إسلام ويب

شرح لمعة الاعتقاد [11]للشيخ : خالد بن عبد الله المصلح

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مسائل الإيمان من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين أهل السنة والجماعة، وبين أهل الأهواء قديماً وحديثاً، فعلى المسلم أن يعلم قول أهل السنة والجماعة في هذا الباب؛ لأنه من أهم الأبواب، بل هو من صميم عقيدة المسلم. وكذلك يجب على المسلم الإيمان بكل ما جاء في كتاب الله، أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخبار الغيب، سواء أدرك معناه وعقله أم لم يدركه.

    1.   

    عقيدة أهل السنة في الإيمان والجواب على مخالفيهم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [والإيمان قول باللسان وعمل بالأركان وعقد بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان، قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، فجعل عبادة الله تعالى وإخلاص القلب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة كله من الدين.

    وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، فجعل القول والعمل من الإيمان.

    وقال تعالى: فَزَادَهُمْ إِيمَاناً [آل عمران:173] ، وقال: لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً [الفتح:4] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال برة أو خردلة أو ذرة من الإيمان) فجعله متفاضلاً ].

    تقدم الكلام على ما في هذا الفصل، وذكرنا أن الإيمان الذي ذكره المؤلف بقوله: والإيمان قول باللسان وعمل بالأركان وعقد بالجنان، هو عقد أهل السنة والجماعة في بيان معنى الإيمان، وأن لهم على ذلك عبارات متعددة، منها هذه العبارة، ومنها أن الإيمان قول وعمل، ومنها أن الإيمان قول وعمل ونية، كل هذا مما جاء عن سلف الأمة ومعناه متفق وإن اختلف لفظه.

    الإيمان قول واعتقاد وعمل

    وقول المؤلف رحمه الله: (والإيمان قول باللسان وعمل بالأركان وعقد بالجنان) فيه رد على أهل البدع فيما يتعلق بالإيمان، فإن المخالفين في الإيمان على طرق، أشدهم مخالفة الجهمية الذين يقولون: الإيمان هو معرفة القلب، وهذا قول جهم ومن أخذ بقوله، ومعنى هذا: أنه لا يحتاج إلى قول، ولا يحتاج إلى عمل، ولا يحتاج إلى إقرار بالقلب، بل يكفي فيه عندهم مجرد المعرفة.

    والقول الثاني: هو قول مرجئة الفقهاء الذين قالوا: الإيمان قول باللسان وعقد بالجنان، فأخروا العمل عن مسمى الإيمان، وهؤلاء يسمون بمرجئة الفقهاء، وهم الذين عابهم سلف الأمة وذموا قولهم، فإن هذا القول متقدم على قول الجهمية، أي: سابق لقول الجهمية الذين قالوا: إن الإيمان مجرد معرفة القلب، فما جاء من ذم السلف للإرجاء إنما هو ذم لما أحدثه مرجئة الفقهاء من تأخير العمل وإخراجه عن مسمى الإيمان.

    أول من قال بالإرجاء من الفقهاء

    وقد تزعم هذا القول وتكلم به جماعة من الفقهاء من أوائلهم حماد بن أبي سليمان ، وممن نسب إليه الأولية في هذا القول ذر بن عبد الله الهمداني ، وهو من العباد النساك، ونسب هذا القول إلى غير هذين، لكنه اشتهر في فقهاء الكوفة وهم من كان على طريقة أبي حنيفة رحمه الله؛ ولذلك ينسب هذا القول إلى الحنفية؛ لأنه كثر فيهم.

    وقد اختلف العلماء هل هو قول أبي حنيفة أم لا؟ فمنهم من قال: إنه قول أبي حنيفة ، وهو المشهور عند نقلة الأقوال، ومنهم من قال: إن أبا حنيفة قال به ثم رجع عنه، وليس هناك في كلام منقول عنه ما يشهد لقوله به أو رجوعه عنه، والذي يظهر أنه جار على ما كان عليه السلف من أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، أي: قول باللسان وعمل بالأركان وعقد بالجنان.

    وأما ما حدث من مرجئة الفقهاء فإنه قول انتشر في الحنفية فنسب إلى مذهب أبي حنيفة ، وهو قول مخالف لقول أهل السنة والجماعة.

    وجه الخلاف بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء

    ووجه المخالفة بين قول مرجئة الفقهاء وبين قول أهل السنة والجماعة، هو في إخراج العمل، فالمرجئة لم يدخلوا العمل في الإيمان، وقد اضطرب قولهم، نظراً لكون هذا القول فيه نوع إشكال في العمل -عمل القلب- هل هو من الإيمان أم لا؟ فبعضهم قال: عمل القلب من الإيمان، وعلى هذا يلزمهم أن يدخلوا عمل الجوارح، وبعضهم أخرج عمل القلب عن مسمى الإيمان، يقول شيخ الإسلام يرحمه الله: ويلزمهم على هذا أن يوافقوا جهم في قوله: إن الإيمان هو مجرد المعرفة.

    الإيمان يزيد وينقص

    والخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء خلاف حقيقي وليس خلافاً لفظياً كما ذكر ذلك ابن أبي العز رحمه الله في شرحه للطحاوية، فالخلاف حقيقي يترتب عليه خلاف معنوي، فإن جمهور العلماء وأهل السنة والجماعة يقولون: إن الصلاة والزكاة -وهما رأس العمل- من الإيمان، ومرجئة الفقهاء يقولون: إنهما ليسا من الإيمان.

    ويرد عليهم بقول الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، فجعل الله ذلك من الدين، فدل ذلك على أنها داخلة في الإيمان وأنها من الإيمان، فعلم بهذا أن الخلاف الواقع بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء هو خلاف حقيقي، وإنما قال من قال: بأنه خلاف لفظي بناءً على أن عمل القلب هل يدخل في الإيمان أو لا؟ وهل يؤثر في زيادة الإيمان أو لا؟

    وقد ذكر الطحاوي رحمه الله في متنه ما يدل على أن هذا القول مضطرب، فقال رحمه الله: (الإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان)، فلم يذكر العمل، ثم قال: (وجميع ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء)، ثم قال: (والتفاضل بينهم في الخشية)، فجعل الإيمان متفاضلاً حيث قال: (والتفاضل بينهم في الخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى)، هكذا قال رحمه الله في متن الطحاوية، وهذا يدلك على أن هذا القول فيه من الاضطراب ما فيه، إذ كيف يقول: الإيمان واحد، ثم يقول: وأهله في أصله سواء؛ لأنه لو كان الإيمان واحداً لم يكن أهله في أصله سواء؛ لأن إيحاءه بأن له أصلاً وفروعاً يدل على أن العمل داخل فيه.

    ثم قوله: (والتفاضل بينهم في الخشية والتقوى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى) يدل على أنه يثبت تفاضلاً، ومرجئة الفقهاء على أن الإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص بناءً على أن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان، والزيادة والنقصان إنما هي في الأعمال.

    فهذا القول الذي ذكره المؤلف رحمه الله في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة قد انتظم في الرد على هذه الطوائف كلها، سواء الجهمية أو المرجئة -مرجئة الفقهاء- أو الكرامية، ولم نذكر قول الكرامية لأنه قول مندثر لا قائل به، فهم يقولون: الإيمان قول اللسان فقط.

    والصحيح هو: مادلت عليه النصوص من أن الإيمان قول باللسان، وعقد بالجنان، وعمل بالجوارح، فترتب على هذا الاعتقاد اعتقاد أن الإيمان يزيد وينقص، ولذلك قال: (يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية)، وهذا يخالف فيه كل الفرق التي خالفت في حقيقة الإيمان، فيخالف فيه الجهمية، ويخالف فيه مرجئة الفقهاء، ويخالف فيه الكرامية، ويخالف فيه الخوارج والمعتزلة؛ لأن الخوارج والمعتزلة وإن كانوا يقولون كما يقول أهل السنة والجماعة: الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان، وعقد بالجنان، ولكنهم يخالفون في زيادة الإيمان ونقصانه، ويقولون: الإيمان شيء واحد، إما أن يثبت جميعاً وإما أن ينتفي جميعاً، هذا هو قولهم فيما يتعلق بالإيمان.

    قال: (قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5] ) وهذا فيه دليل على ما تقدم من أن الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، وبين ذلك المؤلف رحمه الله فيما قال: (فجعل عبادة الله وإخلاص القلب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة كله من الدين، وقال صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) فجعل القول والعمل من الإيمان، وقال: فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً [التوبة:124]).

    وبهذا فرغ المؤلف من الاستدلال لبيان حقيقة الإيمان وأنه قول باللسان، وعمل بالأركان، وعقد بالجنان، ثم انتقل إلى دليل الزيادة والنقصان، فذكر قوله تعالى: فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً [التوبة:124].

    ثم قال: (وقال تعالى: لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً [الفتح:4] وقال صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه مثقال برة أو خردلة أو ذرة من الإيمان) فجعله متفاضلاً)، وهذا دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، أما الزيادة فبالنص، وأما النقصان فبالمفهوم، كما قال سفيان بن عيينة لما سئل: أينقص الإيمان؟ قال: (إنه لا يزيد شيء إلا وينقص).

    1.   

    هل يدخل جنس العمل في مسمى الإيمان

    ثم اعلم أن من المسائل التي يكثر الكلام فيها مسألة دخول جنس العمل في مسمى الإيمان، يعني: إذا لم يعمل الإنسان شيئاً بالكلية وإنما قال بلسانه: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وأقر بقلبه بالألوهية لله، وبالرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم، فهل يكفي هذا في الإسلام وتحقق الإيمان؟

    الجواب: لا يكفي، وقد خالف في هذا مرجئة الفقهاء، وتبعهم بعض من تبعهم ممن ينتسب إلى السلف وقال: إن هذا هو اعتقاد السلف، وهذا غلط وخطأ وجناية على السلف فيما قالوا، فليس في كلام السلف شيء يدل على ما ذكر من أن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان، بل كلامهم واضح وجلي في خلاف هذا وأن العمل من الإيمان.

    وقول من يقول: إن تخلف جنس العمل لا يؤثر قول محدث تكذبه الأدلة من الكتاب والسنة، ويكذبه ما نقل عن سلف الأمة من أن الإيمان قول باللسان، وعقد بالجنان، وعمل بالأركان.

    ومن قال هذا القول إنما تأثر بقول من قال من مرجئة الفقهاء: إن العمل ليس من الإيمان، ولا فرق بين هذا وذاك في الحقيقة، وإذا تأمل الإنسان لم يجد فرقاً بين من يخرج جنس العمل عن مسمى الإيمان وبين من يقول: إن الإيمان قول باللسان، وإقرار بالقلب كما هو قول مرجئة الفقهاء.

    والمشكلة أن الذين يقولون بهذا القول إنما قالوا به نتيجة الفرار من التكفير في بعض الأعمال، وهذا هو منشأ قولهم، فمنشأ قول مرجئة الفقهاء إنما كان ردة فعل للخوارج الذين كانوا يكفرون الأئمة ويكفرون المسلمين بكبائر الذنوب.

    ولما كان الإيمان عندهم أصلاً واحداً أشكل عليهم ما يقوله الخوارج من أنه إذا كان الإيمان شيئاً واحداً فإما أن يثبت جميعاً أو أن ينتفي جميعاً؛ فقال مرجئة الفقهاء: إن الإيمان شيء واحد إما أن يثبت جميعاً وإما أن ينتفي جميعاً وليس منه العمل، فأخرجوا العمل حتى يسلم لهم بقاء الإيمان فيما إذا خالف الإنسان بسرقة أو زنا أو شرب خمر أو بغير ذلك من الأعمال المحرمة التي نفى الله ورسوله الإيمان عن فاعلها، فكان أول قولهم ردة فعل ثم تكوَّن بعد ذلك هذا المذهب، وهو مذهب المرجئة.

    وأما من ينصر هذا وينسبه إلى السلف من المتأخرين، فكذلك تكرر الأمر، فهناك -مثلاً- من يكفر بترك الصلاة، ومن يكفر بالحكم بغير ما أنزل الله، فلما رأى هؤلاء أن التكفير بهذه المسائل خلافي وسعوا الخلاف وجعلوا المسألة لا تتعلق بهذين العملين وبالتكفير فيهما أو بأشباههما، وإنما قالوا: لا نكفر بالعمل إلا باستحلال أو بانتفاء عقد جنان، أو بترك القول بالشهادة، فوقع فيما وقعوا فيه سلفهم من مرجئة الفقهاء.

    فالواجب على المؤمن أن يتحرى في عقيدته ما دل عليه الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة، وألا يكون عقده ودينه عرضة لردود الأفعال، فإن من كان كذلك يوشك أن يرد الباطل بالباطل، والواجب على المؤمن أن يرد الباطل بالحق لا أن يرده بباطل مثله، فإنه لا ينفع نفسه ولا يرد الشر عن المسلمين برد الباطل بالباطل، وهذه مسألة قد ألفت فيها مؤلفات، وكتب فيها كتب وكتيبات، وإنما أحببنا أن نشير إلى بعض ما في هذه المسألة، ومن طلب المزيد فليرجع إلى ما ذكره العلماء في ذلك.

    1.   

    وجوب الإيمان بكل غيب أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم

    قال المؤلف رحمه الله: [ ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا، نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه، ولم نطلع على حقيقة معناه، مثل حديث الإسراء والمعراج، وكان يقظة لا مناماً، فإن قريشاً أنكرته وأكبرته، ولم تنكر المنامات، ومن ذلك: أن ملك الموت لما جاء إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه لطمه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه، فرد عليه عينه ].

    ابتدأ المؤلف رحمه الله هذا الفصل بوجوب الإيمان بالغيب، وبكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون في الدنيا ومما يكون في الآخرة.

    قوله رحمه الله: (ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه، فيما شاهدناه أو غاب عنا) هذا الإيمان يسمى (الإيمان المجمل) الذي يجب أن يقر في قلب كل مؤمن، وهو أن يعتقد ما قاله صلى الله عليه وسلم ويؤمن به، ويصدق به، وأنه حق على حقيقته، هذا هو الواجب على أهل الإيمان، سواء علموه أو لم يعلموه، أدركوه أو لم يدركوه، ظهر لهم أو خفي، من عالم الغيب أو من عالم الشهادة، فيجب أن يؤمنوا بكل ذلك.

    من خصائص المؤمن الإيمان بالغيب كله

    ومن خصائص أهل الإسلام وأهل الإيمان أنهم يؤمنون بالغيب، ولذلك قال تعالى في أول صفة ذكرها لأهل الإيمان في كتابه: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة [البقرة:2-3]، فأول صفة ذكرها لعباده المتقين الذين يهتدون بالقرآن أنهم يؤمنون بالغيب، وهو الذي يميز بين أهل التقوى والدين والإيمان، وبين أهل الحجود والكفر والإعراض، فيجب على المؤمن أن يؤمن بكل ما أخبر به تعالى في كتابه، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم إيماناً جازماً لا يدخله ريب ولا شك.

    وهذا هو الإيمان المجمل، ولذلك قال: (يجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم)، أي: سواء علمناه أو لم نعلم، بلغنا أو لم يبلغنا، فيجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (وصح به النقل عنه)، أي: ما أخبر به في الكتاب، أو صح به النقل عنه، فالأول يشمل الكتاب والسنة، وأما قوله: (أو ما صح به النقل) فهذا يختص بالسنة؛ لأن النقل إنما تطلب صحته فيما كان من خبر النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف خبر الله عز وجل.

    قوله: (فيما شاهدناه)، أي: فيما أدركناه، ووقع عليه بصرنا وهو من عالم الشهادة.

    وقوله: (أو غاب عنا) يعني: مالم ندركه ولم نشاهده.

    قوله: (نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ماعقلناه وجهلناه):

    ما عقلناه: أي: ما أدركته عقولنا وفهمته، وما لم تدركه عقولنا ولم تفهمه، فالواجب الإيمان بجميع هذا، ولا يوقف الإنسان إيمانه بما أخبر الله به ورسوله على إدراك العقل وفهمه، فإن العقل قد يحار في إدراك خبر من الأخبار أو إدراك أمر من الأمور، لكنه لا يجوز له أن يتوقف في إيمانه بذلك، بل يجب عليه أن يؤمن بما أخبر الله به ورسوله.

    والشريعة تأتي بما يحار فيه الإنسان، لكنها لا تأتي بما تحيله العقول، أي: تتحير في إدراكه وكيفية وحقيقته، فلا يمكن أن تأتي الشريعة بما تحيله العقول، أي: بما تمنعه العقول وتقول إنه مستحيل. فيجب الإيمان بما أخبرت به الشريعة، سواء أدركنا ذلك بعقولنا أم لم ندركه، يعني: أدركنا حقيقته بعقولنا أو لم ندرك ذلك.

    وجوب الإيمان بالإسراء والمعراج

    يقول رحمه الله: (ولم نطلع على حقيقته معناه)، ثم مثل لذلك فقال: (مثل حديث الإسراء والمعراج).

    والإسراء: هو انتقال النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، كما قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1]، فأسرى الله عز وجل برسوله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، هذا هو الإسراء، وقد أخبر به عز وجل في كتابه وسبح نفسه عليه، فدل ذلك على أنه من عظيم قدرته، وأنه دال على عظيم صفاته وكمال قوته جل وعلا.

    وقوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء:1] أي: ليرى ويشهد آياتنا الدالة على صدق خبرنا، وقد وقع ذلك له صلى الله عليه وسلم.

    أما المعراج فجاء ذكره في القرآن الكريم في سورة النجم في قوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [النجم:1-9]، وكل هذا كان في تلك الليلة، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى [النجم:10-12] أي: أتجادلونه وتناقشونه على ما رأى من تلك الآيات العظيمة الكبيرة التي تجلت له وشاهدها في تلك الليلة في معراجه؟!

    فالمعراج ثابت بالقرآن أيضاً، وثبوته في السنة لا مجال لإنكاره ولا شك فيه ولا ريب، فإن السنة قد دلت على ذلك دلالة واضحة جلية يدركها كل عقل مؤمن وقلب سليم، ولكن هل نحن ندرك كيف كان ذلك؟

    الجواب: لا ندرك كيفية ذلك؛ لأن إدراك الكيفيات أمر زائد على التصديق بالخبر، فنحن نصدق بالخبر لكننا لا ندرك كيفية ذلك، ولذلك مثل به المؤلف على الأمور التي يجب الإيمان بها وإن كنا لا نعقل معناها، لأنا ولم نطلع ولم نشاهد كيف أسري به صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به من المسجد الأقصى إلى سابع سماء، ثم عاد في ليلة واحدة، فكل هذا جرى له صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة!

    بيان أن الإسراء كان يقظة لا مناماً، وكان بالروح والجسد

    يقول رحمه الله: (وكان يقظة لا مناماً)، وهذا عليه جمهور أهل العلم، ودل عليه كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن الإسراء والمعراج كانا بالجسد والروح لا بالروح وحدها كما يقوله من يقوله، بل كان بهما جميعاً كما دلت على ذلك النصوص، وهو ظاهر كتاب الله وظاهر سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    موقف قريش من الإسراء والمعراج

    قوله: (فإن قريشاً أنكرته وأكبرته):

    أي: أنكرت الإسراء والمعراج وأكبرته، وعدته من أكبر دلائل كذب النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك فرحوا به وشنعوا على النبي صلى الله عليه وسلم فيه؛ حتى إن بعض أهل الإسلام ممن أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ارتد بسبب ما وقع في قلبه من شك وريب وشبهة من خبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان على رأس من أسلم أبو بكر رضي الله عنه، لكنه قال لما قالوا له ذلك: (إن كان قال ذلك فهو صادق، فإني أصدقه في أعظم من ذلك، أصدقه في خبر السماء الذي يأتيه في أي ساعة من ليل أو نهار).

    ثم قال: (ولم تنكر المنامات)، أي: لو كان الإسراء مناماً لما كان هناك وجه لإنكار قريش؛ لأن قريشاً لا تنكر المنامات، وإنما أنكرت على النبي صلى الله عليه وسلم وجادلت في الإسراء الذي كان بالروح والجسد لا بالروح فقط.

    مجيء ملك الموت إلى موسى عليه السلام

    قال: (ومن ذلك)، أي: مما يجب التصديق به وإن لم ندرك حقيقته ولم نعقل كيفيته ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم (من أن ملك الموت لما جاء إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه لطمه ففقأ عينه فرجع إلى ربه فرد إليه عينه).

    وهذا الخبر جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله بعث ملك الموت إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه، فجاءه فقال له: إن الله أمرني بقبض روحك، فلطمه موسى ففقأ عينه، فرجع ملك الموت إلى الله جل وعلا وقال: إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت، فرد الله عز وجل على الملك عينه، وأمره بأن يذهب إلى موسى وأن يضع يده على جلد ثور فما وقع تحت يده من الشعر فله به سنوات من العمر..) الحديث.

    والشاهد من هذا الحديث هو ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من فقء عين الملك، فإن هذا مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وقد لا يدركه كثير من الناس، فعدم إدراكهم له وعدم تصورهم لذلك لا يعني أنه يسوغ لهم أن ينكروه وأن يردوه، بل الواجب عليهم أن يؤمنوا به ويقبلوه.

    وهذا مثال آخر ذكره المؤلف لما يجب الإيمان به مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وصح به النقل مما غاب عنا ولم نعلم حقيقته وكيفيته. والله أعلم.

    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755978573