يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار, ثم أما بعد:
فقد تحدثنا فيما سبق عن المفهوم وأقسامه أو أنواعه، وبينا حجية المفهوم واختلاف العلماء في ذلك.
مثال ذلك قول الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [النساء:25].
2) مفهوم الغاية، وهو أن يكون حكم ما بعد الغاية مخالفاً لما قبلها، مثال ذلك قوله تعالى: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196].
3) مفهوم الشرط، ومثاله: حديث: (إذا بلغ الماء قلتين)
4) مفهوم الحصر، ومثاله: قول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات)، فمفهوم الحديث: أن أي عمل لم يسبقه نية فليس بعمل مجزئ، أو أنه غير مقبول.
وبينا أيضًا: أن مفهوم المخالفة يطرح في عدة حالات, ولا يكون حجة فيها، وقد عددناها وسنتحدث الآن عن مفهوم الموافقة.
ومثال ذلك أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يبولن أحدكم في الماء الراكد ثم يغتسل منه) فالمنطوق قوله: لا يبولن، وهو نهي عن البول في الماء الراكد، والمسكوت عنه الأقوى في المعنى: وهو التغوط، فإذا نهى النبي عن البول وهو الأخف نجاسة فالتغوط أشد، فيكون أولى بالحكم.
القول الأول وهو قول الأحناف: وهو أن مفهوم المخالفة ليس بحجة، ووافقهم في ذلك ابن حزم .
والقول الثاني قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة: وهو أن مفهوم المخالفة حجة، وقد بينا ضعف هذا القول.
والأمة: هي التي كانت سبيا من الجهاد بين المسلمين والكفار، فأخذها فوقعت في سهم مقاتل من المقاتلين فأصبحت أمة، فله أن يطأها بدون عقد، أو بدون شهود وولي، كما أن له أن يستعملها ويستربح بمالها الذي تأتي به.
فهذه المسألة فيها معنى الأمة, أي الأمة الكافرة، وسواء أسلمت أم لم تسلم, وهناك خلاف عريض بين العلماء في جواز وطء الأمة المجوسية أو الوثنية، أو الأمة التي من غير أهل الكتاب، وليس هنا مجال بحثه.
فمن لا يستطيع الصبر هل له أن ينكح الأمة غير المسلمة أم لا؟ ومدار هذه المسألة على حجية مفهوم المخالفة, فمن قال بحجية مفهوم المخالفة لم يجز للمرء أن يتزوج بالأمة غير المسلمة، وهم الجمهور، ومن قال بعدم حجية مفهوم المخالفة أجاز له أن يتزوجها وهم الأحناف.
أما الجمهور فاستدلوا على عدم الجواز بقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:25]، فهم يرون بأن الله قيد جواز الزواج من الأمة بشرطين اثنين في الآية: الشرط الأول في قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أي: لا يستطيع غنى أن يتزوج، فلو كان يستطيع أن يتزوج فلا يجوز له أن يطأ الأمة وهذا بالإجماع.
والشرط الثاني: في قوله تعالى: مِنْ فَتَيَاتِكُمُ [النساء:25]، فقوله: (فتياتكم) أضافها إلى المخاطبين، وهم مسلمون مؤمنون فكأنه يقول: لابد أن تكون على نفس ملتكم ودينكم، ثم أكدها حتى لا يحصل اللبس، فقال: (الْمُؤْمِنَاتِ) والمعنى: من فتياتكم المؤمنات اللاتي هن من ملتكم، ووصف الإماء بهذا الوصف جعل قيداً وشرطاً، ولأنهم يقولون بمفهوم المخالفة فقد بنوا عليه أحكاماً:
الحكم الأول: الذي يستطيع طولا لا يجوز له الزواج من الأمة.
الحكم الثاني وهو محل الخلاف بين العلماء: الذي لا يستطيع طولا ولم يجد الأمة المؤمنة فلا يجوز له أن يتزوجها، إذ أن مفهوم المخالفة في الآية: إن كن من غير فتياتكم وعلى غير ملتكم فلا يجوز لكم الزواج بهن؛ لأن المعنى المنطوق في الآية: الأمة المؤمنة يجوز الزواج منها, فكان مفهوم المخالفة المسكوت عنه: لا يجوز الزواج بالأمة غير المؤمنة.
وذكرنا أن الأحناف يقولون: يجوز للمرء أن يتزوج من الأمة الكتابية، ودليلهم عمومات الكتاب, فمنها:
أولاً: قوله تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3] فقوله: ما طاب لكم من النساء، يدل على العموم لما تحمله ما الوصولية من معنى العموم, وكما أن الألف واللام في قوله: (النساء) تفيد الاستغراق لكافة أفراد جنس النساء، والمعنى: كل النساء سواء كن كتابيات أو غير ذلك.
ثانياً: قول الله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24] فقوله: (ما وراء) يدل على العموم، إذ أن (ما) من الأسماء المبهمة التي تدل على العموم، والمعنى: كل ما وراء أولاءٍ فالزواج منهن حلال لكم، أما دليل الجمهور فهو ضعيف, ووجه الضعف أنهم يحتجون بمفهوم المخالفة وهذا المفهوم ليس بحجة.
ومن الأدلة أيضاً: فهم الصحابة رضي الله عنهم، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك عند قوله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101].
ومن الأدلة على حجية مفهوم المخالفة: أخذ أئمة اللغة كـابن سلام به، والشافعي كذلك وهو من أئمة اللغة، وقد قال بمفهوم المخالفة.
والدليل حديث: (إنما الماء من الماء) أي: لا يمكن الاغتسال إلا بالإنزال, فإذا لم يكن الإنزال فلا اغتسال فقلنا لهم: المفهوم حجة وبينا ذلك.
إذا علم أن الراجح هو قول الجمهور، وهو أنه لا يجوز أن يتزوج بالأمة الكتابية بدليل مفهوم المخالفة من قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [النساء:25] فليعلم كذلك أنه يخصص عموم قوله تعالى: مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3] وكأن مراد الله: فانكحوا ما طاب لكم من النساء الحرائر سواء كن كتابيات أو مؤمنات مسلمات، والإماء خاصة المسلمات دون الكتابيات , إذ أن مفهوم المخالفة من قوله: فتياتكم المؤمنات، هو أن الفتيات غير المؤمنات لا يجوز لكم النكاح منهن.
إذاً: فمفهوم المخالفة هذا يخصص عموم قول الله تعالى: مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ فهو عام مخصوص، والمراد به الحرائر المسلمات والحرائر الكتابيات والإماء المسلمات خاصة دون الإماء الكتابيات.
معلوم: أن النخيل جنسين ذكر وأنثى، فالذكور لا تثمر، ومهمتها إخراج الطلع الذي يؤخذ ثم يشق متاع الأنثى ويوضع فيه الطلع فيحدث اللقاح، وهو ما يسمى بـ:التأبير، ومن ثم تثمر الأنثى ولا تثمر إلا بذاك، فلو أن شخصاً يمتلك نخلاً ثم أبره وبعد ذلك بدا له أن يبيعه، فجاء مشتر ليشتري هذا الحائط، الذي فيه النخيل، فهل الثمر الذي تعب فيه البائع يكون له بعد الشراء أم يكون للمشتري؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين، ومدار الخلاف أيضا على مفهوم المخالفة، فمن قال بحجية مفهوم المخالفة وهم الجمهور يقولون: الثمرة للبائع إذا أبرت فإن لم تأبر فهي للمشتري، ومن لم يقل بحجية مفهوم المخالفة وهم الأحناف فيقولون: نتفق مع الجمهور في أنها بعدما أبرت تكون للبائع، ونخالفهم في أنها قبل أن تأبر فهي للبائع أيضاً.
علم أن الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة يقولون: الثمرة تكون للبائع وليست للمشتري، فينبغي أن يتفق البائع مع المشتري عند الجزاء، فيقول البائع للمشتري: عندما تثمر هذه النخلة فهي لي وليست لك، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: قد أبرت، فهذا وصف للنخل، أم نقول: لا مفهوم؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع) ووجه الدلالة من الحديث: أن مفهوم المخالفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع): أنها إذا بيعت ولم تؤبر فهي للمشتري، وليس للمشتري أن يستصحب الحكم فيحلق الحكم قبل التأبير بالحكم بعد التأبير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فصل في النزاع وقال: قد أبرت، فمفهوم المخالفة: إن لم تكن قد أبرت فإنها للمشتري.
معلوم أن الأحناف يقولون: الثمرة ليست للمشتري قبل التأبير، بل هي أيضا للبائع، ودليلهم: عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (من باع أرضا أو حائطا فثمرتها للبائع) ووجه الدلالة للأحناف: أنه لم يقيد بالتأبير هنا، فهو على الإطلاق، ينبغي للمطلق أن على إطلاقه حتى يأتي ما يقيده.
القول الراجح: هو قول الجمهور؛ لأن المقيد هو مفهوم المخالفة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قد أبرت، بمعنى أنها إن لم تؤبر فثمرتها للمشتري؛ تخصيصا لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: فثمرتها للبائع، إن صح الحديث.
فقوله: أحل الله البيع، منطوق صريح مطابق لحلية البيع، وكذا قوله: وحرم الربا، فإنه تصريح في تحريم الربا.
أما المنطوق غير الصريح: فإن دلالته على الحكم دلالة استلزام، ودلالة اللزوم منها ما هو من مقتضى اللفظ، ومنها ما هو بالإيماء، ومنها ما هو بالإشارة، وهي أقسام المنطوق غير الصريح.
ينقسم المنطوق غير الصريح إلى ثلاثة أقسام: الأول: دلالة الاقتضاء. الثاني دلالة الإيماء، الثالث: دلالة الإشارة.
أما ما يقتضيه اللفظ: فهو الذي يتوقف اللفظ على صحته عقلاً وشرعاً، مثاله: قول الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185] فقوله: ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر المعنى فيه غير مستقيم فلا بد من تقدير، والتقدير: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فأفطر فعدة من أيام أخر، أي: فهناك أيام أخرى عليه أن يصومها، فتقدير كلمة: فأفطر، هو معنى المقتضي أي: أن اللفظ يقتضي هذا التقدير، وإذا لم يكن ثمة تقدير هنا فسيظل الكلام غير صحيح شرعاً وعقلاً.
أما دلالة الإيماء -كما يسميها الأصوليون- فلا يتوقف صدق الكلام أو صحته شرعاً وعقلاً عليه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يومئ بأن هذا الحكم سببه هذا الفعل.
مثال ذلك: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في سنن أبي داوود بسند صحيح-: أنه (جاء رجل يمسك لحيته ويضرب وجهه ويقول: يا رسول الله! هلكت, فقال له: ما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في نهار رمضان, قال: اعتق رقبة) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم له أن يعتق رقبة يومئ أن حكمه عليه أن يعتق رقبة بسبب أنه وقع على أهله في نهار رمضان.
إذاً: فدلالة الإيماء: أن يومئ الشرع بحكم معلق على سبب، مثال ذلك أيضاً: قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ [المائدة:38]، فكأن القطع سببه السرقة, وكأن الشرع يومئ أن القطع لا يكون إلا بالسرقة.
فالمختلس لا يقطع، مع أنه اشترك مع السارق في أخذ المال؛ لأن الشرع أومأ بأن الحكم معلق على السارق، فغير السرقة حتى لو اتفقت معها على أخذ المال فلا تدخل تحت الحكم.
وجرياً على القاعدة التي ذكرناها -أي: أنه لا يتجرأ على التكفير إلا جريء- فإنه لا يكفر عيناً، وإنما يقال: عمله عمل كفر. فلما عرف ذلك اندهش الإمام أحمد وقال: يا إمام! ابنتي قالت فيك كذا وكذا، فقال الشافعي -حتى يزيل الدهشة عن الإمام وهذا هو الشاهد-: أما وقد أكلت كثيراً: فإني وجدت طعاما طيباً مباركا من الحلال فقلت: أكثر من الحلال يغنيني الله جل في علاه فأكثرت منه, وأما النوم كثيرا: فإني ما نمت لحظة من الليل، بل جلست على أريكتك هذه أفكر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (يا أبا عمير ما فعل النغير) فاستنبطت منه نيف ومائة مسألة. أو قال أكثر من مائة وعشرين مسألة, فاندهش الإمام أحمد وقال: هذه التي لا نستطيعها؛ لأن هذه محل فضل العلماء، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: نعوذ بالله من قضية وليس فيها أبو الحسن يريد علياً بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه؛ لشدة علمه، فقالوا لـعلي: خصك النبي بعلمه؟ فقال: والله ما خصنا النبي صلى الله عليه وسلم نحن أهل البيت بشيء، إلا فهما يؤتيه الله من يشاء في كتابه، فالفهم هو الذي يفصل بين عالم وآخر، فلا بد من الأصولي الذي يتعلم الأصول، ثم يتبعه بالتطبيق ويتدرب على المسائل العملية، فيحرر محل النزاع، ويدرك وجوه الاختلاف والترجيح.
يظهر أثر الخلاف جلياً في مسألة قراءة الفاتحة في الصلاة للمأموم، ومسألة الأكل والشرب ناسيا للصائم، ومسألة المتكلم في الصلاة, فكل هذه المسائل جلها نزاع، ومحله: الاختلاف في عموم المقتضى, قال رسول صلى الله عليه وسلم كما في السنن (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) فالمقتضى: رفع الإثم ورفع الحكم عند الجمهور, أما الأحناف فلا يوافقون على العموم.
ويظهر الخلاف جليا في مسألة الذي تكلم ناسيا أو مخطئا أو مكرها في الصلاة، كأن يصلي رجل فرأى حية أمامه، فقال كلمة تذهب بصلاته، كأن يقول: أدركوني.
أو حدث أن أباه فضل أخاه عليه، فوهبه شيئاً أثمن مما أعطاه، ثم ذهب ليصلي وفكره جائل فيما حدث من تفضيل أبيه لأخيه، ثم تحدث في الصلاة فقال: أبي فضل أخي عليّ، فبطلان صلاته وصحتها مما اختلف فيها العلماء، ومدار الخلاف مبني على الخلاف في عموم المقتضي، أي: هل يعم أم لا؟ وهل الرفع في الحديث رفع الإثم والحكم أم رفع الإثم فقط ويبقى الحكم؟
ولمزيد من الإيضاح نبين معنى رفع الإثم ورفع الحكم, فمعنى قولنا: رفع الإثم أي: أنه ليس بآثم؛ لأنه تكلم في الصلاة ناسياً، إذاً أنه من تكلم عامداً في الصلاة فقد أثم؛ لأنه فعل مبطلاً لها.
ومعنى قولنا: رفع الحكم أي: لا تلزمه إعادة الصلاة، والخلاف: هل يرفع الحكم أم لا يرفع؟ فهذا هو محل النزاع، وقد اتفق الجمهور مع الأحناف في رفع الإثم، واختلفوا في رفع الحكم، فقال الجمهور: يرفع الحكم، وكلامهم هو الصحيح؛ لعموم المقتضي، بمعنى: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) الأصل فيه: رفع الإثم ورفع الحكم، وعضدوا هذا المذهب بقرائن أخرى، وهذا من تنوع الأدلة؛ لقوة القول، فعضدوا هذا القول بحديث معاوية بن الحكم السلمي الذي تكلم في الصلاة عندما وجد آخر قد عطس فقال: الحمد لله. فقال له: يرحمك الله. قال معاوية: فوجدتهم يحدقون في البصر، فقلت: مالكم، ويح أمي ما فعلت, كل هذا في الصلاة، فضربوا على أفخاذهم كأنهم يسكتونه فسكت، فتكلم فكادوا يقتلونه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال (إن في الصلاة لشغلا، إن هذه الصلاة لا يصلح فيها من كلام الناس شيء) ثم علمهم، وقال معاوية : والله ما نهرني ولا كهرني، اللهم أرحمني ومحمداً ولا ترحم أحداً بعدنا.
ووجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل له: أعد الصلاة، فتبين أنه رفع عنه الإثم رفعت عنه الصلاة, أما الأحناف فقالوا: نقول برفع الإثم ولا نقول بعموم المقتضي، فلا يقولون برفع الحكم، واستدلوا على ذلك بأدلة، منها: حديث ابن مسعود عندما دخل على النبي فسلم عليه فلم يرد عليه السلام ونهاه عن الكلام في الصلاة، والأصل: أن مطلق النهي يقتضي الفساد، والدليل: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)، و(من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) يعني باطل، وهذا يدل على أن مطلق النهي يقتضي الفساد وهذا قول الأحناف.
والراجح والصحيح -هو قول الجمهور-: أن من تكلم ناسيا فقد رفع عنه الإثم ورفع عنه الحكم، والذي يعضد ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع معاوية فلم يقل له: أعد الصلاة, وهنا يقال: هل للأحناف أن يحتجوا بحديث المسيء صلاته؟ فقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارجع فصل فإنك لم تصل)؟
والجواب: ليس بحجة لهم؛ لأن محل النزاع: هو الكلام في الصلاة ناسياً، أما من ناحية الفرق فقد فرق الفقهاء بين فعل المأمورات وترك المحظورات، كما سنبينها إن شاء الله, والغرض المقصود هنا: أن المتكلم إن كان ناسياً أو مكرها أو مخطئا فصلاته صحيحة، ورفع عنه الإثم؛ بدلالة عموم المقتضي في حديث: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان).
القول الأول -هو قول الجمهور-: أنه يجب العمل بعموم المقتضي، فإذا قال الله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ فقد حرم الأكل والانتفاع بالبيع والشراء أو غيره، إلا ما دل الدليل على تخصيصه كالانتفاع بالإهاب بعد دبعه.
القول الثاني -وهو قول الأحناف-: وهو أن المسألة خاصة في الأكل فقط، وعموم المقتضي لا يقولون به. وإذا قالوا بغيره فيقولونه بدليل.
ووجه الدلالة في الحديث: قوله: (وما استكرهوا عليه)، فإن الإكراه مصرح به؛ فرفع الإثم ورفع الحكم عند الجمهور جرياً على العمل بعموم المقتضي، وخالف الأحناف جرياً على عدم العمل بعموم المقتضي، فكان مفاد قول الجمهور: أن الطلاق يقع؛ لعموم المقتضي، وكان مفاد قول الأحناف: أن الطلاق لا يقع؛ لأنهم لا يقولون بعموم المقتضي, وعضد الجمهور قولهم بمفهوم عموم المقتضي في حديث: (لا طلاق في إغلاق)ووجه الدلالة في الحديث: أن معنى (إغلاق): إما غمي على عقله فيهرف بما لا يعرف، وإما أنه قد أكره فتكلم بما لا يريد، وإما أنه مخطئ في نفس الأمر، فيتكلم بما لا يريد أن يتكلم به, وعلل الأحناف قولهم بأن طلاقه يقع: بقصد الطلاق، وذلك بقوله: هي طالق، وقد قال الله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229] وعضدوا قولهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد، الطلاق والإعتاق والنكاح) فقالوا: الهازل إذا طلق يقع طلاقه وهو لا يريد لفظ الطلاق، كما أن المكره كذلك لا يريد لفظ الطلاق، ويسمى عند الأصوليين: العلة.
أما الجمهور فقالوا: لا يقع طلاقه ابتداءً، ومن ثم فالعقد الثاني يفسخ، ولا يعد زناً للشبهة، وإنما يعطيها المهر لما استحل من فرجها، ولا بد أن ترجع للأول، ولكن الأول لا يجامعها إلا بعد أن يستبرئ رحمها, واستبراء الرحم حيضه واحدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تطأ حاملاً حتى تضع، ولا حائلاً حتى تحيض حيضه) والحيضة معناها: استبراء الرحم، واستبراؤء بحيضه واحدة، أما الأحناف فالطلاق عندهم يقع، والزواج الثاني صحيح, ودليل الأحناف القياس على الهازل، وعدم العمل بعموم المقتضي.
والراجح الصحيح: هو قول الجمهور، حاصله: أن الطلاق لا يقع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) إذ أن (رفع) في الأصل تدل على كمال الرفع، فتدل على رفع الإثم والحكم، ما لم يأت الدليل على خلاف ذلك، ونحن ندور مع الحديث حيث دار، وأيضاً: عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طلاق في إغلاق) و(لا طلاق) يعني: لا طلاق واقع.
أما قياس الأحناف: فإنه قياس فاسد الاعتبار؟ لأنه قد خالف نصاً، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طلاق في إغلاق).
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر