الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه، وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا أول دروس العقيدة الواسطية، والعقيدة الواسطية هي: عقيدة مختصرة مباركة، ألفها الإمام العالم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ألفها استجابة لطلب أحد قضاة واسط يدعى: رضي الدين الواسطي ، أتى إلى الشيخ رحمه الله وطلب منه أن يكتب له عقيدة يعتمدها ويستند إليها، فاعتذر الشيخ رحمه الله وطلب منه العذر، وقال له في اعتذاره: إن عقائد العلماء المؤلفة كثيرة، فخذ أحدها واكتفي به، فألح عليه هذا القاضي، يقول الشيخ رحمه الله: فكتبت له هذه العقيدة وأنا قاعد بعد العصر، والإنسان يعجب من هذه العقيدة التي كتبها الشيخ رحمه الله استجابة لطلب هذا القاضي دون إعداد مسبق، مع ما تميزت به من ميزات قل توافرها في كثير من العقائد المؤلفة!
ومما تميزت به هذه العقيدة أيضاً: أنها عقيدة استقرأت أقوال السلف، وتتبعت ما قاله أئمة الأمة من الصحابة ومن بعدهم من أهل القرون المفضلة، وأجملت واختصرت بعبارة واضحة؛ ولذلك قال الشيخ رحمه الله -في المناظرة التي عقدت له حول هذه العقيدة-: ما جمعت إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم. يعني: لم تكن هذه العقيدة خاصة بإمام من الأئمة، أو عالم من العلماء، بل هي مجمل ما اعتقده سلف هذه الأمة، على اختلاف مذاهبهم العملية، وإن كانوا لا يختلفون في المذهب الاعتقادي والمنهج الاعتقادي، فالمنهج الاعتقادي لأهل السنة والجماعة واحد.
ومما تميزت به هذه العقيدة أيضاً: تحرير ألفاظها تحريراً بالغاً دقيقاً، حتى إن الشيخ رحمه الله تحدى خصومه الذين ناظروه ووشوا به إلى السلطان، وأمهلهم ثلاث سنوات ليأتوا بشيء في هذه العقيدة يخالف ما عليه سلف الأمة، وهذا يدلك على بلاغة التحرير، وعظم التدقيق في هذه العقيدة.
ومما تميزت به هذه العقيدة أيضاً: أنها من العقائد الشاملة لكثير من مسائل الأصول، فليست معتنية بجانب من جوانب العقيدة، بل انتظمت أكثر مسائل الاعتقاد: فيما يتعلق بالأسماء والصفات، وفيما يتعلق بالمعاد، وفيما يتعلق بالإيمان، وفيما يتعلق بالقدر، وفيما يتعلق بالمسلك العملي لأهل السنة والجماعة، وهذه إضافة على سائر العقائد، فإن كثيراً من العقائد تذكر صفات أهل السنة والجماعة في الأصول، وتذكر ما تميزوا به في الفروع، لكن يغفلون الجانب العملي، وهذه العقيدة أولت الجانب العملي اهتماماً، فأفرد الشيخ رحمه الله في هذه العقيدة توضيحاً في فصل أو فصلين في آخرها، بين فيه المسلك العملي الذي يسير عليه أهل السنة والجماعة.
ومما تميزت به هذه العقيدة: أنها حضيت باهتمام وثناء العلماء قديماً وحديثاً، فالثناء عليها موصول، فأثنى عليها الذهبي ، وأثنى عليها ابن رجب ، والأول من تلاميذ شيخ الإسلام رحمه الله ومن معاصريه، والثناء عليها موصول إلى يومنا هذا؛ ولذلك كثر الحفاظ لها، والدارسون لها والمدرسون، فاهتم بها أهل العلم تعلماً وتعليماً، حفظاً وتدريساً، وهذا لما تضمنته من المزايا السابقة، وهي عقيدة مباركة سلفية واضحة، لا يملك الخصم إلا أن يسلم لما احتوته؛ لكونها مليئة بالدلائل الواضحة الساطعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقراءتنا لهذه الرسالة -إن شاء الله تعالى- ستكون تنبيهاً على القواعد والجمل والأصول في اعتقاد أهل السنة والجماعة، وسنترك الاستطراد فيما لا صلة له مباشرة بما نحن فيه من دراسة العقائد المضمنة في هذه الرسالة.
أسأل الله عز وجل أن يرزقنا السداد، وأن يعيننا على الصواب، وأن يوفقنا إليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وبالمناسبة فقد جمعت في كتاب لطيف كلام شيخ الإسلام رحمه الله على أكثر مباحثها، ولخصت فيه جل ما علق عليه الشيخ، وتكلم عليه من مسائل هذه الرسالة.
[ بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيداً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً.
أما بعد:
فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة: أهل السنة والجماعة.
وهو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه ، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره .
ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل ].
قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم)
افتتح الشيخ رحمه الله هذه الرسالة المباركة بالبسملة، وهي سنة جارية جرى عليها أهل العلم قديماً وحديثاً تأسياً بكتاب الله عز وجل، حيث افتتح الله عز وجل كتابه بالبسملة، وعملاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح كتبه ورسائله بالبسملة، وعلى هذا جرى أهل العلم، وورد في ذلك حديث إلا أنه لا يقوى من حيث السند على إثبات سنية هذه البسملة في أول الرسائل، لكن دليل هذا كتاب الله عز وجل، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، أما الحديث الوارد في ذلك فهو ضعيف.
والكلام على البسملة واضح، إلا أن شيخ الإسلام رحمه الله اختار في متعلق البسملة أنه اسم، خلافاً لما جرى عليه كثير من النحاة من أن متعلق البسملة فعل، وهذا شيء ينبه عليه؛ لخروجه عن المعروف المشهور في متعلق البسملة، فإن البسملة جملة تامة متعلقة بفعل أو باسم، والشيخ رحمه الله اختار أنها متعلقة باسم مؤخر مناسب، والتقدير: بسم الله الرحمن الرحيم قراءتي، وغيره يقدر فعلاً، فيكون التقدير: بسم الله الرحمن الرحيم أقرأ.
افتتح الشيخ رحمه الله هذه الرسالة بالبسملة وثنى بالحمد، واختار هذه الصيغة في الحمد، وهي من براعة الاستهلال؛ لأن هذه الرسالة تضمنت بيان أمرين: بيان العلم النافع، وبيان العمل الصالح؛ ولذلك قال: الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، والهدى هو العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح، فالدين معناه العمل كقوله تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6] أي: لكم عملكم ولي عملي.
والألف واللام في الحمد للاستغراق كما هو معلوم، فجميع المحامد لله سبحانه وتعالى، فله الحمد أولاً وآخراً، ظاهراً وباطناً، وله الحمد كله جل وعلا.
والغالب في الحمد أن يعقبه ذكر أسماء الله عز وجل، أو صفاته العلا، أو أفعاله الجميلة، هذا هو الغالب في ذكر الحمد في كتاب الله عز وجل، وفيما يفتتح به الخطاب.
وهنا ذكر فعلاً من أفعاله الجميلة، وهو إرساله سبحانه وتعالى رسوله بالهدى ودين الحق، والرسول المقصود به محمداً صلى الله عليه وسلم، وإن كان كل رسول أرسله الله عز وجل موصوفاً بهذين الوصفين، أي: أن رسالته بالهدى ودين الحق، لكن أوفرهم نصيباً وأعظمهم حظاً من هذين الوصفين هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (ليظهره على الدين كله). (ليظهره): اللام هنا للعاقبة، أي: عاقبة هذا الإرسال ظهور هذا الرسول وما جاء به. (على الدين كله) يعني: على جميع الملل على اختلافها وتنوعها دون استثناء، ما كان منها صحيح في وقته، وما كان منها غير صحيح.
(وكفى): فعل يستعمل غالباً في تقوية اتصاف الفاعل بوصف يدل على التمييز المذكور، وهذه في جميع السياقات التي يرد فيها هذا الفعل بهذه الصيغة: كفى بالله شهيداً، كفى بالله نصيراً، كفى بالله وكيلاً، كل هذا لبيان وتقوية اتصاف الفاعل -وهو الله جل وعلا في هذه السياقات- بالتمييز المذكور وهو في سياقنا هذا (شهيداً)، وفيما ذكرنا من الأمثلة: وكيلاً ونصيراً وما أشبه ذلك.
أشهد أن إلا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً، أي: إقراراً بالقلب واللسان، وتوحيداً، أي: أشهد بذلك مفرداً الله عز وجل بهذه الشهادة، فلا أشهد بها لغيره سبحانه وتعالى.
قوله: (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً) فبعد أن شهد لله بالوحدانية شهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ووصفه بأعظم وصفين يوصف بهما النبي صلى الله عليه وسلم، وهما وصف العبودية والرسالة في قوله: عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسلماً مزيداً آمين.
جملة (أما بعد) يؤتى بها للانتقال من المقدمة إلى المقصود بالكلام، وليس كما يقول بعض أهل اللغة من أنها تستعمل في الانتقال من موضوع إلى موضوع، أو من أسلوب إلى أسلوب، هذا لم يجر على لسان العرب، والذي جرى في استعمال النبي صلى الله عليه وسلم -وهو أبلغ الفصحاء- استعمال هذا اللفظ في الانتقال من المقدمة والاستفتاح إلى المقصود بالحديث.
ودليل هذا الكتاب والسنة، أما الكتاب: فقول الله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177] وهذا شاهد لخمسة أصول، بقي القدر أين دليله؟! قول الله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49] فهذا دليل هذه الأصول الستة من الكتاب، أما دليلها من السنة: فحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصة مجيء جبريل، وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره)، وهذا الإيمان هو الإيمان المجمل.
ما معنى: الإيمان المجمل؟
معنى الإيمان المجمل أي: الإيمان المطلوب من كل أحد على وجه الإجمال، ولو لم يعلم تفاصيل ما يتضمنه الإيمان بالله، أو تفاصيل ما يتضمنه الإيمان باليوم الآخر، أو تفاصيل ما يتضمنه الإيمان بالملائكة، وبقية أركان الإيمان، فالإيمان المجمل هو: أن يقر الإنسان بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه الإجمال، ولو لم يدرك معناه، ولو لم يبلغه تفصيله، وهذا الإيمان لا يعذر أحد بتركه، وأما التفصيل فيختلف باختلاف أحوال الناس.
والإيمان بالملائكة يتضمن الإيمان بما أخبر الله عنهم في كتابه من أنهم مخلوقون من نور، وأنهم مربوبون متعبدون لله جل وعلا، والإيمان بما ذكر من أسمائهم وأوصافهم وأعمالهم وأحوالهم، وكل هذا يندرج تحت بالملائكة، والإيمان بمن ذكر الله اسمه منهم كجبريل وإسرافيل وميكائيل، وأن من لم يسمه الله لنا منهم أكثر ولا يحصيهم إلا الله، والملائكة من عالم الغيب، هذا المعنى العام للملائكة وما يتضمنه الإيمان بهم.
والكتب: جمع كتاب، والإيمان بالكتب يتضمن: الإيمان بأن الله عز وجل أنزل إلى رسله كتبه، منها ما ذكره في كتابه، ومنها ما لم يذكره، وأنه سبحانه وتعالى تكلم بهذه الكتب، فكل كتاب أنزله فقد تكلم به كلاماً حقيقياً، والإيمان بما سماه الله من هذه الكتب كالإنجيل والتوراة والزبور، هذا ما يتضمنه الإيمان بالكتب عموماً.
والقرآن أخص هذه الكتب وألزمها إيماناً؛ لأنه الكتاب الذي اختصت به هذه الأمة، فتميز عن غيره من الكتب بوجوب تصديق أخباره، ووجوب الانقياد لأحكامه، وهذا ليس من لازم الإيمان بالتوراة، ولا من لازم الإيمان بالإنجيل، ولا بغيرهما من الكتب، بل هو مما اختص به الإيمان بالقرآن.
والإيمان بالرسل يتضمن: الإيمان بأن الله عز وجل أرسل إلى خلقه رسلاً، سمى لنا منهم من سمى، وهم عدد لا يحصيه إلا الله جل وعلا، وأشرفهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، والواجب الإيمان بالجميع: من سماهم الله لنا منهم ومن لم يسمه.
والبعث بعد الموت -أيضاً- من أصول الإيمان، وهذا الإيمان يتضمن الإيمان بكل ما أخبر به الله عز وجل، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، وسيأتي تفصيل هذا النوع من أركان الإيمان وأصوله في هذه الرسالة.
والإيمان بالقدر خيره وشره هو الإيمان بأنه ما من شيء إلا بقضاء الله جل وعلا وقدره، وسيأتي تفصيل هذا النوع من الإيمان، وما يتضمنه من مراتب في هذه الرسالة المباركة.
هذا هو الإيمان المجمل الذي افتتح به الشيخ رحمه الله هذه الرسالة المباركة، ثم بعد ذلك انتقل إلى التفصيل، وابتدأ في التفصيل بذكر ما يتضمنه الإيمان بالله تعالى، فقال رحمه الله: (ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه) إلى آخر ما قال.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر