الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سَهِّل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعُنا، وانفَعنا بما علمتَنا يا أرحم الرحمين.
اللهم زدنا علمنا نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
إخوتي الكرام! تقدم معنا في المواعظ السابقة أن من آمن بالله جل وعلا واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخلص في جميع أحواله لله سيذوق حلاوة الإيمان بلا شك، وهذه الحلاوة سيظهر لها أثر في سلوكه وتصرفه، فسيعرض عن الدار الفانية ويقبل على الدار الباقية، ويستعد للموت قبل نزوله، ويكثر من ذكره، ويفرح به إذا حل به.
إخوتي الكرام! ولذلك كان الموتُ كما تقدم معنا تحفةً للمؤمنين، وقررت هذا بالأدلة والبراهين، وأريد أن أوضح أيضاً هذا بشيءٍ لم يتقدم ذكره على سبيل الاختصار لترتبط الموضوعات، وليرتبط الكلام ببعضه إن شاء الله.
إخوتي الكرام! الموت تحفة المؤمنين، وإذا آمن الإنسان برب العالمين، واتبع النبي الأمين عليه الصلاة والسلام، وأخلص لله في كل حين سيكثر من ذكر الموت، ويفرح به ويشتاق إليه، وإذا تعلق بهذه الحياة سيخاف من الموت ويفر منه ويعرض عنه، وهو آتيه ولابد، يقول العبد الصالح بشر بن الحارث الحافي عليه رحمة الله الذي توفي سنة (227هـ)، وهذا الأثر عنه منقول في حلية الأولياء لـأبي نعيم ، وتاريخ بغداد للإمام الخطيب البغدادي عليهم جميعاً رحمة الله، يقول هذا العبد الصالح: ما من أحد يحبُ الدنيا إلا لن يحبَ الموت، وما من أحد يزهد في الدنيا إلا أحبَّ لقاء الله.
حتماً من أحب الدنيا وتعلق بها لن يحب الموت، ومن زهد في الدنيا وأعرض عنها أحب الموت وفرح به واشتاق إليه، وأكثر من ذكره، فما حالك أنت أيها العبد الصالح بشر بن الحارث ، بشر الحافي؟!
قال: اللهم إنك تعلم أن الفقر أحبُّ إليَّ من الغنى، وأن الذُلّ أحبُّ إليَّ من العز، وأن الموتَ أحبُّ إليَّ من البقاء.
وكان هذا العبد الصالح ينطق بالحِكَم، ويتحدث عن حال الأيام التي نعيش فيها ما مضى وما نعيش فيه وما سيأتي، فيقول: ما يقطع الأمل عن أهل الغرور يقول: أمسي ماتَ، ما مضى مات وفات، واليومُ في السياق. أي: أن اليوم يحتضر ليموت كما مات اليوم الماضي، وغداً لم يولد، أمسي مات، واليوم في السياق، وغداً لم يولد.
بشر الحافي عليه رحمة الله من كلامه وعظيم مراقبته وعلمه بأحوال القلوب وما يجري فيها، كان يقول: إن العبد ليرائي بعمله بعد موته. قيل: كيف مات ويرائي؟! قال: يحب أن يَكثُر الخلقُ في جنازته. إذا توفي يتمنى هذا من أجل أن يتحدث الناس عنه بعد موته أنه شهد في جنازته جمٌ غفير، فيكتب عليه جرم الرياء بعد موته. قال: إن العبد ليرائي بعد موته يحب أن يكثُر الخلقُ في جنازته.
ومن حلم الله بنا ومغفرته لنا أنه لم يخسف بنا الأرض، ونسأله جل وعلا إذا دفنا فيها ألا يأذن للأرض بأن تلفظنا، فوالله لو أذن للأرض في حال حياتنا فوقها أن تبتلعنا لابتلعتنا، ولو أذن للأرض أن تلفظنا بعد موتنا لتقصيرنا وتفريطنا للفظتنا، وإذا سَتَرَنا فوق الأرض وتحت الأرض فنسأله أن يُتَمَ ستره علينا يوم العرض، إنه أرحم الرحمين وأكرم الأكرمين.
ثبت في صحيح البخاري، وسنن أبي داود، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بعثاً عيناً، أي: ليتفقدوا أحوال المشركين، وليرصدوا أخبارهم، أرسل بعثاً (عيناً)، وهذا البعث مؤلف من عشرة أشخاص من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وأمر عليهم فأخذوا خبيباً وباعوه إلى أهل مكة إلى أولاد الحارث ، وكان خبيب قد قتل الحارث في موقعة بدر، فلما أُخذ خبيب رضي الله عنه وبقي عندهم أسيراً في مكة، تقول امرأة من أهل ذلك البيت: كنت أرى عنقوداً من العنب كرأس الثور عند خبيب بن عدي يأكل منه، ووالله ما في مكة حبة عنب، إنما ينزل عليه رزقٌ من السماء: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [البقرة:212]، فلما أجمعوا قتله، وأخرجوه من الحرم إلى الحل إلى التنعيم ليقتلوه، سبحان الله! يريدون فتنته عن دينه، ويريدون قتل مؤمن لأنه آمن بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لا زالوا يعظمون الحرم، فأرادوا أن يُخرجوه من ساحة الحرم ليقتلوه في الحل، فطلب منهم أن يصلي ركعتين، وهو أول من سنَّ لمن يُقتل في سبيل الله صَبْراً، وقتل الصبر أن يموت الإنسان في غير المعركة، أن يقبض عليه ثم بعد ذلك ينفذ فيه القتل، إما عن طريق الصلب أو الشنق أو الرصاص أو السكين أو غير ذلك، هذا يقال: قتل الصبر، هو أول من سنَّ صلاة ركعتين لمن يُقتل صَبْراً، ثم قال: والله لولا أن تروا أن بي جزعٌ من الموت لزدت في الصلاة، ثم التفت إلى المدينة المنورة -كما في مغازي موسى بن عقبة - وقال: اللهم بلغ رسولك مني السلام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يقتل الآن خبيب
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
ثم قتلوه رضي الله عنه وأرضاه.
ولا يقولن قائل إخوتي الكرام: كيف أكرمه الله بعنقود من العنب.. بقطف من عنب ولم يكرمه بالسلامة من الأعداء؟
لو أراد الله أن يُسَلِّمَهُ لَسَلَّمَهُ وهو على كل شيءٍ قدير، لكن أراد أن يكتب له الظفر برتبة الشهادة.
وعاصم بن ثابت الذي قُتل وهو أمير السرية رضي الله عنه، عندما أراد المشركون بعد قتله أن يأخذوا جسده ليمثلوا به ويكون دليلاً على أنهم قتلوه، أرسل الله النحل (الدَبْر) لتحميه فصارت عليه كالظلة، فما استطاع مشركٌ أن يقترب من بدنه.
إذاً: حفظه الله كرامة له، وكتب له الشهادة كرامة أيضاً له؛ ليزيد في أجره عندما يلقي ربه سبحانه وتعالى.
الشاهد إخوتي الكرام! أن المؤمن عندما يُعرِض عن الدنيا ويُقبل على الآخرة لا يبالي على أي جنبٍ كان في الله مصرعه، وهذا أوان لقاء الحبيب، ولا أفلح من نَدِم، وإذا جاء الموتُ الرجلَ الصالح يقول: مرحباً بحبيبٍ جاء على فاقة، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه عليه صلوات الله وسلامه.
ولما قيل لـخبيب رضي الله عنه عند قتله: هل يسرك أن محمداً عليه الصلاة والسلام مكانك وأنت في بيتك مع أهلك آمن؟! قال: يا قوم! والله ما يسرني أن يَفْدِيَني محمدٌ عليه الصلاة والسلام بشوكة في قدمه! أي: لو أو شيك بشوكة في قدمه لكان أصعب علي من قتلي، أُقتل ويسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إخوتي الكرام! قررت هذا بأدلة كثيرة، وبينت أن ما ورد من أدلة تبين أن المؤمن يكره الموت وينفر منه، فقلت: إن هذه النفرة نفرة طبيعيةٌ جبليةٌ غريزيةٌ، والمؤمن يحب الموت حباً اختيارياً شرعياً، وهذا الحب يظهر على وجه التمام والكمال كما تقدم معنا عند السياق والاحتضار، عندما يبشر بلقاء العزيز الغفار، فيحب لقاء الله فيحب الله لقاءه.
والأحاديث التي دلت على أن المؤمن ينفر من الموت، وطبيعته تكرهه ولا تميل إليه، قلت سنتدارسها إما في مدارسة الحديث الثاني الذي رواه الإمام البخاري وغيره عليهم جميعاً رحمة الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأُعْطِيَنَّهُ، ولئن استعاذ بي لأُعِيِذَنَّهُ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه)، يكره الموت كراهة طبيعية جبلية، ويحبه محبة اختياريةً شرعيةً، ويظهر هذا على التمام عند الاحتضار والسياق.
وتقدم معنا إخوتي الكرام شرح الجملة الأولى: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، وكنا في شرح الجملتين التاليتين للجملة الأولى: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحبَّ إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه)، وهاتان الجملتان وهذان الأمران حولهما عدة مباحث.
كنا نتدارس إخوتي الكرام ما يتعلق بهذه المباحث، فدرسنا ثلاثة مباحث في الموعظة الماضية فيما يتعلق بقول الله جل وعلا: (وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحبَّ إلي مما افترضته عليه)، فقلت: إن الطاعات تتفاوت في الدرجات.
والمبحث الثاني: أفضل الطاعات الواجبات المفروضات.
والمبحث الثالث: أفضل الواجبات المفروضات توحيد رب الأرض والسماوات، وهذه الأمور الثلاثة مر الكلام عليها، وسأتبعها بثلاثة أخرى لا زالت المباحث تتعلق بالطاعات التي تدخل في هذه الجملة: (وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحبَّ إلي ممَّا افترضْته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، أما ما يتعلق بمحبة الله لعبده، وما يترتب على هذه المحبة من آثار، فتحت ذلك مبحث طويل جليل جميل يأتي في المواعظ الآتية إن أحيانا ربنا الجليل، إنما في هذه الموعظة سنتدارس ثلاثة أمور تتعلق بالطاعات أيضاً، نكمل بها المباحث الثلاثة المتقدمة، فيصبح مجموع المباحث معنا ستةُ فيما يتعلق بالطاعات.
المبحث الأول الذي سنتدارسه: الطاعةُ المتعدية أعظم أجراً عند الله من الطاعة القاصرة.
والأمر الثاني: فعل المأمور أعظم أجراً من ترك المحظور، كما أن ترك المأمور أشنع وأخبث وأبشع من فعل المحظور، وأقرر هذا بالأدلة والبيان إن شاء الله.
والأمر الثالث: الصلة بين النوافل والفرائض.
إخوتي الكرام! يراد بالطاعة المتعدية ما يصل أثرها إلى عباد الله جل وعلا، ما يصل نفعُها وخيرُها إلى عباد الله، ويراد بالطاعة القاصرة ما بينك وبين ربك جل وعلا، فالطاعة المتعدية التي يصل نفعها إلى العباد أعظم أجراً من الطاعة القاصرة التي بينك وبين ربك جل وعلا، وقد وضح هذا نبينا صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الكثيرة.
وقبول كل عمل وكل طاعة متوقفٌ على تحقيق هذا الركن، فهذا أفضل الشعب، (الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة فأعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذي عن الطريق).
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أيُّ العمل أفضل عند الله؟ قال: إيمان بالله ورسوله عليه الصلاة والسلام، قلت -أي: السائل- ثم ماذا؟ قال الجهاد في سبيل الله، قلت ثم ماذا؟ قال: الحج المبرور).
قدم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الجهاد على الحج المبرور في المنزلة والأجر؛ لأن الجهاد طاعة متعدية يصل نفعها إليك وإلى عباد الله المسلمين، فتدفع عنهم ضُر الكافرين، وتجعلهم في حرزٍ مكينٍ أمين.
فإذاً الجهاد طاعة متعديةٌ، والحج طاعة قاصرةٌ، فالجهاد أجره أعظم من أجر الحج المبرور، إذا تعين الجهاد عليك فهو فرضٌ أفضل من الحج، وإذا لم يتعين الجهاد عليك فهو نافلة، فهو أفضل من حجٍ نافلةٍ، فرض الجهاد أفضل من فرض الحج، ونافلة الجهاد أفضل من نافلة الحج، وهكذا الصيام، ولذلك شرع للمجاهد أن يفطر في رمضان وإن كان مقيماً في بلده، وقد أفتى بهذا شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله عندما كان في دمشق وغزا جيش التتار بلدة دمشق فأفطر في رمضان، وأمر المسلمين بالفطر ليتقوْوا على قتال الأعداء.
قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في كتابه (بدائع الفوائد) ناقلاً هذا عن شيخه، بأنه أفتى بالفطر وأفطر، قال الإمام ابن القيم : وهذا من باب قياس الأولى، فإذا شرع للمرأة المرضع الفطر، وشرع للحامل أن تفطر خشية على الولدين بالنسبة للمرضع والحامل، فمن باب أولى يفطر المجاهد في سبيل الله، يفطر شهر رمضان ليتقوى على قتال أولياء الشيطان.
إذاً: الطاعة المتعدية أجرها أعظم من الطاعة القاصرة، وقد بين لنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن الجهاد هو ذِرْوة سنام الإسلام، وذروة الشيء أعلاه، فأعلى شيء في الإسلام الجهاد في سبيل الرحمن، ثبت الحديث بذلك في مسند الإمام أحمد ، والحديث رواه أيضاً الترمذي ، وابن ماجه ، والحاكم في المستدرك، وابن حبان في صحيحه، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، وإسناد الحديث صحيح كالشمس، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فلما اقتربت منه قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا
ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا
الشاهد إخوتي الكرام! ذروة سنامه الجهاد، طاعة متعدية، وهناك سئل: (أي العمل أفضل عند الله؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قال: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: ثم ماذا؟ قال: الحج المبرور).
وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن الطاعة المتعدية أعظم بكثير من الطاعة القاصرة.
له عليَّ حقُ ولاءٍ، أي: لأجل أن يحررني وليس عندي ما أعطيه، ولذلك علي أثر الحزن والكآبة.
فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ألا أكلمه فيك؟ أي: من أجلك، ليسامحك وليعفو عنك ويسقط عنك ويتجاوز، هل تريد أن أكلمه؟ قال: إن شئت.
يقول هذا الرجل: فانتعل ابن عباس رضي الله عنهما -أي: لبس نعليه وأراد أن يخرج من المسجد- فقلت له: أنسيت ما أنت فيه؟ أنت معتكف في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، قال: ما نسيت، لكن حدثني صاحب هذا القبر عليه صلوات الله وسلامه والعهد به قريب -أي: قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى عليه صلوات الله وسلامه- فقال: (من مشى في حاجة أخيه كان خيراً من اعتكاف عشر سنين، ومن اعتكف يوماً ابتغاء وجه الله جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق أعظم مما ما بين الخافقين)، فعشر سنين كم فيها إذاً من الخنادق؟ اليوم الواحد ثلاثة خنادق أعظم مما ما بين الخافقين.
إذا اعتكفت لله يوماً واحداً يجعل بينك وبين النار ثلاثة خنادق أعظم مما بين المشرق والمغرب، وأعظم مما بين السماء والأرض، ومن مشى في حاجة أخيه ليقضيها له ليس له أجر من اعتكف عشر سنين، إنما خيراً ممن اعتكف عشر سنين، واعتكاف اليوم له هذا الأجر العظيم عند رب العالمين.
ووجه ذلك: أن الاعتكاف طاعةٌ قاصرةٌ بينك وبين ربك جل وعلا، وأما هنا طاعةٌ متعديةٌ، وأحب العباد إلى الله أنفعهم لعباده، فهذا يمشي في حاجة أخيه، فترك اعتكافه وخرج من أجل أن يكلم صاحب الحق من أجل أن يتجاوز أو يَؤَخّر أو يسامح هذا الإنسان، واستدل بهذا الحديث الثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام.
إخوتي الكرام وكما قلت: الحديث في معجم الطبراني الأوسط، وهو في المجمع، والمستدرك، وسنن البيهقي، ورواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عن ابن عباس رضي الله عنهما.
إذاً: الطاعة المتعدية أعظم أثراً ومنزلةً عند الله من الطاعة القاصرة.
الأمر الأول الذي يلتحق بالطاعة المتعدية وهي أفضل من الطاعة القاصرة ويغفلُ عنه كثير من الناس ويظنونه أنه أمر عادي: النكاح، النكاح طاعة متعدية، ليس بينك وبين ربك، بينك وبين العباد، بينك وبين زوجك، بينك وبين من تصاهرهم: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا [الفرقان:54]، ففي النكاح من الأجر ما لا يخطر ببال أحد من الخلق إذا فعل على حسب شريعة الرب جل وعلا.
يقول ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 297): رُبَّ جماعٍ خيرٌ من عبادة ألف سنة.
ما وجه ذلك؟ لأنه طاعة متعدية، بهذا الجماع خرج ولدٌ كالإمام أحمد، كـأبي حنيفة، كالإمام الشافعي، كـصلاح الدين وصار إنقاذ الأمة الإسلامية وهدايتها على يديه، وهذا أمر عظيم. ورحمة الله على فقهاء الحنفية عندما قرروا في كتبهم -وانظروا هذا في فتح القدير للكمال بن الهمام (3/184)- يقول: النكاح متفقٌ عليه أنه صار فرضاً ينبغي أن يقوم به الإنسان إذا تاقت نفس الإنسان إليه، ووجد المؤنة وخشي على نفسه من الوقوع في المحظور وهو الزنا، النكاح عليه فرضٌ وإذا تركه في هذه الحال مع القدرة عليه فهو آثمٌ عاصٍ لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام هذا بلا خلافٌ بين أئمتنا، وهذا محل إجماع.
الحالة الأولى: وجد الأهبة، ونفسه مشتاقةٌ، وخشيَ من الوقوع في الزنا، فالنكاح فرض، إنما وجد الأهبة ونفسه تشتاق، ويأمن على نفسه من الوقوع في الزنا، يقول: أبداً لو جاء نساء الدنيا بأسرهن إليَّ وراودنني لأعرضت عنهن ولا نظرت لواحدة منهن، فقلبي لا يتعلق بغير ربي، نعم نفسي تميل إليه عن طريق الحلال لا عن طريق الحرام، فهو يأمن على نفسه من المحظور، فالنكاح في هذه الحالة الثانية عند الحنفية سنةً مؤكدة، أفضل من التعلم والتعليم، بل أفضل من الجهاد في سبيل رب العالمين. قالوا: لو تزوج في هذه الحالة أفضل من أن يجاهد. لم؟ قالوا: ذاك طاعة متعدية، وهذا طاعة متعدية، لكن التعدي في النكاح أعظم، كيف هذا؟
انظروا لهذا التعليل وهذا الفقه الذي يستنبطه فقيهٌ الملة أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله ورضي عنه، يقول: الإنسان إذا جاهد يحافظ على الصفة، وإذا تزوج يحافظ على الصفة والموصوف، وطاعةٌ تحافظ بها على الصفة والموصوف أعظم من طاعةٍ تحافظ بها على الصفة.
ما معنى ذلك؟ أنت عندما تقاتل في سبيل الله تحافظ على عز الإسلام وبقاء الإسلام؛ لئلا يندرس دين الرحمن، ولئلا يقضيَ الكافرون على شرائع الإسلام فحافظت على الإسلام. أي: على هذه الصفة، لكن إذا تزوجت أنجبت مثله وحافظت على دين رب العالمين أوجدت موصوفاً وصفةً، الإسلام فيهم وهم مسلمون، أما القتال فلا يلزم منه إيمان من تقاتلهم، وإذا قاتلت أهل الذمة ورضوا أن يدخلوا في عهدك على أن يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون ليس لك حقٌ بعد ذلك أن تكرههم على الدخول في الإسلام، وقد تقتلهم ويموتون على الكفر.
إذاً: لا يلزم من الجهاد أن يسلم من تقاتلهم. قال أئمتنا: ولو قدر إسلام من قاتلناهم بجهادنا فعدد من يُسلم بجهادنا قليل قليل بالنسبة لعدد من يحصل بتزاوجنا ونكاحنا، فواقع الأمر كذلك، يعني أفراد الأمة الإسلامية كثروا بسبب التناكح أو بسبب الجهاد في سبيل الله؟ بسبب التناكح، إذاً الزواج أفضل.
فقال الحنفية عليهم رحمة الله: إذا لم يكن الجهاد فرضاً واجباً -في الحالة الثانية- هو أفضل من التعلم والتعليم، وأفضل من الجهاد في سبيل رب العالمين، لم؟ لأنك بالنكاح تحافظ على الموصوف والصفة، وأما في الجهاد فتحافظ على الصفة، وقد يوجد الموصوف قليل، أي: المسلم قد لا يوجد، وأما النكاح مضمون، تزوج مثلاً زوجة أو أربع زوجات، وكل واحدة أنجبت عشرة من الولد، والأربع أربعون، فولد له أربعون ولداً، كلهم مسلمون يوحدون الحي القيوم، كم لك من الأجر عند الله جل وعلا؟ أجر لا يخطر ببالك.. رُبَّ جماعٍ خيرٌ من عبادة ألف سنةٍ.
وهذا ما قرره الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في بدائع الفوائد ومال إلى رأي الحنفية، فقال: النكاح أفضل من التخلي لنوافل العبادة.
ومما يروى في ترجمة العبد الصالح الأواه الإمام المبجل أحمد بن حنبل عليه رحمة الله أنه ذكر النكاح يوماً وحث عليه، فقال له تلميذه وصاحبه أبو بكر المروزي : يا إمام! يذكرون عن إبراهيم بن أدهم ، أنه ما تزوج. يقول: فصاح بي الإمام أحمد فقال: جئتنا ببنيات الطريق؟ أي: بالطرق المتعرجة من الطريق العام، وإذا سلكتها وصلت إلى الهلاك والمهلكة، ثم قال له: انظر عافاك الله ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فافعله.
وبشر الحافي، وإبراهيم بن أدهم، وابن تيمية، والإمام النووي، أئمة أعلام، أئمة هدىً، وكونهم تركوا النكاح لعذرٍ عندهم يُسقط اللوم لا يوجب فضيلة، وشتان بين سقوط اللوم وبين أن نقول: إنه فضيلة، وتركوا النكاح إما خشية عدم حصول القوت الحلال، خشية الاشتغال بالعيال عن رتبة الكمال، خشية عدم القيام بالحقوق الزوجية.. اعتبارات، كل هذه أعذار تسقط عنهم اللوم، ولكن ليس ما فعلوه يعتبر قدوة لنا فيه وينبغي أن نقتديَ بالإمام النووي ، أو ابن تيمية ، أو بشر الحافي ، أو إبراهيم بن أدهم ، لا نقتدي إلا بسيد الخلق عليه صلوات الله وسلامه، والنكاح من سنته، ومن رغب عن سنته فليس منه كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في الصحيحين: (من رغب عن سنتي فليس مني)، ومن سنته عليه الصلاة والسلام: النكاح فغاية ما عند هؤلاء الأئمة أعذار يسقط بها اللوم عنهم، ولا يقتدى بهم في ذلك.
قال الإمام أحمد عليه رحمة الله: لو تزوج بشر الحافي لتمَّ أمره، وبشر من العلماء الربانيين، وكان بشر يعترف بهذا ويقول: فُضِّل عليَّ الإمام أحمد بثلاث: الأولى: طلب الحلال لنفسه ولعياله، وأنا طلبته لنفسي فقط، والثاني: نصب إماماً للعامة، وأما أنا فإمام نفسي، والثالثة: اتسع في النكاح فتزوج وتسرى، وأما أنا قصرت فيه. وبعد أن توفي بشر الحافي عليه رحمة الله رؤيَ في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال غفر لي ورحمني وأشرف بي على منازل الأنبياء، وقال لي: يا بشر ، ما كنت أحب أن تلقاني وأنت عزبٌ، قيل له: فماذا فعل أبو نصر التمار ؟ وتوفي بعد بشر الحافي سنة (228هـ) عليهم رحمة الله، قال: رفعه الله فوقي بسبعين درجةٍ، قالوا: سبحان الله! كنا نرى أنك أفضل منه وأعلى؟ قال: بصبره على بناته.
هذا عنده بنات تزوج فكان يصبر على لأوائهن وشدائدهن والقيام عليهن، فرفعه الله فوقي بسبعين درجة.
إذاً: النكاح الطاعة متعديةٌ، فأجرها أعظم من الطاعة المتعدية التي لا تتعدى كثيراً، ومن بابٍ أولى أجرها أعظم من الطاعة القاصرة من التخلي لنوافل العبادة، وما يقال في الواحدة يقال في الثانية والثالثة والرابعة، وقد بوب الإمام البخاري في كتاب النكاح باباً يشير به إلى هذا فقال: باب كثرة النساء، ثم ساق بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لتلميذه سعيد بن جبير : هل تزوجت؟ فقال: لا، فقال: تزوج فإن خير هذه الأمة أكثرهُم نساء. يعني النبي عليه الصلاة والسلام، وما اختار له إلا أكمل الأحوال، وأكمل الأحوال من أمته من يكون عنده أربع، ثم الثلاث، ثم الثنيتين، ثم الواحدة، والواحدة حالة ضرورة، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3].
وفي ذلك مصالح عظيمةٌ منها: ستر النساء المسلمات، ومنها: الرباط القوي بين الأمة الإسلامية عن طريق المصاهرة، ولذلك قال الإمام ابن الجوزي في صيد الخاطر: إذا عدد الإنسان الزوجات، وأراد من التعدد إنجاب الأولاد فهذا هو الغاية في التعبد، وإذا عدد الزوجات وأراد التلذذ فمباح، يندرج تحته من التعبد ما لا يحصى، من اعفاف نفسه واعفاف زوجه وحسن عشرته لهن و.. و...
تعبد كثير يأتي تبعاً، إن قصد التلذذ فهو مباح تحته من التعبد ما لا يحصى، وإن قصد إنجاب الأولاد فهذا هو الغاية في التعبد.
إخوتي الكرام! النكاح طاعة متعدية، فينبغي أن ننظر إلى هذه الشعيرة ومنزلتها الشرعية التي في شريعة الله جل وعلا المطهرة.
قال الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله: ولا ينبغي للإنسان أن يترك النكاح معللاً بأنه مقيمٌ على العبادة، وأنه زاهدٌ في الدنيا، يقول: فما من عبادة فعلها ينفع في الآخرة، ومعنى الزهد: ترك ما يضر في الآخرة، والنكاح لا يضر في الآخرة، وهو نافع في الآخرة ففعله عبادة، وليس الزهد في ترك النكاح، ومن زهد فيه فليس بزاهد، إنما فعل ما يضر نفسه وأعرض عما ينفعه، النكاح طاعة متعدية.
استأذنكم الآن، وأسأل الله جل وعلا أن يجمعنا في هذه الدنيا على طاعته وفي الآخرة في دار كرامته، وصل اللهم على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر