الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
ذكرنا في الحديث السابق قول الله سبحانه لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:50]، فخص الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بأحكام منها ما جاء في هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم إن وهبت امرأة نفسها له فمن حقه أن يتزوجها صلوات الله وسلامه عليه.
وذكرنا أن هذا ليس الحكم الوحيد الذي يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل هناك أحكام اختصت به في الفرائض وفي المحرمات، فحرم عليه أشياء أحلها الله عز وجل لغيره، ولكن تشريفاً وتكريماً له صلى الله عليه وسلم حرمها الله عز وجل عليه كأخذ الزكاة، فلا يحل له أن يأكل من الزكاة ولا أن يأخذ صدقة صلوات الله وسلامه عليه، مهما كان نوع الصدقة، فليس له أن يأكل ولا حتى تمرة من تمر الصدقة.
ولذلك لما وجد تمرة من تمر الصدقة في فم الحسن أخرجها من فمه وقال: (كخ كخ! أما علمت أنا لا نأكل الصدقة!) فمنع الصبي الصغير من أكل الزكاة مع أنه ليس مكلفاً، ولكن ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم آل بيته أنه لا يحل للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لأهل بيته أن يأكلوا من الصدقة.
كذلك امرأة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم فلما جاء ليدخل بها بسط يده إليها فإذا بالمرأة تستنكف وتستكبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر أبا أسيد أن يرجعها لأهلها وقال: (متعها برازقيين وأرجعها إلى أهلها)، وكانت قد قالت له: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة! تقول هذا للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان جزاؤها أنها لا تستحق أن تكون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فظلت تندب حظها حتى ماتت.
فهذه المرأة بعد ذلك علمت أنها فرطت في أمر عظيم وشرف عظيم، وهو أن تكون زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم.
ومارية القبطية لم تكن زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كانت أم ولد ثم أسلمت، وهي من أهل مصر، وأهل مصر كان يطلق عليهم أقباط، أرسلها المقوقس عظيم مصر هدية للنبي صلى الله عليه وسلم هي وأختها سيرين ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم واحدة وأعطى حسان بن ثابت الأخرى، فكانت عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان له منها إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم وعليه السلام.
ويوجد فرق بين الأمة والزوجة، الأمة ملك يمين يملكها الإنسان بأن يشتريها أو توهب له، أما الزوجة فلا تشترى، بل يخطبها الرجل من أهلها، فشرفت بذلك لأنها حرة، والأخرى أمة تباع وتشترى.
وهاجر أم إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام كانت أمة لإبراهيم، بخلاف سارة فهي زوجة لإبراهيم، وهاجر كانت أمة تملكها سارة أهداها لـسارة ملك مصر الذي أراد أن يأخذ سارة من إبراهيم، فسأله: من هذه؟ قال: أختي، خاف أن يقول: زوجتي فيقتله ويأخذها فقال: أختي!
فأخذها منه وأراد أن يأتيها فدعا إبراهيم ربه ودعت سارة ربها فأنقذها الله عز وجل من الرجل وشلت يده وسقط ولم يقدر أن يقوم، وكان يصرع كلما أراد أن يمسها، ثم قال: إنما جئتموني بشيطان، وأرسلها إلى إبراهيم وأهدى لها أمة هدية، وهي هاجر ، فـهاجر هي من أهل مصر.
فـسارة أخذت هاجر ثم وهبتها لإبراهيم، فكانت أمة لإبراهيم وليست زوجة له، وكثير من الناس حتى بعض المشايخ لا يفرق بين الأمة أم الولد وبين الزوجة، فيقول: هاجر زوجة إبراهيم. وهي لم تكن زوجة له، وإنما كانت سرية وأمة لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
والزوجة ليس للرجل أن يتزوج ويتركها في مكان وينصرف عنها، الزوجة لها حقوق شرعية، إذا كان يريد أن يتركها فليطلقها ولا يتركها في مكان وينصرف عنها، أما الأمة فيجوز له ذلك، وقد أمر الله عز وجل إبراهيم أن يأخذ هاجر أم إسماعيل ويتركها في مكة في القصة العظيمة المعروفة.
فـسارة كانت زوجة وأما هاجر فلم تكن زوجة، بل كانت أم ولد لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، كما كانت مارية القبطية أم ولد للنبي صلى الله عليه وسلم، فولدت له إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفي ولم يبلغ العامين، وتوفي قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأشهر قليلة.
والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجوز له أن يطأ الكتابيات بملك اليمين، ومارية كانت كتابية ثم أسلمت عند النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا يجوز أن يتزوج صلى الله عليه وسلم بامرأة كتابية يهودية أو نصرانية، حتى لا تكون أم المؤمنين كافرة يهودية أو نصرانية.
وإذا تزوج الرجل الحر الأمة ولم يشترط على سيدها أن الأولاد يكونون أحراراً فسيصير الأولاد عبيداً؛ لذلك منع المسلمون من الزواج بالإماء إلا بشروط، وضيق عليهم في ذلك حتى لا يتسع الأمر فيكون أولاد المسلمين عبيداً، فمنع الله عز وجل من نكاح الإماء إلا أن يكون الإنسان فقيراً ويخاف على نفسه العنت، وبعد أن رخص الله قال عز وجل: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [النساء:25].
لكن من وطأ بملك اليمين فأولاده منها أحرار؛ لأنه اشتراها فهي ملكه، فإذا توفي صارت حرة يعتقها أولادها، ولا يجوز لهم أن يملكوها.
ولا يشكل على ذلك أنه كتب مرة اسمه، فأي إنسان لا يكتب قد يكتب اسمه خاصة إذا رآه كثيراً، والنبي صلى الله عليه وسلم كتب مرة واحدة، وكانت كأنها معجزة من الله عز وجل له، وذلك في الحديبية عندما عقد الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، وكتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه الصحيفة، فلما كتب: (محمد رسول الله) قال سهيل بن عمرو للنبي صلى الله عليه وسلم: لو نعلم أنك رسول الله لاتبعناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لـعلي : (امح رسول الله واكتب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فرفض
فلو كان يقرأ ويكتب لقالوا: ذهب وتعلم من أهل الكتاب، وجاء يكتب لنا كلامهم، ويقول لنا: هذا القرآن من عند الله؛ فلذلك حفظه الله عز وجل، فلم يطلع على صحيفة قبل ذلك، ولم يقرأ التوراة، ولم يقرأ الإنجيل، ولم يقرأ أساطير الأولين، وكل الناس يعرفون ذلك عنه صلوات الله وسلامه عليه، فكانت معجزة له صلى الله عليه وسلم.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فمنع من الشعر قدراً، بل لعله إذا أراد أن ينشد شعر بعض الناس يبدل شيئاً مكان شيء، فكان من يسمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم يقول: نشهد أنك رسول الله.
قال تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ [يس:69]، فمثلاً قال بعض المشركين من المؤلفة قلوبهم للنبي صلى الله عليه وسلم:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع
فهذا الشعر موزون له نغمة الوزن، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: أأنت الذي تقول:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة
فضحك الناس وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: بل يقول:
بين عيينة والأقرع ، فصدق الله إذ يقول: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ [يس:69] مع أن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يقولون الشعر، فهذا عمه أبو طالب قال قصيدة عظيمة في مدح النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قال شعراً وغيرهما، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم منع من الكلام بالشعر.
والله ذكر الشعراء فقال عنهم: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا [الشعراء:224-227]، فالذين يقولون الشعر من المؤمنين قليل، والأكثرون من الشعراء تراهم في كل واد يهيمون، ولذلك يقولون: أعذب الشعر أكذبه، يعني الذي فيه مبالغات ومحسنات بديعية كثيرة، فكلما يزداد الشعر كذباً يزداد جمالاً عند من يسمعه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان له أن يتكلم بذلك عليه الصلاة والسلام.
فمنعه الله سبحانه قدراً من الشعر، مع أن الشعر في حق غيره يكون مدحاً، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له أن يتكلم بالشعر.
فيحرم الله على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتطلع إلى الغنى، وأن يتطلع إلى الدنيا؛ ولذلك كان يذكر أنه ما يسره صلى الله عليه وسلم أن يكون عنده مثل جبل أحد ذهباً يبقى عنده منه شيء بعد ثلاثة أيام، فينفقه صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أيام إلا أن يدخر شيئاً لقضاء دين عليه، أو لنفقة أهله.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس لي من المغانم شيء إلا الخمس، والخمس مردود عليكم)، حتى الخمس سيتكرم عليه الصلاة والسلام ويعطي منه للضيف ولابن السبيل وللأرملة وللمسكين، ومنه يأخذ رزقه صلى الله عليه وسلم وطعامه وطعام أهل بيته عليهم السلام.
وكان له أيضاً صلوات الله وسلامه عليه أن يتزوج بمن وهبت نفسها له.
كان له أيضاً أن يتزوج بغير ولي، وهذا لا يجوز للمسلمين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل)، وقال: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل).
والله عز وجل قال عنه: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:6]، فأي ولي امرأة فالنبي صلى الله عليه وسلم أولى منه عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك تزوج بـزينب بنت جحش من غير ولي، بل بأمر الله تبارك وتعالى.
فإذا مات النبي صلوات الله وسلامه عليه فلا يحل لامرأة من نسائه أن تتزوج غيره عليه الصلاة والسلام، بل هي زوجته في الدنيا وزوجته في الآخرة، فليس لها أن تتزوج من غير النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد صارت أماً للمؤمنين.
نكتفي بهذا القدر، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبته أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر