عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وفي لفظ: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إن
القضاء في الأصل هو الفصل فيما يختلف فيه الناس، قال الله تعالى: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص:26] والحكم بين الناس هو القضاء بينهم بالحق الذي أنزله الله.
ويقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58] أي: إذا قضيتم بينهم فالتمسوا الحق والعدل، فهذا هو المراد بالقضاء، وقد اشترطوا للقضاء شروطاً، واشترطوا في القاضي صفات لابد أن تتوافر فيه، وهي مذكورة في كتب الأحكام وكتب الفقه، لابد أن تتوافر تلك الشروط فيه حتى يتمكن من القضاء، وإذا تخلفت أو تخلف بعضها اختلت أهليته للقضاء.
وعلى كل حال الأحاديث التي فيها تعليم القضاء ليس فيها شيء متفق عليه بين البخاري ومسلم ، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)، ومثل قوله: (كيف تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي)، وهو حديث معاذ ، وغيرها من الأحاديث التي لم تثبت على شرط الشيخين، فلذلك لم يذكرها المؤلف صاحب العمدة.
هذا حديث جامع يعتمد في إثبات السنن وفي رد البدع، فيعتمد في أن القاضي عليه أن يتحرى السنة، وعليه أن يعمل بها، وعليه أن يعمل بما ورد منها، وأن يتجنب القضاء الذي يتبع فيه الهوى، ويتجنب أن يحكم بين الناس برأيه، ويتجنب أن يجور في الحكم، وأن يظلم هذا لهذا، فإن هذا كله خلاف ما أمر الله به، وخلاف ما عليه أمر الله وأمر رسوله، ولا شك أن هذا الحديث جاء في بيان الشريعة، وهو أن شريعة الله سبحانه قد بلغها النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالأحكام، وفيما يتعلق بالآداب وبالحلال والحرام، وبالسنن وبالواجبات وما أشبهها.
هذا الحديث (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) فيه إثبات السنن ورد البدع، وأن كل من عمل عملاً مضافاً إلى الشريعة لا أصل له بالدين فإنه مردود، سواء كان تغييراً في العبادة، أو بزيادة فيها، أو شرعية عبادة أخرى، ويدخل في ذلك الإضافات التي يضيفها المبتدعة سواء في أذكار أو في أدعية أو ما أشبه ذلك.
فالذين قالوا: إنه قضاء قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم عرف صدقها؛ لأنه يعرف أبا سفيان واتصافه بالإمساك وقلة الإنفاق، وكأن ذلك أمر مشهور عنه، فقضى لها وقال: خذي من ماله قدر الكفاية، فجعلوا هذه القضية دعوى ادعتها هند على أبي سفيان فقضى لها، ومعروف أنه واجب عليه نفقتها ونفقة عيالها بحكم الزوجية، فهي زوجته، والمرأة ينفق عليها زوجها، لقول الله تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233]، فمعلوم أنه يلزمه نفقتها، وإذا كان يلزمه، وقد عرف بالبخل؛ فقد حكم لها بأن تأخذ حقها، هكذا قال الذين ادعوا أنه حكم وقضية.
وقال آخرون: ليس هو حكم، وإنما هو فتيا؛ وذلك لأنه في غيبة أبي سفيان ، وهو عليه الصلاة والسلام قال: (إذا سمعت كلام خصم فلا تقضي له حتى تسمع كلام الخصم الثاني) أو كما قال، فنهى القاضي أن يحكم لأحد الخصمين قبل أن يحضر الخصم الثاني، فربما يكون عند الخصم الثاني حجج قوية تبرر موقفه، وتبين عذره، فلا يسمع من أحد خصميه بل يسمع منهما معاً، فقالوا: إنه فتيا، وأيضاً فقد أفتاها بقوله: ( إن أعطاك ما يكفيك وإلا فخذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف ) فجعل هذا لها كأنه يقول: أفتي بأنه يلزمه النفقة، وأن المرأة لها الحق في أن تأخذ نفقتها من مال زوجها إذا أمسك نفقتها ونفقة ولدها، أي: بما يكفيهم، هذا دليل من يقول: إنها فتيا، وليست حكماً وقضاءً.
وقد ذكر العلماء أن الناس ثلاثة أقسام:
غني ومتوسط وفقير، وأن الغني ينفق على أهله من أفضل النفقة وأعلاها، النفقة المعتادة من البر ومن الأرز مثلاً، وكذلك من الأطعمة المعتادة من اللحوم ومن الفواكه وما أشبه ذلك على عادة أهل بلده، والتوسع في ذلك قد نهي عنه.
وأما المتوسط فإنه يقتصد في النفقة، فينفق من أوسط الطعام في البلد، فلا يتكلف شراء الغالي ورفيع الثمن، سواء من الطعام كالبر والأرز، أو من اللحوم، بل يأخذ من الوسط.
وأما الفقير فإنه يأخذ من أرخص الأطعمة؛ وذلك لفقره، ولأنه لو أنفق زيادة على ذلك لاحتاج إلى الاستدانة؛ ولذلك يؤمر بأن ينفق على أهله من أرخص الأطعمة، وألا يشتري الأشياء التي ليست ضرورية، بل يقتصر على الخبز مثلاً أو على الأرز دون أن يتكلف بشراء اللحوم، وبشراء الفواكه، وبشراء الخضار وما أشبه ذلك.
وهكذا أيضاً في الكسوة، فكسوة الغني الثري أن يشتري لأولاده ولزوجته كسوة في كل سنة مرة أو مرتين، وتكون من أرفع الأقمشة وأحسنها وأضمنها، والمتوسط من متوسطها، والفقير من أرخصها.
وهكذا في سائر الأمتعة التي يحتاج إليها، وهذا كله داخل في قوله: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) أي: لا تأخذ زيادة، فإذا كان هو من الأغنياء فالمعروف هو نفقة الأغنياء، وإذا كان من المتوسطين فالمعروف نفقة أمثاله من المتوسطين سواء في الغذاء أو في الكسوة أو في الفرش أو في الأواني أو ما أشبه ذلك.
وبهذا يعلم أن الشريعة تكلفت ببيان كل ما يحتاج إليه، فبينت أمور النفقة، وتدخل الفقهاء في أمور الناس، وذكروا كيفية إنفاق المنفق من كثير أو من قليل، ومع ذلك كله فإنهم نهوا عن الإسراف وعن الإفساد وعن التبذير الذي فيه إتلاف للمال في غير فائدة، ولو أثرى الإنسان وامتلك مئات الألوف أو ألوف الألوف فلا يجوز له أن يفسد الأموال لا في الأطعمة ولا في الأكسية ولا في الأواني ونحوها، بل يمسك المال ولا يسرف فيه ولا يفسده، ويصرفه في وجوهه التي يؤجر عليها، فإنه سوف يجد من يتقبله من الفقراء، وسوف يجد مشاريع خيرية ينفق فيها ويصرف فيها هذا الزائد الذي ليس بحاجة إليه، وبذلك يخرج من قوله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ [النساء:5]، ومن قوله: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء:27].
[عن أم سلمة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها).
وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة رضي الله عنه قال: كتب أبي -وكتبت له إلى ابنه عبد الله بن أبي بكرة وهو قاض بسجستان- لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان) وفي رواية: (لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان)].
حديث أم سلمة يتعلق بقضاء القاضي بحسب ما ظهر له، وفي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم، أي: خصوم سمعهم يختصمون ببابه، وكانت خصومتهم في مواريث بينهم قد اندرست، واشتبه عليهم حق هذا بهذا، فاختلفوا، وكل منهم يدعي أنه أولى وأن الحق له، فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يحكم بينهم أو أن يسمع كلامهم وعظهم بهذه الموعظة:
أولاً: أخبرهم أنه بشر، والله تعالى قد وصفه بذلك، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ [الكهف:110] أي: أنا إنسان مثلكم، لست ملكاً، ولست خلقاً آخر، قال الله تعالى عنه: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً [الإسراء:93] اختص بأن ينزل عليه الوحي من الله تعالى، وأما علم الغيب فلا يعلمه، كما قال الله عنه: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ [الأعراف:188] فأخبر بأنه بشر، والبشر لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، فهو يأتي عليه ما يأتي على البشر، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه سها مرة في صلاته، ولما انصرف قال: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني).
ثانياً: أخبرهم أنه يحكم بما يسمع، وأن بعضهم قد يكون أقوى حجة وأبلغ من الآخر، وهذا شيء مشاهد، فإن الخصمين قد يكون أحدهما قوي البيان، بليغ اللسان، كثير الكلام، كلامه يفصل الأشياء، ويبين ما لم يكن بيناً واضحاً، ويظهر الأمور، حتى يوهم من يسمعه أن الحق باطل، وأن الباطل حق، ويسحر من سمعه، ويخدعه، ولعل هذا ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن من البيان لسحراً) يعني: بعض الناس أعطاهم الله لسناً وقوة بيان، فقد يظهر الحق في صورة باطل، والباطل في صورة حق، فيتوهم من يسمعه أن الحق معه، وأنه صادق.
وكأنه صلى الله عليه وسلم ينبه القضاة على ألا يعجلوا في البت في القضية حتى يسمعوا كل ما له صلة بهذه القضية، وألا يصدقوا من كان بليغاً في المقال، ومن كان كثير الكلام، حتى يتبين صدقه وأحقية ما قال، ويأخذ أيضاً ما لدى الطرف الثاني، ويتثبت في ذلك، فيعرف القاضي بعد ذلك كيف يقضي، وقد ذكرنا أن علياً رضي الله عنه كان أقضى الصحابة كما روي أنه قال: (وأقضاكم
هكذا وعظ هذين الخصمين، وأخبر بأنك -أيها الخصم الذي تعرف ظلمك وتعرف عدوانك- إذا كنت عارفاً بأن هذا لا يحل لك، وكنت تعرف أنك معتدٍ بحجتك، معتدٍ في قضيتك، وأن أخاك وخصمك مظلوم معتدى عليه وعلى حقه، فكيف مع ذلك تقدم على هذا؟ إن هذا الذي أخذته ولو استمتعت به في الدنيا؛ فإنه سيكون وبالاً عليك، وستعذب به عذاباً وبيلاً، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتطع مال أخيه بيمين هو فيها كاذب لقي الله وهو عليه غضبان، قيل: يا رسول الله! وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال: وإن كان قضيباً من أراك) يعني: عود سواك قدر ما يقبضه القابض، ما قيمة هذا العود السواك؟! إذا حلف أنه له وهو ليس له لقي الله وهو عليه غضبان، والله تعالى إذا غضب على عبده فلا يقوم لغضبه شيء.
وهكذا إذا رأى أحد الخصمين من القاضي إقبالاً على أحد الخصمين؛ فقد يتهمه بأنه يميل معه، فيلقي له كلمة، فالقاضي الذي يسمع مثل هذه الكلمة لا يعيرها اهتماماً، وإذا غضب فعليه أن يتوقف عن القضاء، ولا يحكم في تلك الحال، حتى يهدأ ويذهب عنه الغضب؛ لأنه إذا حكم وهو غضبان فربما ظهر في قضائه ميل نحو الخصم الذي أغضبه أو سبه أو عابه أو قدح في عدالته، فيكون ذلك ظلماً وجوراً، وهذا لا يجوز في الشرع.
لأن هذه الأشياء تمنعه من التأمل في القضية، ومن التعقل في أطرافها، ومن تتبع الأطراف، وتتبع القضايا، وعرضها على فكره وعقله، فيكون في هذا التسرع ما يسبب خطأه، ويسبب وقوع الغلط في قضائه، فيندم بعد ما يفوت الأوان، فإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدم القضاء في حالة الغضب يلحق به كل ما يقلق القاضي ويضجره حتى لا يعجل في القضية، ولا يقدم عليها إلا بعد تتبع أطرافها، وهذه إرشادات نبوية لئلا يقع ظلم أو حيف أو اعتداء على بعض الخصوم، فيقع القاضي في الظلم ويتسبب في أخذ الحق من مستحقه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه)].
هذان حديثان يتعلقان بالقضاء، فالحديث الأول يتعلق بشهادة الزور وقول الزور، والحديث الثاني يتعلق بكيفية القضاء، كيف يقضي القاضي بين اثنين إذا تنازعا؟
فأما الحديث الأول فأخبر أن شهادة الزور من أكبر الكبائر، يقول: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس وقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قالوا: ليته سكت)! الكبائر هي الذنوب الكبيرة التي تحتاج إلى التوبة، فمنها ما لا يغفر إلا بالتوبة كالشرك، ومنها ما يكون تحت المشيئة كالكبائر التي دون الشرك.
والشرك فاحذره فشرك ظاهر ذا القسم ليس بقابل الغفران
وهو اتخاذ الند للرحمن أياً كان من حجر ومن إنسان
يدعوه أو يرجوه ثم يخافه ويحبه كمحبة الديان
فهذا الشرك أكبر الكبائر.
ولا شك أن للوالدين حقاً كبيراً على أولادهما؛ ولذلك قال تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:23-24] وهذا تعليم من الله تعالى بكيفية البر، والتأفيف أقل ما يتصور من القول السيء، فعرف بذلك أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، والأحاديث في ذم العقوق كثيرة معروفة.
والزور هو الكذب، والتزوير معروف وهو التدليس والكذب في أمر من الأمور، يقال: زور فلان على فلان يعني: كذب عليه، وكتب عنه أنه قال: كذا، أو قلد كتابته أو نحو ذلك؛ حتى يظلمه، ويطلق الزور على كل من كذب على غيره، ولا شك أنه يعم الكذب على الله تعالى وعلى رسله، فإنه من أكبر الكبائر، وقد قرنه الله تعالى بالشرك في آية أخرى في سورة الحج، يقول تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج:30] اجتنبوا الرجس أي: الشرك، والزور هو الكذب، ومدح الذين يتجنبونه بقوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان:72] قيل: لا يحضرونه وقيل: لا يشهدون به، وبكل حال فهذا دليل على عظم الكلمة.
وشهادة الزور هي الشهادة عند القاضي كذباً وزوراً وإثماً، جعلها النبي عليه الصلاة والسلام من أكبر الكبائر، وما ذاك إلا لأنه يترتب عليها مظالم، فإن القاضي يبني على شهادة الشاهدين، فيحكم بما شهدا به، ومتى كانا كاذبين تحملا ذلك الإثم، فإذا اقتطع من هذا حقاً بموجب شاهدين كاذبين فهما الظالمان وهما الآثمان، وعليهما جرم ذلك الظلم، لا على القاضي؛ لأنه بنى على شهادة غيره، ولهذا روي عن شريح -وقد كان قاضياً لـعلي ولمن بعده- أنه أوصى بعض القضاة بقوله: إن القضاء جمرة فاجعل بينك وبينها عودين يقيانك منها، فسئل: ما هما العودان اللذان تأخذ بهما الجمرة؟ فقال: الشاهدان، فهما اللذان يقبضان هذه الجمرة، فإذا كنت تريد أن تقضي فكأنك تقطع جمرة من هذا لهذا، فلا تمسها، ولكن دع الذي يمسها غيرك، وهما الشاهدان، فإذا كانا كاذبين فهما الآثمان.
وقد وردت الأدلة في ذم شاهد الزور، حتى روي في بعض السنن: (لا تزول قدما شاهد الزور حتى يستوجب النار)، أو (حتى يوجب الله له النار) أي: بموجب شهادته كأنه لما اقتطع بهذه الشهادة حقاً لمسلم عاقبه الله بهذا العذاب، وهو استحقاقه لعذاب النار وبئس القرار.
وقد تساهل الناس في هذه الأزمنة بشهادة الزور، فصاروا يشهدون حمية، يشهد أحدهم حمية لقريبة أو تعصباً أو نحو ذلك، ويشهد بعضهم لمصلحة كأن يبذل له المشهود له مالاً حتى يشهد له، فيأخذ مالاً دنياً دانياً مقابل أن يبيع دينه، ويستوجب عذاب الله، وشر الناس من ظلم الناس للناس، لا ينتفع بهذا بل ينفع غيره ويضر نفسه، فلو فكر في أنه يوصم بأنه كاذب، ويوصم بأنه آثم، ويوصم بأنه مزور، وهذه صمات كبيرة، وهي بعض ما يستحقه، فيشتهر بعد ذلك أنه شاهد زور، ويجب أن يشهر أمره إذا علم أنه شاهد زور، وذهب بعض العلماء إلى أنه يطاف به في الأسواق وفي الطرق، ويشهر ويقال: هذا شاهد الزور، هذا شاهد الزور؛ حتى يتجنبه الناس ويعرفون كذبه، وأنه قد تعمد الكذب، فيرتدع الناس حتى لا يشهدوا مثل شهادته مخافة الفضيحة، وكذلك يعرفونه فلا يقبلون قوله، ولا يقبلون معاملته، فيبوء بعد ذلك بالذل والهوان.
يجب أن يتثبت الإنسان فلا يشهد إلا بما استيقنه، روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل: (ترى الشمس؟ قال: نعم، قال: على مثلها فاشهد أو دع) أي: لا تشهد إلا على شيء تتيقنه كما تتيقن أن هذه هي الشمس إذا طلعت، فلا تشهد وأنت شاك أو متوهم، لا تشهد بما لا تعلم، وحكى الله عن إخوة يوسف أنهم قالوا: وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ [يوسف:81]، فذكروا أن شهادتهم إنما هي بما وصلت إليه معرفتهم، وبما رأوه دون أن يعلموا حقائق الأمور، فالشاهد يشهد بما ظهر له، فإن كان متيقناً أقدم، وإلا أحجم.
بين عليه الصلاة والسلام أن على المدعى عليه اليمين: (اليمين على المدعى عليه)، والمدعى عليه هو الذي إذا ترك سكت، وهو الذي يحب أنه يخلى سبيله، جاءه إنسان وقال: أنت يا هذا عندك لي حق، عندك لي دين، أو ظلمتني، أو أخذت مالي، أو اقتطعت أرضي، أو سفكت دمي، أو قطعت طرفي، أو قتلت ابني، أو هدمت جداري، أو قلعت شجرتي، أو صدمت سيارتي، أو نحو ذلك؛ فأنكر، وقال: ليس هو أنا، ما فعلت شيئاً من ذلك، لست أنا خصمك، وليس عندي لك حق، فالمدعي المطالب هو المبتدئ، والمدعى عليه يريد الهروب، ويريد السلامة، ينكر ذلك، وينكر أن يكون عنده شيء، ويحب أن يترك ويخلى سبيله، فلما كان جانبه أقوى -لأن الأصل البراءة- جعلت اليمين عليه، فإن اليمين تكون مع من جانبه أقوى، فيقال له: إما أن تثبت ببينة وشاهدي عدل أن هذا ظلمك وأخذ حقك وإما أن يحلف خصمك، وتبرأ منه، وقد وقع ذلك في حديث الأشعث بن قيس الكندي لما تخاصم هو ورجل من كندة في أرض، فقال: إنه اعتدى على أرضي، فقال الكندي الآخر: إنها أرضي ورثتها من أبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للأشعث : (ألك بينة؟ قال: لا، قال: فلك يمينه، فقال: إذاً يحلف ويأخذ أرضي)، وفي رواية قال: (إنه رجل فاجر لا يبالي بالكذب، فقال: ليس لك إلا يمينه)، ثم إنه عليه السلام أخبر بشدة عذاب من حلف كاذباً، فقال: (من حلف يمين صبر وهو كاذب ليقتطع مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان)، ونزلت في ذلك الآية الكريمة في سورة آل عمران: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً [آل عمران:77] يعني: حظاً دنيوياً عاجلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77] انظروا كيف توعد الله من حلف وهو كاذب، فعلى الشاهد أن يتثبت في شهادته، والحالف لابد أن يتثبت في حلفه، مخافة أن يأخذ بيمينه ما لا يحل له، ومخافة أن تنزل به عقوبة إذا حلف وهو كاذب، وبالأخص إذا حلف على أمر ماضٍ وهو يعلم أنه كاذب فيه، وهذه تسمى اليمين الغموس، فإنه يوشك أن يعاقبه الله عاجلاً، وقد ورد في بعض الآثار: (إن اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع) يعني: من حلفوا وهم كاذبون يسلط الله عليهم الآفات والمصائب والموت، ذكر ابن عباس أن رجلاً من قريش في الجاهلية قتله رجل من العرب، فطلبوا ديته فقالوا: ما قتلناه، فقالوا: يحلف منكم خمسون، فأحد الخمسين دفع ناقتين وقال: اعفوني من اليمين، والثاني من الخمسين أعفوه لأنه صهر لقريش، وثمانية وأربعون حلفوا وقالوا: ما قتلناه، فما دارت السنة وفيهم عين تطرف، هكذا في صحيح البخاري عن ابن عباس ، فلذلك يتوقى من الحلف كاذباً كما يتوقى من الشهادة كاذباً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر