وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخواني الكرام لقد مايز الله بين عباده وبين خلقه بالإيمان بالغيوب، فإن الله جل في علاه أناط الفلاح، وأناط النجاة في الآخرة بالإيمان بعلم الغيب، قال الله تعالى: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2]، ثم فسر صفات المتقين الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3]، ثم ذكر الله جل في علاه الفلاح في آخر الآيات: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5]، فأناط الفلاح بالإيمان بالغيوب، والإيمان بالغيب له آلات وأدوات، وسبل وأنواع، لا بد للإنسان أن يتعبد لله جل في علاه باليقين في الله والإيمان بهذه الغيوب، ومن هذه الغيوب القدر، فالقدر من علم الغيب، وهو سر قد كتمه الله جل في علاه عن كل الخلق، لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولذلك فهو دحض مزلة لا يدخل ولا يتعمق فيه أحد إلا ضل، وقد ضلت أفهام وزلت أقدامٌ في هذا الباب العظيم الشائك.
قال الإمام أحمد بن حنبل : القدر سر كتمه الله عن خلقه، لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل.
إن القدر: هو قدرة الله، وهو من لوازم ربوبية الله جل في علاه، ونحن بإذن الله سندرس وننتقي مسائل مهمة جداً في مسائل القدر، وهي مسائل شائكة، لكن قبل ذلك لا بد أن تكون هناك توطئة ومقدمة، أو قاعدة عريضة لطالب العلم، لا بد أن يتقنها؛ حتى يسير في أبواب القدر، ولا يضل كما ضلت القدرية والجبرية.
وشرعاً: هو الإيمان بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، هذا هو تعريف القدر شرعاً.
وقد بين الله جل في علاه مسائل القدر في كتابه بياناً جلياً، وأيضًا على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وبين أهمية القدر، قال الله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، فما ترك شيئاً، وقد قال علماء اللغة وعلماء الأصول: (كل) نص في العموم لا تترك شيئاً بحال من الأحوال، فكل شيء مخلوق بقدر حتى أفعال العباد، قال الله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49].
أيضًا قال الله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2].
وقال الله تعالى: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب:38].
وقال جل في علاه مبيناً أن الهداية والإضلال من أبواب القدر، وأنهما بيد الله جل في علاه: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125]، فالإضلال والهداية من أبواب القدر، وهي بيد الله جل في علاه.
وجاء في المسند بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص : (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بكتاب على يمنيه، وكتاب على يساره، وقال: فرغ ربكم من العباد، ثم قال: هؤلاء لأهل الجنة ولا أبالي، بأسمائهم وأسماء آبائهم وختم على ذلك، وهؤلاء لأهل النار ولا أبالي، بأسمائهم وأسماء آبائهم وختم على ذلك)، فقد قدر الله كل شيء وكتبه في اللوح المحفوظ.
وأيضًا ورد في حديث يسمى مسلسلاً عند علماء الحديث، والمسلسل عند علماء الحديث: هو ورود الحديث بصفة أو هينة واحدة من أول السند إلى آخره، وقد يكون التسلسل في المتن وقد يكون في السند، مثال المسلسل في المتن حديث معاذ عندما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا
أيضاً هناك حديث منسلسل بالضحك، عن علي بن أبي طالب في حديث ركوب الدابة، وهذه السنة قد ماتت، وهي أن الإنسان إذا ركب الدابة قال: باسم الله، الحمد لله الذي سخرنا لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، ثم يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، الحمد لله الحمد لله، ثم يقول: اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب، وعندما قال ذلك النبي عليه الصلاة والسلام ابتسم في آخره، وكذلك علي بن أبي طالب ومن بعده كانوا يبتسمون عند رواية هذا الحديث، ولهذا تجدها في الإسناد مسلسلة بالمتن.
وجاء حديث الإيمان بالقدر وأهميته مسلسلاً، وهو أنه قال: (آمنت بالقدر خيره وشره) فجاء أبو هريرة فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ....، ثم إن أبا هريرة وبعد إتمام الحديث يقول: (آمنت بالقدر خيره وشره).
فالنبي صلى الله عليه وسلم يأمر الأمة بالإيمان بالقدر، ويبين ركنية الإيمان بالقدر بقوله: (أن تؤمن بالله وبملائكته إلى أن قال وتؤمن بالقدر خيره وشره).
هذه الأحاديث التي أثبتت أهمية وركنية القدر، بينت أن من لم يؤمن بالقدر فقد هدم إيمانه، وهنا تظهر -جلياً- الأهمية القصوى للإيمان بالقدر، إذ هو ركن من أركان الإيمان، وإذا هدم أحد الناس هذا الركن فقد هدم إيمانه، ويدل على ذلك حديث مسلم عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه عندما اكتنفاه رجلان من الكوفة، رجل عن يمينه ورجل عن يساره، وقالا لـابن عمر : تكلم أناس عندنا في القدر، وقالوا: إن الأمر أُنُفٌ، فقال ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه: أبلغهم أني منهم براء، وهم مني براء، يعني: أنا برئت منهم وهم براء مني، ثم ذكر حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
وأصرح من ذلك حديث عبادة بن الصامت ، وهو يشرح لابنه الإيمان بالقدر، فقال: عليك أن تؤمن بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك ،وما أخطأك لم يكن ليصيبك، قال: فإن مت على غير ذلك دخلت النار.
وأيضًا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح أنه قال: (من لم يؤمن بالقدر أحرقه الله بالنار)، وقد ورد أيضًا مقطوعاً عن ابن وهب أنه قال: (من لم يؤمن بالقدر أحرقه الله)، وفي رواية أخرى عن عوف بن مالك أنه قال: (من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام)، فإن المؤمن لا يستقيم إيمانه عند ربه جل في علاه، ولا يكون من الخالدين في الجنة إلا أن يؤمن بهذا الركن الركين من هذا الدين، وهو الإيمان بالقدر، وإذا قلنا بأن القدر ركن من أركان الإيمان ولا يستقيم إيمان عبد حتى يؤمن بالقدر، فلا بد أن نقرع باب القدر، وندخل في البوابة الصحيحة التي يطمئن فيها المرء أنه قد استقام إيمانه بالقدر ومراتبه.
وأيضًا قال الله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [يوسف:19]، (ما) هنا من الأسماء المبهمة، قال العلماء: (ما): أصل من أصول العموم، يعني: كل ما تعملون.
وأيضًا قال الله تعالى في سورة الأنعام: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، فإن الله جل في علاه قد علم كل شيء، وبهذه المرتبة تستطيع أن ترد على المعتزلة، قال الشافعي : خاصموهم بالعلم، فإن أقروا فقد خصموا، وإن أنكروا فقد كفروا.
فهنا الإمام الشافعي يبين لنا أهمية هذه المرتبة في الرد على المعتزلة بقوله: خاصموهم بالعلم، فإن أقروا فقد خصموا، وإن أنكروا فقد كفروا، وهذه المقولة تحتاج لتفسير صحيح.
قال: (خاصموهم بالعلم)، فإن المعتزلة يقولون: القدر أنف، ولا يوجد شيء كتب قبل ذلك، والله جل في علاه لا يعلم شيئاً حتى يعمله العباد، فلا يعلم شيئاً مستقبلاً أبداً، ولا يعلم إلا ما مضى فقط، هذا قولهم والعياذ بالله! فقال الشافعي : خاصموهم بالعلم، فإذا أقروا بأن الله قد أحاط بكل شيء علماً فقد خصموا؛ لأن لله علماً، والإرادة تخضع لعلم الله جل في علاه، فأراد وخلق أفعالهم، وبهذا يكون المعتزلة قد خصموا، ولا يمكن أن يحتجوا عليكم بشيء بعد ذلك، أما إذا أنكروا علم الله، وهذا كان في المعتزلة قديماً، أما الذين في عصورنا الآن فيستحيون من ذلك، ولا يستطيعون إنكار العلم، ولكنهم ينكرون الخلق، فهم يقرون بالعلم، وينكرون الخلق، كما سنبين في المسائل المهمة في الرد على المعتزلة، والغرض المقصود خاصموهم بالعلم، فإن أقروا فقد خصموا؛ لأن الله علم فأراد، والإرادة تخضع للعلم، وإن أنكروا كفروا؛ لأن من أنكر صفة العلم فقد كفر.
لكن نذكر هنا حديثاً ظاهر يشكل على ما قلنا، فلا بد من توضيحه، والحديث هو: (قام النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً، وذهب إلى البقيع يدعو لأهل البقيع، فغارت
الجواب: القياس على عائشة قياس فاسد؛ لأن الشافعي قال: جادلوهم وبينوا لهم، أقيموا عليهم الحجة، فمحل النزاع بأن هذا كفر أو ليس بكفر إنما هو بعد إقامة الحجة، وهنا قد أقيمت عليهم الحجة فأنكروها، لكن عائشة ما أنكرت، علمها النبي صلى الله عليه وسلم فأقرت بما علمها النبي صلى الله عليه وسلم، فلا إشكال هنا.
إذاً: نحن نبين للمعتزلة علم الله جل في علاه السابق واللاحق، فإن أقروا أخذنا بكلامهم، وإن أنكروا كفروا بذلك، وأيضًا لا بد من التفريق بين كفر النوع وكفر العين، فهذه المرتبة الأولى وهي علم الله الذي أحاط بكل شيء، وأن الله جل في علاه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، وهذه تجمعها آية واحدة قالها موسى لهذا الخصم اللدود فرعون عندما قال في سورة طه: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:49-52] أي: لا يضل ربي فيما يستقبل، ولا ينسى فيما سبق، وقد سبق علم الله جل في علاه في ما كان، ولذلك قص علينا ما حدث من الجن قبل آدم، قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30]، وأيضًا قص الله علينا ما حدث بين الملائكة وبين آدم عندما عطس آدم، وقال: الحمد لله، وأيضًا لما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر، وقص علينا أيضاً ما حدث مع نوح وقومه، وقص علينا قصة موسى وقومه، فإن ربي لا ينسى علم ما كان، ويعلم ما يكون، والذي لم يحدث يعلمه الله جل في علاه، وهذا يتجلى معنا في الأحاديث النبوية والآيات الكريمات، كقول الله جل في علاه: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27]، وهذا في المستقبل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما رد في صلح الحديبية عن البيت قال الله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27]، وأيضًا قال النبي صلى الله عليه وسلم وحياً من ربه جل في علاه: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه)، وهذا أيضًا في المستقبل، فالله قد علم ما يكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون.
وهذا أيضًا يتجلى في الممكن والمستحيل، أما في الممكنات فقال الله تعالى عن الكافرين أو المنافقين: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:23]، وهذا لم يحدث، لكن الله بين أنه لو حصل أو حدث كيف ستكون كيفيته وكينونته؟
أيضاً قال الله تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لهَمْ [التوبة:47]، وهذا أيضًا لم يكن، لكن الله يعلم أنه لو كان كيف سيكون، فالله جل وعلا جعل التقاعس على أهل النفاق فلم يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لو خرجوا، فإن الله يعلم كيف كان سيكون الحال، وقص الله علينا ذلك وقال: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة:47].
هذا في الدنيا، وكذلك في الآخرة، فإن الله يعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، قال الله عن أهل النيران بعدما وقفوا على النار: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]، فهذا لم يحدث، لكن لو حدث، والله جل وعلا قضى أن يخرجوا إلى الدنيا مرة ثانية، فهل سيكونون من أهل الحق، ويؤمنون بالله جل في علاه؟ الله جل وعلا يقول: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28]، فالله علم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، وهذا في المستحيل في الآخرة، والذي سبق في الممكن في الدنيا.
فالآية التي تكلمت عن المنافقين لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا [التوبة:47]، هي في الممكنات، أما الآية: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27] في الآخرة، ويستحيل أن يرجع أحد للدنيا، فهي في المستحيلات.
مثال آخر وهو حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أرأيت ماذا قال ربك لأبيك عندما قال له: تمن؟ قال: أرجع إلى الدنيا فأقتل فيك)، فقضى الله جـل وعلا أنه لا يرجع أحد إلى الدنيا، فهذا ممكن ولا يستحيل على الله، ومن المستحيلات ما قال الله تعالى عنه: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]، هذا في المستحيلات، فيستحيل أن تجد للكون إلهاً إلا الله وحده لا شريك له، ولو كان في الكون أكثر من إله، فقد بين الله لنا أنه سيحدث الفساد المستشري، فقال الله تعالى: لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون:91]، وقال: لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الإسراء:42]، فرب القمر سيأخذ القمر، ورب الشمس سيأخذ الشمس؛ لذلك كان من المستحيلات أن يكون للكون أكثر من إله.
إذاً: الله جل في علاه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، الله قد أحاط بكل شيء علماً، وهذا العلم يُرد به على المعتزلة كما سنبين في المسائل المهمة التي سننبري لشرحها.
قال الله تعالى في كتابه العزيز: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]، والذي أوحي إليه الزبور هو داود عليه السلام، وقد كتب الله فيه أن الأرض يورثها الله لمن شاء من عباده الصالحين، وتلك الكتابة في الزبور كانت بعدما كتبه الله في اللوح المحفوظ.
وقال أيضًا: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ [الواقعة:77-78]، والكتاب المكنون يقصد به: اللوح المحفوظ.
أيضًا قال في سورة البروج في آخر آية: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:21-22]، فقد كتب الله كل شيء، وهذه الكتابة هي الكتابة الأزلية العامة، وهي كتابة في الأثر.
إن مرتبة الكتابة إذا آمن بها العبد لا بد أن يعلم أن لها أربعة مراحل:
أولاً: الكتابة أزلية: وهذه هي المرادة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله القلم قال له اكتب ...).
ثانياً: الكتابة العمرية.
ثالثاً: الكتابة العامية: وهي مأخوذة من العام، أي: سنوية.
رابعاً: الكتابة اليومية.
إذاً: الإيمان بمرتبة الكتابة: هو أن يعلم المؤمن بأن الله جل وعلا قد كتب كل شيء وقدر كل شيء قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة كما في حديث القلم، وهذه هي الكتابة الأزلية، وقد تكلمنا عنها وقلنا: إنها هي المذكورة في حديث القلم.
والكتابة العمرية: دليلها حديث الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: (يجمع الجنين في بطن أمه أربعين يوماً ) ثم تلا الحديث إلى آخر الأربعة الأشهر، أو المائة وعشرين يوماً إلى أن قال: (فيأتي الملك فيؤمر بأربع كلمات: ذكر أم أنثى، شقي أم سعيد، أجل ورزق) إذاً: يؤمر الملك بكتابة أربع كلمات، بكتب الرزق والأجل وكَتْبِ الشقاء أو السعادة وكَتْبِ النوع، والإيمان بهذه الكتابة يحل إشكالات عظيمة جداً منها:
الإشكال الذي طرحه لنا عمر بن الخطاب عندما طاف حول الكعبة وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت قد كتبتني عندك شقياً فامحها واكتبني سعيداً، مع أن الله جل وعلا قد بين أن ما كتب في اللوح المحفوظ لا يمكن أن يغير، فما فقه عمر الذي جعله يقول ذلك؟ قال الله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]، فالإيمان بهذه الكتابة يحل لك هذا الإشكال.
وهذه الكتابة إما أن تكون في اللوح المحفوظ، وإما أن تكون في صحف الملائكة، فهي تحتمل ذلك، وقد فقه عمر وهو يقول: اللهم امحها واكتبني عندك سعيداً فقرأ قول الله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ [الرعد:39] أي: في صحف الملائكة وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]، وهو الأصل الذي لا يغير، لكن الذي يغير هو ما في صحف الملائكة.
وقد قال ابن مسعود : الشقي من شقي في بطن أمه، فنقول دائماً: إن هذا الشقاء الذي كتب في صحائف الملائكة هو الذي يمكن أن يغير، حتى لا يتقاعس أحد ويقول: قد وقعت في المعصية، والله قد كتب ذلك وأنا في بطن أمي، فنقول له: قل ما قاله عمر: اللهم إن كنت قد كتبتني أي: في صحف الملائكة شقياً فامحها، واكتبني عندك يعني: في اللوح المحفوظ سعيداً.
الكتابة الثالثة: كتابة عامية: وهذه أيضًا يمكن أن تحل لنا إشكالاً آخر، ألا وهو: إذا قدر الله المصيبة فهل من الممكن أن تُرفع بالدعاء أم ليس ذلك ممكناً فيرضى بها؛ لأن هذا قدر الله عليه؟
الجواب: إن المصيبة ترفع بالدعاء، والدليل على ذلك إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الدعاء والقدر يتعالجان في السماء حتى يرد الدعاء القدر، مع العلم أن القدر قد كتبه الله في لوحه المحفوظ، ومن ضمن ما كتب في اللوح المحفوظ أن البلاء إذا نزل فإنه يرتفع بالدعاء، وأيضًا إن الذي يغير إنما هو ما في صحف الملائكة، ولا إشكال في ذلك بفضل الله سبحانه وتعالى.
وهذه الكتابة أخذت من تفسير ابن عباس لقول الله تعالى عن ليلة القدر: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4]، قال ابن عباس : يفرق أي: يكتب السعيد والشقي في هذا العام، ويكتب الرزق في هذا العام، ويكتب الحاج في هذا العام، ويكتب الأجل في هذا العام، فتكون هذه كتابة عامية.
الكتابة الرابعة: كتابة يومية: وهذه عند تعاقب الملائكة كما في الصحيح: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار، فيلتقون في صلاة الفجر وصلاة العصر)، فتكتب الملائكة من صلى الفجر في جماعة، ومن صلى العصر في جماعة، ومن عمل حسنة في ذلك اليوم، أو عمل سيئة في ذلك اليوم.
قال الله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]، وجاء في الحديث الصحيح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله قد خلق كل صانع وصنعته)، فهذا يدل على أن فعل العبد أيضًا مخلوق لله جل في علاه.
فهذه أربع مراتب لا يمكن لعبد أن يتقن أبواب القدر، أو يلج أبواب القدر المشكلة جداً إلا أن يؤمن بهذه المراتب الأربعة.
وتتعلق بهذه المراتب الأربعة نتائج كثيرة منها: هل القدر حجة للعاصي؟ أيضًا احتجاج آدم وموسى كان الحق فيه مع من؟ وهل يستنبط من ذلك مسائل تحتج بها القدرية أو الجبرية؟ ومسائل أخرى سنتعرض لها لاحقاً بإذن الله تعالى.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر