن يغضب: الدستور الإسلامي الموضوع موجود، وأيما مؤمن يريده تصور له نسخة ويعطاها، وبلغوها، وكتبنا خلاصة له وقلنا للجرائد: انشروا هذه حتى يسمعها العالم الإسلامي، فخافوا وأبوا أن ينشروها، فماذا نصنع؟
إذاً: النجاة النجاة. ليطلب كل واحد منا النجاة من النار، اطلب النجاة لنفسك، وحد ربك واعبده في الليل والنهار ولا تبال.
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [الأعراف:145]، في شئون الدولة والحكم، ألم يكونوا أمة استقلت؟
فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا [الأعراف:145]، مر قومك بما هو أقوى، ما يأخذون فضائل الأعمال، بل يأخذون بأحسنها وأقواها، أي: بالواجبات.
سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ [الأعراف:145]، لا إله إلا الله! لا إله إلا الله! سَأُرِيكُمْ [الأعراف:145]، رؤية عينية، دَارَ الْفَاسِقِينَ [الأعراف:145]، وما حل بها، وما ينزل بها وبساحتها، وفي هذا معنيان جليلان:
الأول: إن فسق قومك وما طبقوا هذا القانون فسوف نهلكهم ونسلط عليهم عدوهم؛ لأنهم فسقوا، فليحذروا أن يفسقوا عن هذه التعاليم ويخرجوا عنها، كما سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ [الأعراف:145] العملاقة حيث سينصر الله بني إسرائيل وتقوم دولتهم في فلسطين بعد أربعين سنة، سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ [الأعراف:145]، من هم الفاسقون هؤلاء؟ الذين استباحوا ما حرم الله، وأهملوا وتركوا ما أوجب الله وأعرضوا عن ذكر الله بيضاً كانوا أو سوداً، بني إسرائيل أو عرباً أو غير ذلك، سَأُرِيكُمْ [الأعراف:145]، هذه السين للاستقبال، دَارَ الْفَاسِقِينَ [الأعراف:145].
أما قال تعالى: فَخُذْهَا [الأعراف:145]، أي: هذه الألواح بما فيها، بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا [الأعراف:145]، لا تطبقها أنت على نفسك وأسرتك والآخرون يغنون، سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ [الأعراف:145]، سَأُرِيكُمْ [الأعراف:145] مستقبلاً دار من فسق عن أمرنا وخرج عن طاعتنا وما ينزل به من البلاء وما يحل بساحته من الشقاء والدمار.
فهذا -والله- كلام واضح، كان إخواننا يقرءونه على الموتى، لكن الآن نحن نقرؤه ونحن أحياء، فالحمد لله، وإليكم أيضاً الشرح في الكتاب.
[ معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر أحداث موسى مع بني إسرائيل، إنه لما نجى الله تعالى بني إسرائيل من فرعون وملئه، وحدثت حادثة طلب بني إسرائيل من موسى أن يجعل لهم إلهاً كما للمشركين إله، وقد أنبهم موسى وأدبهم على قولهم الباطل؛ واعد الله تعالى موسى أن يناجيه بجبل الطور، وجعل له الموعد الذي يلقاه فيه شهراً ثلاثين يوماً، وكانت شهر القعدة وزادها عشراً من أول الحجة، فتم الميقات أربعين ليلة، وعند خروجه عليه السلام استخلف في بني إسرائيل أخاه هارون وأوصاه بالإصلاح، ونهاه عن اتباع آراء المفسدين ]، وعندنا المفسدون الآن في العالم بأسره، الأقلام التي تكتب وتحسن الباطل والمنكر وتقبح الحسن، هؤلاء مفسدون لا يخلو منهم بلد، [ هذا معنى قوله تعالى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142]، وكان ذلك من أجل أن يأتي بني إسرائيل بكتاب من ربهم يتضمن شريعة كاملة يساسون بها وتحكمهم ليكملوا ويسعدوا عليها.
وقوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا [الأعراف:143]، أي: في الموعد الذي واعدنا والوقت الذي حددنا، وكلمه ربه بلا واسطة بينهما، بل كان يسمع كلامه ولا يرى ذاته، تاقت نفس موسى لرؤية ربه تعالى، فطلب ذلك فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143]، فأجابه ربه تعالى بقوله: إنك لن تراني، أي: رؤيتك لي غير ممكنة لك، ولكن إذا أردت أن تتأكد من أن رؤيتك لي في هذه الحياة غير ممكنة فانظر إلى الجبل ] جبل الطور [ فإن استقر مكانه بعد أن أتجلى له فسوف تراني، فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى [الأعراف:143] عند رؤية الجبل صَعِقًا [الأعراف:143]، أي: مغشيا عليه، فَلَمَّا أَفَاقَ [الأعراف:143] مما اعتراه من الصعق قَالَ سُبْحَانَكَ [الأعراف:143]، أي: تنزيهاً لك وتقديساً، تُبْتُ إِلَيْكَ [الأعراف:143]، فلن أسألك بعد مثل هذا السؤال، وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143] بك وبجلالك وعظيم سلطانك، وأنا عبدك عاجز عن رؤيتك في هذه الدار دار التكليف والعمل. وهنا أجابه ربه تعالى قائلاً: يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ [الأعراف:144] من هذا الكمال والخير العظيم، وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف:144] لي على إنعامي لأزيدك، وذلك بطاعتي والتقرب إلى بفعل محابي وترك مكارهي.
