إسلام ويب

تفسير سورة البقرة (21)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • خاطب الله بني إسرائيل آمراً لهم بتذكر نعمه تعالى ليحمدوه ويشكروه عليها، وليؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وليتقوا يوماً تشيب لهوله الرءوس، وهو يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون، ولا فداء ولا نصير، وكما نجاهم الله سبحانه من عدوهم فرعون، عليهم أن ينجوا بأنفسهم من جهنم، ذلك العذاب الأبدي.

    1.   

    تابع تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!

    إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.

    قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة:47-49] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

    وجوب ذكر النعم لتشكر بحمد الله وطاعته

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!

    هذا نداء الله عز وجل إلى بني إسرائيل .. إلى اليهود الذين كانوا يسكنون في هذه المدينة وحولها من الشمال، هؤلاء اليهود ينادون بعنوان آبائهم وأجدادهم من عهد إبراهيم أو من عهد يعقوب إلى يومهم باعتبارهم أمة واحدة.

    والمراد من هذا النداء: أن يدخلوا في رحمة الله، وأن يذكروا ما أنعم الله تعالى به عليهم فيشكروه، فيؤمنوا برسوله الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من الهدى والنور الذي هو الإسلام دين الله، الذي لا يقبل ديناً سواه.

    وسبق أن عرفنا أن ذكر النعمة معناه شكرها، فمن ذكر شكر، ومن لم يذكر لا يشكر.

    والمطلوب من الشكر اليُمْن بهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وبكتابه القرآن العظيم، وبملته التي هي ملة إبراهيم عليه السلام.

    وقد ذكر لهم من نعمه خمس نعم جليلة وعظيمة، لو ذكروها لآمنوا بالله ورسوله، ولكنهم شاردون بعيدون عن ساحة الإيمان والدخول في الإسلام، لأغراض هابطة لا قيمة لها، ولكن زينها الشيطان لهم وحسنها، فأصبحوا لا يرون إلا ما هم عليه، وهم متى يصلون إلى إقامة مملكة بني إسرائيل من النيل إلى الفرات، وعلموا أنهم لو دخلوا في الإسلام لذابوا في رحمته وأنواره وهدايته، ولم يبق لهم كيان خاص، إذ هذا دين البشرية جمعاء، والذين يدخلون فيه لم يبق لهم ما ينحازون إليه، أو يتحمسون له، أو يدافعون عنه، فالشرقي كالغربي، كالشمالي كالجنوبي، الكل مسلم، فانتفت الفوارق وانمحت، ولم يبق إلا مسلم أسلم قلبه ووجهه لله.

    فمن هنا أصروا على هذا، ومع هذا فالله عز وجل يلاطفهم .. يأخذ بقلوبهم .. يوجههم .. يذكر نعمه عليهم رجاء أن يفيقوا من سكرتهم، ويعودوا إلى الرشد والصواب، فهذا الذي تجلت فيه رحمات الله وألطافه وإحسانه بعباده.

    هؤلاء قتلة أنبيائه، ومع هذا نستمع إليه تعالى وهو يناديهم: يا بني إسرائيل! يا بني عبد الله! يا بني يعقوب! يا أحفاد إبراهيم! اذكروا نعمة الله عليكم، اذكروا فإن الذكرى يحملكم على الشكر.

    تفضيل بني إسرائيل على العالمين

    كما أن الله فضل بني إسرائيل على العالمين.

    وعلمنا أنه فضلهم على من كان موجوداً أيام بني إسرائيل، أيام كانوا مسلمين، صادقين، صالحين على عهد يعقوب .. على عهد يوسف .. على عهد الأسباط .. على عهد داود وسليمان .. على عهد موسى قبله وهارون، كانوا أفضل أهل الأرض، ففيهم الأنبياء، والوحي، والاستقامة، والهدى، ومن عداهم أمم هابطة بالنسبة إليهم، وهم في العلية.

    لا تغني نفس عن أخرى من عذاب الله شيئاً يوم القيامة

    قال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا [البقرة:48] وقد عرفنا أنه لا يغني ولد عن والده، ولا والد عن ولده، واستعرضنا ما علمنا، فعرفنا أن إبراهيم عليه السلام لم يغن عن آزر شيئاً وهو من أهل النار، وعرفنا ذلك العرض العظيم الذي لولا رسول الله ما كنا لنعلمه في عرصات القيامة .. في ساحة فصل القضاء.

    وإبراهيم يذكر دعوة دعاها في الدنيا أيام حياته، عندما قال: رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:83-89]. والله يستجيب دعاء الداعين لا سيما أمثال إبراهيم، فذكر إبراهيم هذا وهو في عرصات القيامة، فقال: رب! لقد وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون، وهذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أعظم من هذا الخزي؟

    فصدر أمر الله إلى ملائكته أن يأخذوا آزر من النار في صورة ضبع ملطخ بالدماء والقيوح، ويلقونه تحت قدمي إبراهيم، ثم يقول له الله: إبراهيم! انظر تحت قدميك، فإذا بأبيه آزر في تلك الصورة القبيحة البشعة التي لا يطيق النظر إليها إنسان، فما إن يراه في تلك الصورة حتى يقول: سحقاً سحقاً، أي: بعداً بعداً. ويؤخذ من قوائمه الأربع ويلقى في الجحيم، فتطيب نفس إبراهيم فلم يذكر أباه قط في دار السلام.

    إبراهيم ما أغنى عن والده شيئاً، ونوح ما أغنى عن ولده شيئاً.

    أما النساء فقد عرفنا أن نوحاً لم يغن عن امرأته، وأن لوطاً -كذلك- ما أغنى عن امرأته، إذ قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا [التحريم:10] ليس في الزنا. الآن الخيانة المعروفة عند العامة: خانته امرأته بمعنى فجرت، والله ما أراد الله هذا، وفراش الأنبياء مستحيل أن يطأه أحد، وإنما خانتاهما في العقيدة، فنافقتا من جهة معه ومن جهة مع أهلها المشركين الكافرين فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ [التحريم:10-11] فكونها امرأة لفرعون، وتنام على فراشه، وتأكل طعامه، وتعيش معه أميرة وسيدة، هل أغنت عن زوجها شيئاً؟ ما أغنت، فهو في جهنم.

    إذاً فلا أبوة، ولا بنوة، ولا أمومة، ولا أخوة، ولا عمومة، القصد ما سمعنا.

    يوم لا تغني نفس عن نفس شيئاً، كل يقول: نفسي نفسي.

    وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم مرة فقال في هذا الموقف والحسنات توزن، والسيئات توزن وتوضع في كفة الميزان، فيأتي الرجل إلى ولده من صلبه: أي ولدي! لقد احتجت إلى حسنة واحدة ترجح بها كفة ميزاني، فهلا حسنة واحدة؟ فيقول: نعم أبتاه، كنت لي خير الآباء، وأرحم الآباء، ولكن نفسي نفسي، وتأتي الأم إلى ابنها فتكون الحال ما علمتم: نفسي نفسي.

    إذاً: فلم التعصب لآبائنا وأجدادنا وقد زلت أقدامهم، وساءت حالهم، وخرجوا عن طاعة ربهم، وفسقوا عن أمر مولاهم، نبقى نكره الحق من أجلهم، تعصباً لهم؟ هل يغنون عنا شيئاً؟ والله ما يغنون.

    ثبوت الشفاعة

    قال تعالى: يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [البقرة:48] والعدل الفداء والعوض وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:48] من ينصرهم أمام الله؟ من يدعي أن يقوم بعمل لينصر إخوانه المهزومين أو من أهل النار؟ لا نصر، انتهى الأمر.

    وهنا لا بد من كلمة حول الشفاعة.

    الشفاعة هو ضم وجه إلى وجه؛ لأن الوتر واحد، والشفع اثنان، فأنت وحدك جاهك ما كفاك فتريد أن تضم جاه آخر معك، وتطلبان الطلب الذي تريدانه.

    وهذه الشفاعة أنكرها المعتزلة وبعض الفئات الساقطة ممن سقطوا من عرش الإسلام لاتباعهم الآراء والأهواء، وعدلوا عن منهج الحق.

    وادعاها آخرون حتى أصبح الرجل يقول: أعطني كذا أشفع لك يوم القيامة، فأصبحوا يبيعونها بالنقود.

    وضل آخرون، فيطلبونها من الموتى: يا سيدي فلان! لا تنسني، أنا خادمتك، أنا خادمك، الشفاعة الشفاعة.

    وحتى الشافع العظيم صلى الله عليه وسلم، يقولون: الشفاعة الشفاعة يا رسول الله! جئناك زواراً من بلاد بعيدة نريد شفاعتك فاشفع لنا، وهذا باطل.

    ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم بيننا لا يقول أحد: يا رسول الله! لا تنسني، أنا فعلت وفعلت، ولا بد أن تشفع لي، كما يقول الغوغائيون من أمثالنا، والله ما قال أحد هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

    خلاصة القول: لا تطلب الشفاعة إلا من الله، فتضرع بين يدي الله، وتمرغ في التراب وأنت تبكي: رب! شفع فيَّ نبيك، أو اجعلني ممن تقبل شفاعتهم عندك يوم القيامة، بمعنى: لا نلوذ إلا بجناب الله، إذ لا يملك الشفاعة إلا الله.

    الشفاعة العظمى للنبي محمد صلى الله عليه وسلم

    نعود إلى الشفاعة المحمدية؛ فالنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم أعطي الشفاعة العظمى، وعندنا براهين ساطعة وحجج قاطعة، واقرءوا قول الله عز وجل من سورة بني إسرائيل أو الإسراء كما تسمى، إذ قال تعالى له وهو يخاطبه في مقام صعب: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79] يا رسولنا! وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ [الإسراء:79] وقبل هذا: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [الإسراء:78-79] أتدرون معنى التهجد؟ إزالة الهجود وهو النوم، فلا نوم .. أزل النوم عنك .. أبعد هذا الغطاء والغشاء.

    يا شيخ! إننا نتهجد ليلنا أمام شاشة التلفاز لنشاهد أحداث العالم، إن إخواناً لنا يسهرون إلى آخر الليل يعيشون مع من لا ينطق اللسان بحالهم، حتى أنهم لا يصلون الصبح، لكن هنا يقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تتمتع بالنوم الطويل، تهجد، أزل الهجود وقم: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل:1-4] .. ورجاله وأصحابه: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ [المزمل:20] رجال ونساء.

    بدل أن نتهجد قياماً لله نسهر ونزيل الهجود على مرائي العبث، والباطل، والسخرية، والوسخ، والكفر.

    لا إله إلا الله! إلى أين نذهب؟ ما هذا السحر الذي سحرونا به؟!

    الشفاعة العظمى وعد الله: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ [الإسراء:79]، وعسى من الله تقتضي الوجوب؛ لأن الله لا يعجزه شيء، فإذا وعد ينجز، وليس بعاجز. فعسى من الله تقتضي الوجوب، فقد وجبت الشفاعة العظمى لنبينا صلى الله عليه وسلم، ولم يظفر بها أحد سواه.

    واسمعوا صلى الله عليه وسلم يشرح هذه الصورة ويبينها، والأحاديث في الصحاح كالتواتر عندنا: ( إذا كان الناس في عرصات القيامة )، جمع عرصة، وهي الساحة لفصل القضاء وقد اجتمعت البشرية كلها، وانتظروا متى يقضي الله قبل أن يجيء الرب عز وجل لساحة فصل القضاء، واقرءوا: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الزمر:68-69] قبل القضاء البشرية تنتظر حكم الله فيها، ويطول الموقف، ويشتد الموقف، وقد عرفتم أنهم يعرقون ويعرقون، ويسيلون عرقاً، والله إن بعض الناس ليلجمه العرق إلجاماً، فيمشي في بركة من العرق، ( فيأتون آدم: يا آدم! أنت خلقك الله بيديه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، فكلم ربنا ليقضي بيننا )، والله يعتذر آدم ويذكر خطيئته، وهي خطيئة واحدة ويقول: ( إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله ولا بعده مثله، وإني عصيته وخرجت عن طاعته، فكيف أكلمه! ولكن عليكم بنوح أبي الأنبياء الأول، فيأتون نوحاً )، من هم؟ أعيان أهل الموقف، ما ندري من هم؟ بلايين، أعيانهم خيارهم. يا نوح! أنت وأنت وأنت وأنت، فكلم ربك يقضي بين الناس، فيذكر نوح ذنبه، أي ذنب أذنب نوح؟! عاش ألف سنة يدعو إلى الله إلا خمسين عاماً، وزاد حياة أخرى بعد الغرق والطوفان، ممكن تكون مائة سنة، فيذكر خطيئته يوم ما قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح:26] فما من حقه أن يدعو بهذه الدعوة، كان من حقه أن يقول لربه: اهدهم، فعرف أن هذا الموقف لا ينبغي، فذكر هذه الدعوة التي لا تبقي البشرية ولا تذر، فقال: كيف أكلم ربي وأنا صاحب هذه الخطيئة؟! عليكم بإبراهيم، إبراهيم الأب الرحيم؛ أبو الأنبياء، نعم كل الأنبياء من صلبه من بعده، لكن نوح يعتبر أول رسول قطعاً.

    إبراهيم يقول: ( وكيف وقد كذبت ثلاث كذبات! ) كم عاش إبراهيم؟ مائة وعشرين سنة، كم كذبة؟ أربع، ونحن في اليوم كم نكذب من كذبة؟ أربع، في اليوم لا في العام، والحمد لله! يوجد بيننا من لم يكذب قط، لكن هذا نادر، عشرة.. خمسة عشر، لكن مجتمعنا ما هو ألف ولا مليون.

    أمة الإسلام شاع الكذب وانتشر بصورة لا نظير لها.

    ( ثلاث كذبات فقط كيف أواجه ربي وأكلمه! وقد غضب ربي اليوم غضب لم يغضب قبله مثله ولا بعده، فعليكم بموسى ). موسى كليم الله .. موسى فاز بمناجاة الله في جبل الطور ناداه: يا موسى أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ [طه:12]، فموسى أيضاً يذكر خطيئته وأنه قتل نفساً، وإن كان القتل الخطأ معفو عنه، ولكن كيف أواجه ربي وأنا الذي قتل القبطي فلان؟ ثم يقول: ( إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا بعده، فعليكم بعيسى ) روح الله وكلمة الله؛ إذ كان بكلمة الله، ( فيأتون عيسى فلم يذكر ذنباً قط )، فاز ابن مريم إذ لم يذكر ذنباً قط، أتدرون كيف هذا؟ هذا ببركة دعوة جدته لأمه حنة إذ قالت: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:35-36].

    وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ أحصنها وأحفظها بجنابك يا رب وَذُرِّيَّتَهَا أيضاً، لو بقي لها ذرية إلى اليوم ما يعصون الله، لكن ما هو إلا عيسى فقط.

    هذه الدعوة استجابها الله أو لا؟!

    وأخبرنا أبو القاسم فداه أبي وأمي والعالم أجمع: أنه ما من مولود يولد حياً، ما إن يخرج من بطن أمه، ويقع على الأرض أو على الفراش إلا ويصرخ باكياً، كان في بطن أمه في نعيم يتقلب كأنه في قصر، والله ما تكلم ولا بكى، وما إن يخرج حتى يصرخ، لم؟ أخبرنا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم أن الشيطان ورجاله بسيارة الإسعاف ينتظرون متى يخرج هذا المولود، فما إن يخرج حتى يضرب في خاصرته ويطبع أن هذا يكون ممن يستطيع أن يؤثر عليهم إلا ابن مريم، لاستجابة الله دعوة حنة فجاء الشيطان وفشل، وما استطاع -والله- أن يمسه.

    ولهذا من أين يأتي الذنب؟ أغلق الباب، لا نافذة ولا باب.

    فعيسى لم يذكر ذنباً قط، وهو كذلك، وقد عاش ثلاثاً وثلاثين سنة في بني إسرائيل، وسوف ينزل ويكمل إن شاء الله ثلاثين سنة أخرى حتى يكون عمره كعمر نبينا ثلاثاً وستين، ويموت بالمدينة، ويدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموضع القبر موجود، والحجرة فيها الآن ثلاثة قبور وبقي مكان واحد، وصرف الله قلوب الخلفاء والعلماء وأهل الدنيا و.. و.. ما استطاع واحد منذ ألف وأربعمائة سنة أن يقول: أنا ملك، ادفنوني هنا، أو أنا خليفة المسلمين، أبداً، محفوظ هذا المكان.

    وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كأني بابن مريم بالروحاء يلبي: لبيك اللهم لبيك حجاً وعمرة أو لبيك اللهم حجاً ) ومعنى هذا: أنه يموت بالمدينة، والرسول يقول: ( من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بها؛ فإني أكون له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة ) فلهذا كان المؤمنون يأتون المدينة أيام الفاقة والفقر والحاجة ولا همَّ لهم في الأكل ولا الشرب ولا اللباس، وإنما الهم أن يموتوا بالمدينة، ويبعثون أول من يبعث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    و عمر على جلالته في الكمال كان يدعو الله: رب! إني أسألك شهادة في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك. فتعجب أم المؤمنين حفصة بنته: يا أبتاه! كيف يتم هذا؟ الاستشهاد في حدود الهند وأوروبا وشمال إفريقيا، كيف الشهادة في المدينة؟ واستشهد أو لا! أما قتله مجوسي عليه لعائن الله، في محراب رسول الله، أي شهادة أعظم من هذه! هذه أول رصاصة أطلقها الحزب المجوسي الذي تكون في فارس للانتقام من الإسلام، فـعمر هو الذي مزق راية الباطل في تلك الديار.

    والشاهد عندنا: عيسى لم يذكر ذنباً قط. عرفتم العلة؟ حفظ الله، ودعوة جدته محفوظة، فلا يقربه شيطان أبداً.

    ومن الترتيبات أنه يعيش في الجنة بجسمه الآدمي -والله- إلى الآن، وسوف ينزل، فلو تلطخ أو اتسخ أو حصل شيء يكون عائقاً هذا، لا ينبغي أو لا؟ ولما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم ما هي الترتيبات التي أخذت له؟ ما شق صدره؟ ما غسل قلبه وصدره؟ ما حشي بطاقات من نور الإيمان؟ حتى يقوى على أن يجالس أهل الملكوت الأعلى، صلى الله عليه وسلم.

    ( فيأتوه فيقول: عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب مثله قبله ولا بعده، عليكم بمحمد ) عرف إلى من يحيلهم، فما بقي إلا هو؛ لأن ما بين عيسى ومحمد خمسمائة سنة.

    ( فيأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: أنا لها، أنا لها ) لما سبق له من عهد ربه: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79].

    قال: ( ثم آتي -أجيء- فأخر ساجداً تحت العرش ) لا تفهموا أنه يقول: يا رب! اشفع، يا رب! اقض بين عبيدك، طالت المدة، لا، لا يستطيع.

    قال: ( فآتي فأخر ساجداً تحت العرش، ويلهمني ربي تعالى محامد ) أي: ألفاظ حمد وثناء لله تعالى ( لم أكن أعرفها من قبل، فلا أزال أحمده وأثني عليه وأنا ساجد حتى يقول: محمد! ارفع رأسك واسأل تعط واشفع تشفع )، فيشفع في القضاء وإصدار حكم الله على الخليقة، ويبدأ الحساب.

    هذه تسمى ماذا؟ الشفاعة العظمى، ولا أعظم منها، لأنها شفاعة الخليقة كلها، ليقضي الله بينها، فيدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، بحسب أعمالهم وسلوكهم.

    إذاً: هذه شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة به.

    شفاعات أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم

    وللنبي صلى الله عليه وسلم شفاعات أخرى، لكن من الذي يمنحه إياها؟ الله، فيشفعه في أهل الكبائر من أمته، واقرءوا الحديث في الروضة، في لوحة حديدية أو نحاسية: ( لكل نبي دعوة أعطاه الله إياها )، اطلب يا موسى، جائزة، وسام شرف، خدمتنا كثيراً، اسأل، كل نبي طلب طلبة وأعطيها، قال: ( وأنا ادخرت طلبي شفاعة لأمتي ) ما قبلها وظيفة في الدنيا ولكن قال: ( ادخرتها لأمتي يوم القيامة ) .

    فأهل الكبائر الذين يموتون على الكبيرة، فهذا مات على الزنا .. هذا مات على الربا .. هذا مات على كذا على كذا من كبائر الذنوب وهي سبعون، فهذا الذي عوقته الكبيرة عن دخول الجنة لأنه ما تاب منها، مات وهو يباشرها، فهذا يشفع الله تعالى فيه رسوله، لم؟ لأن هذا العبد تصدق، وصام، وجاهد، وزكى، وأطعم، وقال، وعبد الله ولكن ارتكب كبيرة، فعلّقته، وحالت بينه وبين دخول دار السلام، فيرحمه الله لما له من طاعات، وعبادات، وبر، وخير وإحسان فلا يغفر الله ذلك كله، ولكن يؤاخذ به، فهو محروم الآن، فيشفّع الله تعالى فيه محمداً، فيدخلون الجنة. هذه الشفاعة الثانية.

    والثالثة: أنه يشفعه في أهل الجنة، في رفع درجاتهم، فأحدهم درجته في مستوى كذا، فيرفعه الله بشفاعة رسوله أن يكون في الدرجة العليا الفلانية.

    فلهذا سلوا الله الشفاعة المحمدية فإنها نافعة سواء كنت من أهل الكبائر أو من أهل الصغائر أو من أهل الطاعات والعبادات، فإنها تنالك، فترتفع بها إلى درجة ما كنت لتصلها إلا بهذه الشفاعة.

    انتبه يا غافل، وأنت نائم، فتحدث غداً الناس وتقول: اسألوا النبي الشفاعة، هل أنا قلت هذا؟ وهل يجوز أن نقوله، أكذب عليكم فتقول: يا رسول الله! اشفع لي؟

    والله ما كان، ولا يجوز أبداً، وإنما اسأل الله: اللهم اجعلني ممن تشفع فيهم نبيك .. اللهم اجعلني ممن تشفع فيهم نبيك، هذا نعم، اسأل الليل والنهار؛ لأنك تسأل الله عز وجل.

    شروط قبول الشفاعة

    من هنا نعود إلى الساحة وقد عرفنا مقام النبوة، وما انتهى إليه المقام المحمدي.

    الآن فيما بيننا نحن، الشفاعة موجودة، فقد يشفع الرجل في أمه .. في أبيه، وقد يشفع الشيخ في تلامذته، ولكن احذروا مما ساد العامة وغشاها وغطاها أكثر من ألف سنة، وهم يقولون: الشيخ الفلاني يشفع لتلامذته .. يشفع لمريده!!

    هذا الكلام باطل؛ لأن الشفاعة أولاً: أن يرضى الله تعالى عن المشفوع له، يرضى أن يجاوره ويدخل جنته، إذ قال تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28]، الذي ارتضاه أن يجاوره، وأن ينزل منازل الأبرار، هذا إذا قام أحد يريد أن يشفع له يشفع له.

    وثانياً: لابد للشافع أن يكون قد أذن الله تعالى له: يا عبدي! اشفع في فلان وفلان وفلان، وفي القرآن الكريم: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ [النجم:26] للشافع، وَيَرْضَى [النجم:26] عن المشفوع له.

    انتبهوا: إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ [النجم:26] لمن؟ لمن أراد أن يشفع، وَيَرْضَى [النجم:26] عن من؟ عن المشفوع له، أما إذا لم يأذن الله لأحد أن يشفع، والله ما استطاع أحد أن يمد يده، وأن يقول: أشفع لك يا فلان، والمشفوع له إذا كان خبيث النفس متعفن الروح وروحه كأرواح الشياطين، فلن يقبل الله فيه شفاعة الشافع أبداً.

    ويشفع الله عز وجل في أهل التوحيد .. أهل لا إله إلا الله على عهد نوح، وموسى، وإبراهيم، ومحمد .. أهل التوحيد الذين لم يعرف قلب أحدهم غير الله يحيي ويميت، ويعطي ويمنع، ويضر وينفع .. لم تعرف قلوبهم سوى الله المعبود الحق، فهؤلاء دخلوا النار؛ لأنهم زنوا .. قتلوا .. أكلوا مال الناس .. عصوا الوالدين، فعلوا وفعلوا وفعلوا.

    أستطرد، لاحظ، إياك أن تفهم من كلامي أن عبداً عرف الله معرفة يقينية، وامتلأ قلبه بحب الله وخشيته وبتوحيده، وأنه يعيش يعربد ويقتل ويفعل، لا هذا كذاب، لا يوجد. انتبهوا، هذا مِثله: من قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وأدركه الموت، فمات وما اغتسل ولا صلى، يدخل الجنة أو لا؟ والله يدخلها بكلمة التوحيد، ( من مات وآخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة )، قد يدخل النار، ويمتحش فيها، ويسود ويحترق، ولكن تلك الحسنة العظمى لن تضيع سدى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، هل هناك حسنة أعظم من حسنة التوحيد؟ والله لا. هل هناك سيئة أسوأ وأقبح من سيئة الشرك؟ والله لا وجود لها، واقرءوا قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

    القلب الذي عرف صاحبه غير الله، سوّى بالله سواه، ونظر إليه كما ينظر إلى الله بالرهبة أو الرغبة أو الحب أو الولاء، صاحب هذا الشرك لن يدخل دار السلام، ولا تنفعه شفاعة الشافعين.

    إنما الشفاعة لأهل الكبائر، وهم موحدون مؤمنون، ولكن زلت أقدامهم، وأوقعهم العدو في سخط الله بذنب من الذنوب العظام، ومات على غير التوبة، واستوجب النار ودخلها، ولن يخلد فيها، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنهم ( يخرجون من النار وقد امتحشوا، فيأتون بهم إلى نهر من أنهار الجنة فيغتسلون فيه، فينبتون كما تنبت الخامة من الزرع في السيل، أرأيتموها صفراء ملتوية ) يقولها صلى الله عليه وسلم، كأنه خبير بالفلاحة، هذه هي الشفاعة.

    فإذا كنت أنت ولياً، عبداً صالحاً، وزلت قدم أبيك أو أمك أو أخيك بذنب من الذنوب وكبيرة من الكبائر، وأراد أن ينقذه بصالح أعماله، يقول: عبدي فلان، اشفع في أمك فلانة، أو اشفع في أبيك .. يا شيخ! اشفع في فلان وفلان من تلامذتك؛ لأن الله أراد أن يدخلهم الجنة، فيكرم الشيخ بهذه الشفاعة، وبذلك ترتفع درجته، ويعلو مقامه، وتسمو مكانته؛ لأن الله شفعه.

    أما أن نقول: سيدي عبد القادر يشفع في إخوانه .. سيدي أحمد يشفع في إخوانه .. سيدي كذا، انتبهتم، فهذا باطل.. باطل.. باطل وزور.. وزور.. وزور.

    والذين لا تقبل منهم شفاعة، ولا يؤخذ منها عدل هؤلاء ماتوا على الكفر .. على الشرك، ومن مات كافراً أو مشركاً هو آيس من رحمة الله، فلا يخرجون من النار، ولا يدخلون الجنة؛ دار الأبرار، وإنما من مات من أهل التوحيد، أهل لا إله إلا الله، لا الكفر والشرك، والعياذ بالله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ...)

    قال تعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ [البقرة:49] أخذ تعالى يذكر لهم نعمه عليهم، اذكروا يا بني إسرائيل لتشكروا الله، فتؤمنوا برسوله وكتابه، وتدخلوا في دينه، ولا تبقوا منحازين، متعنترين، تتكالبون على الناس. ‏

    آل فرعون

    وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة:49] من آل فرعون؟ هم رجاله؛ من البوليس إلى الوزير، من الشرطي إلى العسكري.

    وهنا لطيفة: قد يطلق لفظ (الآل) على الأهل، وقد يطلق لفظ الآل على الأتباع، أما إذا قلت: أهل فلان فلا يتناول إلا الزوجة والولد والأقارب.

    أما إذا قلت: آل فلان، يدخل كل من معه في سلك حاله، فلهذا لما نصلي على نبينا صلى الله عليه وسلم نقول: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، فيدخل في هذا كل مؤمن تقي، ويخرج أعمام النبي أو يدخلون؟ يخرجون فما هم بمؤمنين، وإذا قلنا: وعلى (آل إبراهيم) يدخل كل مؤمن؛ لأن الآل مأخوذة من آل يئول فيما يبدو.

    إذاً: فمن آل إليك وانضم إلى جماعتك وكتلتك من أهل الإيمان، فهذا هو آلك، فآل فرعون ليس زوجته آسية بنت مزاحم ، أما الولد ما له ولد، وليس أخوه أو عمه، آل فرعون: رجاله الذين كانوا معه يحكمون، ويسوسون، ويعذبون المؤمنين.

    وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة:49] من فرعون هذا؟ هذا أرجح الأقوال: اسمه الوليد بن مصعب بن الريان ، وأصله عربي محض، نزحوا من الجزيرة ودخلوا مصر أيام العمالقة.

    قصة تولي فرعون للحكم والسلطة

    وهذا الوليد -فرعون- تذكر له قصة تبين كيف وصل إلى الحكم.

    كان لصاً يجلس في المقبرة، إذا جاء الناس بميت: هاتوا عشرة ريالات، وإلا لا تدفنون ميتاً، فإذا جاءت السلطة هرب، فكان يعيش على التلصص في المقبرة، فلما بلغ الحكومة أذى هذا العفريت قال الملك: هذا يصلح أن يكون خادماً لي؛ لأنه قوي، ويسوس خيلي، وسائس الخيل كان ممتازاً؛ لأن الخيل هي المركوب الممتاز، فاختير لهذا المنصب وأصبح يسوس خيل الملك فرعون، وزاد قوة وتعنتر، فما إن مات حتى تولى هو وحكم.

    ولقب فرعون أصبح يطلق على كل من ملك مصر في قرون معينة، كما ساد أيضاً من يحكم الأحباش يقال فيه: النجاشي، ومن يحكم فارس يقال فيه: كسرى، ومن يحكم الروم يقال فيه: هرقل .. وهكذا.

    إذاً: نجاهم من آل فرعون، وبيّن من أين نجاهم.

    عذاب فرعون لبني إسرائيل

    يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [البقرة:49]، يروى -والجلال هو الذي ذكر هذا- أن كاهناً من الكهنة رأى رؤيا، بأن زوال ملكك يا فرعون يكون على أيدي بني إسرائيل، وبنو إسرائيل أغراب أجانب، وما هم بأقباط مصريين، لِم؟ لأن يوسف عليه السلام لما بيع واشتراه العزيز، ونشأ في مصر وتربى فيها، وملكه الله عز وجل مصر، وأصبح الملك فيها، جاء حينئذٍ يعقوب وأولاده ونزلوا في مصر، وقد جاءوا من فلسطين، وتناسلوا حتى بلغوا ستمائة ألف. فهذا الكاهن يقول: سقوط دولتك على يد هؤلاء.

    وأنا أقول: هذا الكلام ليس بصحيح، الصحيح أن السياسيين قالوا: هؤلاء لهم أصل، ولهم ملك، ولهم دولة، ما يؤمَنون في يوم من الأيام إذا كثروا أن ينقلبوا عليك، هذا التخطيط سياسي وهو الحق.

    إذاً: كيف نصنع؟ قلل النسل منهم، أولاً: أذلهم وأرهقهم بالعمل حتى تسقط طاقاتهم البدنية، فكانوا يكلفون ببناء الجدران وصنع الطوب .. وما إلى ذلك، حتى ما لهم راحة، فما نفعت هذه، ما زالوا يتناسلون، ماذا نصنع يا رجال الدولة؟ قالوا: من السياسة أنك تقتل الذكران، وتبقي على النساء، حتى ينقرض هذا الجنس؛ لأن هؤلاء لهم مجد ومكانة وشرف، فلا ينسون ذلك أبداً، والله ما نسوه إلى الآن، ها هم يطالبون بمملكة في إسرائيل، أما احتلوا فلسطين رغم أنوف العرب والمسلمين.

    فصدر قانون رسمي: أولاً: يجب على كل امرأة من بني إسرائيل تقرب ولادتها أن تتصل بالدائرة، بعمدة الحي، تبلّغه، أبوها يبلغ أو الزوج، فتحضر تنظر، فإذا سقط ذكر رمته في الحفرة ودفنته، إذا كان بنتاً لا بأس ترضعه.

    ثم تململ رجال الدنيا والمال وقالوا: والخدم والعمل كيف نعمل؟ نحن منتفعون بهذا الجنس، فصدر أمر: عاماً يقتلون وعاماً لا، لأنه لو استمر القتل خلال أربعين سنة لا يبقى أحد، قالوا: إذاً سنة يقتل الذكور وسنة لا، وكان تدبير الله، فالسنة الذي كان فيها العفو ولد هارون آمناً، والسنة التي فيها القتل ولد موسى، ودبر الله له بأن أوحى إلى أم موسى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:7]، فلا تخافي إذا خرج الولد، ضميه إلى صدرك وأرضعيه، فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص:7]، اجعلي له صندوقاً أو تابوتاً وألقيه في النيل، وامتثلت أمر ربها؛ لأنه إلهام ألهمها الله، وشاء الله أن القابلة ما سمعت أو ما بلغوها، فمعها الله عز وجل، لكن أرضعيه حتى لا يموت جوعاً، وإذا جاءت الشُّرط وجاءت الدنيا، ضعيه في صندوق وارميه في اليم.

    وهذا الموضوع نتكلم فيه مرة أخرى إن شاء الله. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755977511