إسلام ويب

طعم الإيمان وحلاوتهللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • للإيمان حلاوة يذوقها من رضي بالله رباً يعبده دون غيره، ثم رضي برسول الله صلى الله عليه وسلم نبياً يحبه ويعظمه ويتبعه فيما جاء به، ورضي بعد ذلك بالإسلام ديناً يدين الله به دون غيره، فيعمل بما جاء به عن رضا وقناعة وقبول.

    1.   

    الرضا بالله رباً

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.

    إخوتي في الله! روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً )، (ذاق طعم الإيمان): الحلاوة التي يبحث عنها الناس أجمعون، حلاوة الدنيا، وسعادة الآخرة والطمأنينة جعلها الله عز وجل في التسليم والرضا بهذه الأصول الثلاثة، الأصول التي قامت عليها ملة الإسلام: الرضا بالله سبحانه، والرضا برسوله صلى الله عليه وسلم، والرضا بشرع الله عز وجل ودينه.

    ذاق طعم الإيمان وحلاوته، ووجد السعادة ودخلها من أوسع أبوابها من اقتنع بهذه الأصول، واكتفى بها، ولم يتلفت إلى غيرها، ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً ).

    ولحاجتنا أيها الإخوة! إلى هذه الأصول وتقريرها في النفس وتثبيتها في الفؤاد وجري اللسان بها؛ شرعها الله عز وجل لنا كل يوم مرات، فربطها بالأذان فاستحب أن نقولها مع كل أذان نردده مع المؤذن، فقال لنا عليه الصلاة والسلام: ( من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله، رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً غفر له ما تقدم من ذنبه ) , فاستحب لنا أن نكرر هذه الأصول، ونعلن الرضا والقناعة بها، والاكتفاء بها عن غيرها، كل يوم خمس مرات.

    وندبنا عليه الصلاة والسلام أن نفتتح بها يومنا، وأن نفتتح بها ليلتنا، فقال: ( من قال حين يصبح وحين يمسي: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، فأنا زعيم بأن آخذ بيده حتى أدخله الجنة )، أنا زعيم يعني: كفيل.

    فهذه الأصول التي عليها مدار السعادة، من رضي بها فله الرضا، ومن سخطها ولم يقتنع بها فليس له في الدنيا إلا السخط، وليس له في الآخرة إلا النار، ( من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً ).

    معنى الرضا بالله

    الرضا يعني: القناعة، يعني: الاكتفاء، يعني: أن يشعر الإنسان بأنه غني بهذا عن غيره، فالرضا بالله الاقتناع بالله، والاكتفاء بالله، والتوكل على الله، الرضا بالله أن يتوجه الإنسان إلى الله دون غيره، وأن يقتنع بالله عن غيره.

    ومعنى رباً أي: مالكاً متصرفاً، ورباً تعني: إلهاً معبوداً، فمن اقتنع بالله ورضي بتصرفاته التي يجريها عليه ناله أعظم الرضا، ومن رضي بالله معبوداً فتوجه إليه وحده بعباداته القولية والفعلية، المالية والبدنية، الظاهرة والباطنة فلن يجني من هذه الدنيا إلا الرضا والنعيم، ولن يكون مصيره في الآخرة إلا إلى دار النعيم.

    والرضا بالله رباً أيها الإخوة! كما يقول ابن القيم : ليست كلمة تجري على اللسان، فهيهات أن يكون الإنسان معلناً بلسانه رضاه بربه، وحاله الباطن والظاهر يخالف ذلك، فهو يغضب حين يرضى الله، فإذا أجرى الله عز وجل عليه مكروهاً تسخط وتبرم، وإذا شرع الله عز وجل شرعاً تأفف وتضجر، هيهات أن يكون راضياً، وإن قال بلسانه: رضيت بالله رباً!

    الرضا بالله رباً يتضمن الرضا بأقداره سبحانه وتعالى، وأنه لا يفعل شيئاً إلا بعدل ورحمة، والرضا بدينه وشرعه، وأنه لا يشرع شيئاً إلا بعلم وحكمة، فلله عز وجل الحجة البالغة، وهو سبحانه وتعالى أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين.

    معرفة الله سبحانه أساس الرضا به

    أيها الحبيب! الرضا بالله مبني على مقدمة مهمة وهي: معرفة الله، أن تعرف من هو الله؟ تعرفه بأسمائه، وتعرفه بصفاته، وأن تعرف نفسك، من أنت أيها الإنسان! وما هو علمك؟

    أخبر الله عز وجل عنك في كتابه في غير موضع بأنك تحب ما يؤذيك، وتكره ما ينفعك؛ لأنك جاهل لا تقدر الأمور حق قدرها، ولا تعرف الأمور على حقائقها، ولا تعرف الأمور بنتائجها وعواقبها، فتحب ما يضرك؛ لأنه يبدو لك أنه حسن جميل، وتكره الشيء الذي ينفعك وأنت تظن بذلك أنه شيء ذميم قبيح لجهلك. هكذا فطرك الله أيها الإنسان، وكان الإنسان ظلوماً جهولاً، لجهله وظلمه، فإنه لا يقدر مصالحه حق التقدير، أما الله فهو أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين سبحانه وتعالى، ومن ثم فإنه لن يجري شيئاً على عبده إلا بهذه الرحمة وتلك الحكمة.

    جاء في صحيح البخاري من حديث عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه سبي, فرأى امرأة تبحث في السبي عن شيء وهم لا يدرون عما تبحث؟ وإذا بها تبحث عن ولدها الصغير, فلما وجدت رضيعها أخذته وضمته إلى صدرها وأرضعته )، هذا المنظر والصحابة يتأملون، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أترون! )، يعني: أتظنون، ( أترون أن هذه طارحة ولدها في النار، قالوا: لا والله يا رسول الله! وهي تقدر على ذلك ) ، يعني: ما دام باختيارها فإنه لا يمكن أبداً أن ترضى بوضع ولدها في النار، ( فقال عليه الصلاة والسلام: لله أرحم بعبده من هذه بولدها ) .

    فالله أرحم بهذا العبد من هذه الأم بالولد، فكلما يقضيه عليه، وكلما يحكم به عليه فهو من مقتضى تلك الرحمة، فهو أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين.

    إذاً: فلا بد أن نعرف الله عز وجل ونعرف أفعاله وصفاته، فإذا علمنا هذا العلم, وعرفنا هذه المعرفة بنت القلوب رضاها بالله أتم البناء، وثبت فيها أتم الثبوت على ذلك العلم، وتلك المعرفة.

    إنها رحمة الله، إنها حكمة الله، إنه لطف الله، إنه تدبير الله، يدبرك بما تكره؛ لأنه يعلم أن الخير فيما تكره.

    وشهدت العقول وشهدت النقول بأن أعظم مصالح النفوس فيما تكرهه، وأن أعظم معاطبها ومهالكها فيما تحبه، كما قال الله في كتابه: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216] .

    قال هذا بعد أن فرض عليهم القتال، وأوجب عليهم أن يبذلوا أنفسهم وأرواحهم، وقال لهم: أنتم تكرهون القتال والخروج للقتال؛ لأنكم لا تعلمون عواقبه ونتائجه، فكراهتكم لهذا الموت؛ لأنكم لا تدرون حقيقة المصلحة فيه، فالموت في هذه الطريق من ورائه حفظ الأرواح، ومن ورائه صيانة البلدان، ومن ورائه حماية الحرمات والحقوق، ومن ورائه الأمن في الوطن والأمن للزوجة وللابن وللبنت والأمن للمجتمعات، كل هذا من وراء إعلاء راية الجهاد في سبيل الله، والذب عن دين الله، لكنكم تكرهونه؛ لأنكم لا تدرون العاقبة، وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [البقرة:216] .

    وفي علاقة الرجل بزوجته أخبر سبحانه وتعالى بأن هذا العقل قاصر عن إدراك مصلحته تمام الإدراك، فهو يكره المرأة من أجل وصف من أوصافها، لكنه لا يعلم أن الخير كل الخير في هذه المرأة التي ساقها الله عز وجل إليه، ويحب المرأة لوصف من أوصافها, لكنه لا يعلم أن الشر كله من وراء هذه المرأة لقصوره وجهله. قال تعالى: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19] .

    فهذه طبيعة الإنسان يكره الشيء؛ لأنه يظن أن فيه هلاكه، ويحب الشيء ظاناً أنه مصلحته, والأمر ليس كذلك.

    وقد ضرب لنا الإمام ابن القيم رحمه الله مثلاً رائعاً في ترسيخ هذه الحقيقة وتقريبها إلى القلب, وأن الله سبحانه وتعالى يدبر عبده بما يصلحه، وإن كان هذا العبد يرى أن في هذا الشيء مكروهاً عليه إلا أن الله عز وجل علم أن فيه مصلحته؛ لأنه أحكم الحاكمين؛ وأعلم العالمين وأرحم الراحمين، لا يفعل شيئاً سدى، ولا يشرع شيئاً عبثاً.

    واستمع إلى هذا المثال بقلبك وأذنك، يقول: فانظر إلى غارس جنة من الجنات خبير بالفلاحة غرس جنة يعني: بستاناً وتعاهدها بالسقي والإصلاح حتى أثمرت أشجارها، فأقبل على تلك الأشجار يفصل أوصالها، ويقطع أغصانها؛ لعلمه أنها لو خليت على حالها لم تطب ثمرتها، فيطعمها من شجرة طيبة الثمرة حتى إذا التحمت بها واتحدت وأعطت ثمرتها أقبل عليها يقلمها، ويقطع أغصانها الضعيفة التي تذهب قوتها، ويذيقها ألم القطع والحديد لمصلحتها وكمالها، لتصلح ثمرتها ولتكون بحضرة الملوك ثم لا يدعها ودواعي طبعها من الشرب كل وقت، فطبعها يستدعي أن تشرب دائماً، وأن يكون الماء بجوارها دائماً, لكن راعيها لا يعطيها ما تحب، بل يعطشها وقتاً ويسقيها وقتاً، ولا يترك الماء عليها دائماً وإن كان ذلك يعني: بقاء الماء على الدوام، أنضر لورقها، وأسرع لنباتها.

    ثم يعمد إلى زينة تلك الشجرة من الأوراق فيلقيها عنها، ويلقي كثيراً منها؛ لأنها زينة فهي تظنها زينة في الظاهر والله عز وجل يذهب عنا كثيراً من الزينات ونحن لا نعلم، ثم يعمد إلى تلك الزينة التي زينت بها من الأوراق فيلقي عنها كثيراً منها؛ لأن تلك الزينة تحول بين ثمرتها وبين كمال نضجها واستوائها، فهو يقطع أعضاءها بالحديد، ويلقي عنها كثيراً من زينتها، وذلك عين مصلحتها.

    فلو أنها ذات تمييز وإدراك كالحيوان لتوهمت أن ذلك كله إفساد لها وإضرار بها, وإنما هو عين مصلحتها.

    ثم ضرب مثلاً آخر فقال: وانظر إلى الأب الشفيق على ولده، العالم بمصلحته، إذا رأى مصلحته في إخراج الدم الفاسد عنه بضع جلده، يعني: شق جلده وقطعه مع أن فيه إيلاماً للولد، بضع جلده، وقطع عروقه، وأذاقه الألم الشديد, وإن رأى شفاءه في قطع عضو من أعضائه أبانه عنه -أي: فصله عنه- كل ذلك رحمة به وشفقة عليه.

    ثم ضرب مثلاً آخر للعطاء والمنع, حيث يعطي الله عز وجل من يشاء؛ لأن مصلحته في العطاء، ويمنع سبحانه وتعالى من يشاء؛ لأن مصلحته في المنع، يقول: وإن رأى -يعني: الأب- مصلحته في أن يمسك عنه العطاء لم يعطه، ولم يوسع عليه؛ لعلمه أن ذلك أكبر الأسباب إلى فساده وهلاكه. وكذلك يمنعه كثيراً من شهواته حمية له ومصلحة، لا بخلاً عليه ولكنه إجراء للأحكام بما تقتضيه مصلحة الإنسان.

    فمن عرف الله عز وجل هذه المعرفة، وعلم أسماءه وصفاته, وعلم بأنه سبحانه وتعالى حكيم خبير, وأنه سبحانه وتعالى رحمان رحيم، رضي بكل ما يجريه الله عز وجل عليه من الأقدار.

    الرضا بالله رباً أن يستشعر القلب بأن ما يجريه الله عز وجل عليه هو عين المصلحة، هو عين الرحمة، وأن ما يشرعه الله سبحانه وتعالى له من الأحكام هو عين العلم والحكمة، فيرضى بالله ولا يلتفت إلى ما سواه، فمن فعل هذا ذاق طعم الإيمان، ووجد حلاوة في صدره لا تقوم لها حلاوة.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    الرضا بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    إخوتي في الله! الأصل الثاني من هذه الأصول: الرضا برسول الله صلى الله عليه وسلم.

    معنى الرضا بالرسول صلى الله عليه وسلم

    والرضا برسول الله يتضمن الاقتناع والكفاية به عليه الصلاة والسلام قدوة وأسوة دون غيره من الناس، الاكتفاء به عليه الصلاة والسلام أن يكون مثلاً يقتدى بأفعاله، ويستن بأقواله، ويحاول الإنسان جاهداً أن يسير على شريعته.

    الرضا بالرسول عليه الصلاة والسلام وحده مفتاح الجنة في الآخرة، وباب السعادة في الدنيا.

    وليس من الرضا بالرسول صلى الله عليه وسلم الإعلان بهذه الكلمات ثم الالتفات إلى غيره من المشرعين من مشرق الأرض أو من مغربها.

    وليس من الرضا برسول الله صلى الله عليه وسلم رسولاً الالتفات إلى غير هديه وسنته وشريعته.

    أنموذج من رضا الصحابة برسول الله صلى الله عليه وسلم رسولاً

    جاء في الحديث الصحيح: ( أن عمر رضي الله تعالى عنه جاء بصحف من التوراة من اليهود, فأقبل بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: يا رسول الله! هذه صحف من التوراة، ثم أقبل يقرأ تلك الصحف ملتفتاً إليها لا ينظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرع يقرأ قال الراوي: ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير, حتى قال أبو بكر وهو ينظر إلى وجه الرسول صلى الله عليه وسلم: ثكلتك الثواكل يا عمر ! أما ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ) . وهي كلمة تقال للزجر، ثكلتك أمك يعني: فقدتك أمك، ( ثكلتك الثواكل يا عمر ! أما ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلما نظر عمر إلى وجه رسول الله, ورأى فيه التغير صاح وقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً ) .

    فكان الصحابة يفزعون إلى الإعلان بهذه الكلمة حين كانوا يفهمون بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توهم أنهم لا يرضون به، وأنهم يلتفتون إلى غيره، فـــــعمر يريد أن يقول: إنما هي زيادة علم، ومعرفة لأخبار أهل الكتاب، وليس تقليلاً لما يأتينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا زهادة فيه، ولا عدم ركون إليه، ولكنه حب الاطلاع فقط، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يغلق عليهم هذا الباب، وأن يسد عليهم التطلع إلى غيره، لا سيما والزمان لا يزال أول الإسلام، فقال لهم عليه الصلاة والسلام في الموقف: ( والذي نفس محمد بيده لو بدا لكم موسى)، أي: لو ظهر موسى اليوم، ( فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حياً وأدرك نبوتي لاتبعني )، رواه الدارمي وحسنه الألباني .

    فليس لأحد اختيار بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الانقياد والطاعة لهذا الرسول عليه الصلاة والسلام، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] .

    فلا بد أن يتابعوه عن رضا، وأن يتابعوه عن انشراح صدر ومحبة لا عن ضيق وحرج، هكذا نصبه الله عز وجل قدوة، وأخبر في كتابه أنه إنما ينتفع بالاقتداء به من كان يريد الله والدار الآخرة، فقال في سورة الأحزاب: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب:21] ، فالذين يرجون الله واليوم الآخر يجدون كفايتهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتبعونه دون من سواه.

    1.   

    الرضا بالإسلام ديناً

    والأصل الثالث: الرضا بشريعة الإسلام والاقتناع بها، تحكيماً لها في النفس وفي المال وفي السياسة والحكم، وفي الاقتصاد وفي الأخلاق والآداب وفي التعليم وفي كل مفردات الحياة.

    الرضا بالإسلام وحده، والاقتناع به, وعدم الالتفات إلى ما سواه.

    ما يقتضيه الرضا بالإسلام ديناً

    والرضا بالإسلام جميعه، لا أن يؤخذ من الإسلام ما وافق الهوى والنفس، حيث نرى على الشاشات كثيراً من الزعماء والحكام ينادون اليوم بالآيات التي تأمر بطاعة الله، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وطاعة أولي الأمر، وكذلك النصوص الكثيرة الوفيرة التي تثبت حق الحاكم على المحكوم، وطاعة الشعوب لأولياء أمورها، لا، ما هكذا يا سعد تورد الإبل.

    يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] ، الاقتناع بالإسلام كله، أن تحكموا هذا الإسلام في المفردات الصغيرة والكبيرة، أين أنتم عن هذه الأصول طوال فتراتكم السابقة؟ لماذا صار الشعار اليوم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59] ؟ نعم، سمعاً وطاعة لله والرسول، سمعاً وطاعة لكل أمر في الحق والمعروف. ولكننا مأمورون حكاماً ومحكومين أن نحكم شريعة الله كلها، قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [المائدة:49] ، احذرهم أن يفتنوك عن شيء ولو كان يسيراً مما أنزل الله إليك، بل خذ بالإسلام كله.

    وقال سبحانه وتعالى عن فريق الكفار والمنافقين: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ[محمد:26]، سنطيعكم في بعض الأمر، فالله أراد منا أن نأخذ دينه كله، وأن نستسلم لشرعه كله، وألا يكون الشرع موضعاً لاختيار الهوى، فيأخذ الإنسان منه ما وافق هواه، وناسب مصلحته وهي مصلحة متوهمة، فلا يكون الشرع محلاً للاختيار بالتشهي، هذا هو الرضا بالإسلام، فمن حقق هذه الأصول فاز بخير الدارين، ونال في الدنيا سعادة وحلاوة، وفي الآخرة المغفرة والرضوان، ( فأنا زعيم أن آخذ بيده حتى أدخله الجنة ).

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا أن يجعلنا ممن رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً.

    اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا أرحم الراحمين! أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.

    اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله, ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات, إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم اخذل الكفرة والمشركين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، وأشغله في نفسه، واجعل تدميره في تدبيره يا قوي يا عزيز!

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756900725