وقوله تعالى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [الأعراف:145]، أي: كتبت له في ألواحه من كل شيء من أمور الدين والدنيا موعظة لقومه من أمر ونهي وترغيب وترهيب، وتفصيلاً لكل شيء يحتاجون إلى بيانه وتفصيله. وقوله: فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ [الأعراف:145]، أي: وقلنا له: خذها بقوة، أي: بعزم وجد وذلك بالعمل بحلالها وحرامها فعلاً وتركاً. وَأْمُرْ قَوْمَكَ [الأعراف:145] أيضاً يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا [الأعراف:145]، أي: بما هو عزائم فيها وليس برخص تربية لهم وتعويداً لهم على تحمل العظائم لما لازمهم من الضعف والهون والخور دهراً طويلاً ] عند الفراعنة.
[ وقوله تعالى: سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ [الأعراف:145] يتضمن النهي لبني إسرائيل عن ترك ما جاء في الألواح من الشرائع والأحكام، فإنهم متى تركوا ذلك أو شيئاً منه يعتبرون فاسقين، وللفاسقين نار جهنم هي جزاؤهم يوم يلقون ربهم، وسيريهم إياها، فهذه الجملة تحمل غاية الوعيد والتهديد للذين يفسقون عن شرائع الله تعالى بإهمالها وعدم العمل بها، فليحذر المؤمنون هذا فإنه أمر عظيم ].
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: المحافظة على المواعيد أمر محبوب للشارع مرغب فيه وهو من سمات الصادقين ]، واعدتك الساعة العاشرة يجب ألا أخلف، تواعدنا يوم كذا فيجب ألا نخلف، والآن يقولون: موعد إنجليزي! لما هبطنا وهم ارتفعوا فمواعيدهم ثابتة، والمستعمَرون لفرنسا كذلك، يقولون: موعد فرنسي، يعني: ما فيه خلف، ونحن أهل القرآن والإيمان أتباع الرسول نسخر من بعضنا فيقول أحدنا لأخيه: نلتقي الساعة الفلانية وينام مع أهله، لا إله إلا الله! ما قرأنا هذه الآيات، ما قرأناها لنفهمها ونعمل بها، قرأناها على الموتى لنأكل الطعام.
فالمحافظة على المواعيد أمر محبوب للشارع مرغب فيه، وهو من سمات وعلامات الصادقين، من أين أخذنا هذا؟
من قوله تعالى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى [الأعراف:142].
[ ثانياً: جواز الاستخلاف في الأرض في مهام الأمور فضلاً عما هو دون ذلك ]، وجوب أو جواز الاستخلاف في الأرض، أمير يستخلف آخر، مدير عمل يستخلف آخر، مدير مدرسة يستخلف، ولكن يوصيه بالعمل الصالح، وألا يطيع المفسدين.
[ ثالثاً: مشروعية الوصية للخلفاء بما هو خير.
رابعاً: إمكان رؤية الله تعالى، وهي ثابتة في الآخرة لأهل الجنة ]، إمكان رؤية الله تعالى في الآخرة، وهي ثابتة لأهل الجنة فقط. اللهم اجعلنا منهم.
[ خامساً: استحالة رؤية الله تعالى في الدنيا؛ لضعف الإنسان عن ذلك.
سادساً: وجود الأمة القابلة لأحكام الله قبل وجود الشرع الذي يحكمها ]، سبحان الله! من وفقنا لهذا؟ نقوله لمن يطالبون بالحاكمية، ويقولون: الحكام كفار، نقول: أولاً أوجدوا أمة مؤمنة ربانية وطالبوا بتطبيق الشريعة، لا من يوم بدأ التحرر واستقللنا فبدل أن نمشي مع الطريق حتى نسلم ونطهر ونصفو بدأنا بالحاكمية والتكفير وبدأت السجون والقتل والتعذيب.
فمن أين أخذنا هذه الهداية؟ أن قوم موسى لما كانوا تحت سلطة فرعون فهل سيأتيهم موسى بالقانون ليطبقه؟ لن يقبل فرعون أن يطبقه ولا كلمة، لكن لما استقلوا ووجدوا جاء الشرع والقانون، فأنت يا ابن الإسلام في إقليمك في بلادك ادع إلى الله لتجتمع الأمة وتصفو عقائدها، وبذلك تطالب بحكمها بالشريعة، أما أمة كلها تحب الباطل والهوى وتعرضها للفتنة فلا، والفتنة دائرة وتنتقل من بلد إلى بلد إلا أن يشاء الله، ومشيئة الله متوقفة على إعلاننا الخضوع والذلة له واتباع كتابه وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
وصلى وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر