إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. مساعد الطيار
  5. عرض كتاب الإتقان
  6. عرض كتاب الإتقان (44) - النوع الثالث والأربعون - النوع الرابع والأربعون في مقدمه ومؤخره

عرض كتاب الإتقان (44) - النوع الثالث والأربعون - النوع الرابع والأربعون في مقدمه ومؤخرهللشيخ : مساعد الطيار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من العلوم المهمة المرتبطة بعلوم القرآن والتفسير واللغة تقديم ما حقه التأخير والعكس، وهو ينقسم إلى قسمين؛ قسم يؤثر في المعنى، وقسم لا يؤثر، إنما علاقته بالبلاغة والإعجاز، وللتقديم والتأخير فوائد وأسرار اجتهادية، بحثها العلماء ودونوها في كتبهم.

    1.   

    تابع المحكم والمتشابه

    العلوم المرتبطة بالإحكام والتشابه

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

    أما بعد:

    فقد انتهينا من النوع الثالث والأربعين في المحكم والمتشابه، وقبل أن ننتقل إلى النوع الرابع والأربعين في مقدمه ومؤخره، كان هناك قضية يبدو أنا نسينا طرقها، وهي أنواع العلوم المرتبطة بالمحكم والمتشابه.

    والنوع الأول: الذي ذكرناه في قضية الإحكام العام، والتشابه العام ليس هو المراد.

    والنوع الثاني الذي هو المراد: المحكم المقابل للمنسوخ وواضح أنه مرتبط بالمنسوخ.

    ولكن النوع الثالث: وهو المقصود بالمحكم والمتشابه، وهذا النوع ارتباطه بمعاني القرآن الذي هو نوع من أنواع علوم القرآن، وكذلك ارتباطه بمشكل القرآن، وعندنا نوع من التشابه أيضاً ليس مراداً بهذا، وهو ما يتشابه على الحفاظ، ثم بعد ذلك توجيه هذا المتشابه، فهذا أيضاً لا يدخل في المحكم والمتشابه المقصود هنا، فالمحكم والمتشابه المقصود هنا أقرب ما يرتبط به من علوم القرآن هو ما يتعلق بمشكل القرآن، وكذلك موهم التعارض والأشياء التي يقع فيها اشتباه على بعضٍ دون بعض.

    1.   

    أسلوب القرآن في التقديم والتأخير

    هذا النوع الذي هو النوع الرابع والأربعون في مقدمه ومؤخره، والذي يسمى المقدم والمؤخر، فمعنى هذا أنه قد يُؤخر ما حقه التقديم، وبناءً عليه يتقدم ما حقه التأخير، وهذا يعني أن الجملة العربية منظمة، وهذا هو الأصل فيها، فتبدأ بالفعل ثم الفاعل ثم المفعول به، ثم تأتي التوابع بعد ذلك.

    فإذا تقدم شيء على شيء فهذا معناه أنه تقدم لغرض معين، وهو من مقاديم الكلام، كما هو وارد في عبارات بعض السلف، وذكر أن المقدم والمؤخر قسمان، وبعد أن ننتهي منها إن شاء الله نرجع إلى التفصيل أو التأصيلات التي كنا نؤصلها لكي يتبين لنا هذا الموضوع.

    القسم الأول من المقدم والمؤخر

    القسم الأول: قال المصنف رحمه الله: [ ما أشكل معناه بحسب الظاهر، فلما عُرف بأنه من باب التقديم والتأخير اتضح ]، وهذا القول منه رحمه الله تعالى هو تعريف للمقدم والمؤخر، وكأنه إذا حُمل الكلام على نظامه في الجملة فإنه يوقع في اللبس والاشتباه، فإذا عُلم أن فيه تقديماً وتأخيراً فإنه يتضح به المعنى، وفي الرواية التي رويت من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وهو يتكلم عن المتشابهات قال: ومقدمه ومؤخره، فجعل ابن عباس المقدم والمؤخر من علم المتشابه النسبي، وهذا يدلنا أيضاً على أن المقدم والمؤخر له ارتباط بالمتشابه النسبي؛ لأنه يشتبه على بعضٍ دون بعض.

    قال: [ وهو جدير أن يُفرد بالتصنيف ]، ولم أجد إلى الآن من صنف في هذا؛ ولهذا هو موضوع يحسن إفراده، وجمع المواطن فيه ونقاشها من جهة المعنى، ولو أخذنا أمثلةً تكون واضحة في هذا، والمثال الذي ذكره في قوله سبحانه وتعالى: فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً[النساء:153]، أن يتبين لنا علاقة هذا بقضية المعنى.

    أمثلة على التقديم والتأخير

    يقول: [ أخرج أي ابن جرير عن ابن عباس فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً[النساء:153]، قال: إنهم إذا رأوا الله فقد رأوه، إنما قالوا: جهرةً أرنا الله، قال: هو مقدم ومؤخر، قال ابن جرير : يعني: أن سؤالهم كان جهرة ]، (جهرة) يُحتمل أن تكون معمولة لأرنا، ويُحتمل أن تكون معمولة لقالوا، ويُحتمل أن تكون بمعنى قالوا جهرةً: أرنا الله، كأنهم قالوها جهاراً، يعني أعلنوا بها، فهذا هو معنى.

    والمعنى الثاني: قالوا: أرنا الله جهرةً: أي عياناً، كأنهم يقولون: نريد أن نرى الله عياناً، ويختلف المعنى، إذاً المقدم والمؤخر من هذا النوع له ارتباط بالمعنى كما تلاحظون، ولهذا قال: (ما أشكل معناه بحسب الظاهر) أي بحسب ترتيب النظم، (فلما عُرف أنه من باب التقديم والتأخير اتضح)، ولو ذهبنا إلى مذهب ابن عباس إليه فإن المعنى يكون فقالوا جهرةً: أرنا الله، وإذا أخذنا بقول غيره يكون المعنى: فقالوا: أرنا الله جهرةً، أي: أرنا الله عياناً فاختلف المعنى.

    ومن أمثلته أيضاً قوله سبحانه وتعالى: وَالَّذِي أَخْرَجَ المَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى[الأعلى:4-5]، فقد رُوي عن بعض النحويين أو اللغويين أنه قال: أحوى من صفة المرعى، فإذا كان أحوى من صفة المرعى بناءً على قوله يكون من باب التقديم والتأخير، بمعنى أن صفة المرعى أُخرت وحقها التقديم، ويكون المعنى على قوله: والذي أخرج المرعى أحوى، أي: أخضر مائل إلى السواد من شدة الخضرة، أي: جعل هذا المرعى الأحوى غثاءً، هذا المعنى على ما ذكره أحد اللغويين، وهو منسوب إلى الكسائي ، وعلى ترتيب الجملة الَّذِي أَخْرَجَ المَرْعَى[الأعلى:4]، وعادة المرعى إذا خرج يكون لونه أخضر، وهذا هو الأصل فيه، فجعله بعد الخضرة غثاءً، أي: هشيماً يابساً، وأحوى: أي مائلاً إلى السواد من شدة القدم؛ لأن المرعى إذا ضربته الشمس فإنه بعد الإخضرار يصفر، ثم مع زيادة كثافة الشمس عليه يبدأ يميل إلى اللون البني، الذي يسمى الأحوى، والحوة: هي اللون المائل إلى السواد، فإذا رأى الرائي هذا المرعى في مثل هذه الحالة على مد النظر فإنه يراه مائلاً إلى السواد، والحوة: هي اللون المائل إلى السواد، وليس هو نفس السواد بعينه، وإنما هو المائل إلى السواد، فالخضرة الشديدة تسمى حوة؛ لأنها مائلة إلى السواد، وكذلك اللون البني إذا كان داكناً مائلاً إلى السواد يسمى أيضاً أحوى.

    قاعدة تعارض الأصل والتقديم والتأخير

    هنا نشأت عندنا القاعدة من جهة المعنى وهي: إذا كان الكلام مفهوماً على وجهه، أي: على نفس النظم، فهل يُخرج عنه إلى القول بالتقديم والتأخير؟ والقاعدة أنه لا يُخرج عن نظم الكلام إلى القول بالتقديم والتأخير إلا إذا لم يُفهم الكلام إلا على وجه التقديم والتأخير، إذاً عندنا قاعدة ترجيحية تُبنى على هذا الموضوع، وهو أن الأصل تفسير الجملة على نظمها، ولا يُلجأ إلى التقديم والتأخير إلا إذا لم تُفهم الجملة إلا بالتقديم والتأخير، ونضرب مثالاً في مثل هذا الموطن، الذي هو: وَالَّذِي أَخْرَجَ المَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى[الأعلى:4-5]، فما دامت الآية مفهومة على نفس النظام فلا حاجة للقول بالتقديم والتأخير.

    وقبل هذا ذكر مثالاً في قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ[الجاثية:23]، يقول: [ والأصل: هواه إلهه؛ لأن من اتخذ إلهه هواه غير مذموم فقدم المفعول الثاني للعناية به ]، وهذا في الحقيقة فهم غريب جداً من السيوطي رحمه الله تعالى؛ لأن معنى الآية واضح جداً، ولا يحتاج إلى مثل هذا القول بالتقديم والتأخير، ولا أدري هل هو من بنات أفكاره رحمه الله تعالى، أو يكون قد نقله من مصادر؛ لأنه لم يبين، لكن سواء نقله أو قاله هذا القول فيه غرابة وليس بدقيق.

    إذاً الأمثلة في هذا النوع مرتبطة بالمعنى.

    القسم الثاني من المقدم والمؤخر

    أما القسم الثاني الذي ذكره قال: [ الثاني: ما ليس كذلك ] يعني: ليس مرتبطاً بالمعنى، وذكر أن ابن الصائغ ألف فيه كتاباً سماه: المقدمة في سر الألفاظ المقدمة، ويبدو -والله أعلم- أنه سيتكلم عنه من جهة البلاغة، وهذا القسم الثاني إذا تأملناه سنجد أنه في الحقيقية يتكلم عن السر البلاغي في قضية التقديم والتأخير، ولهذا كل ما نقله في هذا الباب مرتبط بهذا، وذكر ما ظهر له من الأسرار في قضية التقديم والتأخير، وقد ذكرها غيره من العلماء قبله في أسرار التقديم والتأخير، ولكن نأخذ بعض ما ذكره هو رحمه الله تعالى.

    1.   

    أسرار التقديم والتأخير في القرآن الكريم

    التبرك بالمقدم

    ثم ذكر من أسرار التقديم والتأخير: [ التبرك، كتقديم اسم الله تعالى في الأمور ذوات الشأن، ومنه قوله: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ[آل عمران:18]، فقدم شهادة الله على شهادة الملائكة ]، فقدم شهادة الملائكة على شهادة أولي العلم، [ وكذلك قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ[الأنفال:41] ]، فقدم ذكره سبحانه وتعالى قبل ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقضية التبرك هذه تحتاج إلى استقراء في أنه هل بالفعل دائماً يقدم اسم الله سبحانه وتعالى من أجل التبرك؟ أو أن المسألة غير ذلك؟ لأن مثل هذه الفوائد فوائد مبنية على الاجتهاد، ولهذا لو بُحث في أسرار التقديم فقد تظهر أسباب أخرى غير ما ذكره السيوطي ، وسيأتي إن شاء الله إشارة إلى كتابٍ متعلقٍ بهذا، وقد ذكر أكثر مما ذكر السيوطي .

    تعظيم المقدم

    وذكر التعظيم وهو السبب الثاني قال: وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ[النساء:69]، وقال أيضاً: إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ[الأحزاب:56]، وقال: وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ[التوبة:62].

    تشريف المقدم

    قال: [ التشريف: كتقديم الذكر على الأنثى نحو: إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ[الأحزاب:35]، أو: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى[البقرة:178]، أو: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ المَيِّتِ[الأنعام:95]، أو: وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ[فاطر:22]، أو: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا[النحل:8] ].. إلى آخر ما ذكره.

    وهذه أيضاً واضحة في أن المقدم أشرف ممن أُخّر، وجنس الذكور أشرف من جنس الإناث، ولا شك أيضاً أن الخيل أشرف من البغال؛ ولأن في البغال شيئاً من الخيل قُدمت على الحمير، فالبغال فيها شيء من الحمير وشيء من الخيل فقُدمت الخيل على الحمير.

    وحكى قضية الاختلاف في مثل هذا الكلام، فقال: [ حكى ابن عطية عن النقاش أنه استدل ] بقوله تعالى: إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ[الأنعام:46]، أو: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ[الإسراء:36]، [ استدل بها على تفضيل السمع على البصر؛ ولذا وقع في وصفه تعالى: سَمِيعٌ بَصِيرٌ[الحج:61]، بتقديم السمع ]، يعني: كأن النقاش استقرأ فوجد أن السمع دائماً يكون مقدماً على البصر، فهذه أحد فوائد تقديم السمع على البصر، معناه أنه قد يكون لتقديم السمع على البصر أكثر من فائدة، وأحد هذه الفوائد هي التي ذكرها علي النقاش .

    وما ذكره بعد ذلك مشكل، فقال: [ ومن ذلك تقديمه صلى الله عليه وسلم على نوح ومن معه، قال: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ[الأحزاب:7] ]، وهذا مشكل؛ لأنه قُدم النبيون عليه صلى الله عليه وسلم، فأرى أن هذا الموطن لا يصلح الاستدلال به في هذا المكان؛ لأنه قد قُدم عليه غيره صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن قد قُدم غيره لصح ما ذكره، قال: [ وتقديم الرسول على النبي في قوله: مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ[الحج:52]، وتقديم المهاجرين على الأنصار في قوله: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ[التوبة:100]، وتقديم الإنس على الجن ].. أمثلة كثيرة ذكرها فيما يتعلق بتقديم ما يُقال: إنه أشرف.

    التقديم باعتبار السبق

    وعندنا أيضاً من أسباب التقديم: قضية [ السبق وهو إما في الزمان أو باعتبار الإيجاد، كتقديم الليل على النهار، والظلمات على النور ].. إلى آخر ما ذكر، نأخذ أمثلة من ذلك:

    ذكر مثلاً في قوله سبحانه وتعالى: صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى[الأعلى:19] في صفحة 1407 مثل هذه ننظر أيهما أسبق إبراهيم أو موسى؟ ولا شك أنه إبراهيم ، فقُدم لاعتبار الزمان، وأيضاً هناك فائدة أخرى وهي مرتبطة بقضية الفاصلة، وهي أن هذا الآية جاءت في سورة الأعلى، وسورة الأعلى مبنية على الألف المقصورة أيضاً، ففي تقديم إبراهيم على موسى تناسب اللفظ والمعنى معاً، وهذا كمال في البلاغة، وقد سبق أن نبهت على هذا أكثر من مرة، وأنه إذا تناسب اللفظ والمعنى فيما يتعلق بالفاصلة فهذا من كمال البلاغة.

    والعجز حينما تكون رعاية الفاصلة من أجل اللفظ لا من أجل المعنى، ويعتبر من العيب في الكلام، أما إذا تناسبت فإنها تعتبر من الكمال في البلاغة، وسيأتي إن شاء الله لها أمثلة لاحقاً في مواطن متعددة.

    ما يشذ على قاعدة المقدم والمؤخر

    ذكر أيضاً في التنبيهات قال: [ قد يُقدم لفظ في موضع ويُؤخر في آخر، ونكتة ذلك إما لكون السياق في كل موضعٍ يقتضي ما وقع فيه، كما تقدمت الإشارة إليه، وإما لقصد البداءة والختم به للاعتناء بشأنه ]، وذكر أمثلة مثل: [ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ[آل عمران:106]، وإما لقصد التفنن في الفصاحة ] إلى آخر ما ذكره، وهذا التنبيه مهم من جهة أننا حينما نقعد قاعدة قد تكون أغلبية، بمعنى: أنه قد يخرج عنها أو يشذ عنها بعض الأمثلة، فهذه التي شذت تكون مقصودة بقصدٍ بلاغيٍ معينٍ فيها، فإذاً هي تحتاج إلى بحث.

    فإذاً يُنتبه إلى أن مثل هذا التنبيه الذي ذكره هو عين ما يحتاج إلى البحث، وأنه قد يكون مشكلاً؛ لأنه خالف القاعدة، فعندنا من الأمثلة لذلك في بداية سورة آل عمران قال تعالى: الم * اللهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ[آل عمران:1-2]، ثم قال: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا[آل عمران:3]، ثم قال: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ[آل عمران:3]، فهنا قُدم تنزيل القرآن على التوراة والإنجيل، ثم بعد ذلك قال: مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ[آل عمران:4]، فذكره مرة مقدماً، وذكره بعد مؤخراً، ففي مثل هذا الموطن يحتاج إلى النظر والبحث؛ لأنه خالف الترتيب الزمني.

    علاقة المقدم والمؤخر بعلوم القرآن والتفسير

    نعود الآن إلى المسائل المتعلقة بالمُقدم والمؤخر وعلاقتها ببعض علوم القرآن.

    القسم الثاني الذي تكلمنا عنه وهو من جنس البلاغة في كتاب اسمه بلاغة التقديم والتأخير في القرآن الكريم، للدكتور علي أبو القاسم عون ، نشر دار المدار الإسلامي في ثلاث مجلدات، وهذا الكتاب قد اعتنى بالقسم الثاني الذي ذكره السيوطي ، والذي هو من الجانب البلاغي، وذكر أسباباً كثيرة لقضية التقديم، وهو كتاب كبير وواسع.

    والقسم الأول كما قلت: لا أعرف أن في هذا القسم كتاباً إلى الآن، والقسم الأول أو القسم الثاني سنجد أن لهما أمثلة تطبيقية كثيرة، ومباحثه التطبيقية كثيرة، ولهذا هو جيد لمن أراد أن يدرس علوم القرآن تدريساً تطبيقياً أن يأخذ القسم الأول أو القسم الثاني ويطبق عليها، فمثلاً: لو أخذنا سورة الفاتحة، ونظرنا في قضية أسباب التقديم والتأخير، مثلاً: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[الفاتحة:2-3]، قدم اسم الجلالة، ثم ذكر اسم الربوبية، ثم ذكر اسم الرحمانية والرحيمية، ثم ذكر ملكه ليوم الدين، فلو نحن تتبعنا أسباب أو أسرار هذا التقديم فإنا سنقع على فوائد كثيرة، وقس على ذلك قضية تطبيق في مثل هذا الموضوع.

    والقسم الأول عند السيوطي : في قضية ما يرتبط بالمعنى في مثل قوله سبحانه وتعالى: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا[الكهف:1-2]، فـ (قيماً) باتفاق من المؤخر الذي حقه التقديم، يعني: أنزل الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً، فتنظر أنت هل يتأثر المعنى أو لا يتأثر المعنى بقضية هذا التقديم والتأخير؟ فهو مرتبط بجهة المعاني، فلو قلنا: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا[الكهف:1-2]، فـ(قيماً) قد يُشتبه أن تكون مرتبطة بعوج، فلما عُلم أن قيماً مرتبطة بقوله: (أنزل على عبده الكتاب) قيماً فصارت أوضح في المعنى، وصار قوله: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا[الكهف:1]، تأكيداً لقوله: قَيِّمًا[الكهف:2]، والأمثلة على ذلك كثيرة يمكن أن تُبحث.

    وهذا المبحث بقسميه عقلي؛ لأنه مرتبط بالاجتهاد، فإذاً هذا من مباحث علوم القرآن العقلية، ولا يأتي واحد ويقول: كيف تقول: عقلية، وأنت تقول: قال ابن عباس : مقاديم الكلام، فنقول: أيضاً ابن عباس لما قال هذا الكلام هو مجتهد في هذا، ونحن نتكلم عن أصل هذا المبحث فهو في الحقيقة اجتهادي وليس نقلياً.

    والذي له جانب من جهة المعنى القسم الأول ويعتبر من علوم التفسير؛ لأن المعنى يتأثر به.

    والقسم الثاني: يعتبر من علوم القرآن؛ لأنه مرتبط بعلم آخر وهو ما بعد المعنى؛ لأننا سابقاً قلنا: إن التفسير هو بيان المعنى، فالنوع الأول مرتبط ببيان المعنى، والنوع الثاني يأتي بعد بيان المعنى، وما بعد بيان المعنى تأتي مسائل كثيرة، ولكن الأغلب أنه مرتبط بقضية البلاغة، إذاً القسم الأول، والقسم الثاني كلاهما من علوم القرآن، ولكن الأول أخص بالتفسير، والثاني ليس له علاقة مباشرة بالتفسير، أي: ليس له علاقة مباشرة بالمعنى؛ لأننا لو جهلنا سبب تقديم لفظ الجلالة في قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ[الأنفال:41]، فإنه لا يؤثر على فهم المعنى، ولكن إذا جهلنا أن (جهرةً) مرتبطة بقوله: أَرِنَا[النساء:153]، أو أن (جهرةً) مرتبطة بقوله: قَالُوا[النساء:153]، فإن المعنى سوف يتأثر.

    علاقة المقدم والمؤخر بإعراب القرآن والبلاغة والإعجاز

    وأما علاقة هذا النوع بقسميه بإعراب القرآن؟ فيُلاحظ أن القسم الأول له علاقة بإعراب القرآن، وأما النوع الذي سبق الحديث عنه، فله علاقة بمشكل القرآن؛ لأنه من المشكل، وما دام من المشكل فإن له علاقة بالمحكم والمتشابه، إذاً له علاقة أيضاً بالمتشابه النسبي، فإذاً هذا القسم الأول مرتبط بعلم النحو من جهة، ومرتبط بمشكل القرآن، وبالمتشابه النسبي أيضاً من جهةٍ أخرى.

    أما القسم الثاني فهو مرتبط بعلم البلاغة، وهو مرتبط أيضاً بالمباحث العربية التي في علوم القرآن، وما دام أنه مرتبط بعلم البلاغة فإن له علاقة بعلم الإعجاز؛ لأنه مرتبط ببلاغة اللفظة وهذا ما يسمى ببلاغة القرآن، هذا ما يتعلق بالمقدمات التي نناقشها دائماً.

    فوائد المقدم والمؤخر

    أما فوائد هذا العلم فهي واضحة جداً، وخصوصاً القسم الأول؛ لأنه مرتبط بالمعاني، بمعنى: أنه لا يُفهم المعنى إلا بفهم قضية المقدم والمؤخر، وأيضاً استخرجنا منه قاعدة ترجيحية، فإذاً هو مرتبط أيضاً بقواعد الترجيح من هذه الجهة، ولا شك أنه من العلوم المهمة، والذي يدل على أهمية هذا العلم أن السلف رحمهم الله تعالى قد تعرضوا له، وهذا لو أن أحداً أخذ بحث ترقية في المقدم والمؤخر عند السلف لوجد أمثلة تقارب العشرة إلى الخمسة عشر مثالاً، وتصلح أن يُعمل عليها دراسة مستقلة، ويكون فيها حديث عن فهم السلف لقضية المقدم والمؤخر، ولهذا الحارث المحاسبي رحمه الله تعالى في كتابه فهم القرآن عقد فصلاً عن المقدم والمؤخر وذكر أمثلة له، وكذلك كلام السلف مثل قتادة و عكرمة و الضحاك و ابن عباس ، عندهم أيضاً كلام صريح وواضح جداً في قضية المقدم والمؤخر، وكذلك يحيى بن سلام أيضاً رحمه الله تعالى في كتابه: التفسير عنده أمثلة في المقدم والمؤخر، وينقلها عنه أحياناً الداني في كتابه: المكتفى في الوقف والابتداء، فهذا ما يتعلق بموضوع المقدم والمؤخر، وإذا كان هناك سؤال أو استفسار، نعم.

    1.   

    الأسئلة

    علاقة إعجاز القرآن بعلوم القرآن

    السؤال: [ هل إعجاز القرآن من علوم القرآن؟ ]

    الجواب: إعجاز القرآن بالمفهوم البلاغي لا شك أنه من علوم القرآن، وكذلك لما أدخل فيه العلوم الأخرى أيضاً من علوم القرآن؛ لأنه فرع من علوم القرآن، وأصل نشأة علم البلاغة من إعجاز القرآن، فالتشقيق الذي حصل لإعجاز القرآن فيما بعد لا يخرجه عن أن يكون من علوم القرآن حتى لو قيل بالصرفة، وحتى لو قيل: بالغيوب، وحتى لو قيل: بالإعجاز العلمي كلها في النهاية فرع من علوم القرآن، نعم.

    القول بأن الحكمة من المتشابه هو الابتلاء

    السؤال: [ هل فائدة المتشابه الابتلاء ]؟

    الجواب: لا شك أن الخلاف الذي أشار إليه في قضية فائدة المتشابه مرتبط بقضية الابتلاء، وإلا لو كان على وجه واحد لما وقع الاشتباه فيه، ومن أول الفرق التي وقع عندها تشابه وظلت بسبب هذا التشابه الخوارج. والخوارج عباد يقومون الليل ويقرأون القرآن، ومع ذلك أخطأوا التأويل، وليتهم وقفوا عند الخطأ في التأويل، بل إنهم طبقوا خطأهم في التأويل، وهذا كله بسبب المتشابه، فإذاً لا شك أنه نوع من الابتلاء، وهذا من أكبر أسباب ورود المتشابه.

    علاقة علم التفسير بعلوم القرآن

    السؤال: [ لماذا تفرق بين التفسير وعلوم القرآن في تقسيماتك مع أنهما شيء واحد ]؟

    الجواب: أي نعم، صحيح، وهذا متفق عليه أن علم التفسير من علوم القرآن، ولكن هل كل علم منسوب للقرآن هو من علوم التفسير؟ فبناءً على هذا حصل التفريق؛ لكي يكون الدارس على بصر فيما يحتاجه حال التفسير احتياجاً مباشراً، وما يحتاج أن يضيفه بعد ذلك في ترتيب المسائل، وليس تقسيماً من أجل التفريق، وأنا سبق أن ذكرت أن هذا يُفيد في قضية ترتيب المسائل، وما الفائدة في أن نقول: علوم تفسير وعلوم قرآن؟ والأخ طارق يقول: إن هذا تقسيم حادث، ولكن دائماً التقسيم من حيث هو ليس مشكلاً، إنما المشكلة في المعاني الموجودة في التقسيم، هل لها فائدة؟ وهل هو صحيح في ذاته أو لا؟ وما هي الفائدة من هذا التقسيم؟ إننا حينما نأتي لتدريس آيات كتاب الله سبحانه وتعالى نعرف ماذا نقدم وماذا نؤخر، أي: ما هي الأشياء التي نحتاج أن نقدمها للجمهور، والتي نرى أننا لا نحتاجها، هل رأيت أحداً ممن يفسر القرآن للعامة يتكلم عن عدد الآية مثلاً؟ وهذه السورة عددها كذا في المكي وكذا في المدني وكذا في الكوفي مع أنها من علوم القرآن؟ لا.

    فإذاً المقصد من ذلك أن هناك شيئاً من علوم القرآن لا يلزم أن يكون مما يدرس للجمهور، بعضها يحسن أن يُدرّسون؛ لأنه مرتبط بفهم المعنى، وبعضها قد تكون فوائد تثقيفية يضيفها المعلم من أجل أن يُظِهر مع درسهم من المعلومات أو الفوائد التي يحتاجها السامع.

    فإذاً المسألة في هذا كله ترتيبية وتنظيمية، لكنها أيضاً من حيث الجهة العلمية واضحة جداً، ولهذا قلنا سابقاً: كل نوعٍ من علوم التفسير فهو من علوم القرآن ولا عكس؛ لأننا إذا جئنا إلى الرعيل الأول يجب أن ننتبه إلى أننا لا يمكن أن نقف على ما وقفوا عليه، فالذي سيقال في علوم الفقه، ويقال في علم التجويد، ويقال حتى في القفه وفي غيره هو الذي سنقوله، فنضطر إلى أننا نقف على ما وقفوا عليه، ولكنا نجد من كلام المحققين ما يشير إلى التفريق بين علوم التفسير وغيرها، مثلاً ابن جرير الطبري نجد له إشارات، وابن عطية نجد له إشارات، ولـأبي حيان إشارات في هذا، وهي إشارات صحيحة إلى أن هذا ليس من علوم التفسير، وهذا لا يدخل في كتب التفسير، ولا يصلح أن يدخل في علوم التفسير، مع أنه من علوم القرآن.

    مثلاً أبو حيان اعترض على الزمخشري رحمه الله تعالى في قضية فوائد تفصيل السور، قال: إن هذا ليس من علم التفسير، يعني: إدخاله في علم التفسير على رأي أبي حيان ليس بصواب، والتي هي إظهار الحكمة من تفصيل السور، مع أنها من علوم القرآن، فإذاً فيه مجموعة إشارات من كلام المتقدمين يمكن جمعها، وقس عليها غيرها من الأمثلة فهي أمثلة كثيرة في هذا الباب، وكتب المتقدمين مثل الألتفوي والحوفي ومكي والمهدوي واضحة جداً في تفريقهم بين علم التفسير والعلوم الأخرى التي هي من علوم القرآن..

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    757008535