أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ [الزمر:67-70].
الشيخ: معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67]، والذين ما قدروا الله حق قدره هم: المشركون الكافرون الفاسقون الفاجرون، فهم ما عظموا الله حق تعظيمه، وهو الذي خلقهم ورزقهم وخلق الحياة كلها من أجلهم ثم هم يتجاهلونه، ويعرضون عنه، وينسونه ويعبدون الشياطين، ويؤلهون الأصنام والأحجار، ويطيعون إبليس، فهؤلاء ما عرفوا عظمة الله وجلاله وكماله.
وإليكم صورة واضحة لعظمة الله وجليل قدره؛ كما قال سبحانه: وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67]. فالأرض بكل ما فيها من جبال وأودية وبحور في قبضته يوم القيامة.
ثم قال تعالى: وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]. أي: والسماوات السبع يطويها في يده كطي الكتاب في يده، وقد روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ )، وهذا معنى قوله تعالى: وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67].
ثم قال تعالى: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]. أي: تنزه وتقدس وتعاظم عن الشرك الذي يشركه المشركون، إذ هم يعبدون الشهوات والشياطين والأحجار والأصنام ويؤلهونها وينسون ربهم خالق كل شيء ومالك كل شيء، ورب كل شيء، وبدل أن ينكسروا بين يديه ويخروا له ساجدين راكعين يبكون له ويدعونه ويسألونه؛ يلتفتون إلى الأحجار والأصنام والشهوات ويعبدونها من دونه.
ثم ينفخ النفخة الرابعة فإذا هم قيام ينظرون أمر الله وحكمه فيهم.
وقوله: إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68]. أي: كحملة العرش، وبعض الملائكة، والشهداء، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68].وكما ذكرنا فإن النفخات أربع، وأكثر أهل العلم على أنها ثلاثة، نفخة الفناء وهي التي يفنى فيها كل موجود، ونفخة البعث من القبور، ونفخة الصعق وهم قيام فينفخ إسرافيل نفخة فيصرعون إلا من شاء الله، ويدل لهذا حديث البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فأكون أنا أول من يفيق ). أي: من نفخة الصعق، وهي ليست بموت، وإنما غشيان وصعق. قال: ( فإذا بأخي موسى آخذ بقائمة العرش، لا أدري أفاق قبلي أو جوزي بنفخة الصعق التي في بني إسرائيل فما صعق في ذلك المقام ). أي: أنه صعق في الدنيا فلم يصعق في الآخرة، فدل على نفخة الصعق وهي التي اختلف فيها العلماء.
والله هو نور السماوات والأرض، وهو خالق الأنوار وموجدها، فإذا جاء لساحة فصل القضاء امتلأت تلك الأرض بنوره عز وجل.
ثم قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ [الزمر:69]. أي: كتاب الأعمال، ووُزِّع على أصحابه، وما منا إلا وأعماله وأقواله مدونة في كتاب، يقوم بكتابته ملكان: ملك عن اليمين وملك عن الشمال، ثم تجمع تلك الكتب وتوزع على أصحابها يوم القيامة، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [الحاقة:19-21].
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ [الحاقة:25] أو وراء ظهره؛ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ [الحاقة:25-26].
ثم قال تعالى: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ [الزمر:69]. أي: ليشهدوا على أممهم، وأنهم بلغوهم دعوة الله والشهداء: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه الأمة تشهد على كل الأمم بأن الله أرسل إليهم رسله، وأن الرسل بلغوهم دعوة الله، فاستجاب من استجاب، وكفر من كفر، وهذه فضيلة لهذه الأمة؛ لأننا قرأنا في كتابه وعلمنا يقيناً أنه ما من أمة إلا أرسل فيها رسولاً، وأن الرسول بلغ رسالته، ونحن يشهد علينا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، فالرسل يشهدون على أممهم، فما يقبلون شهادة الرسل، فتشهد عليهم الأمة المحمدية وتقوم عليهم الحجة. ويشهد على الأمة المحمدية رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ [الزمر:69]. أي: بالعدل، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الزمر:69]. فأهل الإيمان وصالح الأعمال في الجنة دار السلام، وأهل الشرك والكفر والذنوب والآثام في جهنم دار البوار، والعياذ بالله تعالى.
ولم يظلم أحداً؛ بأن زاد عليه أو أنقص من أجره.
مرة أخرى: والنفخات جمع نفخة، والنفخة، والذي يقوم بالنفخات هو إسرافيل، فهو الموكل بهذه النفخات والثلاث أو الأربع. فالنفخة الأولى: هي نفخة الفناء، واقرءوا قول الله تعالى: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ [القارعة:1-2]. وهي التي تقرع القلوب وتفزع الناس، ويفنى كل موجود.
والنفخة الثانية: نفخة البعث فإذا البشرية كلها قائمة حية، ويتم ذلك كالتالي:
ينزل الله من السماء مطراً كمني الرجال على الأرض، وقد سويت وأصبحت مستوية، فينبت الناس من عظم صغير هو عجب الذنب وهو في آخر فقرات الظهر فينبتون كما ينبت البقل، فإذا استوت أجسامنا تحت الأرض نفخ إسرافيل عليه السلام نفخة البعث فتدخل كل روح في جسدها ونقوم لله رب العالمين، فلا نزال قائمين في ساحة فصل القضاء حتى ينفخ إسرافيل بأمر الله نفخة الصعق، فيصعق كل موجود في الأرض أو في السماء، فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68].
ثم النفخة الرابعة والأخيرة: فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر:68-69]، مثلها، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، أي: لما جاء لفصل القضاء فإذا الأرض كلها نور. وَوُضِعَ الْكِتَابُ [الزمر:69]؛ ليوزع على أصحابه، وما منا أحد إلا وسيعطى كتابه، إما بيمينه إن كان مؤمناً، وإما بشماله إن كان شيوعياً ملحداً، والعياذ بالله، وتوزيع الكتاب يدل على السعادة والشقاء، فمن أوتي كتابه بيمينه فهو من أهل النجاة، من أوتي كتابه بشماله فهو من أهل الخسران والعياذ بالله تعالى.
قال تعالى في سورة الانشقاق: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا [الانشقاق:10-12]. قال تعالى: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ [الزمر:69]. والشهداء هم أمة محمد، فتشهد على الأمم بأن الله أرسل إليهم رسله، وأن الرسل بلغوا دعوتهم. يشهد علينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أرحم منا، فهنيئاً لنا شهادة رسولنا صلى الله عليه وسلم.
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ [الزمر:69]. أي: بالعدل فيدخل الله أهل الإيمان الجنة، وأهل الشرك النار -والعياذ بالله- ويقتص من أصحاب المظالم، فيؤخذ من حسناتهم وتعطى للذين ظلموهم، حتى إذا لم يبق لهم حسنة يؤخذ من سيئات المظلومين وتوضع على الظالمين.
فمن ظلمك، إما بالسب، أو بالشتم، أو بالضرب، أو بالقتل، ستأخذ من حسناته يوم القيامة، فإذا لم تبق له حسنة، وما زال الآخرون يطالبونه بمظالمهم، يؤخذ من سيئاتهم وتوضع عليه فيثقل -والعياذ بالله- ويزج به في جهنم، ولهذا يجب أن نمتنع من أن نظلم مؤمناً أو مؤمنة حتى لا تؤخذ حسناتنا إليهم، ووعلينا أن نتق الله ونصبر حتى نلقى الله ونحن أطياب أطهار بإذن الله تعالى.
[ من هداية هذه الآيات:
أولاً: بيان مظاهر عظمة الرب تعالى التي يتنافى معها الشرك به عز وجل في عباداته ] وهي العظمة التي يستحيل أن يستحق صاحبها أن يشرك به، فهو الذي يقبض الأرض، ويطوي السماوات بيمينه،وغيره أحقر وأذل من أن يفعل ذلك [ وروى الترمذي وصححه عن عائشة رضي الله عنها: ( أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67] قلت: فأين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال: على جسر جهنم ) ، وفي رواية: ( على الصراط يا عائشة
[ ثانياً: تقرير البعث والجزاء ببيان أحواله وما يجري فيه ] والبعث هو: بعث الناس من قبورهم؛ ليقفوا بين يدي ربهم ويسألوا ويستنطقوا ويحكم لهم، إما بالجنة أو بالنار.
[ ثالثاً: بيان عدالة الله في قضائه بين عباده في عرصات القيامة ] فلا يظلم منهم أحداً بأخذ شيء حسنة من حسناته، ولا بإضافة سيئة إلى سيئاته،قال تعالى: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
[ رابعاً: فضيلة هذه الأمة بقبولها شاهدة على الأمم التي سبقتها ] فمن مزايا هذه الأمة وشرفها أنها تشهد على الأمم السابقة، بأن رسلها بلغوها وهي مع ذلك عصت وفجرت ولم تعبد الله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر