إسلام ويب

سلسلة السيرة النبوية يوم أحدللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لا يهزم جيش مؤمن متصف بصفات الجيش المنتصر، لكن إذا فقد هذا الجيش صفة من صفاته تغير الحال وانقلبت الموازين من نصر إلى هزيمة، وغزوة أحد هي مصيبة على المسلمين وليست هزيمة، وقد صرح الله سبحانه بذلك في كتابه، ومع ذلك كله لم تكن غزوة أحد شراً محضاً على المسلمين، بل إنها تحمل في طياتها الخير الكثير للمسلمين، وبقدر الذنب تكون المصيبة، فهي بمثابة الدرس، وبمثابة البلسم الشافي للمؤمنين من مرض المخالفة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    معركة أحد وما رافقها من أحداث

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فمع الدرس الحادي عشر من دروس السيرة النبوية في العهد المدني.

    وقد تحدثنا في الدرس السابق عن مقدمات غزوة أحد، تحدثنا عن الإعداد الجيد لجيش الكفار، والذي بلغ تعداده ثلاثة آلاف مقاتل بعدة جيدة للحرب.

    وكذلك تحدثنا عن الإعداد الجيد للجيش المسلم، وكما ذكرنا في الدرس السابق أن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج بألف من رجال المسلمين، ولكن انسحب منهم قبل أن يدخل أرض المعركة (300) من المنافقين؛ فأصبح الجيش حوالي (700) من المسلمين.

    وذكرنا أيضاً أنه إلى جانب الإعداد الجيد توافرت صفات الجيش المنصور في الجيش المسلم الخارج إلى أحد، من إيمان بالله عز وجل، وإيمان برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ومن إيمان باليوم الآخر، وطلب الجنة والرغبة في الموت في سبيل الله، ومن أخوة وشورى، ومشاركة القائد لجنده .. وغير ذلك من صفات الجيش المنصور التي تحدثنا عنها بالتفصيل عند حديثنا عن غزوة بدر.

    دخل الرسول عليه الصلاة والسلام أرض أحد، واحتل مواقع متميزة فيها، ووضع فرقة من الرماة على الثغرة الوحيدة الموجودة في أرض المعركة، وأكد عليهم مرة وثانية وثالثة عدم التخلي عن مواقعهم مهما كانت الظروف، قال صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن جبير قائد المجموعة: (انضح عنا الخيل بالنبل، لا يأتون من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك، لا نؤتين من قبلك، ثم قال للرماة: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطئناهم فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم) فكانت الأوامر في منتهى الوضوح، لا تفتح أي باب للاجتهاد عند الرماة، بل كلها تحمل معنى واحداً وهو الثبات فوق جبل الرماة.

    التحام الجيشين

    بدأ القتال يوم السبت السابع من شوال سنة ثلاث للهجرة بعد حوالي سنة من غزوة بدر، بدأ اللقاء في منتهى الشراسة، وأول لقاء دار كان حول راية الكفار، وكان يحملها فارس من بني عبد الدار اسمه طلحة بن أبي طلحة العبدري ، وكان من أكبر وأعظم وأشرس فرسان قريش، كانوا يلقبونه بكبش الكتيبة، فكان طلحة بن أبي طلحة أول من طلب القتال من قريش.

    وخرج بهيئته المرعبة وكان راكباً جملاً، فأحجم المسلمون عن مبارزته؛ لأن شكله كان مرعباً، فتقدم الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه وانطلق إليه، وقفز فوق جمل طلحة بن أبي طلحة وجذبه من فوق الجمل إلى الأرض، وبرك فوقه وقتله رضي الله عنه وأرضاه.

    فلما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام الزبير بن العوام رضي الله عنه يقتل كبش الكتيبة طلحة بن أبي طلحة قال: (إن لكل نبي حواري وحواريي الزبير) رضي الله عنه وأرضاه، واحتدم اللقاء بسرعة، واشتعلت أرض المعركة.

    وتقدم عثمان بن أبي طلحة أخو طلحة بن أبي طلحة وحمل الراية وطلب القتال، فخرج له حمزة رضي الله عنه وأرضاه وقتله.

    ثم خرج أخوهم الثالث أبو سعد وقتله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

    وهكذا خرج مسافع بن طلحة .

    ثم خرج كلاب بن طلحة .

    ثم الجلاس بن طلحة ، مجموعة كبيرة من بني عبد الدار، هؤلاء الستة من بيت واحد من بيت أبي طلحة .

    كانت مأساة بالنسبة لبني عبد الدار، ومع ذلك خرج منهم واحد اسمه أرطأة بن شرحبيل فقتله علي بن أبي طالب .

    ثم خرج شريح بن خالد فقتله غلام أنصاري اسمه قزمان .

    ثم خرج واحد اسمه عمرو بن عبد مناف فقتله قزمان أيضاً.

    ثم خرج ولد لـشرحبيل بن هاشم فقتله قزمان أيضاً، فقد قاتل قزمان قتالاً شديداً في يوم أحد.

    فهؤلاء عشرة قد قتلوا كلهم من بني عبد الدار، وكان كل واحد منهم يسلم الراية للآخر؛ لأنهم كانوا قد عاهدوا أبا سفيان ألا يتخلوا أبداً عن الراية، وصدقوا في ذلك.

    ثم خرج مولى لبني عبد الدار كان اسمه صواب من الحبشة قاتل قتالاً أشد من السابقين جميعاً حتى قطعت يده الأولى ثم الثانية، ثم قطع رأسه وهو يحمل الراية حتى سقط، وبسقوط هذا الغلام الحادي عشر سقطت الراية المشركة، ولم يتسلمها أحد بعد ذلك.

    كان اللقاء بأعلى مستوى، فالأرض كلها هجوم كاسح شامل، وكان شعار المسلمين في هذا اليوم: أمت أمت، وكانت البداية في صالح المسلمين، فقد قتلوا أحد عشر قتيلاً من غير أن يقتل واحد من المسلمين، فقد كان انتصاراً ضخماً ضعفت به معنويات الكفار، وارتفعت معنويات المسلمين إلى أعلى درجة، وبدأ المسلمون يقتلون في الكفار ويسيطرون على الموقف تماماً، وقاتل جميع المسلمين بمنتهى الضراوة والقوة.

    بلاء وقتال أبي دجانة وحمزة وغيرهما

    كان من أبرز المقاتلين المسلمين في هذه اللحظات أبو دجانة وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما، فهذان قد فعلا الأفاعيل بجيش قريش.

    أخذ أبو دجانة السيف الذي أعطاه صلى الله عليه وسلم، وربط على رأسه عصابة حمراء، وقال الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، فجال في الأرض وقتل الكثير من المشركين.

    وهناك موقف للزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان في نفسه غاضباً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أعطى السيف لـأبي دجانة ولم يعطه هو، فقال الزبير في نفسه: أنا ابن صفية عمته ومن قريش وقد قمت إليه فسألته إياه قبله، فأعطاه إياه وتركني، والله لأنظرن ما يصنع -أي: سأرى أبا دجانة ماذا سيفعل في هذه الموقعة حتى يعطى هذا السيف- فاتبعته فرأيته وهو يقول:

    أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل

    ألا أقوم الدهر في الكيول.

    والكيول: مؤخرة الصفوف، يعني: أقاتل في مقدمة الصفوف.

    أضرب بسيف الله والرسول

    قال الزبير بن العوام : فجعل لا يلقى أحداً من المشركين إلا قتله، وكان في المشركين رجل شديد جداً يقتل كل جريح مسلم فدعوت الله أن يجمع بينه وبين أبي دجانة فاجتمعا فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته -بدرعه- فعضت بسيفه فضربه أبو دجانة فقتله.

    وأخذ أبو دجانة يخترق صفوف الكفار حتى وصل إلى آخره، وكان في آخر الجيش النساء، فرفع سيفه ليضرب إنساناً. يقول أبو دجانة : رأيت إنساناً يخمش الناس خمشاً شديداً فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول فإذا هو امرأة -وهي هند بنت عتبة - فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة. هذا هو أبو دجانة رضي الله عنه وأرضاه.

    وقاتل حمزة بن عبد المطلب أيضاً كقتال أبي دجانة رضي الله عنهما، قاتل قتالاً شديداً في كل الميادين، ولم يقف أبداً في وجهه أحد من المشركين، لكن وقف في ظهره أحدهم، وهو وحشي بن حرب أحد الغلمان في جيش المشركين، وله قصة، يقول وحشي بن حرب : كنت غلاماً لـجبير بن مطعم ، وكان عمه طعيمة بن عدي قد أصيب يوم بدر، فلما سارت قريش إلى أحد قال لي جبير : إنك إن قتلت حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق، المسألة مسألة ثأر تماماً، قال: فخرجت مع الناس، وكنت رجلاً حبشياً أقذف بالحربة قذف الحبشة، قلما أخطئ بها شيئاً، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق، يهد الناس هداً ما يقوم له شيء، وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه فوقعت في ثنته -يعني: في أحشائه- حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فغلب -يعني: بعد أن ضرب حمزة بالحربة ذهب ليقتل وحشياً - وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي، ثم رجعت إلى العسكر فقعدت فيها ولم يكن لي بعده حاجة وإنما قتلته لأعتق، فلما قدمت مكة عتقت.

    لقد كان قتل حمزة رضي الله عنه وأرضاه أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم خسارة فادحة خسرها المسلمون، ومع قتل هذا الأسد العظيم رضي الله عنه إلا أن المسلمين ظلوا مسيطرين تماماً على الموقف في أرض أحد، فقد قاتل عامة المسلمين يومئذ قتالاً شرساً شديداً عظيماً، قاتل أبو بكر وقاتل عمر وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام ومصعب بن عمير وطلحة بن عبيد الله وعبد الله بن جحش وسعد بن معاذ .. كل المسلمين أبلوا بلاءً حسناً في ذلك اليوم.

    وكان لـخالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه -وكان يومئذ مشركاً- نظرة عسكرية ثاقبة، رأى الثغرة التي من الممكن أن يلتف على المسلمين عن طريقها، فجاء خالد بن الوليد بفرقة من الفرسان والتف حول جبل الرماة، لكن فوجئ بسيل من السهام من كتيبة الرماة من فوق الجبل، فردت خالد بن الوليد ولم يستطع مع كل ذكائه وعبقريته وحنكته العسكرية أن يتجاوز هذه الكتيبة ويأتي الجيش المسلم من الخلف، وقرر خالد المحاولة مرة ثانية وثالثة، وفي كل مرة يفشل في تجاوز كتيبة الرماة التي قامت حتى هذه اللحظة بمهمتها على أكمل واجب.

    انتصار المسلمين في غزوة أحد في أول الأمر

    بدأت الهزيمة تدب في الجيش المشرك ثلاثة آلاف مشرك، كأنهم يقابلون ثلاثين ألف مسلم، مع أن المسلمين كلهم سبعمائة، وبدأ المشركون يفكرون في الهروب، وبدءوا فعلاً في الهروب، وعادوا يتراجعون إلى الوراء شيئاً فشيئاً، ثم بدءوا يولون وجوههم قبل مكة، حتى إنهم تركوا النساء وراءهم.

    يقول الزبير بن العوام : والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير. يعني: انتهت الموقعة ومن الممكن أخذ النساء سبياً.

    فكان نصراً عظيماً للجيش المسلم، لا يقل هذا النصر روعة عن نصر بدر، فالله سبحانه وتعالى قال: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران:152] تحسونهم أي: تستأصلونهم، فالله سبحانه وتعالى وعد المسلمين إن كانوا صابرين ومتبعين لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم النصر في أحد وفي غيرها، وقد بشرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك قبل الخروج إلى أحد، والمسلمون إلى هذه اللحظة ملتزمون تماماً بما قال لهم صلى الله عليه وسلم، وبما كانوا عليه يوم بدر؛ لذلك تحقق النصر حتى هذه اللحظة.

    إذا وقفنا وحللنا فإننا سنجد أن هذا الجيش إلى الآن مؤمن بالله عز وجل، ومؤمن باليوم الآخر يطلب الجنة، والشورى طبقها، والإعداد الجيد طبقه، والقائد في هذا الجيش يعيش مع شعبه ويشترك معهم في كل صغيرة وكبيرة، وأخوة في الله واضحة في أثناء القتال، والأمل في قلوبهم، واليقين في نصر الله عز وجل يملأ نفوسهم، والأمر موسد إلى أهله، والصفات العشر التي تكلمنا عنها في غزوة بدر كلها متحققة إلى هذا الوقت في جيش أحد، فكان النصر للمسلمين.

    انقلاب الموازين في آخر معركة أحد لصالح المشركين

    بعد هذا الانتصار العظيم للمسلمين، وبعد هذا الهروب الكبير لجيش المشركين، تخلى بعض المسلمين عن صفة واحدة من هذه الصفات العشر، فتغير الموقف تماماً، ففي أثناء هروب المشركين من أرض المعركة متجهين إلى مكة ألقوا كل ما معهم من الأمتعة والممتلكات والأثقال والأحمال، ألقى المشركون الدنيا خلفهم؛ ليتخففوا، وليستطيعوا الهرب، ورأى الرماة المسلمون من فوق الجبل الدنيا التي ألقاها المشركون خلفهم، فأخذ الرماة قراراً عجيباً، أخذوا القرار بالنزول لجمع دنيا المشركين.

    تخيل! المخالفة الواضحة الصريحة لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، النزول من أجل جمع دنيا المشركين، قالوا: الغنيمة الغنيمة! الغنيمة الغنيمة! فهذه الغنيمة وهذه الدنيا وهذه الأموال أعمت أبصارهم تماماً عن تذكر ما قاله الحبيب صلى الله عليه وسلم، لكن القائد عبد الله بن جبير وقف لهم وذكرهم وقال: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: الغنيمة الغنيمة! فكانت مخالفة متعمدة لكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكلام القائد المباشر عبد الله بن جبير .

    وهكذا نزل ثمانون في المائة من الرماة، حيث نزل أربعون من الرماة من أصل خمسين؛ ليجمعوا الغنيمة مع المسلمين، ورأى خالد بن الوليد الثغرة، وكان قائداً عسكرياً محنكاً، وأتى بفرقته بسرعة والتف من حول جبل الرماة، وحاول عبد الله بن جبير رضي الله عنه ومن تبقى معه من الرماة أن يمنعوا خالد بن الوليد من الدخول على الجيش الإسلامي من الخلف، لكنهم فشلوا، فحاول عبد الله بن جبير قتالهم إلا أن مجموعة من فرسان المشركين قتلوه ثم أبادوا بقية الرماة.

    والتف خالد بن الوليد من وراء الجيش الإسلامي وصاح صيحة عالية جداً سمعها المشركون الذين يفرون، أدركوا منها أن خالداً التف حول الجيش الإسلامي فعادوا للقتال من جديد، وحصر المسلمون بين خالد بن الوليد من الخلف والمشركين من الأمام، وهكذا وضع المسلمون بين فكي كماشة، وأسرعت امرأة من المشركين كان اسمها عمرة بنت علقمة ، ورفعت اللواء الساقط على الأرض، واهتاج المشركون، وتحمسوا حماساً كبيراً في الهجوم على المسلمين، وقوتهم ذكريات بدر وذكريات الهزيمة الأولى في أحد، وبدءوا يضغطون على المسلمين من الناحيتين.

    التفاف المشركين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسجيل الصحابة أروع البطولات في الدفاع عنه

    كان الرسول عليه الصلاة والسلام في آخر الجيش المسلم ينظم الصفوف، ولما التف خالد بن الوليد حول الجيش الإسلامي، كان أول فرقة من المسلمين قابلها هي الفرقة التي فيها الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم ير خالد بن الوليد الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن ما هي إلا دقائق وسيظهر؛ لأنه آخر الصفوف، فلابد أن يختار صلى الله عليه وسلم أحد اختيارين: إما أنه يهرب بالتسعة إلى أي مكان في أرض المعركة حتى يستطيع أن يقاوم من جديد، وإما أن ينادي الجيش حتى يجتمع من جديد، ويبدأ في محاولة لاستعادة الموقف على أرض أحد.

    لكن لو نادى صلى الله عليه وسلم الناس فمن المحتمل أن المشركين الذين باغتوا المسلمين من الخلف يسمعون صوته، ولو سمعوا صوته لأحاطوا به عليه الصلاة والسلام وقتلوه، ومع ذلك في شجاعة نادرة اختار الرسول عليه الصلاة والسلام الحال الثاني، ونادى بأعلى صوته لاستعادة الموقف من جديد قال: (إلي عباد الله! إلي عباد الله! أنا رسول الله) وهكذا بدأ يعلي صوته؛ ليسمع المسلمون.

    صار المسلمون في حالة اضطراب شديدة جداً، فذاك ينظر قدامه، وذاك ينظر وراءه، والمشركون في حالة نشاط عجيب، وصار الموقف مأساوياً، سمع خالد بن الوليد الرسول صلى الله عليه وسلم ينادي، فانطلق إلى المنطقة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرها، وبدأت الفرقة التي حول الرسول عليه الصلاة والسلام تقاتل قتالاً شديداً، تسعة ضد فرقة كاملة من الفرسان، والرسول صلى الله عليه وسلم يشجعهم ويقول: (من يردهم عنا وله الجنة -أو يقول-: من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة).

    فتقدم أنصاري وقاتل قتالاً شديداً حتى استشهد رضي الله عنه وأرضاه، ثم تقدم الثاني ثم الثالث ثم الرابع ثم الخامس ثم السادس، ثم تقدم سابعهم عمارة بن يزيد بن السكن رضي الله عنه وأرضاه، وكل هؤلاء السبعة من الأنصار، فقاتل عمارة قتالاً شديداً حتى أصيب رضي الله عنه وأرضاه، فسقط على الأرض، واقترب من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وضع رأسه على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستشهد وخده ملتصق بقدم الحبيب صلى الله عليه وسلم.

    وتأثر الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الموقف، قال: (ما أنصفنا أصحابنا)، تقدم الأنصار الواحد تلو الآخر، ولم يتقدم طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص ، فأثار هذا الموقف حمية طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص فقاما يقاتلان قتالاً شديداً، لكن ماذا يعمل اثنان وسط هذه المجموعة الضخمة من المشركين؟

    وتقدم من الكفار عتبة بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص . تخيل! سعد بن أبي وقاص يدافع عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وأخوه عتبة يقذف بالحجارة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تفجرت الدماء من رأسه صلى الله عليه وسلم، وجاء عبد الله بن شهاب الزهري أحد المشركين فشجه شجة منكرة في رأسه صلى الله عليه وسلم، ثم جاء إليه رجل اسمه عبد الله بن قمئة وضربه بالسيف ضربة شديدة على كتفه صلى الله عليه وسلم، وظل صلى الله عليه وسلم يشتكي منها شهراً كاملاً بعد ذلك، ثم ضرب وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، فدخلت حلقتان من حلقات المغفر الذي كان فوق رأس الحبيب صلى الله عليه وسلم في وجنته، وابن قمئة يقول: (خذها وأنا ابن قمئة ، فقال صلى الله عليه وسلم: أقمأك الله) أي: أهلكك الله، واستجاب الله دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم، فبعد غزوة أحد بقليل وقع من فوق جبل في بلده وقتل.

    وهكذا تفجرت الدماء من رأسه ومن جسده صلى الله عليه وسلم، وهو يمسح الدم من على وجهه ويقول: (كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم؟ فأنزل الله عز وجل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]).

    وفي هذا الموقف قام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه وطلحة بن عبيد الله بعمل لا يستطيع أن يقوم به إلا جيش كامل، فقد كان سعد بن أبي وقاص يرمي بسهامه المشركين، مجموعة ضخمة من المشركين حول المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يرد سعد بن أبي وقاص بسهامه هذه المجموعة الضخمة، وأعجب الرسول صلى الله عليه وسلم بأداء سعد بن أبي وقاص حتى قال له: (ارم سعد فداك أبي وأمي)، وهكذا جمع له صلى الله عليه وسلم أبويه يفديه بهما، فكان ذلك فخراً له رضي الله عنه وأرضاه.

    وحارب طلحة بن عبيد الله حرباً ضروساً في ذلك اليوم، وقاتل من كل مكان حول المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى وصلت الجروح التي أصابت جسده إلى تسعة وثلاثين جرحاً، تخيل أن واحداً يتقطع بالسيف تسعةً وثلاثين جرحاً ولا زال يقاتل في سبيل الله، وجاء سهم من بعيد كاد يصيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فوضع طلحة يده أمام السهم، فدخل السهم في يده وأنقذ الرسول صلى الله عليه وسلم وشلت يد طلحة بهذا السهم رضي الله عنه وأرضاه.

    بعد هذه الحرب الضخمة حول الرسول عليه الصلاة والسلام وصل بعض الصحابة رضي الله عنهم من بعيد، رأوا الرسول عليه الصلاة والسلام في مأزق وفي موقف صعب، ففاء إليه مجموعة من الصحابة من مقدمة الجيش، وأول من فاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام أشد الناس حباً له أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وبينما هو يعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى واحداً يقاتل حول النبي صلى الله عليه وسلم من كل مكان فقال: كن طلحة فداك أبي وأمي، كن طلحة فداك أبي وأمي، كن طلحة فداك أبي وأمي. ثم وجده طلحة كما تمنى؛ لأن طلحة مقاتل شديد وفارس مغوار، فتمنى أن يكون طلحة ؛ حتى يستطيع أن يدافع الدفاع الأمثل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ثم وصل أبو بكر الصديق وتبعه مباشرة عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح ، ووجد أبو بكر الصديق أن حلقات المغفر قد دخلت وجه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فذهب لينزعها، فقال له أبو عبيدة : نشدتك بالله يا أبا بكر ! إلا تركتني، ونزل أبو عبيدة بن الجراح ، ووضع فمه على حافة المغفر، وبدأ يجذبها بخفة من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن من قوة مسكة حلقة المغفر بأسنانه وقعت إحدى أسنانه رضي الله عنه وأرضاه، وخرجت إحدى حلقات المغفر، فأراد أبو بكر أن ينزع الحلقة الأخرى، فقال له ثانية: نشدتك بالله يا أبا بكر ! إلا تركتني، ونزع الحلقة الثانية وسقطت سن من أسنانه رضي الله عنهم أجمعين.

    وقاتل الصحابة قتالاً شديداً حول المصطفى صلى الله عليه وسلم، ورأى الرسول عليه الصلاة والسلام طلحة وهو ما زال يقاتل عن اليمين وعن اليسار بهذه الجراح الكثيرة؛ فقال لأصحابه لـأبي بكر وعمر وأبي عبيدة : (دونكم أخاكم، دونكم أخاكم فقد أوجب) أي: أدى كل الذي عليه، وسقط طلحة رضي الله عنه من الإصابات الكثيرة، وبدأ الصحابة يدفعون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذى القرشيين.

    وجاءت بعد ذلك مجموعة أخرى من الصحابة، جاء أبو دجانة ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري ، وجاء حاطب بن أبي بلتعة ، وجاءت أم عمارة إحدى النساء تقاتل حول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وكان أبو طلحة الأنصاري يضع نفسه أمام الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ليحميه من سهام المشركين، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يضرب بالسهم من ورائه، فكان يرفع رأسه من وراء كتف أبي طلحة ، فكان أبو طلحة يقول له: (يا رسول الله! بأبي أنت وأمي لا تشرف يصبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك يا رسول الله!).

    وكانت أم عمارة تقاتل عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما نظرت يميني ولا شمالي ولا أمامي ولا خلفي إلا وجدت أم عمارة تقاتل عني بسيفها).

    نظر إليها صلى الله عليه وسلم نظرة إعجاب بقتالها، مع أنها امرأة ضعيفة وليست مكلفة بالقتال بالسيف في هذه الموقعة التي فر فيها بعض الرجال، فنظر إليها نظرة وهو يبتسم، فشاهدته أم عمارة رضي الله عنها وأرضاها وهو يبتسم فقالت: (يا رسول الله! ادع الله أن نكون معك في الجنة، فقال: أنتِ معي في الجنة).

    كانت تقاتل هي وزوجها وابنها جميعاً حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وقتل عتبة بن أبي وقاص الذي كان يرضخ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة، وجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وقاتل قتالاً شديداً حتى تحطمت أسنانه رضي الله عنه وأرضاه، وأصيب بعشرين إصابة في جسده، كان أحدها سبباً في إصابته بالعرج الدائم بعد ذلك.

    سقط الرسول عليه الصلاة والسلام في حفرة من الحفر التي فعلها المشركون ككمين للمسلمين، ولم يستطع أن يخرج من شدة الجراح التي في جسده صلى الله عليه وسلم، وأبو دجانة يرى السهام تأتي من كل مكان صوب الرسول عليه الصلاة والسلام، فوضع نفسه رضي الله عنه وأرضاه فوق الرسول عليه الصلاة والسلام، وغطى الحفرة بجسده حتى يتلقى السهام بظهره رضي الله عنه.

    أثر إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وسلم على المسلمين

    كان الجميع يقاتل حول المصطفى صلى الله عليه وسلم، فجاء مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو يحمل راية المهاجرين، وقاتل قتالاً شديداً حول المصطفى صلى الله عليه وسلم فقطعت يمينه، فحمل الراية بشماله فقطعت شماله، فبرك على الراية رضي الله عنه وأرضاه وهو قابض عليها بعضديه، وجاء المشركون من خلفه وقتلوه، فسقط على الأرض وهو يقول: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران:144].

    وكان مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه شديد الشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم، فظن المشركون أنهم قتلوا المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقال ابن قمئة وكان هو الذي قتل مصعب بن عمير : قتلت محمداً، قتلت محمداً، وانتشر الخبر في أرض المعركة بكاملها، فكان هذا الخبر مأساة على المسلمين.

    وهكذا أشيع أن الحبيب صلى الله عليه وسلم قد قتل، فالأمر لا يمكن أن يتخيلوه أبداً، فإنهم لا يستطيعون أن يعيشوا بدون الرسول صلى الله عليه وسلم، كيف ينقطع الوحي؟ كيف لا تتم الرسالة؟ كيف؟ كيف؟ ظهرت أسئلة كثيرة في أذهان الناس، وأحبط كثير من المسلمين في أرض القتال.

    ووصل الإحباط بالبعض إلى أن جلس على أرض المعركة دون قتال، القتال دائر من حوله وهو لا يرفع سيفه ليدافع حتى عن نفسه، هذا فهم خاطئ، فالقتال ليس من أجل المسلمين وليس من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما القتال في سبيل الله عز وجل، والله حي لا يموت، فلماذا القعود والإحباط؟!

    إن قضية القتال في سبيل الله لا يجب أن تغيب أبداً عن ذهن المؤمن، بل عليه أن يكون كالصحابي الجليل ثابت بن الدحداح رضي الله عنه وأرضاه من المشاركين في غزوة أحد، لما رأى الناس قعدوا على الأرض ذهب إليهم وقال في إيمان عميق وفهم دقيق: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم قد قتل فإن الله حي لا يموت، ثم قاتل رضي الله عنه وأرضاه حتى استشهد.

    قال ذلك أيضاً أنس بن النضر رضي الله عنه وأرضاه، مر على بعض المسلمين وهم جلوس على أرض القتال، قد فقدوا روح القتال والمقاومة، فقال لهم: ماذا تنتظرون؟ قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال في منتهى الشجاعة والقوة: قوموا فموتوا على ما مات عليه صلى الله عليه وسلم، إن كان محمد قد قتل فإن الله حي لا يموت.

    ثم قال وهو ينظر إلى المسلمين الذين أحبطوا وقعدوا على أرض القتال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني: المسلمين-، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني: المشركين-، ثم تقدم رضي الله عنه وأرضاه ليلقى المشركين، فلقيه سعد بن معاذ فقال له سعد : أين يا أبا عمر ! رآه يدخل في وسط المشركين، فقال أنس : واهاً لريح الجنة يا سعد ! إني أجده دون أحد -أي: أشم رائحة الجنة عند أحد- ثم مضى رضي الله عنه وأرضاه وقاتل المشركين قتالاً شديداً ضارياً حتى استشهد رضي الله عنه وأرضاه، وطعن أكثر من ثمانين طعنة في جسمه، ولم يعرفه أحد إلا أخته ببنانه.

    واستمرت إشاعة موت الرسول عليه الصلاة والسلام في الجيش إلى أن اكتشف كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه ممن شارك في غزوة أحد أن الرسول صلى الله عليه وسلم حي لم يقتل، فنادى في المسلمين: أبشروا أبشروا! رسول الله صلى الله عليه وسلم حي، فأشار له صلى الله عليه وسلم أن يصمت؛ لئلا يلفت أنظار المشركين، ومع ذلك سمع ثلاثون شخصاً من المسلمين كلمة كعب بن مالك ؛ ففاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدءوا يحوطونه، وبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام يقود هذه المجموعة للانسحاب المنظم في اتجاه الجبل.

    وكان الرسول عليه الصلاة والسلام ينادي مجموعة أخرى من المسلمين من بعيد (إلي عباد الله! إلي عباد الله!) لكن هناك مجموعة لم تكتف بالإحباط والقعود في أرض القتال، بل فعلت ما هو أشد وأنكى، لقد قررت هذه المجموعة الفرار من أرض القتال، والفرار من الزحف كبيرة من الكبائر، فمنهم من فر وهو يصعد إلى الجبل، ومنهم من فر في طريقه إلى المدينة حتى وصل إلى المدينة المنورة فاراً، والرسول صلى الله عليه وسلم يناديهم وهم يسمعون ولا يلبون، وذكر الله ذلك في كتابه: إِذْ تُصْعِدُونَ [آل عمران:153] أي: إلى الجبل وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ [آل عمران:153] أي: في آخر الجيش ينادي المسلمين، وهم يسمعون هذا النداء ولا يلبون.

    ومع هذه الكارثة استطاع الرسول عليه الصلاة والسلام أن ينسحب إلى الجبل بالثلاثين الذين معه من المسلمين، وبينما هو يصعد إلى الجبل إذ رآه عدو الله أبي بن خلف أحد كبار المشركين، فجاء يجري من بعيد ويقول: لا نجوت إن نجا.. لا نجوت إن نجا، وأراد الدخول على الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال القوم للرسول عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! أيعطف عليه رجل منا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: دعوه، فلما دنا من الرسول عليه الصلاة والسلام تناول الرسول صلى الله عليه وسلم حربته وضربه ضربة).

    وهذه الضربة خدشت فيه خدشة خفيفة جداً في الدم، ومع ذلك صرخ أبي بن خلف ، وأخذ يجري كالطفل، وهو يقول: قتلني -والله- محمد، قتلني -والله- محمد، واستغرب المشركون من حالته، قالوا: ذهب -والله- فؤادك، والله إن بك من بأس. قال: إنه قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك، فوالله لو بصق علي لقتلني. فانظر إلى اقتناع أبي بن خلف أن كلمة رسول الله عليه الصلاة والسلام حقيقية، وأنه لو تنبأ أنه سيقتله في يوم من الأيام فإن هذا التنبؤ سيحدث لا محالة، حتى وإن كان من خدش خفيف، قال هذه الكلمات التي تعبر عن أن المشركين جميعاً يقتنعون تماماً أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، وأن ما بعث به هو الصدق، ولكنهم كانوا يكذبون لمصالحهم، لعنهم الله.

    وكما تنبأ صلى الله عليه وسلم وأخبر قبل ذلك بالوحي، مات عدو الله أبي بن خلف بهذا الخدش الخفيف الذي أصابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راجع إلى مكة، وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يحاول من جديد صعود جبل أحد، لكن إصاباته كانت كثيرة، فلم يستطع أن يصعد الجبل، فاعترضته صخرة كبيرة، ولم يستطع الرسول صلى الله عليه وسلم تسلقها، فجلس طلحة بن عبيد الله على الأرض -مع أنه مصاب بتسعة وثلاثين إصابة في جسده- ليصعد فوق ظهره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (أوجب طلحة) يعني: فعل كل ما يمكن أن يفعله، وهو من العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه وأرضاه.

    لذلك كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا ذكر يوم أحد، قال: ذلك اليوم كله لـطلحة رضي الله عنهم أجمعين. وبالفعل بدأ يصعد صلى الله عليه وسلم الجبل هو والذين معه، ورآهم خالد بن الوليد وأبو سفيان ، فجمعوا أنفسهم ليمنعوهم من صعود الجبل وليكملوا القتال، فقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم إنهم لا ينبغي لهم أن يعلونا).

    كان الموقف خطراً جداً لو صعدوا إلى المسلمين، فانتدب صلى الله عليه وسلم فرقة ممن معه، وعدد الذين معه ثلاثون، خرجت منهم مجموعة على رأسهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين، وقاتلوا المشركين قتالاً شديداً حتى صدوهم عن صعود الجبل، واستطاع الرسول عليه الصلاة والسلام ومن معه أن يختفوا داخل الجبل.

    تمثيل المشركين بجثث قتلى المسلمين آخر المعركة

    قام المشركون بعد صعود النبي صلى الله عليه وسلم بعمل شنيع، التفتوا إلى جثث المسلمين الملقاة على أرض الموقعة -سبعون شهيداً في أرض أحد- وبدءوا يمثلون بالجثث، فقامت النساء بتقطيع آذان الرجال المسلمين وأنوفهم، ويصنعن منها خلاخيل وقلائد ويلبسنها، فكن في منتهى الإجرام، وذهبت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان وكانت من أشد الكفار ضراوة على المسلمين إلى حمزة رضي الله عنه وأرضاه عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وشقت بطنه وأخرجت قطعة من كبده رضي الله عنه وأرضاه وحاولت أن تأكلها، ولم تستطع أن تسيغها فلفظتها، يعني: أخرجتها من فمها.

    وهذا يعبر عن مدى الغل والحقد الذي كان في قلوب المشركين، فإن هند بنت عتبة كانت موتورة؛ فقد قتل أبوها عتبة بن ربيعة في غزوة بدر، وعمها شيبة بن ربيعة أيضاً في غزوة بدر، وأخوها الوليد بن عتبة في غزوة بدر، وابنها حنظلة بن أبي سفيان في غزوة بدر، فهؤلاء أربعة قتلوا في غزوة بدر من أقاربها، وهذا بالنسبة لها كانت كارثة، وكان حمزة رضي الله عنه ممن اشترك في قتل أقاربها، فقد شارك في قتل الوليد بن عتبة وقتل شيبة بن ربيعة .

    كان هذا الموقف في أرض القتال بعد صعوده صلى الله عليه وسلم إلى الجبل، صعد الرسول صلى الله عليه وسلم الجبل وما زالت الدماء تنزل من رأسه، وحاول الصحابة من حوله أن يوقفوا الدماء، فكانوا يصبون الماء فوق رأس الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن الماء كان يزيد الجرح نزيفاً، وكانت فاطمة رضي الله عنها مع الجيش الإسلامي في ذلك الوقت، فلما رأت هذا الموقف أتت بحصير وأحرقته، وبدأت تدفع الحصير في داخل الجرح في رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توقف النزيف.

    كان الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف يقاتل من أول الصباح إلى الظهيرة، فجاء وقت صلاة الظهر وجمع المسلمين لأدائها، لكنه لم يستطع أن يقف صلى الله عليه وسلم من شدة الإصابات التي أصابته، فصلى قاعداً وصلى المسلمون قعوداً بقعوده صلى الله عليه وسلم.

    موقف المشركين من إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وسلم وتمثيلهم بالشهداء

    ما زال المشركون يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، وبعض المسلمين مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وبعض المسلمين شهداء في أرض الموقعة، وبعض المسلمين فر إلى أماكن مختلفة من الجبل، وبعض المسلمين فر إلى المدينة المنورة. فالوضع كما ترون كان مأساوياً حقيقياً.

    وجاء أبو سفيان ليشمت بالمسلمين، فعرف أن هناك مجموعة من المسلمين قد فرت إلى الجبل، فجاء هو ومن معه من المشركين؛ ليخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان حياً، أو ليتأكد على أنه قتل، فنادى أبو سفيان : أفيكم محمد؟ فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه: لا تجيبوه. أشار إشارة فهم منها الصحابة ألا يجيبوا أبا سفيان ؛ حتى لا يكشفوا المكان الذي هم فيه، فلم يجب الصحابة، فقال: أفيكم ابن أبي قحافة ؟ فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يجيبوه فلم يجبه أحد، فقال: أفيكم عمر بن الخطاب ؟ وأخذ يرتب في سؤاله عن الأشخاص، فمن أهم شخصية إلى الوزير الأول ثم الوزير الثاني فلم يجيبوه.

    ففرح أبو سفيان وقال: أما هؤلاء الثلاثة فقد كفيتموهم، أي: قد قتلوا، فلم يتمالك عمر بن الخطاب رضي الله عنه نفسه. قال: أي عدو الله! إن الذين ذكرتهم أحياء وقد أبقى الله ما يسوءك، مع أنه صلى الله عليه وسلم قال له: لا تتكلم، لكنه لم يستطع أن يمسك نفسه، فأحب أبو سفيان أن يرد الغيظ إلى المسلمين مرة أخرى، فقال كلمة شنيعة، قال: قد كان فيكم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. فانظر إلى الشر الذي كان في داخلهم في تلك الساعة، فإن من طبيعة العرب ألا يمثلوا بالجثث، لكن خرجوا عن منهجهم تماماً في هذه الموقعة، وأراد بذلك أن يغيظ عمر بن الخطاب ومن معه من المسلمين، ثم قال: أعل هبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبونه؟ فقالوا: ما نقول يا رسول الله؟! قال: قولوا: الله أعلى وأجل، فقال الصحابة: الله أعلى وأجل، فقال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ فقالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم، فقال أبو سفيان : يوم بيوم بدر، والحرب سجال. فأجاب عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار) وفي رواية: أن الذي قال هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    عند ذلك قال أبو سفيان : هلم إلي يا عمر ! فقد كان أبو سفيان يسمع صوت سيدنا عمر رضي الله عنه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ائته فانظر ما شأنه -أي: انظر ماذا يريد- فجاءه، فقال له أبو سفيان : أنشدك الله يا عمر ! أقتلنا محمداً؟ قال عمر : اللهم لا، وإنه ليستمع كلامك الآن، فقال أبو سفيان -وانظر إلى احترام المشركين للمسلمين- أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر).

    إن احترام المسلمين موجود عند كل المشركين، وعند كل أعداء الأمة، فهم يحاربونك ويقاتلونك ويضيقون عليك الخناق، وفي داخلهم يكنون الاحترام الكامل لشخصيتك ولدفاعك عن مبادئك، ولتضحيتك في سبيل دينك وفكرتك، هذا هو الواقع؛ لذلك صدّق أبو سفيان عمر وهو عدو له، ولم يصدق ابن قمئة أحد جنود الجيش المشرك معه.

    وانسحب أبو سفيان ، ولم يفكر أن يصعد الجبل مرة ثانية واكتفى بما فعل، وعاد مع المشركين في اتجاه مكة، وانتهت موقعة أحد بذلك.

    موقف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من شهداء أحد

    نزل الرسول عليه الصلاة والسلام من فوق الجبل ليتفقد الشهداء، وكان موقفاً مريعاً، سبعون من أفاضل المسلمين كلهم ملقى على أرض أحد،كان منهم: حمزة بن عبد المطلب وعمرو بن الجموح ، وعبد الله بن عمرو بن حرام ، ومصعب بن عمير ، وعبد الله بن جحش ، وحنظلة ، وخيثمة ، كثير من شهداء المسلمين سقطوا في يوم أحد، فوقف صلى الله عليه وسلم ونظر إلى الشهداء وقال: (اللهم إني شهيد على هؤلاء، إنه ما من جريح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه، اللون لون الدم، والريح ريح المسك).

    وكان هناك أناس من الصحابة أخذوا بعض الشهداء ليدفنوهم في المدينة، فأمر صلى الله عليه وسلم أن يردوا جميعاً إلى أرض أحد ويدفنوا فيها، وألا يغسلوا ولا يكفنوا، بل يدفنوا في ثيابهم بعد أن تنزع الدروع والجلود من فوقهم.

    وكان صلى الله عليه وسلم يدفن الاثنين والثلاثة في القبر الواحد، ويجمع بين الرجلين أحياناً في ثوب واحد، ويقول: (أيهم أكثر أخذاً للقرآن) فمن كان يحفظ القرآن أكثر وضعه الأول في اللحد.

    وقال: (أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة) مرة ثانية، وكررها كثيراً في ذلك اليوم، وكان إذا علم أن بين اثنين من الصحابة محبة كبيرة دفنهما معاً، فدفن عبد الله بن عمرو بن حرام مع عمرو بن الجموح رضي الله عنهم أجمعين.

    ولما رأى صلى الله عليه وسلم ما حدث بـحمزة رضي الله عنه اشتد حزنه وتقطع كبده صلى الله عليه وسلم وبكى بكاءً شديداً، وانتحب حتى نشغ -كما يقول الراوي- من البكاء، يعني: صار له شهيق عال من البكاء. يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم باكياً قط أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب) بل وضعه صلى الله عليه وسلم في القبلة وصلى عليه مع كل شهيد رضي الله عنهم أجمعين وأرضاهم.

    كذلك مصعب بن عمير رضي الله عنه ممن قتل شهيداً في يوم أحد، وكفن في ثياب بالية رثة، يقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، وكفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت رجلاه بدا رأسه. وذكروا ذلك للرسول عليه الصلاة والسلام فقال: (غطوا بها رأسه بهذه البردة، واجعلوا على رجله الإذخر) والإذخر نبات.

    إن وضع الشهداء كان مؤلماً جداً للمسلمين، ومع كل هذه الأحداث جمع الرسول صلى الله عليه وسلم كل الموجودين في أرض القتال، وقال لهم: (استووا حتى أثني على ربي عز وجل) يا الله! موقف عجيب في كل مواقفه صلى الله عليه وسلم، فصاروا خلفه صفوفاً، فوقف صلى الله عليه وسلم يدعو والجميع يؤمن على دعائه، استمعوا إلى دعائه صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك العون يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا، وشر ما منعتنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق).

    هذا دعاء جميل، دعاء فيه الشكر الدائم لرب العالمين سبحانه وتعالى في كل الظروف، حتى لو كان ذلك بعد مصيبة أحد، دعاء فيه إعلان أن كل شيء بإذن الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى قادر على منع الهزيمة، لكنه أوقع المصيبة بالمسلمين لِحكَمٍ كثيرة يعلمها، قال سبحانه وتعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:166].

    إذاً: هذا دعاء فيه تعظيم الآخرة في عيون الصحابة، خاصة في هذا الموقف، لما قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول) حتى لو ضاقت الدنيا كلها وأعطيتنا الآخرة فنحن الرابحون، دعاء فيه وضوح الرؤية في حرب كل من صد عن سبيل الله، سواء كانوا من المشركين أو من الكفرة من أهل الكتاب الذين قاتلوا المسلمين، دعاء جامع شامل يعبر عن فهم دقيق للحبيب صلى الله عليه وسلم.

    رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، واستقبل في حزن شديد، فكل بيت تقريباً فيه شهيد، وقابلته في الطريق حمنة بنت جحش رضي الله عنها ونعى إليها صلى الله عليه وسلم أخوها عبد الله بن جحش فاسترجعت واستغفرت له الله عز وجل، ثم نعى لها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير فصاحت وولولت، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن زوج المرأة منها لبمكان).

    وجاءت امرأة من بني دينار أصيب زوجها وأخوها وأبوها في أحد، فنعوا لها جميعاً، فقالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ الزوج والأخ والأب لم يشغلوا بالها، وأخذت تسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: خيراً يا أم فلان! هو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشاروا إليه، فقالت: كل مصيبة بعدك جلل. يعني: صغيرة ويسيرة، هذه مشاعر الحب التي كانت من المسلمين تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى مع المصاب الفادح الذي أصيب به الجميع.

    1.   

    حقيقة غزوة أحد وأسباب مصيبة المسلمين فيها

    لابد أن نقف وقفة ونقول: يا ترى ماذا نسمي أحداً؟ هل نسميها هزيمة أو نسميها نكسة؟ أو ماذا نسميها؟

    عندما تراجع أحداث غزوة أحد سواء أثناء الغزوة أو بعد الغزوة، فإنك تجد أن كلمة هزيمة لا تنطبق على وصف غزوة أحد، فالجيش المكي لم يحتل موقع الجيش المسلم، والجزء الأساسي من الجيش المسلم لم يفر مع شدة الارتباك، نعم، هناك من فر، لكن مجموعة كبيرة من المسلمين بقيت في أرض المعركة، منهم من قاتل حول الرسول عليه الصلاة والسلام، ومنهم من قاتل حتى استشهد.

    والجيش المكي لم يفكر في مطاردة المسلمين، ومع أن أبا سفيان خاطب عمر بن الخطاب وأدرك أن الرسول صلى الله عليه وسلم حي وأنه في الجبل لم يفكر أن يصعد إلى الجبل مرة أخرى، ومع أن كل الذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجموعة قليلة من المسلمين، كذلك لم يقع أسير واحد من المسلمين في أيدي الكفار مع هذا الأمر الشديد الذي تحدثنا عنه، لكن في غزوة بدر أسر المسلمون سبعين من المشركين. كما أنه لم تكن هناك غنائم مسلمة في أيدي الكفار، ولم يقف الجيش المكي في أرض المعركة يوماً ولا يومين ولا ثلاثة، بل عادوا إلى مكة في ذلك الوقت، وقد قعد الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر ثلاثة أيام، وقعد في غيرها من الغزوات ثلاثة أيام، بل إنه كان يقعد شهراً كاملاً في أرض القتال، لكن الكفار غادروا أحداً، ولم يفكروا في غزو المدينة المنورة مع أن المدينة خلا منها الجيش، فكل ذلك يدل على أن الموقعة ليست هزيمة للمسلمين، لابد لها من وصف آخر، سنسميها كما سماها الله سبحانه وتعالى، فالله سماها في الكتاب الكريم: مصيبة: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165].

    وقال: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:166].

    محبة بعض الصحابة للدنيا ومخالفتهم للأمر النبوي بسببها

    فغزوة أحد مصيبة ولا شك في ذلك، وليست المصيبة في استشهاد سبعين من الصحابة؛ لأن هؤلاء من أكرم الخلق على الله عز وجل، وقد نالوا درجات عالية جداً، واصطفاهم الله سبحانه وتعالى، يقول الله في الكتاب تعليقاً على غزوة أحد: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140] فهؤلاء اختارهم الله؛ ليكونوا من أفضل الناس، إنما المصيبة في شيء آخر، المصيبة تكمن في اضطراب بعض المفاهيم عند المسلمين، وإن كان اضطراباً حصل في لحظة من لحظات القتال وغير كل شيء، وهذه المصيبة هي تغلب الدنيا في قلوب بعض الصحابة، فالصحابة منذ بدء القتال وهم يقاتلون في سبيل الله عز وجل، يقاتلون من أجل الجنة، وفي لحظة انقلبت الموازين، وأصبح فريق منهم يقاتل من أجل الدنيا، وقد وصل تغلغل حب الدنيا في قلوبهم إلى أن يخالفوا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم مخالفة صريحة متعمدة، وراجع الكلام الذي قاله صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن جبير ولفرقة الرماة، فهو كلام في منتهى الوضوح، توجيه أول وثان وثالث ورابع وخامس وسادس، فالتوجيه الأول: (انضح عنا الخيل بالنبل) .. إلى آخر كلامه صلى الله عليه وسلم.

    وأثناء القتال يلتف خالد بن الوليد حول الجيش ثلاث مرات، ويستطيعون أن يصدوه، وبذلك عرفوا أن هذا المكان خطر وصعب ومهم بالنسبة للمشركين، وعرفوا أن لهم دوراً كبيراً جداً في صد المشركين.

    إذاً: ستة توجيهات من الرسول عليه الصلاة والسلام، وثلاثة توجيهات من خالد بن الوليد بلفته أنظار المسلمين إلى أهمية المكان الذي يقفون عليه. هذه تسعة توجيهات.

    والتوجيه العاشر جاء من عبد الله بن جبير رضي الله عنه وأرضاه، عندما أرادوا النزول قائلين: الغنيمة الغنيمة، وقف لهم وقال: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومع ذلك لم يستمعوا. فكل هذا يثبت أن المخالفة كانت متعمدة وصريحة من أجل الدنيا، وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه: (والله لا أخشى عليكم الفقر، ولكن أخشى عليكم الدنيا).

    والله سبحانه وتعالى وصف ذلك في كتابه تعليقاً على أحد. قال: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا [آل عمران:152].

    وبسبب الدنيا صار المسلمون فريقين: الفريق الأول: أنس بن النضر وثابت بن الدحداح وأبي طلحة .. وغيرهم من الذين قاتلوا حتى النهاية، فمنهم من قاتل وثبت حتى شهادته، ومنهم من قاتل حول الرسول عليه الصلاة والسلام لحمايته، ما نكصوا على أعقابهم وما فروا.

    والفريق الثاني: هم الذين تغلغلت الدنيا في قلوبهم، وغير مقبول للجيش المسلم أن يصل حب الدنيا إلى قلوب بعضه، فيدفعه هذا الحب إلى المخالفة.

    كذلك في موقعة بدر حصلت أيضاً مخالفة من أجل الدنيا، قال الله عز وجل في صدر سورة الأنفال: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ [الأنفال:1] يتكلم عن مشكلة الغنائم التي دخلت في قلوب الصحابة، فوجههم الرسول عليه الصلاة والسلام إلى اتباع كلام رب العالمين سبحانه وتعالى، وانصاع الجميع لكلام رب العالمين سبحانه وتعالى، وسلموا أنفسهم له، ووزع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم بالطريقة التي شرعها رب العالمين سبحانه وتعالى، لكن في غزوة أحد حذرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ست مرات، ومع ذلك خالفوا، فكانت مخالفة متعمدة فلابد لها من مصيبة، وإن كان الجيش الذي خالف هو جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: ما كنت أحسب أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا، حتى نزل فينا ما نزل: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا [آل عمران:152].

    فالمصيبة التي عمت الجيش كله بسبب مجموعة من المسلمين أصابتهم الدنيا؛ لأن هذا المرض قد ظهر فيهم من قبل، فقد كان متغلغلاً قبل غزوة أحد، فكان لابد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتفتيش عن إيمان الآخرين، وطاعتهم لله عز وجل وعبادتهم له والتزامهم بمنهجه سبحانه وتعالى، لكن عندما تسأل الإنسان عن دنياه ولا تسأله عن آخرته توثر فيه تدريجياً، حتى تصير مصيبة كبيرة تعم المسلمين جميعاً.

    فالوضع الذي كان في أحد هو مصيبة تمكن الدنيا من القلب حتى تدفع المسلم إلى المخالفة الصريحة المتعمدة لكلام الحبيب صلى الله عليه وسلم.

    مصيبة قتل سبعين من المسلمين بسبب مخالفة الرماة

    المصيبة الثانية التي حدثت في أحد: قتل سبعين من المسلمين بسبب خطأ من الأخطاء. وقد قلنا قبل ذلك: إن استشهاد سبعين ليست خسارة، بل هي ميزة عظيمة من الله سبحانه وتعالى لهم، فقد انتقاهم شهداء، لكن أن يقتلوا بسبب خطأ من المسلمين هذا غير مقبول.

    إن قتلوا وهم يؤدون كل ما عليهم ويحاربون كما في بدر حرباً متكاملة شاملة، ويأخذون فيها بكل أسباب النصر، ويتصفون بكل صفات الجيش المنصور، فليس هناك مشكلة، بل بالعكس هذه نعمة من الله سبحانه وتعالى، لكن أن يقتلوا بسبب خطأ، فهذا يحتاج إلى وقفة.

    مصيبة قعود بعض المسلمين عن القتال للإحباط النفسي

    المصيبة الثالثة: هو قعود بعض المسلمين عن القتال إحباطاً، فالإحباط غير مقبول أبداً في عرف المسلمين، بل هو من شيم الكافرين، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56].

    وقال: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87].

    فالإحباط ليس من صفات المؤمنين أبداً، فعندما يقعد المسلم ويفتر عن القتال، والقتال ما زال ناشباً في كل مكان فهذا غير مقبول، حتى وإن أشيع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل.

    مصيبة الفرار من الزحف من قبل بعض المسلمين

    المصيبة الرابعة الخطيرة: أن بعض المسلمين سمعوا نداء الرسول عليه الصلاة والسلام في آخر الموقعة: (إلي عباد الله! إلي عباد الله!) ومع ذلك أصروا على الفرار، فيا لها من كارثة، بل هي كبيرة من الكبائر، لكن كل ذلك تجمعه كلمة واحدة يقال لها: مصيبة، فغزوة أحد كانت مصيبة، لكن من ورائها خير كثير، وهذه المصيبة في الأساس جاءت من ذنب واحد، جاءت من غياب عنصر واحد من عناصر قيام الأمة المسلمة، جاءت من غياب صفة واحدة من صفات الجيش المنتصر، وهي عدم حب الدنيا وتقديمها على الآخرة، فلما حصل الحب للدنيا وقدمت على الآخرة ألقى الله عز وجل في قلوب المسلمين الوهن والضعف.

    وتذكرون حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم لما سألوه عن الوهن الذي يصيب المسلمين؟ فقال: (حب الدنيا وكراهية الموت) فالمسلمون أحبوا الدنيا في موقعة أحد فحدثت المصيبة، ودخل الوهن في قلوبهم، فهم لما كانوا أقوياء قتلوا أحد عشر فارساً من بني عبد الدار حاملاً للواء، وسقط اللواء مع وجود كل هؤلاء الفرسان من المشركين، لكن لما دخلت الدنيا في قلوب بعض المؤمنين رفع اللواء المشرك، وكانت الحاملة له امرأة من المشركين، فهذه الموازنات لابد أن نفكر فيها جيداً، فالنصر والتمكين من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، ولا ينزل سبحانه وتعالى هذا النصر والتمكين إلا على من أخذ بأسباب النصر الكاملة واتصف بصفات الجيش المنصور كاملاً دون نقص.

    ومع ذلك هل كانت هذه المصيبة شراً محضاً أم كان في باطنها خير؟ الجواب: كان في داخلها خير كثير، فمع كل هذه الكوارث التي حدثت في ذلك اليوم، ومع فقد سبعين من أعظم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع كون هذه المصيبة تغلغلت في قلوب المسلمين، وشعروا بالخزي والعار والذل والهوان لفرارهم من أرض القتال إلا أنه كان في داخلها خير كثير.

    ما هو هذا الخير الذي كان في باطن غزوة أحد؟ وما هي الطريقة التي اتبعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لإخراج المسلمين من هزيمتهم النفسية؟ وما هو المنهج الرباني الحكيم الذي نزل ليعالج كل صغيرة من صغائر الذنوب، أو كبيرة من كبائر الذنوب في قلوب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم؟ وكيف عاد المسلمون من جديد إلى مطاردة الكافرين؟ وكيف عادت الهيبة من جديد للدولة الإسلامية بعد هذه المصيبة الكبيرة؟ هذا حديث قد يطول.

    وأسأل الله عز وجل أن ييسر لنا الحديث عن ذلك في الدرس القادم، وأسأله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755924463