إسلام ويب

شرح الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد - الرقية الشرعيةللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء، عرفه من عرفه وجهله من جهله، ومن هذه الأدوية: الرقية الشرعية، فإنه يستشفى بها من كثير من الأمراض، وقد تناول العلماء موضوع الرقية بالبحث والاهتمام، وأولوه كل عناية، فأوضحوا مفهوم الرقية المباحة من المحرمة، وبينوا شروط الرقية المباحة، من المسائل المتعلقة بهذا الباب.

    1.   

    تعريف الرقية

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    الرقية لغة: استرقى، أي: طلب الرقية إذا استشفى، أي: طلب الشفاء، وهي تعويذة أو عوذة يستشفي بها صاحبها من الآفات، كلدغ العقرب والحية مثلاً، أو كالحمى أو كالعين.

    وشرعاً: العوذة أو ما يتعوذ به المرء طلباً للشفاء من الآفات بما شرع من آيات الله، أو أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو أسماء الله الحسنى وصفاته العلى.

    1.   

    التداوي بالرقية

    والرقية دواء أنزله الله للأدواء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تداووا عباد الله، ولا تتداووا بحرام؛ فإن الله ما أنزل داءً إلا أنزل له دواء، علمه من علمه وجهله من جهله) ومن الدواء الذي يكون شفاءً من كل داء أو من كثير من الأدواء: الرقية الشرعية، وأكثر ما تكون من العين، كما قال الله تعالى: لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ [القلم:51]، أي: يحسدونك، وأنزل الله لنبيه الرقية من الحسد فقال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:1-5] وأيضاً قوله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]، نزلت في الرقية من العين.

    والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى امرأة في وجهها سعفة قال: (استرقوا لها)، أي: اطلبوا لها الرقية، فأمر أن ترقى أو يسترقى لها. وعن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أن النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته كان يرقي نفسه، فكان يأخذ بيديه وينفث -والنفث له حالات: نفث قبل أو وسط أو بعد- ويقرأ: بقل هو الله أحد والمعوذات، ويمسح على جسده.

    والرقية تكون من العين أو الحمى أو من اللدغ، كلدع العقرب أو الحية، وقد جاء في السنن عن أبي سعيد الخدري أنه كان مع بعض الصحابة فأتوا على قوم فطلبوا القرى -والقرى هي: الضيافة، أو كرم الضيافة- فلم يقروهم، فلدغ سيدهم، فقالوا: هل عندكم من راق، أو عندكم رقية؟ فقال الرجل: والله أنا أرقي، ولا أرقي حتى تضربوا لنا بسهم. فضربوا لهم بسهم، أي: بقطيع من الغنم، فقرأ الفاتحة ورقاه.

    وجاء في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب، وذلك من حديث عمران بن حصين أنه لا رقية إلا من عين أو من حمى.

    إذاً: فالرقية هذه مشروعة، وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أهل الجاهلية أيضاً يرقون، وكانوا يرقون بما هو غث وسمين، ويرقون بما هو شرك وتوحيد.

    1.   

    الرقية من العين

    جاء في العين حديث: سهيل بن حنيف وعمرو بن ربيعة ، وذلك أن سهيل بن حنيف كان رجلاً أبيض الجلد، فخلع ثيابه ليغتسل، فنظر إليه عمرو -يمكن لكل صالح أن يحسد، فإن علم من نفسه أنه سينظر بالحسد فلا بد أن يكبر أو يبرك، فيقول: ما شاء الله ولا قوة إلا بالله- فقال: ما رأيت مثل هذا الجلد، وكأنه جلد مخبئة، -والمخبئة هي: العذراء في خدرها- فخر صريعاً في وقتها، أي: وقع وما كانت له قائمة، وأصبح نحيفاً نحيلاً، وكاد أن يموت، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (علام يقتل أحدكم صاحبه؟ هلا إذا رأيت ذلك قلت: كذا وكذ)، وعلمه أن يقول: ما شاء الله ولا قوة إلا بالله، ثم بين له الرقية الشرعية في ذلك.

    فالرقية كانت معلومة في أهل الجاهلية، وهي أيضا معلومة في أهل الإسلام، وقد جاء الإسلام بتهذيبها، فأقر بعضها وأنكر بعضها.

    1.   

    حكم الرقية

    وقد اختلف العلماء في حكمها على قولين:

    القول الأول: إن الأصل فيها المنع والحرمة، واستدلوا بحديث جابر بن عبد الله في الصحيح: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الرقى) وأصل النهي للتحريم.

    واستدلوا أيضاً بحديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها إنها قالت: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقى. قالوا: والترخيص لا يكون إلا بعد المنع. فهذه دلالة واضحة على أن الأصل في الرقى المنع.

    القول الثاني: الأصل في الرقى الإباحة، إلا ما دل الدليل على منعه، واستدلوا على ذلك بحديث عمرو بن حزم ، قال: إن أناساً جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! أنهيت عن الرقى؟ فقال: (اعرضوا علي رقاكم، فلا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً)، فإذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده، وفهم متنه -ووجه الشاهد هو: قوله صلى الله عليه وسلم: (ما لم تكن شركاً) ووجه الدلالة: كأنه يقول: الأصل في الرقى أنها صحيحة، ولكن إعرض علي حتى أنقي لك ما لم يكن شركاً.

    إذاً: ففي المسألة قولان، أرجحهما القول الأول، وهو: أن الأصل في الرقى المنع لا الإباحة، والحديث الأول ظاهر في أنه رخص، والحديث الثاني: نهى النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الرقي. فلو كانت على الإباحة لما أشترط فيها شروطاً؛ لأن العلماء أجمعوا على أنه لابد أن تجتمع شروط في الرقى حتى تكون مباحة، ولو كانت مباحة فإنها لا تقيد بقيود فالصحيح: أنها على المنع؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنها، وأيضا لقوله: رخص في الرقى، والترخص يأتي بعد المنع؛ وهناك المستثنيات من المنع، وهي: الرقى بكلام الله، أو الرقى بأسماء الله وصفاته وأفعاله، أو الرقى بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، فكل هذه مستثناه.

    1.   

    أنواع الرقية

    الرقية المباحة وصورها

    الرقية لها أشكال وصور وأنواع كثيرة جداً، ومنها:

    أن تكون بتلاوة القرآن، قال الله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، والنبي صلى الله عليه وسلم حين رقاه جبريل رقاه بآيات الله، والنبي صلى الله عليه وسلم رقى وأمر بالرقية، وكانت عائشة تفعل ذلك، وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته كان ينفث ويقرأ؛ والنفث يكون في الأول أو في الوسط أو في النهاية، والدليل على ذلك جاءتنا حديث عائشة أنها قالت: نفث رسول الله فقرأ -والفاء للتعقيب، أي: أنه نفث أولا ثم قرأ، والتعقيب يدل على التلازم- : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]، وكان يمسح على جسده، فلما ثقل عليه المرض كنت أنفث في يده وأقرأ، وآخذ بيده فأمسح بها على جسده، ابتغاء بركة يد النبي صلى الله عليه وسلم. وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الرقية صباحا ومساء.

    ومن ذلك: الرقية بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرقي بالريق، فيأخذ ريقه على أصبعه ويضعه في التراب، ويقول: بسم الله تربت أرضنا، بريق بعضنا يشفى سقيمنا، بإذن ربنا بإذن ربنا، فالأصل فيها بإذن ربنا.

    وأيضاً بين الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تضع يدك على مكان الألم والوجع وتقول: (بسم الله بسم الله بسم الله، أعوذ بعزة الله وقدرته وسلطانه من شر ما أجد وأحاذر)، فتقول: بسم الله ثلاث مرات، والاستعاذة سبع مرات.

    وأيضاً من هذه الرقى: أن تدخل على المريض وتقرأ عليه الفاتحة، وتتفث في يدك وتمسح في كل جسده، أو في موضع الألم، وذلك كما فعل أبو سعيد وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم عندما رقوا اللديغ، قال الراوي: فبصق وقرأ الفاتحة، ووضع يده على موضع السم، فكأن الرجل قد نشط من عقال. أي: برئ في وقتها بعدما رقاه بالفاتحة.

    وأيضا من الرقى التي علمنا إياها النبي صلى الله عليه وسلم: أن تدخل على المريض فتقول: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، سبع مرات، كما ورد ذلك في الصحيح: (أنه ما دخل أحد على مريض لم يحتضر، -أي: لم يحضره الموت وتحضره الملائكة- فقال: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، سبع مرات، إلا شفاه الله جل في علاه) وأيضاً من الرقى المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يضع يده على المريض ويدعو له فيقول: (اللهم رب الناس أذهب البأس، إشفي أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً).

    شروط الرقية الشرعية المباحة

    فهذه دلالة على أن كل هذه الآثار تدل على الترخيص في الرقى بقيد أو بشرط: أن تكون من الكتاب أو السنة، ولذلك قال ابن حجر : أجمع أهل العلم - وهذا الإجماع نقله النووي أيضاً - أن الرقى تصح بشروط وقيود ثلاثة:

    أولاً: ألا تكون شركاً. أي: لا يكون فيها الشرك، فلا تكون بأسماء الجن ولا الشياطين.

    ثانياً: أن تكون بأسماء الله الحسنى أوصفاته العلى، أو بأفعال الله جل في علاه، بأثار النبي صلى الله عليه وسلم.

    ثالثاً: وهي مهمة جداً: أن تكون بلسان عربي مبين.

    فهذه صور الرقى المباحة؛ لأن الرقى قسمان: قسم مباح، وقسم محرم.

    فأما القسم المباح فقد ذكرنا صوره، وقد قيده العلماء بثلاثة، وهذه القيود تدل على الرخصة.

    ولا يصح التوسل بالأخبار؛ لأن الرقى توسل ودعاء وطلب للاستشفاء، وطلب الشفاء من الله جل في علاه يكون بصفات الله وأسمائه وأفعاله، ولا يكون بالأخبار.

    الرقية المحرمة

    الرقى المحرمة على نوعين: شرك أكبر، وشرك أصغر.

    النوع الأول: شرك أكبر، وصورها: الرقى بأسماء الملائكة والأنبياء والمرسلين، والرقى بأسماء المقبورين، وهذا كثير في الصوفية، فإنهم يرقون باسم الولي فلان، مثل: عبد القادر الجيلاني أو بـالعباس أو زينب أو الحسين ، أو باسم الجن، أو باسم الشياطين، أو باسم الأصنام، مثل: اللات والعزى، أو الرقى بكل ملك مقرب أو نبي مرسل، أو بكل صنم أو حجر أو شجر، فهذه رقى شركية، تخرج صاحبها من الملة.

    النوع الثاني: شرك أصغر: وذلك عندما تفقد الرقى المباحة شرطاً من شروطها الثلاثة فتصبح شركاً أصغر، كما لو رقى بلسان غير عربي مبين، كالفارسية أو الإنجليزية أو الفرنسية، أو بأي لغة غير العربية، أو بالعربية ومعها لغة أخرى، فإن هذا يكون شركاً أصغر كما قال الخطابي : هذا النوع من الرقى شرك أصغر؛ لأنه وسيلة للشرك الأكبر؛ ولأنه لا توجد رقية بلغة غير اللغة العربية إلا ويمكن أن يقع فيها من الشرك ما لم يعلمه أحد؛ لأننا غير متيقنين أنه لا يستعين بالملائكة أو بالجن أو بغير ذلك، ولذا فما دامت الرقى فيها كلام غير معلوم عربيا فنحن نقول: إنها وسيلة لأن يقع صاحبها في الشرك، فمنعناها لأجل ذلك، وهذا من باب: أن الوسائل لها أحكام المقاصد.

    1.   

    مسألة: الاسترقاء ينافي التوكل أو لا ينافيه، وأدلة الفقهاء في ذلك

    اختلف العلماء في ذلك على قولين:

    القول الأول: قول جمهور الحنابلة، وهو ترجيح النووي وشيخ الإسلام ابن تيمية والقاضي عياض من المالكية، قالوا: هو قادح في كمال التوكل.

    واستدلوا على ذلك من الأثر والنظر:

    فأما من الأثر: فاستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب)، ثم تركهم ودخل، فخاضوا في صفة هؤلاء، فقال بعضهم: هم الذين ولدوا في الإسلام، وأدلى كل منهم بدلوه، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هم الذين لا يسترقون، وفي رواية: لا يرقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون) والحديث له روايتان: الرواية الأولى: لا يسترقون.

    الرواية الثانية: لا يرقون.

    ورواية: (لا يرقون) رواية شاذة لا تصح، ومن أولها قال: لا تكون برقى شركية، وهذا كلام مخالف للظاهر لا يصح، فإن قال: لا يصح لنا أن نوهم الراوي، نقول: بل وهم الراوي؛ لأنه أتى بلفظة غير متفق عليها، والرواية المتفق عليها: (لا يسترقون) فرواية: (لا يرقون) شاذة ضعيفة لا يؤخذ بها، والصحيح الراجح: هي رواية: (لا يسترقون) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رقاه جبريل، وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بالرقية، وذلك بقوله: (استرقوا لها، فإن بها سفعة في وجهها، فقال أصحاب هذا القول: إن الصفة التي جعلتهم من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة: أنهم على ربهم يتوكلون، وهذا التوكل تمامه بخصال ثلاثة: أنهم لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون، فقال: لا يسترقون) فمن استرقى فقد نافى التوكل، وتكون الرقى قادحة في كمال التوكل.

    واستدلوا على ذلك أيضاً بدليل أصرح من هذا الدليل، ألا وهو: جاء في مسند أحمد بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من اكتوى - لأن الكي مكروه في شرعنا - أو استرقى فقد برئ من التوكل) وهذا صريح بأن من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل.

    وأما دليلهم من النظر فقالوا: إن المرء إذا استرقى فرقاه الراقي فقدر الله له الشفاء، فإن قلبه سيميل للراقي، فيكون في قلبه نوع ميل لغير الله جل في علاه، وهذا يقدح في كمال التوكل، لا سيما إذا تكرر هذا الأمر، وتكررت الرقية وتكرر الشفاء.

    القول الثاني: قول كثير من المالكية، ورجحه القرطبي وابن جرير الطبري فقالوا: الرقى ليست قادحة في التوكل.

    واستدلوا على ذلك بأدلة:

    الدليل الأول: حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها: رخص النبي صلى الله عليه وسلم في الرقى، وهذا على العموم.

    الدليل الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا) ولو كانت قادحة لبينها النبي صلى الله عليه وسلم.

    وأيضاً قالوا: هي بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وهذه يكون فيها تمام التوكل؛ لأنها بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى.

    واستدلوا أيضاً بدليل آخر وهو: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فاضربوا لي معكم بسهم) فأقر الرقية بالفاتحة، وهذا الحديث ليس فيه نزاع بحال من الأحوال.

    واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله، ولا تتداووا بحرام) فقالوا: هذا نوع من التداوي المعنوي، لأن الأسباب: أسباب شرعية، وأسباب قدرية مجربة، والأسباب الشرعية: معنوية، وحسية، فقالوا: إن الرقى نوع من أنواع التداوي، وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم، واسترقى للمرأة التي في وجهها سفعة، أي: سواد، فقالوا: هذه أدلة على أن الرقى لا تقدح في كمال التوكل.

    وأما من النظر فقالوا: إن الذي يسترقي لا في الراقي ولا يعتقد في الرقية، وإنما يعتقد في الرب الذي هو مسبب الأسباب، فإن كان اعتقاده صحيحا فلا قدح في كمال التوكل.

    الترجيح بين القولين والرد على أدلة القول المرجوح

    والصحيح الراجح من ذلك: هو القول الأول، وهو: أن طلب الرقية من الغير قادح في التوكل، أو قادح في كمال التوكل، لصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يسترقون)، أي: لا يطلبون الرقية.

    ولصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من استرقى فقد برئ من التوكل)، أي: برئ من كمال التوكل وليس من كل التوكل، وذلك للأدلة الأخرى الظاهرة على ذلك.

    وأما الرد على المخالف فنقول: إن الأدلة ليست في محل النزاع، والدليل الوحيد الذي هو في محل النزاع: حديث: (تداووا عباد الله، ولا تتداووا بحرام)، فنقول لهم: نحن معكم في أن هذا من الدواء، ولكن من الدواء ما هو مكروه طلبه، مع أنه يجوز أن يتداوى به، ومن ذلك الرقية، فيكره للمرء أن يطلبها، لأن هذا قادح في كمال التوكل.

    إذاً: فالحديث ليس في محل النزاع، فليس نزاعنا هل هو دواء أم لا؟ وإنما نزاعنا هل هو قادح في التوكل أم لا؟ فإن قالوا: أنتم لم تفهموا دليلنا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فقال: (تداووا)، أي: اطلبوا الدواء، واطلبوا الرقية، قلنا: نعم، كلامكم صحيح، وهو وجه قوي جداً، ولكنه لا يقوى على أن يجابهنا. فإن قالوا: كيف ذلك؟ قلنا: (تداووا) عموم مطلق، أي: تداووا عباد الله لكل شيء، واطلبوا الدواء، ولا تتداووا بحرام، وهذا العام قد خصص بحديث: (لا يسترقون) فمن طلب الرقية فقد برئ من التوكل، فيبقى معنى تداووا: اطلبوا الدواء المجرب، والدواء الحسي والمعنوي، وذلك دون أن تسترقوا، أي: أنكم لو طلبتم الرقية فقد قدح ذلك في كمال توكلكم.

    إذاً: هذا عام مخصوص بالاسترقاء؛ لأن الإسترقاء قادح في كمال التوكل، وهذا الراجح والصحيح.

    فإن استدل أحد بأنها من باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)، فتبرع ورقى غيره فنقول: الرقية تأتي ثمارها بشرطين اثنين:

    الأول: أن يكون الراقي تقياً ورعاً.

    الثاني: أن يكون المسترقي متيقناً. فإن تخلف شرط من الشرطين فلا تثمر النتيجة؛ لأن كل حكم مرتبط بشروط أو بأسباب لا يوجد إلا بوجود هذه الأسباب.

    1.   

    حكم أخذ الأجرة على الرقية

    وهل أخذ الأجرة على الرقى حلال أم لا؟ هذا أيضاً مختلف فيه بين العلماء على قولين:

    القول الأول: يجوز أخذ الأجرة على الرقية، وقد استدل أصحاب هذا القول بأدلة كثيرة جداً، منها:

    أولا: حديث أبي سعيد الخدري عندما قال: والله لا أرقي حتى تأتوني بقطيع من الغنم، أو تضربوا لنا بسهم، فلما رقاه وشفاه الله، أخذوا قطيع الغنم فقالوا: والله لا نأكل منها حتى نأتي إلى رسول الله، فلما ذهبوا إلى رسول الله وقصوا عليه القصة، قال لهم مقرا بما فعلوا: (وما أدراك أن الفاتحة رقية) وهذا أول إقرار، والإقرار الثاني قال: (اضربوا لي معكم بسهم)؛ لأنه هو الذي علمه هذه الرقية ، وهذه مبالغة في الحِليَّة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سيأكل.

    ثانياً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعمري كل -أي: كل من أجرة الرقية- فإن من أكل برقية باطل فقد أكلت برقية حق) فسماه أكلاً، وقال: (لعمري كل) وقد سأله: (أنأكل من أجرة الرقية؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كل)، أي: أنها حلال لك، فهنيئا مريئا أن تأكل، والرقية الحق تكون بأسماء الله الحسنى أو بالقرآن أو بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا فيه دلالة واضحة جداً على أنه يجوز أن يأخذ الأجرة على الرقية.

    القول الثاني: لا يجوز أخذ الأجرة على الرقية، واستدلوا على ذلك بأدلة من الأثر ومن النظر.

    فأما من الأثر: فقول النبي صلى الله عليه وسلم (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل) وهذا أمر منه صلى الله عليه وسلم، والأمر للوجوب، فيكون عبادة، والعبادة لا أجر فيها، فلا يأخذ عليها أجراً.

    وأما من النظر فقالوا: الرقية عبادة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء) والرقية هي: وصول النفع للغير، فهي كالشفاعة، فقالوا: هي عبادة، والأصل في العبادات عدم أخذ الأجرة؛ لأن الأصل أن كل عبادة يطلب فيها الأجر من الله.

    وأيضاً استأنسوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)، فقالوا: هذا من النفع الذي يصل إلى الأخ.

    الترجيح بين القولين والرد على أدلة القول المرجوح

    الصحيح والراجح هو: القول الأول، وهو: أنه يجوز أخذ الأجرة على الرقية؛ لصريح الدلالة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعمري فإن من أكل برقية باطل فقد أكلت برقية حق) فمن رقى رقية حق: بشرع الله، أو بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، أو بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، فهذا له الحق في أن يأخذ الأجرة، حتى وإن قيدها أو حددها ظاهر هذا الحديث وظاهر فعل أبي سعيد مع إقرار النبي صلى الله عليه وسلم له.

    وأما الذين خالفوا في ذلك فقالوا: لا يجوز أخذ الأجرة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل) فنقول: نعم، هذا عام مخصوص بالرقية، فهذا نفع يجوز فيه أخذ الأجرة؛ لأن الأجير يمكن أن ينفع المستأجر ويأخذ أجرته، والوكيل ينفع الذي وكله بقضاء حوائجه ويأخذ أجرته وهذا من نفع الآخرين أيضاً، أي: أنه ينزل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل). فهو عام مخصوص بهذه الأدلة، فالرقية يجوز أخذ الأجرة عليها.

    وأما استدلالهم بالنظر فالرد عليه هو نفس الرد على الأثر.

    وأما استدلالهم بالقاعدة الكلية: أن العبادات لا يجوز أخذ الأجر عليها. فنقول: إلا في حالة واحدة، أو إلا ما دل عليه الدليل، وقد دل الدليل على جواز أخذ الأجرة على الرقية، وهذه المسألة تحذو حذو مسألة أخذ الأجرة على تحفيظ القرآن، ولكن هذه أوسع من أخذ الأجرة على تحفيظ القرآن؛ لأن تحفيظ القرآن الأدلة فيه على المنع أقوى من هذه بكثير.

    إذاً: يجوز أخذ الأجرة على الرقية، وأما التأصيل العام بأنها عبادة، والعبادة لا يؤخذ عليها الأجرة، فنقول: إلا ما دل عليه الدليل، وقد دل الدليل على جواز أخذ الأجرة على الرقية.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755832885