قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ *
مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ *
سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ *
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ *
فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد:1-5].
سورة المسد سورة مكية، آياتها خمس، ويقال لها: سورة
أبي لهب ، ولم يفرد الله سبحانه وتعالى سورة لذم أحد الناس بالتعيين سوى هذه السورة التي تناولت ذم
أبي لهب وامرأته؛ ولذلك لشدة عداوتهما للنبي صلى الله عليه وسلم، وكثرة إيذائهما له.
ويجتنب كثير من الناس قراءة هذه السورة في الصلاة معتقدين كراهة قراءتها؛ لأنها تذم عم النبي صلى الله عليه وسلم! وهذا شيء لا أصل له، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يضيره ذم عمٍ له كان أكفر قريش بالله، وأشدهم عداوة لرسوله صلى الله عليه وسلم، يقول الشاعر:
لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب
وما أحسن ما قاله
الزمخشري في تفسير قوله تعالى: (( حَمَّالَةَ الْحَطَبِ )) وحكى القراءتين فيها: قراءة: (حمالةُ الحطب) و(حمالةَ الحطب) والقراءة الثانية بالنصب هي رواية
حفص ، وقد وجهها بأن النصب على الشتم، يعني: أشتم حمالة الحطب أو أذم حمالة الحطب، ثم قال: وأنا أستحب هذه القراءة، وقد توسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل من أحب شتم
أم جميل ، وهي امرأة
أبي لهب وكنيتها
أم جميل .
إذاً: ما يعتقده العامة الذين يجتنبون قراءة هذه السورة ظناً منهم أن هذا يؤذي الرسول عليه الصلاة والسلام لكونه عمه، اعتقاد باطل، بل الرسول عليه الصلاة والسلام هو أولى الخلق بالله، وأعلمهم بالله، وأولى من يحب في الله ويبغض في الله ولو أقرب قريب له، ولو كان عمه الشريف
أبا لهب.
سبب نزول سورة المسد
-
تفسير قوله تعالى : ( تبت يدا أبي لهب وتب )
-
تفسير قوله تعالى : ( ما أغنى عنه ماله وما كسب)
-
تفسير قوله تعالى : ( وامرأته حمالة الحطب )
قال تعالى:
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:4].
كانت زوجة
أبي لهب من سادات نساء قريش، وهي
أم جميل ، واسمها:
أروى بنت حرب بن أمية ، وهي أخت
أبي سفيان ، وكانت عوناً لزوجها على كفره وجحوده وعناده؛ فلهذا تكون يوم القيامة عوناً عليه في عذابه في نار جهنم، والجزاء من جنس العمل، فلما كانت معينة ومساعدة لزوجها في عناده وكفره وجحوده، فالجزاء أنها تكون عوناً عليه في عذابه في جهنم والعياذ بالله، ولذلك قال تعالى: (( حَمَّالَةَ الْحَطَبِ )) يعني: تحمل الحطب في النار فتلقيه على زوجها ليزداد عذاباً على ما هو فيه، وهي مهيئة لذلك مستعدة له.
وروي عن بعض السلف أنها كانت تمشي بين الناس بالنميمة، وفي بعض الروايات أنها كانت تضع الشوك في طريق النبي صلى الله عليه وسلم.
من أخبار حمالة الحطب
جاء عن
أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت: لما نزلت: ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)) أقبلت العوراء
أم جميل بنت حرب ولها ولولة، وفي يدها فهر وهي تقول -والعياذ بالله-:
مذمما أبينا ودينه قلينا
وأمره عصينا
لقد كان المشركون لعنهم الله من حقدهم على الرسول عليه الصلاة والسلام وعداوتهم له يسمونه (مذمماً) عكس كلمة محمد، ومعنى محمد: ممدوح ومثنى عليه الصلاة والسلام.
قالت
أسماء : ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ومعه
أبو بكر ، فلما رآها
أبو بكر قال: يا رسول الله! قد أقبلت، وأنا أخاف عليك أن تراك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
إنها لن تراني) وقرأ قرآناً واعتصم به -كما قال تعالى:
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا [الإسراء:45]- فأقبلت حتى وقفت على
أبي بكر ، ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا
أبا بكر إني أخبرت أن صاحبك هجاني؟ قال: لا ورب هذا البيت ما هجاك، فولّت وهي تقول: قد علمت قريش أني ابنة سيدها.
ومن أخبارها أنها عثرت في مرطها وهي تطوف بالبيت فقالت: تعس مذمم، فقالت
أم حكيم بنت عبد المطلب :
إني لحصان فما أكلم وثقاف فما أعلم
وكلتانا من بني العم وقريش بعد أعلم
-
تفسير قوله تعالى : ( في جيدها حبل من مسد )
قال تعالى:
فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد:5] أي: في عنقها حبل من نار، قال
مجاهد و
عروة : من مسد النار، وقال بعض أهل العلم: في عنقها في الآخرة حبل من نار ترفع به إلى شفيرها، ثم يرمى بها إلى أسفلها، ثم كذلك دائماً.
وقال
سعيد بن المسيب : كانت لها قلادة فاخرة، فقالت: لأنفقنها في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم. فأعقبها الله بها حبلاً في جيدها من مسد النار.
وقال
عروة بن الزبير : المسد سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً، وقيل: هي قلادة من نار طولها سبعون ذراعاً.
وقيل: المسد حبل من ليف أو من خوص، وقد يكون من جلود الإبل أو أوبارها، ومسدت الحبل أمسده مسداً إذا أجدت فتله بإتقان.
وقال
مجاهد : (في جيدها حبل من مسد) أي: طوق من حديد؛ لأن العرب يسمون البكرة مسداً، والبكرة هي التي يستقى عليها.
وعبر بالمسد عن حبل الدلو، كما قال
أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات: كل مسد رِشاء- يعني: رشاء الدلو- وأنشد في ذلك:
وبكرة ومحوراً صراراً ومسداً من أبق مغاراً
قال: والأبق: القنب.
وقال الآخر:
يا مسد الخوص تعوذ مني إن كنت لدْناً ليناً فإني
ما شئت من أشمط مقسئن
ظهورة معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم
أولاد أبي لهب
قال
الشهاب : الذي صححه أهل الأثر أن أولاد
أبي لهب لعنه الله ثلاثة:
معتب ، و
عتبة وقد أسلما، و
عتيبة وهو الذي دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليه لما جاهر بإيذائه وعداوته، ورد ابنته وطلقها، فقال عليه الصلاة والسلام: (
اللهم سلط عليه كلباً من كلابك)، فأكله السبع في خرجة خرجها إلى الشام، والمقصود بالكلب هنا: الأسد، وفيه يقول
حسان رضي الله عنه:
من يرجع العام إلى أهله فما أكيل السبع بالراجع
زيادة بيان لمعنى قوله: ( سيصلى ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب )
قال تعالى:
سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3] أي: ذات توقد واشتعال، وهي نار الآخرة، جزاء ما كان يأتيه من مقاومة الحق ومجاهدته.
وقوله:
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:4] يعني: وستصلاها معه امرأته أيضاً، فامرأته مرفوع عطفاً على الضمير في (سيصلى) أي: هو وامرأته، أو مرفوع على الابتداء، ويكون قوله: (في جيدها) هو الخبر.
وقرئ: (حمالةَ) بالنصب على الشتم والذم، وبالرفع نعتاً أو بدلاً أو عطف بيان، وإنما قيل لها ذلك-على قراءة النصب- لأنها كانت تمشي بالنميمة، قال
الزمخشري : ويقال للمشاء بالنمائم المفسد بين الناس: يحمل الحطب بينهم- لأن نقل الكلام يؤدي إلى اشتعال الفتن بين الناس- أي: يوقد بينهم ويورث الشر، قال الشاعر:
من البيض لم تصطد على ظهر لأمة ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب
يمدح الشاعر امرأة بأنها لم تمش بين الحي بالحطب الرطب، يعني أنها بريئة من المشي بالنميمة بين الناس.
وقال
القاسمي : أي في عنقها حبل من المسد، أي: أنها في تكليف نفسها المشقة الفادحة للإفساد بين الناس، وتأجيج نيران العداوة بينهم في منزلة حامل الحطب، الذي في عنقه حبلٌ ثفن، يشد به ما حمله إلى عنقه، حتى يستقل به، وهذه أشنع صورة تظهر بها امرأة تحمل الحطب، ففي عنقها حبل من المسد تشد به الحطب إلى كاهلها حتى تكاد تختنق به.
وقد أنزل الله في
أبي لهب وفي زوجته هذه السورة ليكونا مثلاً يعتبر به من يعادي ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم مطاوعة لهواه، وإيثاراً لما ألفه من العقائد والعوائد والأعمال، واغتراراً بما عنده من الأموال، وبما له من الصولة أو المنزلة في قلوب الرجال، وأنه لا تغني عنه أمواله ولا أعماله شيئاً، وسيصلى ما يصلى، نسأل الله سبحانه وتعالى العافية.