إن الناظر في أحوال المسلمين اليوم يرى انحرافاً كبيراً عن منهج الله تعالى، فعلى الدعاة والمربين أن يعملوا جادين في تصحيح مسار المسلمين، وتقويم اعوجاجهم، وإن من أهم الأمور التي يجب استخدامها في ذلك: تربية المسلمين على القصص القرآني والنبوي؛ لما فيها من تأثير قوي يدخل إلى أعماق القلوب محدثاً تأثيراً قوياً فيها، ومن ذلك قصة: الأعمى والأقرع والأبرص، فإن فيها من العبر والدروس الشيء الكثير، ففيها: أن الدنيا دار ابتلاء، وأن كفر النعم سبب لزوالها، وأن الإنفاق وشكر النعم سبب لبقائها.
-
الأسباب التي دعت إلى طرح موضوع سلسلة التربية
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وتعالى أن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير.
أعلم جيداً أيها الأحبة أننا الآن نمر بأزمة عارمة في جميع بيوتنا، ألا وهي أزمة (بعبع) الثانوية العامة التي تؤثر على الآباء والأمهات قبل الأبناء، وكم تمنيت أن تتوقف اللقاءات كلها حتى ينتهي أحبابنا وإخواننا الطلاب من أداء الاختبارات، فاسمحوا لي أن أقدم المحاضرة ولا أريد أن أشق على أحبابنا وإخواننا من الآباء والأمهات الحاضرين أو على إخواننا القليلين الحاضرين من الطلاب.
وبداية أضرع إلى الله جل وعلا أن يذلل لهم الصعاب، وأن ييسر لهم الأسباب، وأن يفتح لهم الأبواب، وأن يذكرهم في الاختبارات ما نسوا، وأن يعلمهم ما جهلوا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الأحبة في الله! هذا هو لقاؤنا السادس مع سلسلتنا المنهجية بعنوان: التربية لماذا؟ وفي عجالة أذكر أحبابي وإخواني بما ذكرناه في اللقاءات الماضية.
قلت: إن الأسباب التي دعتني لطرح هذا الموضوع هي:
أولاً: الصحوة، فإن الصحوة الإسلامية التي لا ينكرها إلا جاحد، هذه الصحوة من أجل أن تكون صحوة بناءة راشدة فإنها في أمس الحاجة إلى منهج تربوي، لا أقول: إلى منهج نظري، فإننا لا نعدم الآن المنهج النظري، بل إن رفوف المكتبات تكاد تئن من الأحمال الثقيلة من الكتب، وإن عجلة المطبعة تنتج كل يوم الكثير والكثير، ولكننا في أمس الحاجة إلى أن نحول هذا المنهج النظري إلى منهج تربوي واقعي يتحرك بيننا في دنيا الناس.
ثانياً: الذوبان في بوتقة المناهج التربوية الغربية الدخيلة، فلما هزمت الأمة راحت تحاكي الحضارة المنتصرة في كل شيء، ولم تفرق الأمة بين الحضارة المادية وبين الحضارة الأخلاقية، فراحت تنقل كل ما عند الغربيين دونما تفرقة، وصدق فيها قول نبينا صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث
أبي سعيد الخدري - (
لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه وراءهم أو لتبعتموهم. قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟).
ثالثاً: الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير، فإن الأمة قد ابتعدت كثيراً عن المنهج الرباني في جانب العقيدة والعبادة والتشريع والأخلاق والاتباع.. إلى آخره، ومن ثم وجب أن نطرح هذا الطرح لنحول -جميعاً- هذا المنهج النظري إلى منهج تربوي واقعي يتحرك بيننا في دنيا الناس.
ثم تكلمت بعد ذلك عن مصادر التربية، وقلت: كل جديد طيب لا يتناقض مع القرآن والسنة الصحيحة، بل إننا نقر بكل جديد لا يصطدم اصطداماً مباشراً مع عقيدتنا أو منهجنا التربوي.
ثم تحدثت بعد ذلك عن خصائص هذا المنهج التربوي، وركزت الحديث عن الخصائص التالية:
أولاً: أعظم خاصية يتميز بها منهجنا التربوي هي: خاصية التكامل والشمول، فإن أي منهج من صنع البشر قد يصلح لزمان ولا يصلح لآخر، وقد يصلح لمكان ولا يصلح لآخر، وقد يصلح لطائفة من الناس ولا يصلح لأخرى، أما منهج الله فهو الصالح لكل زمان ولكل مكان ولكل الخلق؛ لأن واضعه هو خالق الإنسان
أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
الخاصية الثانية من خصائص المنهج التربوي هي: التوازن والاعتدال، فإننا لا نجد منهجاً جمع بين الدنيا والآخرة، وبين الدين والدنيا كما جمع بينهما منهج الله تبارك وتعالى، ومنهج المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
أما إن نظرت إلى مناهج الدنيا التي وضعها البشر فإنك سترى منهجاً يركز في الجانب المادي، ويغفل عن الجانب الروحي، أو العكس، أما منهج الله فقد جمع بين التوازن وبين الاعتدال في آن واحد.
الخاصية الثالثة التي يتميز بها منهجنا التربوي هي: خاصية التميز والمفاصلة، أعني: قضية الولاء والبراء التي تميعت، وهذا مع حسن ظني، ولا أكون مغالياً إن قلت: التي ضاعت وتلاشت عند كثير من المسلمين إلا من رحم ربك جل وعلا، فأصبحنا نرى من أبنائنا وإخواننا من يوالي أعداء الله ويعادي أولياء الله! وإنا لله وإنا إليه راجعون.
فالمنهج التربوي منهج متميز، منهج متفاصل، لا يلتقي فيه الكفر مع الإيمان، ولا يلتقي فيه الحق مع الباطل، وإن المجاملة على حساب المنهج الحق تفرق ولا تجمع، فلابد من التميز، لابد من المفاصلة، بل كانت هذه من أولى الخطوات التي فعلها المصطفى صلى الله عليه وسلم ليربي أعظم جيل عرفته الدنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها -في مجموعه- بلا منازع على الإطلاق، تميز بهذا الرعيل الأول، حيث فاصل به بيئة الكفر وبيئة الشرك التي ترعرع بين تربتها وجدرانها، فلما تميز الرسول صلى الله عليه وسلم بمنهجه.. بفكره.. بأخلاقه.. بسلوكه.. بتصوره الاعتقادي.. بتصوره الاجتماعي.. بتصوره الأخلاقي؛ أحس المجتمع الشركي بأن نبتة طيبة ذات رائحة زكية عطرة بدأت تنبت في هذه البيئة، ولن يحس المجتمع بهذا التميز والتفاصل إلا إذا تميز أهل الحق، وفاصلوا كل البيئة الكفرية، وكل أهل الضلال.
يجب عليك -أيها المسلم- أن توالي من والى الله ورسوله والمؤمنين، وأن تعادي من عادى الله ورسوله والمؤمنين.
ثم تكلمت بعد ذلك عن وسائل التربية، وقلت: إن أعظم وسيلة من وسائل التربية: هي التربية بالقدوة، ونحن الآن في أمس الحاجة إلى هذا المنهج، وإلى هذه الوسيلة المتجددة، وكما قلت وأكرر عن عمد: كان ينبغي ألا يتحدث عن التربية بالقدوة إلا من توافرت لديه الأهلية علماً وعملاً، ولكن قد يتحدث المرء لا من منطلق شعوره بالأهلية، وإنما من منطلق شعوره بالمسئولية، والقاعدة الأصولية تقول: (من عدم الماء تيمم بالتراب) ويتردد في أذني في كل مرة وأنا أذكر أحبابي بالقدوة كأعظم وسيلة من وسائل التربية قول القائل:
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا كيما يصح به وأنت سقيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
وهناك يقبل ما تقول ويقتدى بالفعل منك وينفع التعليم
فالله أسأل أن يغفر ذنبنا، وأن يستر عيبنا، وأن يرزقنا وإياكم الصدق والإخلاص في أقوالنا وأعمالنا.
الله جل وعلا علم أنه لن يتحول المنهج التربوي في حياة الناس إلا من خلال قدوة، فإن تقديم المنهج النظري ليس أمراً عسيراً، ولكن هذا المنهج التربوي النظري سيظل حبراً على ورق، ولن يساوي قيمة المداد الذي كتب به ما لم يتحول هذا المنهج التربوي في حياة الأمة إلى واقع، فإن المناهج النظرية تكدست في المكتبات، لكن ما هي النتيجة؟ هل الثمرة التي نقطفها الآن تساوي قيمة الكتب ومقدار المناهج التي قدمت طيلة السنوات الماضية؟
أقول بملء فمي: لا ورب الكعبة.
إذاً: لابد أن يتحول هذا المنهج النظري في حياتنا إلى واقع، إننا لا نريد بهذا الطرح التربوي مجرد الثقافة الباردة التي لا تتعامل إلا مع الأذهان، والتي لا تتعامل إلا مع التلذذ والاستمتاع بحسن البيان، وفصاحة الأسلوب، ودقة العبارة، وحسن عنصرة الموضوع، كلا، إننا لا نريد هذا، بل إن العقول قد كلت وملت من هذا، إنما الذي نريده وأنقله بقلبي وروحي ودمي إليكم أن نحول هذا المنهج النظري التربوي في حياتنا إلى واقع.
أين أخلاق الإسلام؟ أين الدين؟ إن أعظم خدمة نقدمها اليوم للإسلام هي أن نشهد للإسلام شهادة واقعية، عملية، أخلاقية، سلوكية، بعدما شهدنا له جميعاً من قبل شهادة قولية.
كلنا شهد الإسلام بلسانه، لكن من منا شهد الإسلام بسلوكه؟ من منا شهد الإسلام بأخلاقه؟ من منا قال للدنيا كلها: هذا هو إسلامي وهذا هو ديني.
أيها المسلم! قم ودثر العالم كله ببزدتك ذات العبق المحمدي، قم واسق الدنيا كأس الفطرة، لتروى بعد ظمأ، ولتحيا بعد موات، قم وأسمع العالم كله خفقات قلبك الذي وحد الله جل وعلا، قم وأظهر للدنيا كلها حقيقة إسلامك في صورة عملية وضّاءة مشرقة تتألق روعة وسمواً وجلالاً، إن عجزت أن تبين للدنيا كلها بلسانك حقيقة الإسلام، فلا تعجز عن ذلك بأفعالك، فإن الإسلام ما انتشر في المرحلة الأولى إلا عن طريق الرعيل الذي حول الإسلام في حياته إلى منهج حياة، وإن العالم اليوم كله يحكم على الإسلام من خلال واقع المسلمين المر الأليم.
لقد قرأت لعالم ألماني شهير أعلن إسلامه، وأراد أن يأتي إلى بلاد المسلمين ليملأ عينه بحقيقة الإسلام في صور عملية مشرقة، فحج إلى مكة، ورأى الناس في الحج، ورأى الصراع، ورأى القسوة، ورأى الغلظة، ورأى الفضاضة، ورأى القوي يريد أن يقتحم وينتقم من الضعيف، ورأى المرأة العجوزة الشمطاء تصرخ على الشاب القوي الفتي وتنادي عليه: أعطني شربة ماء فيأبى! وقد جاء ليحج بيت الله الحرام!
ولقد رأيت بعيني رأسي في حج العام الماضي شاباً ضعيفاً وطئته الأقدام، وسقط تحت أرجل الفرسان الذين يطوفون حول بيت الله الرحيم الرحمن، وصرخ ولكن من الذي يغيثه؟! ومن الذي ينقذه؟! ومن الذي يمد إليه يد العون؟! فوطئته الأقدام حتى انفجر بطنه، ونجس الصحن بأكمله!
هذا الرجل لما رأى هذه الصور المؤلمة لحقيقة المسلمين قال قولته المشهورة: الحمد لله الذي عرفت الإسلام قبل أن أعرف المسلمين.
وهذه حقيقة مرة جداً، ولا ينبغي أن ندفن رءوسنا في الرمال كالنعام وننكرها، فهذا ليس حلاً، وإنما الحل أن نشخص الداء لنستطيع أن نحدد الدواء بدقة، فإن تحديد الدواء يتوقف تماماً على تشخيص الداء، وإلا لو ذهبت إلى طبيب وصرف لك دواءً لا يتفق مع دائك فربما يأتي الضرر.
إذاً: التربية بالقدوة من أعظم وسائل التربية، فلا يمكن أن تربي ابنك على الصدق وأنت تكذب أمامه، ولا يمكن أن تتربى البنت على الفضيلة وهي ترى أمها تخون أباها! ولا يمكن أن تتربى الفتاة على الطاعة وهي ترى أمها لا تسمع ولا تطيع أباها، فأعظم وسيلة للتربية هي التربية بالقدوة.
مشى الطاووس يوماً باختيال فقلد مشيته بنوه
فقال على ما تختالون قالوا لقد بدأت ونحن مقلدوه
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه
ولا أريد أن أطيل في هذا، ووالله لا أمل التكرار والتذكرة بهذه الوسيلة فإنها بلا منازع من أعظم وسائل التربية التي يجب على كل معلم، وعلى كل والد، وعلى كل أم، وعلى كل أخت، وعلى كل من ولّاه الله أمانة التربية أن يحول المنهج التربوي في حياة تلاميذه وطلابه وأبنائه إلى واقع ليتعلم أبناؤه هذا المنهج من خلال القدوة.
-
أهمية التربية على القصص القرآني والنبوي
تكلمت في اللقاءات الماضية عن وسيلة التربية بالقصص القرآني والنبوي، وقلت: إن التربية بالقصص القرآني والنبوي مهمة جداً؛ لأن القصص القرآني والنبوي له أسلوبه الخاص في التربية، عن طريق إثارة الوجدان والمشاعر والترقب والتخوف والمراقبة للقصة من البداية إلى النهاية، والقصص القرآني والنبوي له وظيفة تربوية لا يمكن على الإطلاق أن يحل محلها أي لون من ألوان الأداء اللغوي الآخر أبداً، فالقصة القرآنية لها دور لا يقوم به المثل القرآني، والقصة النبوية لها دور لا تقوم به الموعظة، وكل له دوره.
القصة لها دور عظيم في التربية، والمربي الناجح هو الذي يستطيع كيف يوظف القصة القرآنية والنبوية التوظيف التربوي الذي ينفذ من خلاله إلى قلب طلابه وأبنائه؛ ليخرج بعد ذلك بالدروس والعظات والعبر، أما أن يسرد القصة كسرد قصة ألف ليلة وليلة دون أن يقف مع المواعظ والعظات والعبر ، وإنما مجرد استمتاع حسي وعقلي وانتهى الموضوع؛ فليست هذه هي الوظيفة التربوية للقصة.
القصص القرآني والنبوي له أسلوب فريد، فأول القصة يشد الانتباه، ويحرك الوجدان.. خوف.. ترقب.. انفعال معين بالرضا أو بالسخط، فتعيش مع أحداث القصة وكأنك تراها، فما ظنك إن عشت بقلبك مع كلام الحق جل جلاله.
القصة القرآنية والنبوية تجسد الواقعية بكل ملامحها، أما كتاب القصة المعاصرون -مع الأسف- فنراهم قد اتجهوا اتجاهاً سيئاً؛ بحجة الكمال الفني للأداء، وبحجة الواقعية الكاملة لأشخاص القصة ومواقف القصة!
فتراهم يعزفون على وتر الجنس والدعارة، والعنف والدم، وابتزاز غرائز القراء بأسلوب متدن هابط، ابتداءً من العنوان، وانتهاءً بالمضمون، وفي النهاية يقولون: بحجة الكمال الفني للأداء، وبحجة الواقعية الكاملة للقصة، مع أن القرآن قد ذكر القصة بكل واقعيتها ولم يتدن في جملة، بل ولا في لفظة، بل ولا في حرف، حتى في لحظات التعري الجسدي والنفسي لم ينزل القرآن في كلمة واحدة عن أسلوبه الطاهر النظيف؛ لأنه ابتداءً وانتهاء كلام الله خالق الإنسان.
وضربنا مثلاً بقصة يوسف، ففي لحظة التعري الجسدي تجد قمة السمو، قمة الجلاء، قمة الروعة، تقف مع هذه المواقف ومع الشخصيات وكأنها تتحرك أمام عينيك وبين يديك، ومع ذلك لم تتحرك الغرائز الهاجعة، ولم تتحرك الشهوات الكامنة، أسلوب طاهر نظيف نقي، في كل لحظة من لحظات القصة، وفي كل موقف من مواقفها، بل ومع كل شخصية، بل ومع كل كلمة.
واكتفيت بقصة يوسف في القرآن، وسأضرب لكم مثالين بقصتين نبويتين، وندلل على دور القصص النبوي، وكيف يقف المربي الناصح الفاهم ليأخذ الدروس التربوية من القصة النبوية، فيعلم أبناءه وأتباعه وتلاميذه.
-
قصة الأبرص والأقرع والأعمى
-
النظر في أحوال أهل البلاء يجلب الشكر
قمت بزيارة لمستشفى الأمراض العقلية في حلوان، وعملت محاضرة في المعادي، وحضرها جمع كبير قرابة خمسين ألفاً، فطلب الإخوة المنظمون للمحاضرة أن نستغل هذا الجمع المبارك لنجمع قليلاً من المال لصالح مرضى الأمراض العقلية في مستشفى الأمراض العقلية، فقلت: والله فكرة طيبة، وتكلمت وجمع الإخوة مبلغاً كبيراً جداً، بل وأسجل لكم الآن أني والله -لا أقولها مبالغة- ما رأيت أطيب ولا أنقى من أهل مصر في الغالب، فرأيت مشهداً يثلج الصدور، فبفضل الله عز وجل جمع الإخوة مبلغاً طيباً، والأعجب منه أنني رأيت مع الإخوة منديلاً كبيراً ملأه الأخوات ذهباً، التي خلعت العقد، والتي خلعت الأسورة، والتي خلعت الخاتم، والتي خلعت الحلق من الأذن، وجاءنا منديل مليء بالذهب بفضل الله، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن أهل مصر طيبون؛ لأن الذي دفع هو في أمس الحاجة إلى ما دفع، وهنا العظمة، أن تنفق من سعة ومن عطاء فهذا خير لكن أن تنفق من قلة ومن ضيق هذه عظمة، هذه العظمة بأسرها وبعينها، حتى وإن كان المبلغ قليلاً بالنسبة لما يدفع من مبالغ كبيرة طائلة من أماكن أخرى، والمثل الشعبي عندنا يقول: (ما بتهونش إلا على الفقير)، وهذا في الغالب إلا من رحم الله سبحانه وتعالى من الأغنياء.
ثم ذهبت مع الإخوة لزيارة عنابر المستشفى، والله -يا إخواني- حينما دخلت أول عنبر للأخوات بكيت بكاءً مريراً وكأني لم أبك من قبل، ولم أستطع أن أكمل معهم الزيارة، وقلت: من أراد أن يتعرف على فضل الله عليه وعلى نعم الله عليه فليأت إلى هذا المكان ليسجد لربه حمداً وشكراً أن منَّ عليه بنعمة العقل بعد نعمة التوحيد والإيمان.
والله العظيم إن نعمة العقل نعمة عظيمة، من منا فكر فيها؟!
أنا أقول عن نفسي: والله ما فكرت في هذه النعمة إلا بعدما رأيت أولئك الذين سلبوها، والله ما أحسست بها إلا يومها، ومن يومها وأنا أسأل الله جل وعلا أن يثبت علينا نعمة العقل بعد نعمة التوحيد والإيمان، منَّ الله عليك بلسان ذاكر، وبقلب شاكر، وبجسد على البلاء صابر، وبجسد تتحرك به
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34].
كان بعض السلف إذا دخل الخلاء على قدميه وقضى حاجته، خرج حامداً شاكراً لمولاه، ووضع يده على بطنه ورفع رأسه إلى السماء وقال: يا لها من نعمة منسية غفل عنها كثير من الناس! فإن من الناس من لا يقضي حاجته إلا عن طريق زوجته، أو عن طريق أمه، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
أسأل الله أن يشفي مرضانا ومرضى المسلمين، إنها مسألة في غاية الحرج، حتى مع أقرب الناس إليه مع زوجته يحس بحرج شديد؛ لأنها هي التي تساعده على هذه المسألة، أما أنا وأنت فإننا ندخل ونخرج، ومن منا فكر في هذه النعمة العظيمة؟! إنها نعمة منسية غفل عنها كثير من الناس.
خرج ملك من الملوك في رحلة صيد، ونفد عليه الماء؛ فطلب من خادمه
ابن السماك ماء بارداً، فأحضر له خادمه
ابن السماك كوباً من الماء البارد، وقبل أن يشرب قال
ابن السماك لسيده: أستحلفك بالله يا سيدي! لو منع منك هذا الكوب فبكم تشتريه الآن؟
قال: بنصف ملكي. قال: أستحلفك بالله! لو حبس فيك فبكم تشتري إخراجه؟
قال: بملكي كله. فبكى
ابن السماك وقال: اشرب هنأك الله، وأف لملك لا يساوي شربة ماء!
اعرف فضل الله عليك، تذكر نعم الله عليك، ولا تستغلها في معصية الله، إن منّ الله عليك بالنعم فتواضع لربك، واخفض جناح الذل لخلق الله؛ ليحفظ الله عليك النعمة، واحمد الله واشكره على هذه النعمة
لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7].
الآن نسأل كثيراً من أهالينا وأحبابنا عن معيشتهم، ويكون البيت مليئاً بالخيرات، والثلاجة تبرد الطعام والشراب، والمروحة شغالة، والتلفزيون قابع على الصدور في وسط الصالة؛ فيجيب الواحد منهم قائلاً: هي عيشة والسلام، والله الحال غم. نعوذ بالله! احمدوا الله، كانوا في الزمان الماضي يقولون: ما أحد يموت من الجوع، أما في هذا الزمان فهناك الآلاف يموتون من الجوع، كما حدث في الصومال والبوسنة وكشمير والفلبين وطاجاكستان وتركستان، أما أنت فإنك تأكل وتشرب وتعيش آمناً، فهذه نعمة عظيمة،
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34] فكفر النعمة سبب من أسباب زوالها، فإذا كفرت بالنعمة وأنكرت فضل الله عليك فاعلم بأن هذا سبب خطير من أسباب زوال النعم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
-
قصة صاحب الجنتين وعاقبة كفران النعم
-
الإنفاق في سبيل الله من أعظم القربات
الدرس الثالث من دروس قصة الثلاثة: أن من أعظم القربات إنفاق الأموال ابتغاء مرضاة رب الأرض والسماوات، فالإنفاق قربة عظيمة، ولكن الشح والبخل فرخ وباض في قلوب كثير من الناس إلا من رحم ربك جل وعلا، الشح والبخل سبب من أسباب الكذب، البخيل يكذب خوفاً على المال، الشحيح يكذب خوفاً على المال، فما من منفق أنفق إلا ودعا له الملك قائلاً: (
اللهم أعط منفقاً خلفاً).
الحقيقة -يا إخوان- إذا أراد الواحد أن يتكلم عن مشاكل الإنفاق، ويريد أن يستشهد ببعض النماذج لأصحاب المصطفى عليه الصلاة والسلام يقف عيياً أمام هؤلاء الأطهار الأبرار الأخيار، ما الفرق بيننا وبينهم؟
كانوا إذا دعوا للإنفاق ساهموا وسارعوا، فما بالنا إذا دعينا اثاقلنا إلى الأرض؟! فالواحد منا قبل أن يخرج المال ينظر بطرف عينه إلى المال، فإذا وجد الورقة كبيرة أدخلها بسرعة، وذهب يبحث عن الورقة الأقل، أنا مقدر لظروف الناس، والمعيشة التي يعيشها الناس معيشة صعبة جداً، لكن أحدث القادر الذي يستطيع البذل والإنفاق.
السلف كانت الدنيا في أيديهم فسهل عليهم العطاء، أما نحن فأصبح المال في قلوبنا فعز علينا العطاء، يقول
ابن القيم رحمه الله -ملخصاً حياة
أبي بكر الصديق رضي الله عنه في كلام قوي، وأختم به المحاضرة، ونكمل إن شاء الله الدروس والقصة النبوية في وقت آخر-: هذا هو
أبو بكر الصديق الذي عاين طائر الفاقة يحوم حول حب الإيثار، فألقى له
الصديق حب الحب على روض الرضا، واستلقى على فراش الفقر آمناً مطمئناً، فرفع الطائر الحب إلى حوصلة المضاعفة، ثم تركه هنالك وعلى أغصان شجرة الصدق يغرد
للصديق بأغلى وأعلى فنون المدح وهو يتلو في حقه قول ربه:
وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى [الليل:17].
وأكتفي بهذا القدر، وأسأل الله لإخواني وأحبابي الطلاب أن يرزقهم التوفيق والصواب والسداد، وأن ييسر لهم كل أمر عسير، وأن يبارك فيهم، وأن يحفظنا وإياهم من الفتن، وأن يدخل على أهليهم وآبائهم وأمهاتهم السعادة والهناء والسرور.
وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم جميعاً صالح الأعمال، وأن يغفر لنا ولكم، وأن يسترنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.