قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم فـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] توحيد الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] توحيد مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] توحيد إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] توحيد اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] الذين فارقوا التوحيد.
وكذلك شهد الله لنفسه بهذا التوحيد وشهدت له به ملائكته وأنبياؤه ورسله، قال تعالى : شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18] إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] فتضمنت هذه الآية الكريمة إثبات حقيقة التوحيد والرد على جميع طوائف الضلال، فتضمنت أجلّ شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها، من أجلّ شاهد بأجلّ مشهود به].
يقول: إن القرآن كله يدور حول تقرير التوحيد، كما تقدم أن الأوامر والنواهي في الأحكام تكميل للتوحيد أو أمر بالتوحيد، والقصص والوقائع فيها بيان حال أهل التوحيد ومن خالف التوحيد، فالله يذكر قصة المكذبين بالتوحيد وكيف أهلكهم، وقصة الرسل ومن نجا معهم؛ لأنهم من أهل التوحيد، وكذلك ذكر الثواب لأهل التوحيد، والعقاب لمن خالف التوحيد، فيقول: إن سورة الفاتحة تتضمن التوحيد، ففي كل آية منها توحيد.
فالآية الأولى فيها الحمد، أي: أنه المستحق للحمد وحده، فهو توحيد، لأنه تخصيص للحمد بمن يستحقه.
والآية الثانية فيها وصف الله تعالى بالرحمة وهذا توحيد الصفات، يعني أن من صفاته أنه المتوحد بصفة الرحمة.
والآية الثالثة فيها الملك، أي هو وحده المالك فلا يملك أحد ملكه.
والآية الرابعة فيها العبادة، أي: لا نعبد غيرك، فأنت المعبود وحدك وأنت المستعان به وحدك، وهذه هي حقيقة التوحيد، فـ(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) توحيد العبادة (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) توحيد العمل، أو توحيد المعرفة.
وكذلك سؤال الهداية، والهداية هي الدلالة على الصراط الذي هو صراط أهل التوحيد، والذين أنعم الله عليهم هم أهل التوحيد، والدعاء بأن يجنب الله السالك طريق الغاوين الذين خالفوا التوحيد، وهم أهل الغضب وأهل الضلال.
فتضمنت سورة الفاتحة من أولها إلى آخرها تقرير التوحيد.
وكذلك الآية التي في سورة آل عمران فإن الله ذكر أنه شهد بهذه الشهادة، يقول: تضمنت هذه الآية أجل شهادة، من أجل شاهد، بأجل مشهود به، فالشاهد هو الله والملائكة والعلماء شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ [آل عمران:18] فجعل أهل الشهادة هم هؤلاء الثلاثة، شهد لنفسه، وشهدت له ملائكته، وشهد له أهل العلم به من خلقه.
وأولو العلم: هم الذين آتاهم الله معرفة بتوحيده، وهم الذين يخصونه بالتوحيد، أما المشركون فإنهم جهلة، وكل من أعطاه الله علماً بهذا النوع فهو من أهل العلم.
فالشاهد هو الله وملائكته وأهل العلم من خلقه، والشهادة معناها الإقرار والاعتراف بالمشهود به، والمشهود به هو الإلهية، ولهذا كرر: (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) مرتين، وأتبعها بأن الإسلام هو دين الحق، فهذه الآية في تقرير التوحيد.
وقد ذكرنا أن ابن القيم رحمه الله تكلم على هذه الآية في آخر مدارج السالكين، وأن الشارح لخص كلامه ونقل منه ما يدل على أن الآية تضمنت معاني جديدة مفيدة إذا تأملها المسلم عرف كيفية التوحيد، وكيف شهد الله به لنفسه، وشهدت له به ملائكته، وشهد له به العلماء.
كلمة (شهد الله) قيل: معناها علم، وقيل: أخبر أو بيّن أو علّم خلقه، أو أمرهم وألزمهم به، والكلمة تحتمل ذلك كله، أي: علم بوحدانيته وهو أعلم بنفسه وبخلقه، وقيل: بين ذلك وأظهره، وقيل: أخبر به عباده وأعلمهم به، وقيل: أمر عباده وألزمهم بأن يوحدوه، وأن يخلصوا له العبادة، هذا هو حقيقة: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [آل عمران:18] .
قال المؤلف رحمه الله: [فلها أربع مراتب:
فأول مراتبها: علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته.
وثانيها: تكلمه بذلك، وإن لم يعلم به غيره، بل يتكلم بها مع نفسه ويتذكرها وينطق بها أو يكتبها.
وثالثها: أن يعلم غيره بما يشهد به ويخبره به ويبينه له.
ورابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به.
فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربع: علمه بذلك سبحانه، وتكلمه به، وإعلامه وإخباره لخلقه به، وأمرهم وإلزامهم به].
يقول: إن هذه الشهادة تضمنت هذه المراتب الأربع، تضمنت أن الله علم بذلك، وهو أعلم بنفسه، ثم بعد ذلك تكلم به، ثم بعد ذلك علّم به خلقه، ثم بعد ذلك أمرهم به.
وأما مرتبة التكلم والخبر فقال تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف:19] فجعل ذلك منهم شهادة وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ولم يؤدوها عند غيرهم].
يتكلم على معاني هذه الأشياء، يقول: إن الإنسان لا يشهد إلا بما علم، قال تعالى: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا [يوسف:81]، فأنت لا تؤمر بالشهادة إلا بعدما تعلمها، وتعتقد معناها وتتحققها، فلا بد من هذا الأمر.
ولا بد أن يكون العلم علم يقين لا علم شك وتردد، ولا بد أن يكون ذلك العلم قائماً على أدلة، فإن العلم الذي ليس له دليل قوي لا يؤمن أن يأتي دليل يبطله، ولا شك أن علم التوحيد قائم على أدلة قوية لا يمكن أن يأتي ما يبطل دلالتها.
فهذه المرتبة الأولى، وهي: أن الشاهد يعلم ما يشهد به علم يقين، ويكون علمه ناشئاً عن أدلة، وتكون تلك الأدلة صريحة الدلالة ليس فيها شك ولا تردد.
فإن هذه الآية في المشركين: سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف:19] هم ما قالوا: نشهد أن الملائكة بنات الله، وإنما تكلموا فيما بينهم، فلذلك قال تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف:19] يعني: تكلموا فيما بينهم وقالوا: الملائكة إناث .. الملائكة بنات الله، فجعل ذلك شهادة فقال: سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف:19] هذا سبب تسميتها شهادة؛ لأنهم تكلموا بها.
إعلام بالقول وإعلام بالفعل، وهذا شأن كل معلم لغيره بأمر؛ تارة يعلمه به بقوله، وتارة بفعله، ولهذا كان من جعل داره مسجداً وفتح بابها وأبرزها بطريقها وأذن للناس بالدخول والصلاة فيها معلماً أنها وقف وإن لم يتلفظ به.
وكذلك من وجد متقرباً إلى غيره بأنواع المسار يكون معلماً له ولغيره أنه يحبه وإن لم يتلفظ بقوله، وكذلك بالعكس.
وكذلك شهادة الرب عز وجل وبيانه وإعلامه، يكون بقوله تارة وبفعله أخرى، فالقول ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه، وأما بيانه وإعلامه بفعله فكما قال ابن كيسان : شهد الله بتدبيره العجيب وأموره المحكمة عند خلقه: أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:18] ، وقال آخر:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
ومما يدل على أن الشهادة تكون بالفعل قوله تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التوبة:17] فهذه شهادة منهم على أنفسهم بما يفعلونه.
والمقصود أنه سبحانه يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه، ودلالتها إنما هي بخلقه وجعله].
هذه المرتبة الثالثة التي هي إعلام الغير، يقول: إن الله شهد لنفسه بالإلهية، ومن آثار الشهادة ومن تمامها أن أعلم غيره بأنه: ( لا إله إلا هو ) وهذا الإعلام ذكر أنه يكون بأمرين:
إعلام بالفعل، وإعلام بالقول.
إعلام الله لخلقه بالقول هو ما تضمنه كلامه الذي أوحاه إلى رسله، فإنه أرسل الرسل وأوحى إلى كل منهم بهذا التوحيد، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].
فهذا إعلام بالقول حيث أعلم كل نبي بواسطة الملائكة بهذا النوع الذي هو توحيد العبادة، وكذلك أنزل إلى كل نبي كتباً أو صحفاً، وضمن تلك الكتب كلامه الذي يتضمن توحيده وشرعه.
وأما الإعلام بالفعل: فهو ما نصبه تعالى من الآيات والدلالات التي من تأملها عرف حقيقة التوحيد، وعرف الدين الحق، وعرف أن الله هو الواحد الأحد، فإنه سبحانه نصب الآيات، ولفت إليها الأنظار، فلأجل هذا يذكر عباده بالمخلوقات التي خلقها، فيخبرهم بخلقهم أنفسهم، وبخلق ما على الأرض من الدواب، ويخبرهم بخلق الأرض، واختلاف ما فيها من جبال ومن مهاد ومن بحار ومن أنهار ومن أشجار ومن ثمار وما أشبه ذلك، وهكذا يلفت أنظارهم إلى ما فوقهم من الرياح ومن السحب، ومن الأفلاك وما فيها من النجوم السيارة والثابتة وما أشبهها، كل ذلك من الآيات التي نصبها لعباده يعلمهم بها التوحيد، كأنه يقول: تعلموا من هذه الآيات دلالتها على أن الخالق لها هو الواحد الأحد، وهو المستحق بأن يعبد ويفرد.
فشهد بالقول بقوله: لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].
وشهد بالفعل، بأن أعلم عباده بالفعل؛ فنصب الآيات والدلالات حتى يعلموا منها قدرته تعالى على كل شيء واستحقاقه لأن يؤله وحده، وأن لا يؤله معه غيره.
يذكر الشارح أن الإعلام يكون بالقول وبالفعل حتى منا، فالواحد منا عليه أن يعلم الناس بما يعتقده، نحن نعتقد أن لا إله إلا الله، فنخبر بأنا نعتقد ذلك، وهذا الإخبار يقتضي الإعلام، فنقول: اعلموا بأنا نعتقد أن الله هو الإله الحق، فهذا إعلام بالقول.
وأما الإعلام بالفعل فهو أفعال الإنسان، فأنت إذا رأيت المؤمن التقي الموحد يمد يديه إلى ربه يتضرع إليه، عرفت أنه يعبد إلهاً واحداً، وكذلك إذا رأيته يركع له ويسجد، يقوم له ويقعد، يخضع له ويتواضع، عرفت من ذلك أنه يعبد إلهاً واحداً، فأعلمك هذا العابد بقوله وأعلمك بفعله، فالإعلام يكون بالأمرين، بالقول وبالفعل.
فمثلاً: الذي بنى هذا المسجد ما قال للناس: أيها الناس هذا وقف، بل لما بناه على هيئة المسجد وفتح أبوابه وشرع للناس ليجتمعوا فيه وليقيموا فيه الصلوات، وليحضر فيه الخطب والحلقات، كان ذلك إعلاماً بالفعل وإن لم يكن إعلاماً بالقول. فكذلك إذا أعلمك طالب العلم أو المسلم بفعله أنه يعبد الله وحده فإن ذلك كاف في الإعلام.
ذكر المرتبة الرابعة، وهي مرتبة الأمر والإلزام، بعد أن ذكر مرتبة العلم، ثم مرتبة التكلم، ثم مرتبة الإخبار، ثم مرتبة الإلزام.
فهذه المرتبة الرابعة التي هي مرتبة الأمر والإلزام بالمأمور به، وهو التوحيد، قال الله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:18-19] هذه الشهادة قد لا يكون فيها أمر صريح فهو لم يقل: اشهدوا بما شهدت به، ولا قال: ألزمتكم أيها الناس بأن تشهدوا بما شهدت به، ولكن العاقل يتفكر إذا قرأ أو قيل له: إن الله قد شهد لنفسه بالوحدانية، وملائكته شهدوا له بذلك، والعلماء من خلقه شهدوا له بذلك، فيفكر ويقول: كيف لا أكون مع العلماء؟! إذا لم أكن مع العلماء كنت مع الجهال، ولا أرضى أن أكون بين الجاهلين، فعند ذلك يشهد بما شهدوا به، فكأن ذلك أمر، وكأنه يقول: شهدت بذلك أنا وملائكتي والعلماء من خلقي فافعلوا ذلك واشهدوا به يا جميع الخلق.
هذا قد يؤخذ من هذه الشهادة، ولكن هناك أدلة صرحت بأمر الناس كلهم بهذه الشهادة، وبهذا التوحيد، مثل الآيات التي تقدمت، فالله تعالى يقول: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40] هذا أمر وإلزام، وكذلك في آيات كثيرة كقوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36] ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21] ، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [البقرة:83] ، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] ، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا [التوبة:31] ، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5] فالأمر يقتضي الإلزام.
إذا أمرنا الله بهذا فقد ألزمنا به، فيجب امتثاله، فإن أمر الله هو الحق، وضده هو الباطل، فمن لم يمتثل هذا المأمور فإنه خاسر.
كأن الشارح يقول: إن كلمة: (شهد الله أنه لا إله إلا هو) قد يؤخذ منها الأمر، ولكن كيف يؤخذ الأمر؟
إذا أخبر الله بهذا الخبر فقد أخبر بإلهيته الحقة، ونفى عن غيره الإلهية، فنفى أن يكون غيره صالحاً لأن يكون إلهاً، وإذا لم يصلح غيره للإلهية فكأنه يأمر عباده بأن يؤلهوه، فيقول: الإله الحق هو الله، فإذا كنتم تريدون نجاتكم فاتخذوه إلهاً، واتركوا إلهية ما سواه، هذا وجه أخذ الأمر من قوله: (شَهِدَ اللَّهُ).
كل من سمع ذلك يقول: هذه شهادة الله، وإذا شهد الله وملائكته والعلماء من خلقه بهذا الشيء فقد بطل ما عداه، وكل ما سوى هذا المشهود به فهو باطل، فلا يصح حينئذٍ أن يجعل معه آلهة، ولا أن يؤلِّه غيره، فمن ألَّه غيره فقد ضل سعيه في الحياة الدنيا وخسر عمله.
وضرب مثلاً بما إذا سمعت إنساناً أو رأيت إنساناً يسأل إنساناً أن يعالجه، فقلت له: هذا ليس بطبيب، الطبيب فلان، فكأنك تقول: اذهب إليه واترك هذا فإنه ليس بطبيب.
أو يستشهده يقول: اشهد معي، يعتقد أنه مقبول الشهادة، فإنك تقول: هذا ليس بشاهد ولكن الشاهد فلان، فكأنك تقول: اذهب إليه واستشهده فإنه الذي تقبل شهادته.
وكذلك إذا رأيته يستفتي جاهلاً قلت: هذا ليس بمفت، المفتي فلان، كأنك تقول: اذهب إليه.
فهذا الذي أنت تخاطبه يفهم بأنك تأمره بأن يذهب إلى ذلك الطبيب.. الشاهد.. المفتي، فكذلك إذا قال الله: الإلهية الحقة لله، كأنه يقول: فألهوه واتخذوه إلهاً، واتركوا إلهية ما سواه، هذا وجه الدلالة من الشهادة.
وأيضاً: فلفظ (الحكم) و(القضاء) يستعمل في الجملة الخبرية، ويقال للجملة الخبرية: قضية وحكم، وقد حكم فيها بكذا قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [الصافات:151-154]، فجعل هذا الإخبار المجرد منهم حكماً وقال تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36] لكن هذا حكم لا إلزام معه].
وهذا أيضاً بيان أنه يؤخذ الحكم من هذا الأمر، فالأمر بالتوحيد هو الإلزام به، فإن الإنسان إذا سمع حكم الله تعالى فإنه يتبعه وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا [المائدة:50]، إذا عرف أن الله أخبر بهذا الشيء، وأنه أعلم خلقه بأنه الإله، فإنه يعرف أنه الإله الحق الذي يستحق أن يؤله، فكأنه يقول: إن الله يأمرنا بأن نتخذه إلهاً، ونترك التأله لغيره، هذا من جهة.
ومن جهة ثانية يقول: إذا فسرنا ( شهد ) بحكم، وأخبر، فإن الخبر والحكم يقتضي الإلزام، ومعلوم أن الحكم هو: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه، كما يقول ذلك الأصوليون، فإذا حكم الله لنفسه بالإلهية، وحكم لغيره بعدم الصلاحية للإلهية، فهذا حكم من الله، وحكم الله واجب الإتباع.
والحكم قد يطلق كما سمعنا على كل قضية، فكل قضية قد تسمى حكما، تقول: هذه قضية فلان وحكم فيها فلان بكذا وكذا، كما في هذه الآيات، التي أخبر الله بها بأن هذا الأمر حكم منه.
فعلى كل حال الآية صريحة في إبطال إلهية ما سوى الله تعالى، وإثبات الإلهية لله تعالى، والإثبات يستلزم الإلزام.
قال رحمه الله: [والحكم والقضاء بأنه: لا إله إلا هو متضمن الإلزام، ولو كان المراد مجرد شهادة لم يتمكنوا من العلم بها، ولم ينتفعوا بها، ولم تقم عليهم بها الحجة، بل قد تضمنت البيان للعباد ودلالتهم وتعريفهم بما شهد به، كما أن الشاهد من العباد إذا كانت عنده شهادة ولم يبينها بل كتمها، لم ينتفع بها أحد، ولم تقم بها حجة.
وإذا كان لا ينتفع بها إلا ببيانها فهو سبحانه قد بينها غاية البيان بطرق ثلاثة: السمع والبصر والعقل].
يقول: إن مجرد الشهادة لا تتم إلا إذا كان معها إلزام، فالله تعالى عندما شهد كأنه ألزم، شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو، وهذه الشهادة تستلزم الأمر الذي ينتج منه الإيجاب، ومعلوم أن الشهادة لا ينتفع بها إلا إذا بينت؛ يقول: لو أن إنساناً عنده شهادة لك، وكتمها، ما حصل أنك تنتفع بها، فلا تنتفع بها إلا إذا بين وقال: لك عندي شهادة، فالله تعالى شهد لنفسه وبين هذه الشهادة بهذه الطرق.
وكذلك السنة تأتي مبينة أو مقررة لما دل عليه القرآن، لم يحوجنا ربنا سبحانه وتعالى إلى رأي فلان، ولا إلى ذوق فلان، ووجده في أصول ديننا؛ ولهذا نجد من خالف الكتاب والسنة مختلفين مضطربين، بل قد قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، فلا يحتاج في تكميله إلى أمر خارج عن الكتاب والسنة.
وإلى هذا المعنى أشار الشيخ أبو جعفر الطحاوي فيما يأتي من كلامه بقوله: (لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلِم في دينه إلا من سلّم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم)].
يقول: إن الله تعالى لما شهد هذه الشهادة بينها، وبيانه عن طريق السمع وعن طريق البصر وعن طريق العقل، وعن طريق النظر، يعني بكل أنواع البيان، فلم يبق طريق إلا وبينه من جهته أتم بيان.
وكذلك وصف القرآن في قوله: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [يوسف:1] يعني المبين الذي بين الله فيه، فهو مبين من أوجه:
أولاً: أنه بين واضح.
وثانياً: أنه مبيِّن مشتمل على بيان، وأي بيان أوضح من بيان كلام الله تعالى!
وثالثاً: أن الله تعالى أمر رسوله بأن يوضحه، فالرسول صلى الله عليه وسلم بين معانيه بقوله وبفعله، امتثالاً لهذه الآيات التي سمعنا، وهي قول الله تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتعلمون المعاني مع الألفاظ، يقول عبد بن حبيب السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن: أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها، يقول: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً.
ولا شك أن هذا لإقامة الحجة، فما دام أن هذا القرآن قد بين للناس ما يحتاجون إليه، وبالأخص في أمر العقيدة والتوحيد، فإن الخلق واجب عليهم أن يقبلوا ذلك البيان وينتفعوا به ويعملوا به.
وما ظهر لهم فإنهم يقبلوه، وما خفي عنهم من الأمور الغيبية فإنهم يسلمون له، ويتوقفون عن البحث في حقيقته، وهذا معنى قوله: (لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا)، بل نتسلم ذلك على ما هو عليه.
أولاً: أنه واضح من حيث إنه مفهوم؛ لأنه بلسان عربي مبين.
ثانياً: أن ما فيه من الخفي قد بينه الرسول عليه الصلاة والسلام وتلقى ذلك عنه صحابته، وبينوا ذلك وشرحوه لتلامذتهم، ونقلت شروحهم وتفاسيرهم في كتب التفسير موضحة ظاهرة يجدها من طلبها، فما بقي لأحد حجة.
فالحاصل أن التوحيد قد بين أتم بيان.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر