هذا الحديث كالحديث الذي سبق، ولكنه أوضح من الحديث السابق، وقد تقدم الكلام على ما فيه، وأنه يدل على عظمة الرب جلَّ وعلا، ووجوب عبادته وحده، وأن الملائكة يخضعون ويخافون ويُصعقون إذا سمعوا كلامه جلَّ وعلا؛ خوفاً منه وخشيةً له، وأن كلامه يُسمع جلَّ وعلا وأنه عالٍ على خلقه.
قال الشارح: [ هذا الحديث رواه ابن أبي حاتم بسنده، كما ذكره العماد ابن كثير في تفسيره.
و النواس بن سمعان -بكسر السين- ابن خالد الكلابي ويقال: الأنصاري صحابي، ويقال: إن أباه صحابي أيضاً.
قوله: (إذا أراد الله أن يوحي بالأمر ...) إلخ: فيه النص على أن الله تعالى يتكلم بالوحي، وهذا من حجة أهل السنة على النفاة لقولهم: (لم يزل الله متكلماً إذا شاء).
قوله: (أخذت السماوات منه رجفة): السماوات مفعول مقدم، والفاعل: رجفة، أي: أصاب السماوات من كلامه تعالى رجفة أي: ارتجفت، وهو صريح في أنها تسمع كلامه تعالى كما روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: (إذا قضى الله أمراً تكلم تبارك وتعالى رجفت السماوات والأرض والجبال، وخرت الملائكة كلهم سجداً).
وقوله: (أو قال: رعدة شديدة) شك من الرواي، هل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رجفة) أو قال: (رعدة)؟ والراء مفتوحة فيهما].
للعلماء في هذا قولان:
القول الأول: أن التسبيح ليس حقيقة؛ وإنما معنى ذلك أن من رآها سبح الله؛ لأنها دليل على علو الله جلَّ وعلا وعلى عظمته.
القول الثاني: أن التسبيح يصدر منها حقيقةً بلسان يعلمه الله جلَّ وعلا، وكل شيء على حسب ذلك، وهذا هو الصواب، وقد سُمع الطعام يسبح بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا الحصى، وكان جذع يابس وُضع ليخطب عليه صلوات الله وسلامه عليه في هذا المسجد، فأمر أن يُتخذ له منبر من الخشب، فلما وُضع المنبر ترك الجذع، فأول ما قام على المنبر ليخطب صار الجذع يحن، فسمعه أهل المسجد كلهم، وكان يحن مثل حنين الناقة إذا فقدت ولدها، حتى نزل صلى الله عليه وسلم والتزمه، فصار يهدأ كما يهدأ الصبي إذا التزمته أمه، فقال: (لو تركتُه لبقي يحن إلى يوم القيامة)؛ بكى لأجل فقد الذكر الذي كان يكون عليه.
وكذلك ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعرف حجراً في مكة كان يسلِّم عليَّ) أي: يقول: السلام عليك يا رسول الله! حجر يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم!
وقد أخبر الله جلَّ وعلا في كتابه عن أشياء كثيرة تتكلم كقوله: حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:20-21]، فالله ينطق الأشياء كلها، فهي تتكلم وتسبح بحمده.
قال الشارح: [وفي البخاري عن ابن مسعود قال: (كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل)، وفي حديث أبي ذر : (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيده حصيات فسُمع لهن تسبيح ...) الحديث. وفي الصحيح قصة حنين الجذع الذي كان يخطب عليه النبي صلى الله عليه وسلم قبل اتخاذ المنبر، فمثل هذا كثير.
قوله: (صُعقوا وخروا لله سجداً) الصعوق هو: الغشي، ومعه السجود].
قوله: (فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عزَّ وجلَّ من السماء والأرض) وهذا تمام الحديث. والآيات المذكورة في هذا الباب والأحاديث تقرر التوحيد الذي هو مدلول شهادة أن لا إله إلَّا الله، فإن الملك العظيم الذي تصعق الأملاك من كلامه خوفاً منه ومهابةً، وترجف منه المخلوقات، الكامل في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته وملكه وعزه وغناه عن جميع خلقه، وافتقارهم جميعاً إليه، ونفوذ تصرفه، وقدره فيهم لعلمه وحكمته؛ لا يجوز شرعاً ولا عقلاً أن يُجعل له شريك من خلقه في عبادته التي هي حق عليهم، فكيف يُجعل المربوب رباً، والعبد معبوداً؟! أين ذهبت عقول المشركين؟! سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الطور:43]، وقال تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدَاً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدَّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدَاً [مريم:93-95] فإذا كان الجميع عبيداً فلِمَ يعبد بعضُهم بعضاً بلا دليل ولا برهان بل بمجرد الرأي والافتراء والابتداع؟ ثم قد أرسل رسله من أولهم إلى آخرهم تزجرهم عن ذلك الشرك، وتنهاهم عن عبادة ما سوى الله. انتهى من شرح سنن ابن ماجة ].
الأولى: تفسير الآية].
الآية هي قوله تعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]، وسبق أن الضمائر في هذا الخطاب للملائكة، ( فزع عن قلوبهم) يعني: عن قلوب الملائكة، والتفزيع هو: إزالة الفزع، فهم يفزعون حينما يسمعون كلام الله فيخرون سجداً ويُغشى عليهم، فإذا ذهب الغُشِي صار بعضهم يسأل بعضاً: ماذا قال ربكم؟ ويجيب المسئول بقوله: قال الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23].
[الثانية: ما فيها من الحجة على إبطال الشرك خصوصاً ما تعلق على الصالحين وهي الآية التي قيل: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب].
المقصود هذه الآية والتي قبلها، وهي قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ ... [سبأ:22] إلخ.
[المسألة الثالثة: تفسير قوله تعالى: قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]].
سبق أن هذا قول الملائكة حينما يُكشف عنهم الفزع يعني: الغشي الذي يصيبهم خوفاً من الله جلَّ وعلا، فيتساءلون فيما بينهم حتى ينتهي السؤال إلى جبريل عليه السلام، وهو الذي يتولى الوحي من الله جلَّ وعلا سواءً كان ذلك إلى الملائكة أو إلى البشر، فيقول لهم: قال: الحق، فيقولون كلهم: قال الحق، والله جلَّ وعلا لا يقول إلَّا الحق تعالى وتقدس، ومعنى ذلك: أنه يجب أن يُؤمَن بأن الله يقول قولاً يُسمع، ويَسمَعه مَن يُسمِعه إياه جلَّ وعلا، وأن قوله حق، والحق معناه: الشيء الثابت الذي لا يتزعزع، تقول العرب: حق فلان بالمكان إذا ثبت فيه وأقام، فالحق هو: الثابت، بخلاف الباطل، فإن الباطل يزول ويتزعزع ولا يثبت.
[المسألة الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك].
سبب السؤال هو ما ذكره بعض المفسرين من أنهم يخافون أن يكون هذا الأمر بقيام الساعة؛ لأن الوقت قريب، وهذا كان في أول ما أوحى الله جلَّ وعلا إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الوقت مقترب، فخشوا أن يكون أمراً إلى إسرافيل بنفخه في الصور، وساعة قيام الساعة هو النفخ في الصور النفخة الأولى، وهي النفخة التي يموت فيها كل حي من خلق الله جلَّ وعلا.
[الخامسة: أن جبريل يجيئهم بعد ذلك بقوله: قال: كذا وكذا.
السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبريل].
جبريل أيضاً يصيبه الصعق، فحينما يسمع أن الله جلَّ وعلا يتكلم بالوحي يُصعق خوفاً من الله جلَّ وعلا، ثم إذا رفع رأسه أوحى الله جلَّ وعلا إليه ما أوحى، وبعد ذلك تسأله الملائكة الأقربون ثم الأقرب فالأقرب، فأول من يسأله ملائكة أهل السماء السابعة.
[السابعة: أنه يقول لأهل السماوات كلهم؛ لأنهم يسألونه].
يعني: حينما يمر بهم يسألونه.
[الثامنة: أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم].
وذلك يدل على أن أهل السماوات كلهم يسمعون الصوت الذي يعرفون أنه كلام الله بالوحي؛ ولكن لا يفقهونه، وإنما يسمعون صوتاً كجر السلسلة على الصفوان، فهم يسمعون صوتاً يعلمون أنه كلام لله جلَّ وعلا؛ ولكن لا يميزونه ولا يعلمون ما هو، فيصيبهم الصعق، ثم بعد ذلك يسأل بعضهم بعضاً عنه.
يعني: أن السماوات ترتجف، فيصيبها رجفة ورعدة شديدة، وهذا يدلنا على أنه حتى الجمادات تخاف ربها جلَّ وعلا وتخشاه، والسماوات على سعتها وكبرها يصيبها الرعدة أو الرجفة الشديدة، فكيف بالعاقل الذي يخشى أن يعذبه الله جلَّ وعلا إذا لم يلتزم أمره؟ فينبغي أن يكون أشد خوفاً من الشيء الذي لم يعصِ الله مثل الجمادات والسماوات وغيرها، وهذا يدلنا على أنها تحس إحساساً جعله الله جلَّ وعلا فيها على حسب حالها، وإن كنا لا نشعر بهذا الإحساس، وهذا يُنكر؛ لأن هذا شُوهد مثله في الدنيا على الأرض، وقد مضى أن الجذع الذي كان يخطب عليه الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو جذع نخلة يابس- حن حينما فقد ذكر الله جلَّ وعلا الذي كان يقال عليه، وكذلك صح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلِّم عليَّ)، حجر كان يسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: سلام عليك يا رسول الله، وكذلك صحت الأخبار بأن الطعام كان يسبح وهم يأكلونه، والحصى كان يسبح في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أصحابه فقال: (بينما راعي في غنمه إذ عدا عليه ذئب فأخذ شاة، فأدركه الراعي وانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه وقال: من لها إذا كنتُ أنا الذي أرعاها؟ فقالوا: سبحان الله! ذئب يتكلم! قال صلى الله عليه وسلم: آمنتُ بذلك أنا و
والمقصود: أن الكلام يحصل من البهيم ومن الجماد إذا أراد الله جلَّ وعلا ذلك، وقد قال الله جلَّ وعلا: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، كل الأشياء تسبح الله جلَّ وعلا، ومن العجب أن الله جلَّ وعلا ذكر في كتابه أن كل شيء يسجد لله، كل شيء من الدواب والجبال والشجر ثم قال: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ [الحج:18]، فالناس فقط أكثرهم لا يسبحون! قال: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج:18] أما بقية المخلوقات فكلها تسبح الله وتسجد له، وإنما الذي يعصي ويأبى ذلك كثير من الناس العقلاء، فهم لا يسبحون الله ولا يسجدون له؛ ولهذا حقت عليهم كلمة الله جلَّ وعلا بالعذاب.
[المسألة العاشرة: أن جبريل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله].
جبريل عليه السلام هو الذي يتولى إبلاغ الوحي من الله جلَّ وعلا، فهو أمينه، وقد ذكر الله جلَّ وعلا ذلك في عدة آيات من كتابه.
الشياطين عندما يسترقون السمع لا يصلون إلى السماء كما قد يتصوره من يتصوره، وإنما المراد بكونهم يسترقون السمع من السماء: مجرد العلو؛ لأن كل ما فوق الإنسان فهو سماء، حتى السقف يسمى سماءً، وكل ما فوق رأسك يسمى سماءً، وقد قال الله جلَّ وعلا: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ [الحج:15] والمعنى: من كان يظن أن الله لا ينصر رسوله فليعجل بقتل نفسه، فليجعل حبلاً في السقف، ثم ليضع هذا الحبل في عنقه، ثم ليقطع حتى يعجل بالموت على نفسه، فإن الله ناصر عبده ولابد.
فالمقصود أنه سمى سقف البيت سماءً فقال: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ [الحج:15] يعني: إلى سقف البيت، فكل ما فوق رأس الإنسان سماء.
[المسألة الثانية عشرة: سبب ركوب بعضهم بعضاً].
يعني: أن الشياطين يركب بعضهم بعضاً حتى يصلوا إلى قرب أدنى مكان يكون فيه الملائكة، وهم يكونون في العنان -يعني: في السحاب- يدبرون أمر الله جلَّ وعلا الذي أمرهم به، وهي الأمور التي يوحيها الله جلَّ وعلا إلى جبريل فيبلغهم إياها، فإذا كانوا في العنان يتكلم بعضهم مع بعض في الأمر الذي أمروا به، فإذا تكلموا استمع ذلك الشيطان الذي يسترق السمع، فأمسك كلمة إما أن تكون بإنزال مطر أو هبوب ريح أو حياة أحد أو موته أو ما أشبه ذلك من الأمور التي يأمر الله جلَّ وعلا بها، وينفذها رسله من الملائكة، فإذا سمعوا هذه الكلمة أسرعوا بها، فيلقيها الأعلى إلى الذي تحته، ثم الذي تحته يلقيها إلى من تحته، وكل ذلك خوفاً من أن يصيبهم الشهاب قبل أن يتمكنوا من إيصالها إلى وليهم من الإنس، وهو الكاهن أو الساحر، وهذا يدلنا على شدة حرصهم على إضلال بني آدم، ويرتكبون المخاطر في ذلك؛ لأنهم يعرفون أن الشهاب يرسل عليهم، فيقتل من يقتل منهم، وأحياناً يذهب عقله، فيصبح لا عقل له، وأحياناً يحرق جزءاً منه.
إرسال الشهب كان منذ أن خلق الله جلَّ وعلا السماوات، وقد ذكر الله جلَّ وعلا أنه خلق النجوم لثلاث حكم نص عليها جلَّ وعلا في كتابه:
الحكمة الأولى: أنها زينة للسماء، فإن الذي ينظر إلى السماء يرى زينة السماء بالكواكب كأنها قناديل معلقة في السماء، فالسماء تتزين بها، وهذا من الأدلة على قدرة الله جلَّ وعلا، وعلى أنه هو المقدر الخالق لكل شيء؛ ولهذا يقسم بها جلَّ وعلا لأنها دليل عليه.
الحكمة الثانية: أنها علامات يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، كما قال الله جلَّ وعلا: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل:16].
الحكمة الثالثة: إرصاداً للشياطين الذين يسترقون السمع فيُرجمون بها، فجعلها رجوماً لهم، والرجم يكون من النجوم التي ليست علامات ظاهرة مرئية تُرى وتُعرف، فالنجوم كثيرة جداً، وقد يكون الرجم بأجزاء منها، وقد يكون من غيرها.
[الرابعة عشرة: أنه تارةً يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارةً يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل أن يدركه.
الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدُق بعض الأحيان].
وصدقه بعض الأحيان هو لهذا السبب، والمراد بالصدق: ما يخبر به عن الأمور المستقبلة، فقد يخبر بشيء مستقبل أو أمور غائبة فيصدق في ذلك، والسبب في هذا: الكلمة التي تسمع من الملائكة؛ ولكنهم يكذبون مع هذه الكلمة، ويضع مائة كذبة مع هذه الكلمة التي يصدق بها، والعجيب أنهم يُصَدَّقون في كذبهم بسبب هذه الكلمة، فإذا قيل: هذا ليس صحيحاً، قالوا: ألم يخبرنا بكذا وكذا وصار كما أخبر؟! فيكون ذلك فتنة لهم.
والكذب هذا يُحتمل أن يكون من الكهنة ويُحتمل أن يكون من الشيطان، وكلاهما يكذب، فالشيطان يكذب على الكاهن، والكاهن يكذب على من يخبرهم.
السابعة عشرة: أنه لم يُصدَّق كذبه إلَّا بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء].
وهذا يدل على أن الباطل لو كان خالصاً ليس فيه شيء من الحق لما قُبِل، ولكن يقبل الباطل بسبب أنه يُخلط معه حق، فيلتبس على الناس، فيقبلون الباطل لهذا السبب، فالكاهن لو كان دائماً يكذب ولا يصدق لما قبل منه أحد، ولا ذهب إليه أحد، وإنما يذهب الناس إليه لأنه قد يصدُق.
[الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة؟].
يعني: النفوس قد تميل إلى الباطل، بل هي جُبلت على ذلك، فتميل إلى ما يلائمها، وهي بطَّالة، ولا تترك البطالة إلَّا بتهذيبها وتأديبها بأدب الوحي، أما إذا خلت من ذلك فهي تميل إلى الباطل وتحبه وتريده؛ ولهذا لا هداية ولا نور وحق إلَّا باتباع الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[التاسعة عشرة: كونهم يتلقى بعضهم من بعض تلك الكلمة، فيحفظونها ويستدلون بها].
في هذا الباب من الصفات أن الله جلَّ وعلا في السماء، وأنه يتكلم، فهاتان الصفتان ظاهرتان من هذه الآية، كونه جلَّ وعلا هو العلي الكبير، وكونه يتكلم بكلام يُسمع؛ ولهذا تقول الملائكة: ماذا قال ربنا؟ والذين ذكرهم من الأشاعرة وغيرهم لا يؤمنون بأن الله يقول قولاً يُسمع، وإنما يقولون: إن كلام الله هو معنىً قائم بذاته والقرآن والتوراة والإنجيل وغيرها من الكتب التي أنزلت على الرسل هي عبارة عن كلام الله، يقولون: عبارة! ومن الذي عبَّر عن كلام الله؟! هذا شيء عجيب! يقولون: إن الله جلَّ وعلا علم بما في نفسه جبريل أو غيره، فأخذ ما في نفسه من المعنى وعبَّر عنه ، فيقولون: إن الله جلَّ وعلا جعل في جبريل أو خلق في جبريل الشيء الذي أراد أن يعبر عنه، أراد من جبريل أن يعبِّر عنه فعبَّر عنه، وكل هذا فراراً منهم -زعموا- من التشبيه، فالواقع أنهم وقعوا في التعطيل وفي التشبيه، والذي دعاهم إلى التعطيل هو التشبيه أولاً، وهذا -في الواقع- إنكار للرسالة، وإنكار لكون الله جلَّ وعلا هو الكامل؛ لأن الذي يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، وكثيراً ما يعيب الله جلَّ وعلا عبدة الأصنام بأنهم يعبدون من لا يسمع ولا يبصر، ولا يفهم منهم القول ولا يرده، وهذا عيب في المعبود؛ لكونه لا يسمع الكلام ولا يتكلم، ومن المعلوم أنه لو قدر أن مخلوقين من الناس أحدهما يتكلم ويستطيع أن يبين عما في نفسه بالكلام الفصيح والآخر ما يستطيع، فعند كل العقلاء أن المتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ثم كيف يكون الإنسان متكلماً بليغاً فصيحاً؟! من الذي خلق هذا؟! من الذي خلق فيه الكلام والمقدرة على البيان؟! فهل الذي خلق فينا الكلام يكون عادماً لصفة الكلام؟! تعالى الله وتقدس.
المقصود: أن الذي دعاهم إلى هذا هو كونهم تركوا كتاب الله جلَّ وعلا، ولم يؤمنوا الإيمان الواجب به وبما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعلقوا بما يزعمون أنها براهين عقلية، وهي -في الواقع- وساوس وشكوك ليس إلَّا، ليست براهين، والله جلَّ وعلا يقول: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [السجدة:13]، كيف نقول: لا؟! يقول لنا ربنا هذا ونقول: لا؟! تعالى الله وتقدس، ويقول جلَّ وعلا: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6] وهو يسمع كلام الله ممن يبلغه من الرسول أو من غيره، ويقول جلَّ وعلا لما ذكر أنه فضل بعض النبيين على بعض: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمَاً [النساء:164]، ومن المعروف في لغة العرب أن الكلام إذا أُكد بمصدر فإنه لا يحتمل إلَّا النص الذي نص عليه، ولا يحتمل تأويلاً، فهنا يقول: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمَاً [النساء:164]، والرسول صلى الله عليه وسلم لما كان في مكة كان يعرض نفسه على القبائل ويقول: (مَن يؤويني حتى أبلغ كلام ربي؟! فإن قريشاً منعتني أن أبلغ كلام ربي) وليس هناك أحد من الكفرة قال: إن الله لا يتكلم، فكيف هؤلاء الذين يأتون فيما بعد ويتركون كتاب الله جلَّ وعلا ويقول أحدهم: إن الله لا يتكلم؟! أخذوا بترهات وشكوك ودعاوى باطلة تخالف نصوص الكتاب والسنة.
الأول: كلام لفظي مسموع، وهذا مخلوق.
الثاني: كلام نفسي، وهو عبارة عن معنىً واحد يقوم بنفس الله جلَّ وعلا، وهذا هو الذي يثبتونه لله، يعني: معنىً يقوم بنفس الله جلَّ وعلا، وليس هناك شيء يُسمع أو يُتلى، فعلى هذا يكون القرآن الذي يحفظه المسلمون، وكل واحد يرجو من ربه إذا تلا حرفاً منه أن يعطيه بالحرف الواحد عشر حسنات كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليس كلام الله، وإنما هو كلام البشر سواءً كان كلام جبريل أو كلام محمد صلوات الله وسلامه عليه، ويستدلون بأشياء من المتشابه كقوله جلَّ وعلا: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير:19-20]، وفي الآية الأخرى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلَاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلَاً مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة:40-42] والمعنى: إنه قول هذا الرسول يبلغه، فالرسول يبلغ الرسالة، لا أن يأتي بالقول من عند نفسه، وإنما يبلغ رسالة أتى بها؛ ولهذا قال: لَقَوْلُ رَسُولٍ والرسول يأتي بالرسالة التي أرسل بها، والكلام يضاف ويُنسب إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً، وإنما هو لمن قاله أولاً مبتدئاً، ثم إذا كان كذلك فأين تحدي الله جلَّ وعلا للخلق؟! وقوله جلَّ وعلا في آيات عدة: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23]، وقوله جلَّ وعلا متحدياً الجن والإنس: قل لو اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرَاً [الإسراء:88]، فهل ربنا جلَّ وعلا يتحدى الإنس والجن على أن يأتوا بشيء في نفسه؟! هذا لا يمكن أن يقال، ولا يمكن لعاقل أن يصدق به، ثم إن الله جلَّ وعلا لا يجوز أن نتخيل صفاته كصفات المخلوق، وأنه يلزم من كونه يتكلم هذه اللوازم التي ذكروها، وقد أخبرنا الله جلَّ وعلا أن الجلود تتكلم، والأسماع تتكلم، والأبصار تتكلم، فهل يلزم أن يكون للجلد لسان وشفتان ولهاة وحنجرة إلخ؟! لا يلزم، فالله قادر على كل شيء، قادر على أن ينطقها بلا هذه الأشياء، والله جلَّ وعلا ليس له مثيل لا في ذاته ولا في صفاته، ومن المعلوم أن الصفات تتبع الذات، هذا بالنسبة للكلام، فمذهبهم باطل، والواقع أن الذي ينكر كلام الله يلزمه أن ينكر رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسالة لا بد أن تكون بالكلام، لا بد أن يتكلم المرسل بالأمر والنهي، فيلزم على هذا إنكار الشرع كله.
فالواجب أن يؤمن العبد بما قاله الله وقاله رسوله، والصفات تبع لهاتين الصفتين:
- العلو.
- والكلام.
وهذا في الواقع الأدلة عليه أكثر من أن تحصى، سواء إثبات الكلام أو إثبات العلو، وقد حاول بعض العلماء أن يحصروا الأدلة فذكروا أكثر من ألف دليل على علو الله؛ ولكن الأدلة أكثر من ذلك، فهم ذكروا بعض الأدلة التي يدخل تحت النوع منها أفراد كثيرة كثيرة. وليس المسلمون بحاجة إلى الشبه؛ لأنهم يؤمنون بكتاب الله تعالى وبقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما فطرهم الله جلَّ وعلا عليه، فليسوا بحاجة إلى ذكر مثل هذه الشبه، وإنما يخشى على الإنسان أن يقع نظره على كتاب من كتب هؤلاء فيحصل عنده شيء من الشبه.
[المسألة الحادية والعشرون: أن تلك الرجفة والغشي خوفاً من الله عزَّ وجلَّ
الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجداً].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر