أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا * إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:69-73].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا النداء الإلهي موجه إلينا، والحمد لله أن كنا أهلاً لأن ينادينا الله، فيأمرنا أو ينهانا، أو يبشرنا أو يحذرنا وينذرنا. وهذه هي نعمة الإيمان التي هي بمثابة الحياة، فالمؤمن حي، والكافر ميت، والحي يسمع ويبصر، ويعطي ويأخذ، ويفعل ويترك، والميت لا يسمع ولا يبصر، ولا يعطي ولا يأخذ، ولا يفعل ولا يترك؛ لأنه ميت.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى [الأحزاب:69]. وموسى هذا رسول الله ونبي الله وكليم الله، وهو موسى بن عمران نبي بني إسرائيل صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم. وقد عرفتم أن موسى أصله موشى، والآن يسمونه موشي؛ لأنه وجد بين الماء والشجر لما ألقته أمه في اليم، فقد عثروا عليه في صندوق من خشب بين الشجر والماء، فقالوا: موشي. وما زال اليهود عليهم لعائن الله يسمونه موشي، وهو موسى.
والآية الكريمة تنهانا عن أذية رسولنا صلى الله عليه وسلم، وتقدم في السياق قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب:57]. وأذية الرسول صلى الله عليه وسلم تتناول كل ما يتعلق به، فقد تؤذيه في دينه .. في علمه .. في بدنه .. في ماله .. في عرضه .. في أمته .. في شريعته. فكل ما يسمى أذى حرمه الله. ويا ويل الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم! ولو بالكلمة النابية أو بالنظرة القاسية. فقال تعالى هنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الأحزاب:69]! فلنقل: لبيك اللهم لبيك! لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى [الأحزاب:69]. فتؤذوا محمداً صلى الله عليه وسلم بأي أذى.
ثم كان من تدبير الله عز وجل أن جاء موسى يغتسل وحده، وخلع ثوبه ووضعه على حجر على شاطئ البحر واغتسل، فلما أخذ يغتسل وإذا بالحجر يهرب بالثوب، فخرج موسى يجري وراء الثوب ويقول: يا حجر! ثوبي .. يا حجر! ثوبي. وولى الحجر هارباً -والحديث أخرجه مسلم في صحيحه مع حكاية بني إسرائيل- حتى وصل به إلى مجموعة من بني إسرائيل، فشاهدوا سلامته، فقالوا: ما به أدر ولا برص، وأخذ موسى ثوبه فلبسه، وعاد إلى مكانه. فقال تعالى: لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا [الأحزاب:69] تبرئة كاملة. وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69]، أي: وكان له شرف عالٍ ومكانة ومنزلة عند الله، ومع هذا اتهموه بهذا الباطل، ورموه بهذه الفرية الباطلة، فأنجاه الله من ذلك، وفضحهم وأكذبهم؛ حتى ما يعودوا لمثل هذا القول.
وهنا هداية هذه الآية لنا معلومة، وهي: ألا نؤذي رسولنا صلى الله عليه وسلم ولا أمته، ولا أي فرد من أفراد أمته، لا بقالة السوء ولا بالطعن، ولا بالسب ولا بالشتم، فضلاً عن الضرب وأخذ المال وانتهاك العرض. هذا الذي نودينا من أجله.
وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [الأحزاب:70]، أمرنا بتقواه، وأمرنا بالقول السديد الصائب، والصدق والحق الأديب؛ حتى ما نلهج بالباطل، ولا نتكلم بالكذب، ولا نقول ما يسيء ويفسد، بل نقول القول الصائب السليم. هذا نظام حياتنا. وهكذا أمرنا الله، فقد أمرنا بأن نتقيه بطاعته وطاعة رسوله، وأن نتأدب بالآداب العالية، فلا كذب ولا خيانة، ولكن صدق وقول صادق نافع، كما قال تعالى: وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [الأحزاب:70].
وقوله: وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الأحزاب:71]، هذه عطية أخرى، وهبة أخرى. فمن زلت قدمه واقترف إثماً في عمره فهذا الإثم يمحى، فقد وعده الله بمحيه، فقال تعالى: وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الأحزاب:71].
وقوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:71]، أعاد الأمر بالتقوى بالطاعة لله ورسوله. واسمع هذه البشرى، فقد قال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:71] منكم، سواء كان أبيض أو أسود .. غنياً أو فقيراً .. عربياً أو عجمياً .. في الأولين أو الآخرين، فـ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:71] بفعل الأوامر وترك النواهي فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:71]. ألا وهو النجاة من النار، ودخول الجنة دار الأبرار، والخلد الأبدي فيها في النعيم المقيم.
إذاً: قوله: وَمَنْ [الأحزاب:71]، أي: سواء أبيض أو أسود .. غنياً أو فقيراً .. عربياً أو عجمياً .. ذكراً أو أنثى يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:71]، وهو قطعاً محمداً صلى الله عليه وسلم فَقَدْ فَازَ [الأحزاب:71]. وأنتم تعرفون الفوز في لعب الكرة، وما تنسوه. ومعنى فاز هنا: ارتفع فنجا من النار ودخل الجنة، فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:71]. اللهم اجعلنا من أهل هذا الفوز العظيم.
وهذه الأمانات أولاً: خلق الله للجبال والسماوات والأرض عقول ونطق، واستنطقها فنطقت، فعرض الأمانة على السماوات، وقال لها: أتأخذي هذه الأمانة، فإذا أديتها سعدتي ونجحتي وفزتي، وإذا أضعتها خسرتي، فقالت: لا يا ربنا! ما استطيع. وإن قلت: كيف استنطق الله السماوات والأرض والجبال؟ فأقول: كيف استنطقني أنا حتى تسأل عن الجبال كيف تستنطق؟
فعرضها عرضاً على السماوات والأرض والجبال، وقال: هل تقبلون هذا، وتثابون عليها بالنعيم المقيم؟ فقالوا: ما نستطيع.
ثم عرضها على آدم بعد ذلك مباشرة، فقال: يا آدم! أعرض عليك الأمانة، فإن أنت قمت بها سعدت، وإن أنت أضعتها خسرت، فقال: رب! لا بأس، فأنا أقبلها. فما هو إلا كما بين صلاة الظهر والعصر بعد أن قال كلمته حتى خرج من الجنة. فهذا إذاً طبعنا نحن بني آدم. ففيما بين الظهر والعصر أكل من الشجرة، وما أدى الأمانة كاملة. قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا [الأحزاب:72] ويتحملنها، وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا [الأحزاب:72]، أي: خفن منها؛ لأن تبعتها عظيمة. وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ [الأحزاب:72]، وهو آدم، وأنا وأمي وأنتم. فمن ضيعها أضاعه الله، وخسره دنياه وأخراه، ومن حملها وثبت عليها وأداها كما هي فهنيئاً له، فقد فاز.
ويدخل من باب أولى في الأمانة ما يأتمنك أخوك عليه، كأن يضع في جيبك دينار أو درهماً، أو يقول لك كلمة ويقول لك: لا تقلها ولا تحدث بها، فهذه كلمة سر بيني وبينك، أو يضع عندك ماله، أو يضع عندك بنته، أو يضع عند بستانه أو حديقته، أو غير ذلك، ويقول: أنت أمين ويأتمنك، فإياك أن تخون!
ولهذا ( لا إيمان لمن لا أمانة له ). فيا عباد الله! ويا إماء الله! هيا نكن مؤتمنين، وإنا إن شاء الله لمؤتمنون، فلا نفرط أبداً، ولا نضيع أمانة الله، حتى قطع الأظافر يوم الجمعة.
[ من هداية ] هذه [ الآيات ] المباركة:
[ أولاً: وجوب تقوى الله عز وجل بفعل الأوامر واجتناب المناهي ] كما علمنا. وهذه هي التقوى. ولابد لها من العلم والمعرفة أولاً.
[ ثانياً: صلاح الأعمال لتثمر للعاملين الزكاة للنفس وطيب الحياة متوقف على التزام الصدق في القول والعمل، وهو القول السديد المنافي للكذب والانحراف في القول والعمل ] فالأقوال والأعمال الصالحة هي آلة لتزكية النفس وتطهيرها وتطييبها. فنفسك أيها الإنسان! ما تطيب ولا تطهر إلا بالأعمال الصالحة، فبها تزكو وتطيب وتطهر.
[ ثالثاً: طاعة الله ورسوله ] صلى الله عليه وسلم هي [ سبيل الفوز والفلاح في الدارين ] وسبيل النجاة في الدنيا والآخرة. فمن أراد أن ينجو من عذاب الدنيا وبلائها وشقائها فليطع الله والرسول، ومن أراد سعادة الدار الآخرة والنجاة من النار فعليه بطاعة الله والرسول؛ لأن هذه الطاعة عبارة عن قوانين منظمة، من استقام عليها وفعلها نجا وكمل، ومن فرط فيها هلك وهبط. هذا الأصل.
[ رابعاً: وجوب رعاية الأمانة وأدائها ] وحفظها [ ولا يخلو أحد من أمانة ] وقد قلت لكم: الغسل من الجنابة أمانة؛ إذ قد لا يغتسل الشخص ويقول: أغتسل، ولا احد يعرف الحقيقة، ولذلك هي أمانة في عنقك. وأعضاؤنا وجوارحنا كلها أمانات، وأموالنا وعقولنا كلها أمانة، فيجب أن نستعملها فيما يجدي وينفع، لا فيما يضر ويخسر.
[ خامساً ] وأخيراً: [ وصف الإنسان بالظلم والجهل وبالكفر والمهانة والضعف في آيات أخرى يستلزم طلب علاج لهذه الصفات، وعلاجها جاء مبيناً في سورة المعارج في قوله: إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج:22]، إلى قوله: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المعارج:34] ] فقد جاء وصف الإنسان بالظلم والجهل، والكفر والهون في آيات. وهذه الأمراض وهذه الأسقام علاجها في ثمان آيات من سورة المعارج، وقد سمعتموها آية بعد آية. فالذي يطبق تلك الآيات والله ينجو من هذه العلل وهذه الأمراض، ولن يبقى سقيماً ولا مريضاً، ولا جاهلاً ولا كافراً ولا فاسقاً، ومن أعرض عن بضعها ووقع في محرمات فهو كالمريض، يصح يوماً ويهلك آخر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر