وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
وها نحن مع سورة الذاريات المكية، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوة الآيات، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [الذاريات:24-30].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! لا تنسوا أن السور المكية تعمل على إيجاد العقيدة الربانية السليمة الصحيحة التي يصبح صاحبها حياً كامل الحياة يسمع ويبصر، يعطي ويأخذ، وفاقدها ميت لا يؤمر بصلاة ولا بزكاة لا بالصيام ولا بالرباط.
وأعظم أركان هذه العقيدة: التوحيد بأن يُعبد الله وحده، وإثبات النبوة والرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالبعث الآخر بالدار الآخرة.
وها هو تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [الذاريات:24] فلو لم يكن محمد رسول الله فمن أين له أن يخاطبه الله؟ فكيف يصرون على تكذيب نبوته ورسالته، ويقولون: ساحر وكذاب، والله يخاطبه فيقول: هَلْ [الذاريات:24] بمعنى: قد أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [الذاريات:24]؟ وهل عاش الرسول صلى الله عليه وسلم على عهد إبراهيم؟ هل عرف إبراهيم؟ بينهما ثلاثة آلاف سنة أو أربعة آلاف سنة، فلولا أنه يتلقاه وحياً من الله لما كان يتكلم بهذا الكلام أبداً.
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [الذاريات:24] من هم المكرمون؟ ثلاثة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، المشهور أنهم ثلاثة، ومن أهل العلم من يقول: كانوا تسعة، هؤلاء الضيوف أكرمهم إبراهيم بعدما أكرمهم رب العالمين، فهم مكرمون من الله وأكرمهم إبراهيم، وستعلمون كيف أكرمهم.
فرد عليهم بقوله: سلام، وهنا جاء الإسلام وجعل السلام سنة، ما من مؤمن يمر بمؤمن وهو جالس إلا ويقول: السلام عليكم. ويجب أن يرد عليه قائلاً: وعليكم السلام، وإن زاد: ورحمة الله وبركاته؛ فهو أفضل.
والقاعدة الفقهية التي ما ننساها: أن السلام سنة والرد واجب، إن سلمت أثبت وأجرت، وإن رددت أسقطت واجباً وأثبت، وإذا ما رددت أثمت، تركت واجباً فأنت آثم.
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ [الذاريات:25] أنتم قوم منكرون ما نعرفكم، ما أنتم من أهل بلادنا، ولا عرفنا مثلكم، وهو الواقع، لكنهم في صورة رجال حسان عظام لا في صورة ملائكة، فجبريل يسد ما بين السماء والأرض بأجنحته، لكن في صورة بشر من خير البشر وأحسنهم، فلم ير مثلهم، فقال: قوم منكرون.
وقام بواجب الضيافة، نزلوا بيته ضيوفاً عليه فلا بد أن يستضيفهم، إذاً: فماذا قال تعالى؟
فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26] ذبح عجلاً من أولاد البقر وسلخه ونظفه وشواه، وقدمه لحماً مشوياً، ونعمت الضيافة هذه، ومن هنا فالمسلمون مؤمنون بأن الضيافة واجبة؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إكرام الضيف واجب )، من الإيمان إكرام الضيف، لا سيما عندما كانت لا توجد في المدينة مطاعم ولا منازل ينزلونها، فلا بد أن يأتيك الرجل فيستضيفك فتضيفه ثلاثة أيام، بعد ذلك لا حرج، من الإيمان إكرام الضيف، تكرمه بما تستطيعه، وها هو ذا إبراهيم سن هذه السنة وقررها حفيده المصطفى صلى الله عليه وسلم: ( إكرام الضيف واجب ).
فتكلم أحدهم -ولعله جبريل- فقال: إنا لا نأكل طعاماً إلا بحقه، قال: كلوه بحقه، قالوا: فما حقه؟ قال: أن تسموا الله عند أكله، وتحمدوا الله عند الفراغ من أكله. وهذه سنة عندنا إلى يوم الدين، إذا بدأت الأكل فابدأ بقولك: باسم الله، وإذا فرغت -شبعت أو لم تشبع- فقل: الحمد لله.
قال: حقه أن تذكروا اسم الله عند بدئه، وأن تحمدوا الله عند الفراغ منه. فالتفت جبريل إلى ميكائيل وقال: حق للرجل أن يتخذه ربه خليلاً! هذه جائزة تعدل جوائز الدنيا كلها، جبريل يقول لإسرافيل أو لميكائيل: حق لهذا الرجل أن يتخذه ربه خليلاً، أليس إبراهيم خليل الرحمن؟ كيف استحق هذه الخلة ووصل إليها؟ بهذه المراتب السامية، بهذه المقامات العالية، ومن بينها أنه بنى البيت الحرام الكعبة، أعظم من ذلك أنه أراد ذبح إسماعيل بأمر الله إلا أن الله منع السكين من الذبح فما مات.
وهجرته من أرض العراق إلى فلسطين هجرة في سبيل الله، وهكذا، ما اتخذه ربه خليلاً إلا وقد استوجب مقام الخلة الإلهية.
قَالُوا لا تَخَفْ [الذاريات:28]، شاهدوا خوفه، إما ارتعدت فرائصه أو تغير لسانه أو وجهه، قَالُوا لا تَخَفْ [الذاريات:28] ما جئنا لنؤذيك أو نضربك أو نقتلك أو لنسلب مالك، لا تخف.
قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات:28] هذه بشرى عظيمة، فهنيئاً لإبراهيم وسارة .
امرأته سارة العراقية بلغت من العمر تسعين سنة وهي عقيم ما تلد أبداً، وإبراهيم تجاوز المائة، وهذا الولد كان بعد إسماعيل، إسماعيل ابن هاجر المصرية القبطية، فمضت فترة من الزمان وبشر الله إبراهيم بهذا الغلام العليم وهو إسحاق أبو يعقوب، قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات:28] أي: ذو علم، وكيف لا وهو إسحاق نبي الله ورسوله؟!
وهنا فضيلة العلم، فولد عليم أفضل من عشرين ولد جاهل، فللعلم درجته ومنزلته العالية، فذو العلم ما يؤذي أباه أبداً ولا يضره، بل ينفعه حياً وميتاً، بخلاف الجاهل.
قال تعالى: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ [الذاريات:29]، الصرة هي قولها: آه بصوت عال، والصك هو الضرب، فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ [الذاريات:29] أي: هي عجوز عَقِيمٌ [الذاريات:29]، كيف تبشر بالولد؟ من أين يكون هذا؟ فبم أجابها الملائكة؟
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: تقرير النبوة المحمدية ].
من هداية هذه الآيات التي تدارسناها: تقرير النبوة المحمدية، والله! لو لم يكن رسول الله حقاً وصدقاً لما استطاع أن يقول هذا القول، أمي لا يقرأ ولا يكتب بلغ الأربعين سنة، فمن أين له أن يقص هذه القصص؟ مستحيل، فهذه الآيات كلها تشهد أن محمداً رسول الله.
[ ثانياً: فضيلة إبراهيم أبي الأنبياء وإمام الموحدين ].
إبراهيم عليه السلام تجلت فضيلته، نزل عليه ملائكة السماء واستضافهم وقدم لهم الطعام وبشروه بالغلام الحليم، أي كرامة أعظم من هذه الكرامة؟
[ ثالثاً: وجوب إكرام الضيف ].
فمن استضافه مؤمن وقال: استضفتك يا فلان فضيفني؛ وجب عليه أن يضيفه، ويقدم له ما يملكه من طعام وشراب، والمدة حددها الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام، وما فوقها فلا ضيافة.
[ رابعاً: الخوف الفطري عند وجود أسبابه لا يقدح في العقيدة ولا يعد شركاً ].
من هداية الآيات: أن الخوف الغريزي الفطري الطبيعي لا يتنافى مع التوحيد والإيمان، ها هو ذا إبراهيم خاف حين أبوا أن يأكلوا وهم ثلاثة رجال أقوياء.
فالخوف الطبيعي ما يتنافى مع العقيدة أبداً، ولا تقل: كيف تخاف وأنت مؤمن؟ لو تمر بين يديك عقرب تخافها ولا حرج، ولا يتنافى مع التوحيد؛ لأن إبراهيم خاف، هذا الخوف طبيعي ما يضر ولا يتنافى مع معتقده.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر