إسلام ويب

سلسلة السيرة النبوية صلح الحديبيةللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في صلح الحديبية تجلت حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث عقد الصلح مع قريش راجياً من ورائه مكاسب عظيمة للإسلام والمسلمين، فقد كانت نظرته بعيدة، وهدفه عظيماً، بخلاف بعض الصحابة الذين نظروا إلى الصلح نظرة سطحية، فجعلهم ذلك يرفضون الصلح ويستنكرونه.

    1.   

    موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من إشاعة مقتل عثمان بمكة

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فمع الدرس الثالث من دروس السيرة النبوية في العهد المدني في فترة الفتح والتمكين، وقد ذكرنا في الدرس السابق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا أنه يذهب هو وأصحابه إلى مكة المكرمة للعمرة، وأنه أخذ أصحابه وخرج متوجهاً بهم إلى مكة، وكانت تداعيات هذا الأمر كبيرة جداً في مكة المكرمة، فقد حاول القرشيون في مكة المكرمة قدر استطاعتهم أن يمنعوا رسول صلى الله عليه وسلم من دخول مكة المكرمة، ودارت بينهم مفاوضات كثيرة كما ذكرنا، وفي النهاية أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه سفيراً للمسلمين إلى قريش؛ ليتفاوض معهم في أمر دخول المسلمين إلى مكة للعمرة، فكان المشركون في موقف صعب، وكما ذكرنا في الدرس السابق: أن موقف قريش مع كونها قبيلة كبيرة وعزيزة كان ضعيفاً شديد الضعف، فقد وقفت قريش حائرة مع صلابة وقوة وعزة المسلمين، وما استطاعت أن تأخذ قراراً بحرب المسلمين، وبدأت تقدم رِجْلاً وتؤخر أخرى، وترسل وسطاء الواحد تلو الآخر، ومحتارة ماذا تعمل مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومع أصحابه، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يحملون معهم إلا سيف المسافر فقط، فقوتهم ضعيفة نسبياً بالمقارنة إلى قوة قريش وقبائل الأحابيش التي تتحالف مع قريش، لكن مع كل هذه المفارقات بين قوة المسلمين وقوة المشركين إلا أن المشركين حرصوا تمام الحرص على إتمام الصلح بينهم وبين المسلمين، وتجنبوا القتال.

    لم يكن هذا القرار سهلاً على قريش، فقد ظلت تفكر أياماً في أمر هذا القرار وعثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه في مكة ينتظر قرار قريش.

    في هذا الوقت أشيع عند المسلمين أن عثمان بن عفان قد قتل في مكة المكرمة، وهذا أمر خطير ومخالف للأعراف كما تعلمون، فقتل الرسول يعتبر إهانة كبيرة جداً للدولة التي يقتل رسولها، ومخالفاً للأعراف والقوانين، لذلك بمجرد أن وصلت هذه الإشاعة إلى المسلمين ومع أن الإشاعة لم تكن صحيحة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم تعامل مع الموضوع بمنتهى الجدية، فعندما أشيع أن عثمان بن عفان قد قتل جمع الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين جميعاً وعقد معهم مبايعة، وبايع المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة من أعظم البيعات في تاريخ الأرض، عرفت في التاريخ ببيعة الشجرة أو بيعة الرضوان، بيعة الشجرة؛ لأنها تمت تحت شجرة عند الحديبية، وبيعة الرضوان؛ لأن الله عز وجل صرح في كتابه أنه رضي عن أولئك الذين قاموا بهذه البيعة، قال سبحانه وتعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18].

    لقد بايع الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم جميعاً على ألا يفروا، كما جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

    وبايع بعض الصحابة على الموت، بل بايع بعضهم على الموت ثلاث مرات، وممن بايع على الموت ثلاث مرات سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه كما جاء ذلك في صحيح مسلم .

    إذاً: كانت هذه البيعة خطيرة، وبايع الجميع على عدم الفرار، أي: أنهم سيناجزون القوم، وسيقاتلون قريشاً ولن يفروا أبداً في هذا القتال، مع كونهم لا يحملون إلا سلاح المسافر، إنها بيعة في منتهى الأهمية، بايع جميع الصحابة إلا واحداً فقط وهو الجد بن قيس ، وهو كما ذكرنا في الدرس السابق من المنافقين.

    وبعد هذه البيعة مباشرة جاء عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن القرشيين قد وافقوا على الصلح، وسيأتي رجل منهم ليفاوض رسول الله صلى الله عليه وسلم على بنود الصلح.

    1.   

    وقفات مع بيعة الرضوان

    نحتاج إلى أن نقف وقفات مع هذه البيعة العظيمة: بيعة الرضوان.

    أولاً: هذه البيعة فيها خلاصة ما هو مطلوب من المؤمن في دنياه، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]، كل شيء في حياتي لله عز وجل إلى لحظة الموت، أنا في سبيل الله عز وجل، طاعة كاملة لله ولرسوله، فأمر هذه البيعة صعب، فهؤلاء المسلمون جاءوا إلى مكة للعمرة بسلاح المسافر فقط، ولا مدد لهم من المدينة؛ لأن المدينة تبعد عن مكة قرابة (500) كيلو، ومن الطبيعي إذا قاتلوا المشركين في هذا المكان فإن المسلمين قد يقتلون؛ لأنهم يقاتلون جيشاً بعدة وعتاد وعلى بعد خطوات من المدد، وليست قريشاً فقط، ولكن معها قبائل الأحابيش الحليفة لها، لكن مع ذلك لم يفكر واحد من المسلمين في أسرته، في أولاده، في زوجته، في تجارته، في أعماله، في حياته، لم يقل أحد منهم: ظروفي لا تسمح أبداً، بل لم يقم أحدهم بهذه البيعة إحراجاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إحراجاً من المسلمين، بل فعلوها جميعاً راغبين صادقين، وهذا كلام رب العالمين في قرآنه الكريم سبحانه وتعالى، قال سبحانه وتعالى: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18]، أي: اطلع الله عز وجل على قلوب كل من بايع، فعلم سبحانه وتعالى أن هذه القلوب جميعاً قلوب مؤمنة مخلصة، من الفتح المبين الذي ذكره الله عز وجل في بداية السورة التي تحدثت عن صلح الحديبية وهي سورة الفتح، قال سبحانه وتعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1]، فكون رب العالمين يصرح بالرضا عن مجموعة كبيرة عددها (1400) شخص وهم ما زالوا أحياء على وجه الأرض هذا من الفتح المبين، وأن تصل مجموعة من البشر إلى هذا الرقي وهذا الإخلاص وهذا الفقه والفهم والعمل بهذه الصورة التي ترضي رب العالمين سبحانه وتعالى رضاءً تاماً يكتبه في كتابه نقرؤه إلى يوم القيامة هذا من الفتح المبين، فهذه البيعة لها مكانتها، ولها قيمتها في الميزان الإسلامي، وظل هؤلاء عند جميع علماء الأمة من أعظم المسلمين درجة وإلى يوم القيامة، وهذا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم يوم الحديبية فقال لهم: أنتم اليوم خير أهل الأرض)، وهم (1400) صحابي.

    إذاً: أول شيء: أنه ظهر في هذه البيعة التضحية والبذل والعطاء الكامل من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وهو خلاصة ما هو مطلوب من المؤمن في دنياه.

    ثانياً: هذا الموقف الذي أعلن فيه المسلمون رغبتهم في الموت هز مكة تماماً من داخلها، فمن يستطيع أن يقاتل قوماً يطلبون الموت؟ بماذا ستخوفهم؟ ستقتلهم، فهم الذين يريدون أن يموتوا، فقد بايعوا على أن يموتوا، بايعوا على ألا يفروا حتى النهاية، ولم يكن معهم إلا سلاح بسيط، ومع ذلك بايعوا على الموت.

    إذاً: هذا الموقف هز مكة تماماً، وجعلها تفاوض الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يعود إلى المدينة بأي ثمن، حتى وإن كان في ذلك حط من كرامة قريش، وهذا ما سنراه بعد ذلك في بنود المعاهدة.

    لقد عبر خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه بعد هذا الحدث بسنوات عن صفات الجيش المنصور بكلمات قليلة ذكرها لـهرمز قائد الفرس عند بداية فتح فارس قال: جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة.

    يعني: الجيش الذي يحب الموت من المستحيل أن يهزم، وهذا درس من أعظم الدروس؛ من أجل ذلك قررت قريش إبرام الصلح بكل ما فيه.

    ثالثاً: قبل أن نخوض في بنود الصلح هناك شيء غريب جداً وهو أنه لم يصب المسلمين سوء عندما أخذوا قرار الموت، بينما في أحد عندما أخذوا قرار الفرار، استشهد منهم سبعون، وكان عددهم في أحد (700) وفي الحديبية (1400) لم يصب منهم أحد بسوء.

    وهذه كلمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وهي كلمة جميلة جداً يقول فيها: احرص على الموت توهب لك الحياة. يعني: الجيش الذي يريد أن يموت يهب الله له الحياة والنصر والتمكين والسيادة، والجيش الذي يريد أن يعيش أي عيشة حتى لو كانت رخيصة أو ذليلة أو تعيسة، المهم أن يعيش فهذا جيش يكتب عليه الموت.

    رابعاً: أن الله سبحانه وتعالى صرح برضاه عن أولئك الذين قاموا بالبيعة، مع أنهم ما زالوا على قيد الحياة، ومن الممكن أن يرتكبوا بعد ذلك ذنوباً أو أخطاءً أو كذا أو كذا من الأمور، ومع ذلك ربنا سبحانه وتعالى صرح أنه قد رضي عنهم، والله سبحانه وتعالى يعلم الغيب، ويعلم أن هؤلاء سيفعلون كذا وكذا، وأنه من المؤكد أن يكون لهم أخطاء؛ لأنهم من البشر، وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، لكن يوجد معنى في غاية الأهمية ينبغي أن نفهمه من هذا الكلام: وهو أن موقفاً واحداً في حياتك لصالح المسلمين ولصالح الأمة يكون من الثقل بحيث أنه لا يعدل به ذنب بعد ذلك، وهذه ليست دعوة للذنوب، ولكنها دعوة للأعمال الصالحة الثقيلة، وقرأنا أكثر من مرة في السيرة النبوة، كما في غزوة تبوك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـعثمان يومها: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)، فهذا موقف واحد من عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه إن وضع في كفة ووضعت بقية الذنوب في كفة أخرى فإن هذا الموقف سيعدل وسيرجح، وبهذا ينجو عثمان رضي الله عنه وأرضاه.

    إذاً: كل واحد منا يسأل نفسه: هل تملك موقفاً تعتقد أنه منجيك يوم القيامة؟ كلنا نصلي ونصوم ونحج ونقرأ القرآن، لكن هل يوجد في حياتنا عمل يخدم الأمة، نأخذه بأيدينا يوم القيامة ونقول: يا رب هذا العمل عملناه من أجلك، ونعتقد تمام الاعتقاد في يومها أنه منجينا من النار؟ فهذه بيعة الرضوان عمل واحد عابر دار في ساعة أو ساعتين وانتهت القضية، لكن ظل في عرف الزمن إلى يوم القيامة حدثاً يقتدي به المسلمون، ويتعلمون منه، بل ويحفظ في كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى، نريد لحظات صدق من هذا النوع تنجينا في الدنيا وفي الآخرة.

    1.   

    إرسال قريش سهيل بن عمرو للتفاوض مع النبي صلى الله عليه وسلم بخصوص بنود الصلح

    نعود إلى الحديبية، قررت قريش الصلح، وقررت أن ترسل رجلاً لإتمام الصلح مع رسول صلى الله عليه وسلم، وهنا لا ينفع أن تبعث قريش وسيطاً من خزاعة أو من ثقيف أو من أي قبيلة غير قريش؛ لأنه سيتفق وسيفاوض في بنود ستتأثر بها قريش تأثراً مباشراً، فلا بد أن يكون واحداً من قريش، إذاً: من تبعث؟ هل تبعث عكرمة بن أبي جهل أم تبعث خالد بن الوليد أم تبعث أبا سفيان أم تبعث صفوان بن أمية ؟ لم تبعث أحداً من هؤلاء؛ لأن كل هؤلاء كما يطلقون عليهم في هذه الأيام من: الصقور، كل هؤلاء يريدون أن يحاربوا المسلمين، وقريش لا تريد أن تحارب، هي تريد أن تلطف الأمر بقدر المستطاع، فأرسلت رجلاً من الحمائم رجلاً طيباً كما يقولون، أرسلت: سهيل بن عمرو ، وسهيل بن عمرو حياته كلها في مكة هادئة وهو إنسان لطيف وليست له مشاكل ضخمة مباشرة مع المسلمين، ويستطيع أن يتفاوض بلطف مع المسلمين، وهذا ما تريده قريش، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى سهيل بن عمرو قال: (قد سهل لكم أمركم) يعني: أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل.

    فالرسول صلى الله عليه وسلم استبشر وبشر المؤمنين، وأخذ من كلمة سهيل معنى فقال: (سهيل قد سهل أمركم)، والفأل الحسن في الإسلام مطلوب، لكن في نفس الوقت كانت قريش حذرة؛ لأن سهيل بن عمرو رجل مصاب من المسلمين في بيته، أتدرون كم شخص أسلم من عائلته؟ أربعة من أولاده أسلموا، وهذه كارثة بالنسبة له، فهذا الرجل سيذهب ليدافع عن قضية شخصية، أسلم أربعة من أولاده وثلاثة من إخوته، أولاده: أم كلثوم وسهل وعبد الله هؤلاء الثلاثة أسلموا منذ زمن بعيد، ويعيشون في المدينة المنورة، والرابع: أبو جندل مسلم أيضاً ومقيد قيده أبوه سهيل بن عمرو قبل أن يخرج؛ لئلا يلتحق بالمسلمين.

    وإخوته: السكران بن عمرو وأبو حاطب بن عمرو وسليط بن عمرو ، يعني: عائلته تقريباً كلها أسلمت ولم يبق إلا هو، فهو مصاب في عزته في وسط قريش، فذهب يفاوض بكل حمية، ذهب لكي يأخذ من المسلمين كل مصلحة ممكن تكون لقريش.

    وهنا لا بد أن نقف وقفة ونقول: إذا قام فريقان بالصلح فمعنى ذلك: أن القوتين متكافئتان، وإذا حرص القوي في الظاهر على الصلح مع الضعيف فاعلم أنه يرى الضعيف أقوى منه، وأنه من داخله يخشى هؤلاء الضعفاء، ويعمل لهم ألف حساب، ومستعد أن يتنازل، فعلى المسلمين أن يثبتوا وإن كانوا ضعفاء، فإنهم على الحق، والله معهم، وإذا ثبتوا فإن هذا يزلزل كيان الكافرين.

    قعد القرشيون بكل ما لهم من تاريخ وقوة وجنود وأحلاف، قعدوا مع الجماعة الضعيفة المستضعفة التي كانت تعيش عندهم وخرجت من ديارهم وذهبت إلى المدينة المنورة، وجاءت الآن للعمرة بسلاح المسافر، قعدوا من أجل الصلح في مصلحة الطرفين، ويلتقون في منتصف الطريق كما ذكروا، هذا الصلح يحمل إيجابية واضحة، ولكنه في نفس الوقت يحمل سلبية لا بد أن يفقهها المسلمون، فالإيجابية الهامة: أن كل طرف أصبح معترفاً بالآخر، فإذا كنت أنت جماعة لا دولة وتم معك الصلح فهذه إيجابية كبرى جداً؛ لأنها بداية الاعتراف بأنك أصبحت قوياً متكافئاً، فقريش لا تحتاج لاعتراف الرسول بها؛ لأن قريشاً صار لها ستمائة سنة وأكثر قبيلة معترف بها وسط الجزيرة العربية بكاملها، بل ووسط العالم، ولها علاقات مع بعض الدول في العالم، أما جماعة المسلمين فلا يعترف بهم أحد لا قريش ولا غيرها؛ لأنها جماعة ناشئة ضعيفة مستضعفة، فإذا اعترفت بها قريش فهذه من أعظم إيجابيات صلح الحديبية، ونحن الآن في أيامنا رأينا عندما نجحت حماس في انتخابات فلسطين ماذا حصل؟ دعتها بعض الدول العالمية للحديث والتحاور والتفاوض، منها: روسيا مثلاً، وروسيا تعتبر من أقطاب العالم ومن أقوى دول العالم، ومع ذلك دعت حركة حماس لسماع الرأي ولتبادل المشورة في بعض الأمور، وهذا في حد ذاته اعتراف بحماس، وهذا الكلام أغضب اليهود جداً؛ لأن هذه المفاوضات فيها اعتراف ضمني بشرعية حماس وبقوة حماس، فهذا الذي كان يعيشه الرسول صلى الله عليه وسلم أيام صلح الحديبية، فكون قريش تجلس على طاولة المفاوضات معه فهذا اعتراف أمام الجميع أن الرسول صلى الله عليه وسلم أصبح زعيماً لدولة معترف بها في الجزيرة العربية، وهذا انتصار كبير وفتح مبين فعلاً.

    أما السلبية التي تكون في هذا الصلح: أنه إذا جلست قوتان للتفاوض وللصلح فلا بد أن يتنازل كل طرف عن شيء، وهذا يحتاج إلى وقت من أجل أن نفهمه، فحين تحصل مفاوضات بين مجموعة من المسلمين وبين دولة قوية في العالم لا بد أن نعرف بالضبط حدود التفاوض، ونعرف بالضبط ما هو الذي يمكن أن نسمعه ويغضبنا ونمرره، والذي يمكن أن نسمعه ويغضبنا ولا يمكن أن نمرره؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الهدنة سيقبل لا محالة بأمور ستشعر المسلمين بغصة في حلوقهم وستشعرهم بألم؛ لأنه لا بد إذا جلس اثنان للتفاوض أن كل واحد يتنازل عن شيء، وإلا فلماذا التفاوض؟ ولماذا الجلوس؟ لو كان واحد غالباً وواحد مغلوباً مع إملاء لشروط فهذه معاهدات استسلام، هذا في عرف المعاهدات بين المنتصر والمهزوم، وفي هذه اللحظة لا تعتبر هذه المعاهدات معاهدات بصفة حقيقية، ولكن يطلق عليها المعاهدة لتسهيل الأمر على المهزوم؛ ليقبل بكل البنود والشروط، أما في صلح الحديبية ليست هناك إملاءات من المنتصر على المهزوم؛ الوضع في الحديبية يعتبر متكافئاً، وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم بمجموعة من المسلمين ليس غازياً ولا فاتحاً ولا مهاجماً لقريش، وإنما يريد فقط دخول مكة للعمرة، وقريش تريد أن تمنعه، وقريش قوة كبيرة، والمسلمون إلى الآن قوتهم ما زالت ناشئة وبسيطة، ولذلك هذا الجلوس إلى حد ما متكافئ، وعندما تراجع بنود صلح الحديبية تجد أن معظمها في صالح المسلمين، وليست لصالح قريش، وهذا كله بسبب ما حصل من المسلمين في السنة السادسة من الهجرة من الغزوات والسرايا التي تكلمنا عنها بالتفصيل في المحاضرة السابقة من هذه المجموعة.

    إذاً: عندما رأى المشركون القوة والعزة والثبات عند المسلمين ورأوا أنهم جاءوا بلا خوف ولا وجل من قوة قريش حصل صلح الحديبية.

    1.   

    بنود صلح الحديبية

    صلح الحديبية: معاهدة من أربعة بنود، تعالوا لنرى كل بند هل هو في صالح المسلمين أم في صالح المشركين؟

    رجوع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الحديبية في عامهم ذلك دون دخول مكة

    أولاً: البند الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يرجعون من عامهم هذا فلا يدخلون مكة، وإذا جاء العام المقبل دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثة أيام، ليس معهم إلا سلاح الراكب، ولا تتعرض لهم قريش، هذه البند الأول.

    هل هذا البند في صالح المسلمين؟ رجوع الرسول صلى الله عليه وسلم هذا العام في صالح قريش؛ لأنه يحفظ لها نسبياً ماء وجهها، لكن قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم في العام المقبل، ودخول مكة دون مقاومة، بل وخروج أهلها منها وعدم التعرض مطلقاً لجيش المسلمين، هذا والله انتصار مهول للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين، ونحن عندما نتذكر ما حدث للمسلمين في مكة صدق مدة ثلاث عشرة سنة من التعذيب والإبادة، ثم بعد ذلك الهجرة وفرار المسلمين بدينهم، وقد تركوا كل شيء في مكة، ثم نتذكر بدراً وأحداً وتجميع قريش للأحزاب وحصار المدينة منذ أقل من سنة واحدة، كل هذه المقاومة القرشية انهارات، وقبل المشركون بفتح باب دولتهم للمسلمين دون مقاومة، أي نصر للمسلمين؟! وأي رفع رأس للمسلمين في الجزيرة العربية بكاملها؟! وأي إراقة لماء وجه قريش وسط الجزيرة العربية؟! أين صقور قريش؟ أين السلاح والعتاد؟ أين العلاقات والأحلاف؟ أين الأموال والاقتصاديات الهائلة لقريش؟ أين كل ذلك؟ كل هذا ينهار أمام دولة المسلمين الناشئة.

    إذاً: هذا البند بكل تأكيد في صالح المسلمين، ليس هذا فقط اعترافاً من قريش بدولة المسلمين، ولكن هذا اعتراف أن دولة المسلمين دولة قوية تفتح لها أبواب مكة، ويخرج أهلها منها، وهذا لم يحصل مع أي قبيلة في تاريخ مكة بكاملها، فقريش لم تخرج وتترك مكة المكرمة مفتوحة الأبواب ولا مرة لأي قبيلة من قبائل العرب مهما كانت قوية، وحصل هذا مع المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهذا دليل على أنه أقوى من أي قبيلة في الجزيرة العربية في نظر قريش.

    إذاً: هذا البند في صالح المسلمين.

    وضع الحرب بين الطرفين مدة عشر سنين

    البند الثاني: وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، فهذا البند في صالح من؟ من الذين يحتاج إلى وضع الحرب ويرغب في الأمان؟ أليس هم المسلمون؟ هذه بغية المسلمين، كان الأمان طلباً نبوياً قبل المعاهدة أصلاً قبل صلح الحديبية، لعلكم تذكرون الكلام الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لـبديل بن ورقاء الخزاعي وذكرناه في الدرس السابق، قال: (فإن شاءوا ماددهم) يعني: كان هذا طلباً إسلامياً أن تحدث مدة بين المسلمين وبين المشركين.

    إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يحتاج أن يقيم دولته ويؤسسها، أما دولة قريش فمقامة منذ مئات السنين، بينما دولة المسلمين الناشئة عمرها ست سنين فقط، وتحتاج إلى كثير وكثير من الإعداد والتأسيس، فهل ستكون الدعوة في الجزيرة العربية أسهل في جو الحروب والدماء والعداوات المتكررة أم ستكون أسهل في حالة الأمان؟ لا شك أنها في حالة الأمان أسهل، وهذا ما يريده المسلمون، فإنهم سيتحركون في كل مكان بسهولة آمنين من الحرب مع القبائل المختلفة أيضاً، وحركة المسلمين لدعوة القبائل البعيدة عن المدينة المنورة والقبائل القريبة من مكة المكرمة ستكون أسهل وأيسر، بخلاف ما إذا كانت الحرب معلنة بين المسلمين وبين قريش.

    إذاً: الدعوة والحركة ستكون أسهل وأقرب إذا كانت الحرب موضوعة ولمدة عشر سنوات كاملة؛ لأن المسلمين سيتحركون ويدعون الناس إلى الإسلام، وتزداد قوتهم، والناس محتاجة إلى تعريفها بالإسلام، وبمجرد معرفة الإسلام معرفة صحيحة فإن الفطرة السليمة ستقبل الإسلام بلا تردد، وكانت القبائل خائفة من سماع شيء عن الإسلام؛ لأن كلمة الإسلام تعني حرب قريش، وقريش أعز قبيلة في العرب، فإن أمنت الناس حرب قريش سيدخل في الإسلام رجال ونساء وأطفال كثيرون، وهذا ما رأيناه فعلاً بعد صلح الحديبية بعد ذلك، كما سنتكلم عنه إن شاء الله.

    إذاً: هذا البند بوضوح في صالح المسلمين، ولكن توجد هنا ملاحظة مهمة جداً، وهي أن المسلمين عندما عقدوا هدنة مع المشركين في ذلك الوقت لم يأخذوا كل حقوقهم، ولم ترد إليهم كامل حقوقهم، لا زالت هناك ديار منهوبة، لا زالت هناك أموال مسلوبة، لا زالت هناك أرض محتلة من القرشيين، ومع ذلك قبل المسلمون بالهدنة قبل أن ترد إليهم حقوقهم المسلوبة، لكن المسلمون في هذه المعاهدة لم يقروا قريشاً على أي حق مسلوب لهم عندهم، لم يقولوا: ديارنا وأموالنا وأرضنا كلها حق لكم، أبداً لم يقولوا هذا الكلام، وإنما وضعوا الحرب عشرة سنوات، وبعد هذه العشر السنوات سنطالب بحقوقنا وسنسعى لاسترداد كل ما سلب مني.

    إذاً: إذا جلس المسلمون في صلح مع أعدائهم، وقبلوا بالهدنة دون إقرار العدو على حقوق مسلوبة هذا أمر شرعي، لكن إذا أقر المسلمون لعدوهم بحق المسلمين المسلوب هذا غير جائر وغير شرعي، ولا يمكن أبداً أن تقيس هذه المعاهدة التي قام بها صلى الله عليه وسلم بمعاهدات أخرى أقر فيها المسلمون لعدوهم بحقوق المسلمين، هذا شيء وما فعله المصطفى صلى الله عليه وسلم شيء آخر، وهناك فارق كبير بين معاهدة صلح الحديبية وبين المعاهدات التي قام بها المسلمون في عصرنا هذا مع اليهود، التي أقروا فيها لليهود بممتلكات إسلامية خالصة، فحذار أن يشبه أحد هذه المعاهدات الحديثة بمعاهدة صلح الحديبية، شتان بين المعاهدتين.

    إذاً: البند الثاني من بنود صلح الحديبية في صالح المسلمين تماماً.

    دخول القبائل في حلف الرسول صلى الله عليه وسلم وفي حلف قريش

    البند الثالث: من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزء من ذلك الفريق.

    فأي عدوان تتعرض له أي قبيلة من القبائل المحالفة يعتبر عدواناً على ذلك الفريق، ويعتبر في نفس الوقت مخالفة واضحة للاتفاقية، فهذا البند في صالح من؟ قريش أعظم قبائل العرب، والذي يحتاج ويريد أن يدخل في عهدها لا ينتظر معاهدة بهذه الصورة، إن أردت فادخل في عهد قريش من الآن، أين المشكلة؟ سيدخل في عهدها مباشرة لقوتها وتاريخها، لكن القبائل التي تريد أن تدخل في عقد وحلف محمد صلى الله عليه وسلم ستتردد ألف مرة؛ خوفاً من بطش قريش وحلفائها، لكن بعد صلح الحديبية من كان في قلبه تردد سيأمن من وضع الحرب، وسينضم إلى فريق المسلمين وهو مطمئن.

    إذاً: هذا البند لم تستفد منه قريش مطلقاً؛ لأن قريشاً أي أحد يريد أن يحالفها سيحالفها، بينما استفاد المسلمون من هذا البند استفادة قصوى، فالقبائل ستنضم لهم بعد أن أمنت قريشاً، من أجل هذا كان هذا البند في صالح المسلمين، ودليل هذا أن قبيلة خزاعة لم تنضم في حلف المسلمين إلا بعد صلح الحديبية، مع أن قبيلة خزاعة من أكثر القبائل قرباً إلى رسول صلى الله عليه وسلم حتى إن كتّاب السير يقولون: كانت خزاعة عيبة نصح لرسول صلى الله عليه وسلم، يعني: موضع سر وثقة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما ذكرنا من قبل أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرسل عيوناً من خزاعة، ويتحالف مع خزاعة، وكان بينها وبين بني هاشم حلف قديم جداً ومع بني عبد المطلب، ولها تاريخ طويل في هذه القضية، فقبيلة خزاعة التي تحب الرسول صلى الله عليه وسلم لم تدخل في حلفه إلا بعد صلح الحديبية، فما بالك ببقية القبائل؟

    إذاً: هذا البند فعلاً كان في صالح المسلمين، وهذا البند بالذات هو الذي سيكون سبباً بعد هذا في فتح مكة المكرمة، فأي خير جاء من ورائه.

    إرجاع من أسلم من أهل مكة بعد صلح الحديبية لقريش وعدم إرجاع من ارتد إلى المسلمين

    البند الرابع، وهذا البند يحتاج منا وقفة مهمة، البند الرابع: من جاء قريشاً ممن مع محمد صلى الله عليه وسلم هارباً منه لم يرد إليه، ومن أتى محمداً صلى الله عليه وسلم من غير إذن وليه هارباً منه رده عليهم، يعني: من يأتي المسلمين من أهل قريش بعد صلح الحديبية مسلماً يرجعونه إلى أقاربه، إن كان أقاربه يرفضون إسلامه، ومعلوم أن كل المشركين سيرفضون إسلام أهل مكة.

    إذًا: هذا البند يقضي أن كل مسلم جديد بعد صلح الحديبية سيرجع مرة أخرى إلى مكة المكرمة، وعلى الناحية الأخرى إذا ارتد أحد المسلمين وذهب إلى مكة لا تعيده مكة إلى المسلمين.

    هذا البند في ظاهره في صالح القرشيين، لكن تعالوا نحلل هذا البند، هذا البند يتكون من جزأين:

    الجزء الأول: من يهرب من الصف المسلم إلى الصف الكافر، هل يريده المسلمون؟ لو أن شخصاً من المسلمين ارتد وقرر أن يكون في صف قريش هل نتمسك به؟ هل نجبره على البقاء في المدينة المنورة وهو كاره للإسلام والمسلمين؟ واضح جداً أننا لسنا بحاجة إليه، بل لو كان هذا البند غير مكتوب في المعاهدة كل من يريد أن يرتد من المسلمين سيبطن هذه الردة ولن يظهرها؛ لأنه خائف من أن ترجعه قريش إلى المسلمين؛ لذلك هذا البند يسمح لكل من في قلبه مرض أن يظهر هذا المرض، ويتخلص منه المسلمون، وقد ذكرنا الآية قبل هذا أكثر من مرة، قال الله عز وجل في كتابه: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:47]، يعني: المنافقين، فأنا لماذا أدع المنافق داخل المدينة المنورة يدل على عوراتي، وينقل أخباري إلى المشركين، ففي بقاء أهل النفاق خطورة شديدة على المسلمين، والمسلمون ليسوا في حاجة إلى من يبقي معهم بجسده وهو ليس معهم بقلبه، من أجل هذا فالتخلص منه أفضل.

    إذاً: هذا الجزء من البند الرابع في صالح المسلمين.

    الجزء الثاني هو الذي فيه سلبية واضحة: أي واحد من أهل مكة بعد صلح الحديبية جاء إلى المسلمين مسلماً، سواء كان إسلامه قبل صلح الحديبية أو بعده، فإن على المسلمين أن يردوه إلى مكة المكرمة، يردونه إلى أهله من الكافرين، ومعلوم إذا رد مسلم إلى الكفار فإنه قد يفتن في دينه، فقد يعذبه المشركون حتى يكفر بالله عز وجل، بالإضافة إلى أن المسلمين سيخسرون قوته، كان المفروض أن يضيف قوته إلى قوة المسلمين، فالمسلمون في هذه الحال لن يستفيدوا من قوته ومن طاقته.

    إذاً: نستطيع أن نقول: هذه الفائدة الوحيدة التي حصلت قريش عليها في هذه المعاهدة الطويلة، فهذا البند يعتبر في صالح قريش، ولا بد أن يكون في صالحها شيء، وإلا لما تمت المعاهدة ، ومع ذلك هذه الجزئية من البند لا تخلو من فائدة للمسلمين، لكن كيف؟ نقول: المسلم الذي سيعود إلى مكة قد يصبح مصدراً للاضطراب في داخل دولة مكة، قد يدعو إلى الإسلام في داخل مكة، قد يؤثر على عقليات المشركين في داخل مكة، قد يجمع نفسه مع غيره ويصيب المشركين بأذى في داخل مكة أو في خارجها، بل قد يخفي إسلامه ويدل على عورات المشركين، ويحدث فتناً في داخل المشركين، فهو لا يقبل دينهم ولا يقبل عبادتهم، فيكون خطراً حقيقياً على المشركين، وهذا عين ما رأيناه بعد ذلك، يعني: حتى هذه الجزئية من هذا البند التي هي في صالح المشركين فيها خسارة للمشركين أيضاً.

    هذه هي بنود صلح الحديبية الأربعة، تعالوا نراجع هذه البنود الأربعة سنجد أنها في الغالب في صالح المسلمين على حساب قريش، وفيها فوائد جمة ومزايا عميقة جداً، سبعة أثمان المعاهدة في صالح المسلمين، والجزئية الوحيدة التي تمثل ثمن المعاهدة التي في صالح المشركين في صالح المسلمين أيضاً، ولكن بخسارة، فأي فائدة لا تخلو من خسارة، هذا هو صلح الحديبية، وهذه هي قيمة هذا الصلح الكبير، وهذا هو الصلح الذي سيكون له نتائج غيرت ليس فقط وجه الجزيرة العربية، ولكن وجه العالم.

    1.   

    كتابة صيغة صلح الحديبية وتوثيقها

    بعد أن اتفق الرسول صلى الله عليه وسلم على بنود الصلح مع قريش لا بد أن توثق وتسجل في صحيفة تكون بين الدولتين يوقع عليها الطرفان، ويعترف بها في الجزيرة العربية بكاملها، وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم الجلوس مع سهيل بن عمرو لكتابة الصحيفة، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أمّي لا يكتب ولا يقرأ، فالذي كان يكتب المعاهدة هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، والذي يملي عليه الكلمات هو رسول صلى الله عليه وسلم، وهذه إشارة قوية جداً إلى أن اليد العليا في المعاهدة للمسلمين، فهم الذين يملون المعاهدة ويكتبونها، فالرسول صلى الله عليه وسلم يملي وعلي بن أبي طالب يكتب، وسهيل بن عمرو مجرد مستمع.

    فقال صلى الله عليه وسلم: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم)، بداية كل عمل للمسلمين: بسم الله الرحمن الرحيم، فوقف سهيل واعترض، وكل اعتراضات سهيل بن عمرو شكلية، لم يعترض على كل البنود السابقة مع كل الخسائر التي خسرتها قريش لضعف قريش، وإنما هو الآن يعترض اعتراضات شكلية، ونريد أن نشاهد مرونة الرسول صلى الله عليه وسلم.

    قال سهيل : (ما الرحمن؟) يعني: لسنا موافقين على هذه الكلمة، (ما الرحمن؟ فو الله ما ندري ما هو، اكتب: باسمك اللهم، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال لسيدنا علي : اكتب: باسمك اللهم)، يعني: (باسمك اللهم) هذه ليست فيها معارضة لأمر شرعي، وإذا لم يكتب الرحمن الرحيم ليس معنى ذلك أنه غير معترف بأن الله عز وجل هو الرحمن الرحيم، لا، وإنما لم يكتب ذلك في المعاهدة، فهذه نقطة شكلية مررها الرسول صلى الله عليه وسلم دون وقوف، (فمحا علي بن أبي طالب البسملة وكتب: باسمك اللهم، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: هذا ما تصالح عليه محمد رسول الله) ، ولم يكمل الكلمة بعد حتى وقف سهيل مرة أخرى، لكن هذه الوقفة مهمة جداً من سهيل قال: (لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله)، يعني: هم لم يعترفوا بعد بنبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكيف تكتب في الصحيفة ويوقع عليها سهيل ، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إني رسول الله وإن كذبتموني، ثم أمر علياً أن يمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، فسيدنا علي قال: لا أستطيع أن أمسح كلمة رسول الله، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال له: أرني مكانها، فأشار له علي رضي الله عنه وأرضاه على مكان الكلمة، فمحاها صلى الله عليه وسلم بنفسه)، هذا موقف في منتهى العمق، فـسهيل بن عمرو يريد أن يأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم في قضايا جانبية بعيدة عن الصلح، فهو يسحبه في تفريعات بعيدة عن الموضوع الأساس الذي نتكلم فيه، وكانت رؤية الرسول عليه الصلاة والسلام واضحة جداً، فهو يريد أن تتم المعاهدة؛ لأن هذه البنود كلها في صالح المسلمين، ويرى أن فيها نصراً للمسلمين، لم يكونوا يحلمون قبل صلح الحديبية، فالمسلمون يقولون: كان كل طموحنا أننا نؤدي العمرة ونرجع مرة أخرى إلى المدينة المنورة، والآن عندنا كل المكاسب، فلا نعطل الصلح من أجل كلمة كذا أو كذا، فالرسول صلى الله عليه وسلم يريد للصلح أن يتم، وهذه الكلمات لن تؤثر على الصلح.

    إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم يمحو كلمة: محمد رسول الله، ويكتب: محمد بن عبد الله، وهذا الكلام ليس فيه خطأ هو فعلاً محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فلماذا لا نكتب هذا الأمر وتمر المعاهدة بسلام، ويخرج المسلمون بكل هذه الفوائد التي فيها؟!

    من المرونة أن أتنازل عن أشياء لا تقدم ولا تؤخر، وليس فيها مخالفة شرعية، وهذا واضح من إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لمحو هذه الكلمات، فهو صلى الله عليه وسلم لا يقر باطلاً أبداً، ونحن نحتاج إلى أن نفهم هذا الكلام جيداً، نحتاج إلى أن نفهم متى نتشدد ومتى نتساهل، متى نقول: لا يمكن أبداً أن نتنازل عن هذا الأمر، ومتى نقول: يمكن نتنازل عن هذا الأمر أو نقبل بهذا الأمر.

    1.   

    الضوابط والشروط المستفادة من صلح الحديبية

    السيرة النبوية كلها كنوز، وكلها واقع، نحن نقرأ هذا الكلام الذي وقع قبل (1400) سنة، لكن هذا الكلام له تطبيق في كل يوم من حياتنا وتعالوا ننظر إلى صلح الحديبية وكيف أنه بين لنا وعرفنا شروط الصلح في الإسلام:

    أولاً: هذا الصلح ليس فيه إقرار للمشركين على باطل، وليس فيه تنازل عن شيء من الدين، وليس فيها إعطاء أرض لقريش ليست أرضهم، أو الاعتراف لهم بها، هذه الأمور لم تكتب في الصلح، وهذا الصلح لا يمنع المسلمين من التسلح، ولا يمنع المسلمين من عقد الأحلاف، ولا يمنع المسلمين من إعداد العدة، ولا يأمر المسلمين بتغيير المناهج أو تبديل الثوابت.

    إذاً: هذا والصلح في الإسلام، صلح ليس فيه تنازل عن شيء من الشرع.

    ثانياً: هذا العهد وهذا الصلح بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين قريش لم يقر الصداقة بينهما، وإنما فقط أقر وضع الحرب لمدة عشر سنوات مع بقاء الحالة كما هي عليها، حالة العداوة بين المسلمين وبين المشركين باقية، لم يقر الصداقة بين المسلمين وبين المشركين.

    ثالثاً: هذا العقد إلى أجل، عشر سنوات، وبعد العشر سنوات يمكن أن نقعد ونتكلم، إذا أردنا أن نمد العهد بعد عشر سنوات نفعل، وإن رأينا أن هذه المدة تكفي لم نفعل، لكن لا يوجد شيء اسمه سلام دائم، كما في عصرنا مع عدم عودة الحقوق سلام دائم لا ينفع، السلام مقرون بعودة الحقوق.

    رابعاً: هذا العقد واضح البنود ليس فيه بند مبهم، بحيث يفهم على أكثر من محمل، لا، بل واضح جداً؛ من أجل أن يضمن المسلمون حقهم تماماً دون خداع من الطرف الآخر.

    خامساً: هذا العقد عُقد وللمسلمين قوة تستطيع أن تردع العدو إذا خالف المعاهدة، أما إن لم تكن لك هذه القوة فلا معنى للمعاهدة، فمثلاً: لو أننا وضعنا بنوداً وحصلت منا تنازلات ومنهم تنازلات، وجاء بعد سنة أو سنتين فخالفوا هذه المعاهدة، ماذا ستعمل هل ستذهب لتشتكي وتشجب وتندب وتدعو هذا وذاك ليدافع عنك، أم عندك القوة الكافية لردع العدو ومعاقبة العدو إذا خالف المعاهدة؟!

    فالرسول عليه الصلاة والسلام كانت عنده هذه القوة، وسنرى بعد سنتين كيف أنه صلى الله عليه وسلم ردع قريشاً وحلفاءهم بني بكر عندما خالفوا هذه المعاهدة مع المسلمين، لكن لو كان المسلمون ضعافاً وحصلت مخالفة ولم يستطيعوا أن يردعوا المخالف فماذا سيكون الموقف؟ سيكثر الاستهزاء والاستخفاف بهم، وهذه شيء طبيعي جداً، وحتى لو دخل طرف ثالث في المعاهدة ليضمن الطرفين، فهل الطرف الثالث سيكون على الحياد وقوي بحيث يستطيع أن ينصر الطرف الأول على الطرف الثاني، أو الطرف الثاني على الطرف الأول إذا خالف أحدهما، أم هو مع طرف من الطرفين سواء كان ظالماً أو مظلوماً؟!

    إذاً: إذا لم يملك المسلمون القوة الكافية للردع عند المخالفة فلا معنى للمعاهدة.

    1.   

    المقارنة بين معاهدة صلح الحديبية وبين معاهدات زعماء المسلمين في عصرنا مع اليهود

    إن معاهدة صلح الحديبية بالمقارنة بمعاهدات المسلمين مع اليهود في زماننا هذا، وأشهر هذه المعاهدات معاهدة (أوسلو) ومعاهدة (خارطة الطريق).. وغيرهما من المعاهدات بين المسلمين واليهود، وفي هذه المعاهدات أُقِرَ اليهود على باطل، وهو امتلاكهم لأرض فلسطين، أو لجزء من أرض فلسطين، والمسلمون جميعاً كانوا مقتنعين تماماً الاقتناع أن فلسطين أرض إسلامية، أو أرض عربية كما كانوا يقولون، لكن بعد هذه المعاهدات أقر بعض المسلمين أن جزءاً من أرض فلسطين لم يعد مملوكاً للمسلمين.

    وفي هذه المعاهدات قلب العداء بين المسلمين واليهود إلى صداقة، ويتبع ذلك رفع عداوة اليهود من مناهج التعليم والإعلام؛ من أجل أن يصعد جيل من المسلمين لا يعرف عدوه من صديقه، وهذا شيء خطير جداً.

    وفي هذه المعاهدات لم يحدد المسلمون فترة معينة للمعاهدة ثابتة أو مفتوحة، وإنما السلام الدائم مهما حدث، وهذا شيء خطير.

    وفي هذه المعاهدات لم يعترف اليهود بالأحلاف التي بين المعاهد وبين الدول الأخرى، يعني: في كامب ديفيد لم يعترف اليهود بمعاهدات مصر مع الدول الأخرى، فلو دخلت إسرائيل مع دولة أخرى من دول العالم الإسلامي في حرب ليس لمصر أن تعترض؛ لأن بنود المعاهدة تقر بأنه ليس هناك حرب بين إسرائيل وبين مصر، فماذا حصل بعد هذا؟ الذي حصل بعد هذا أن إسرائيل غزت لبنان بعد كامب ديفيد بسنوات قليلة جداً، ففي عام (1982)م غزت إسرائيل لبنان ولم تستطع مصر أن تدافع عن لبنان بجيشها، مع أن هناك معاهدة دفاع مشترك بين مصر ولبنان، كما يقر بذلك ميثاق جامعة الدول العربية، لكن ما دام هناك معاهدة مع إسرائيل فإن مصر لا تدافع عن دولة أخرى إذا حاربتها إسرائيل، وكان كل دور مصر أن تخرج ياسر عرفات من لبنان مع وجود الجيش اليهودي في داخل لبنان، وهذا شيء خطير جداً.

    هذا العقد بين إسرائيل ومصر عُقد وليس للمسلمين القوة الكافية للردع لو حصلت مخالفة؛ لأن سيناء التي هي محل النزاع أصلاً لم يترك فيها جيش مصري، أقصى مسافة يمكن أن يكون فيها الجيش المصري على بعد (5) كيلو متر من قناة السويس، بينما يوجد جيش اليهود على بعد ثلاثة كيلو مترات من رفح، يعني: بقيت منطقة سينا بكاملها خالية من السلاح ومن الجيش، مع أنها صارت مصرية، فهذا بالتالي يجعل الجنود المصريين أو المسلمين عند الإسماعيلية وبور سعيد والسويس، بينما جنود اليهود عند رفح في أي لحظة من لحظات التعدي جنود اليهود سيكونون داخل سينا، ورأينا عندما حصلت مخالفة في داخل رفح لم يستطع المصريون المقاومة المسلحة لهذا الأمر؛ لأن الجيش المصري في الإسماعيلية وبور سعيد والسويس ليس في رفح، وكان من المفروض أن يكون جيشنا على بعد ( 3 ) كيلو متر من رفح، كما أن جيشهم على بعد ( 3 ) كيلو متر من رفح، أليست رفح هي الحد الفاصل؟

    المسافة العدالة الفاصلة أن يكون بيننا وبين رفح ( 50 ) كيلو، ويكون بينهم وبين رفح ( 50 ) كيلو، بيننا وبين رفح ( 1000 ) كيلو، وبينهم وبين رفح ( 1000 ) كيلو، هذا هو العدل، لكن ألا يكون عندك أي نوع من الحماية لأرض لك، وجيوش عدوك على بعد مسافة ثلاثة كيلو مترات فقط من الحدود، هذا أمر غير مقبول.

    ثم من الذي يراقب هذا العهد؟ أمريكا الموالية لإسرائيل، والأمم المتحدة المؤسسة لإسرائيل، أليس هذا هو الحاصل؟ وإذا حدث خلاف بين الطرفين من الذي سيحكم، ستحكم أمريكا أو الأمم المتحدة، وكلنا نرى ذلك.

    ثم الأخطر من كل ما سبق في هذه المعاهدة أنه تم الاعتراف بدولة إسرائيل كدولة مستقلة في فلسطين، فكونها تعقد الأحلاف والمعاهدات وتعترف بها دولة من أكبر دول المنطقة كمصر هذا من أفضل نجاحات اليهود في الخمسين السنة الأخيرة، وقبل ذلك كان المسلمون جميعاً يطلقون على اليهود: الكيان الصهيوني، أو يطلقون عليهم: المحتلين اليهود، لكن بعد معاهدة كامب ديفيد صارت دولة إسرائيل ولها سفارات في معظم العالم الإسلامي.

    أما نتائج صلح الحديبية فمختلفة تماماً عن نتائج هذه المعاهدات المعاصرة.

    وبعد الاعتراف بإسرائيل تم فصل مصر عن العالم العربي، أليس كذلك؟ ونتج عن هذا الاعتراف خلاف دائم بين مصر والعالم العربي، وحصل شقاق كبير جداً جداً في الصف المسلم، لكن بعد صلح الحديبية حصل العكس تماماً، دخل مسلمو اليمن في الدولة الإسلامية، وعاد مسلمو الحبشة إلى الدولة الإسلامية، وتوافدت القبائل المسلمة إلى الدولة الإسلامية، وحصلت وحدة بعد صلح الحديبية وليس فرقة.

    أقول لكم كلمة موجعة جداً: صلح الحديبية فعلاً شبه كامب ديفيد لكن بطريقة عكسية، يعني: حقق اليهود الفوائد التي حققها المسلمون من صلح الحديبية، والمسلمون في زماننا الآن خسروا الخسائر التي خسرتها قريش في صلح الحديبية، وراجعوا الصلحين وضعوهما مع بعض وقارنوا بينهما ستجدون أن هذا الكلام صحيح مائة بالمائة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    إن صلح الحديبية تم والحمد لله، وكتب بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين سهيل بن عمرو ، لكن هل أعجب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم هذا الصلح؟ هل وافقوا على هذا الصلح؟ في الواقع أن جل الصحابة كانوا يرفضون هذا الصلح، فهم لم يروا إلا سلبيات هذا الصلح فقط، لم يروا إلا الجزء الثاني من البند الرابع، الذي هو إعادة المسلمين إلى الكفار مرة أخرى، بينما الرسول عليه الصلاة والسلام كان ينظر إلى الموضوع بنظرة شمولية، تتميز بوضوح الهدف وعمق التحليل.

    1.   

    الهدف من صلح الحديبية

    ليس الهدف من صلح الحديبية استئصال قريش، وليس الهدف عمرة عابرة في حياة المسلمين، وليس الهدف إذلال قريش بالدخول إلى مكة رغماً عن أنفها، وليس الهدف إيمان مكة وحدها.

    إذاً: ما هو الهدف؟ لقد كان هدف رسول الله صلى الله عليه وسلم أعمق من ذلك بكثير، الهدف هو نشر دين الله عز وجل في الأرض قاطبة، حتى لو تأخر إسلام مكة عدة سنوات، مع أن مكة أحب بلاد الله إلى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه كان ينظر نظرة شمولية، وينظر في ذات الوقت نظرة واقعية للأحداث، فبعض الصحابة في ذلك الوقت لم ينظروا هذه النظرة، كان كل همهم أن يدخلوا تلك السنة إلى مكة المكرمة، كان كل همهم أن يعودوا بالمسلمين الموجودين بمكة إلى داخل المدينة المنورة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم نظرته أعمق وأوسع من هذا بكثير، كان يرى كل الفوائد التي تكلمنا عليها وأكثر من هذا في داخل صلح الحديبية؛ من أجل هذا قبل صلى الله عليه وسلم بالصلح.

    هنا سؤال مهم جداً ومحتاج إلى وقفه مهمة وهو: لماذا لم يستجب الرسول عليه الصلاة والسلام لرأي الصحابة مع أن الأغلبية منهم لا يريدون أن يتم الصلح بهذه الصورة؟ لماذا الرسول عليه الصلاة والسلام خالف هؤلاء الصحابة؟ أين الشورى في ذلك الموقف؟ هذا شيء في منتهى الأهمية، والشورى لا تكون إلا في الأمور التي ليس فيها وحي، التي ليس فيها أمر مباشر من رب العالمين سبحانه وتعالى، أو من رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، والرسول قبل ذلك أشار في أكثر من مرة أن هذا الأمر وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، فالرؤيا التي رآها في المدينة المنورة كانت وحياً من الله عز وجل، والناقة التي حبست من دخول مكة المكرمة وذكر صلى الله عليه وسلم أنها مأمورة، وأنه حبسها حابس الفيل، فهذه إشارة واضحة من رب العالمين سبحانه وتعالى أنه لا يريد له أن يدخل مكة المكرمة، لذلك أخبر أصحابه أنه سيقبل بأي خطة تعظم فيها حرمات الله عز وجل، وفيها منع للقتال، ثم بعد ذلك ذكر ذلك عندما جادله صلى الله عليه وسلم كلمة توضح أن كل المعاهدة كانت بوحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، ذكر ذلك عندما جادله بعض الصحابة كما سيتبين إن شاء الله في الدرس القادم، قال لهم موضحاً لهم أهمية هذه المعاهدة وأنها أمر من رب العالمين سبحانه وتعالى، قال: (إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري ولن يضيعني أبداً).

    إذاً: اتضح أن هناك وحي في هذه القضية، وهناك أمراً مباشراً من رب العالمين سبحانه وتعالى أن يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه البنود، فهنا لا يوجد شورى.

    1.   

    الفرق بين الشورى والديمقراطية

    هناك فارق ضخم جداً وهائل بين الشورى وبين الديمقراطية، فالشورى في الإسلام تكون في الأمور التي ليس فيها أمر مباشر من رب العالمين سبحانه وتعالى، أو من رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، إذا كان هناك أمر من الله فلا خيرة للمؤمنين، لكن في الديمقراطية أي شيء موضوع للتشاور، أي شيء موضوع لاجتماع الشعب، أي شيء موضوع للأغلبية، حتى وإن أحلت الأغلبية حراماً أو حرمت حلالاً، هذا في عرف الديمقراطية مقبول، أما في عرف الإسلام فغير مقبول، هذا فارق ضخم جداً، نعم، هناك نقط تماس بين الشورى والديمقراطية يرجح رأي الشعب ورأي الأغلبية في القضايا التي ليس فيها أمر مباشر من رب العالمين سبحانه وتعالى، أو من الرسول صلى الله عليه وسلم.

    إذاً: الفرق الضخم الهائل أن مرجعيتنا في الشورى إلى الإسلام وإلى الكتاب والسنة، وهذا من أعظم الفوارق بين المنهجين: الشورى، والديمقراطية.

    فهذا هو صلح الحديبية وهذه هي البيعة التي قال الله عز وجل في حقها: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، وهذه البنود التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم مع سهيل بن عمرو ، وكان من أثرها أن عم الإسلام وانتشر ليس في الجزيرة العربية فقط، بل في عموم بلاد العالم، كما سنرى هذه الأمور بالتفصيل إن شاء الله رب العالمين في الدروس القادمة.

    في الدرس القادم إن شاء الله سنتحدث عن موقف الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من صلح الحديبية، وسنتحدث أيضاً عن بعض المواقف الحساسة جداً التي حدثت مباشرة بعد صلح الحديبية، وكيف تعامل معها الرسول صلى الله عليه وسلم، وسنتحدث عن آثار صلح الحديبية في مكة المكرمة وفي المدينة المنورة وفي الجزيرة العربية وفي غيرها، وهناك أمور كثيرة أخرى تعلقت بهذا الأمر ونتجت عنه.

    ونسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].

    وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755962058