اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد:
فإن الصائم إذا أفطر ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً، فإن صومه صحيح، وعليه أن يكمل صومه ذلك، والدليل على ذلك في النسيان قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا نسي الصائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)، وكذلك ما جاء في سنن ابن ماجة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، فإذا أخطأ الإنسان فأكل، أو نسي فأكل، أو أكره على ذلك فأكل مكرهاً، فإنه مجرد ما يرجع إلى حالته الأولى يلزمه أن يمسك ويتم صومه.
فإذا كان جاهلاً بالصيام، وهذا لا يتصور في إنسان يعيش في بلد إسلامي، ولكن في بلاد الكفر قد يتُصور ذلك، فقد يصوم كما يصوم أهل الكتاب، فهذا جاهل، فلا يجب عليه إلا أن يمسك، والأحوط له أن يعيد ما أفطره، لكن إن لم يعد فلا شيء عليه؛ لأنه جاهل.
كذلك المكره، ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، فإذا أكره إنسان من قبل قوم بأن جعلوا بداخل فمه ماء أو طعاماً أو أدخلوه في الماء بحيث أنه يضطر أن يشرب من هذا الماء، فهذا كله لا يبطل صومه، بل ويكمله بعد ذلك إن استطاع.
أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، وذرعه أي: غلبه القيء، فهذا إكراه من نفسه؛ لأن المعدة هاجت فأفرغت ما فيها، فمن ذرعه القيء فليس عليه قضاء، وإنما القضاء على من استقاء عمداً، وكذلك الحكم في الطعام والشراب ونحو ذلك، فإن الإنسان إذا أكره عليها ولا يد له في ذلك، أي: أكره إكراهاً ملجئاً بآلة أو سلاح أو نحوها، فلا شيء عليه وليكمل صومه.
كذلك إذا أكره إنسان على الوطء، بأن قيل له: جامع في نهار رمضان وإلا قتلناك، لو حدث هذا الشيء وفعل المكره ما أكره عليه فالراجح أيضاً أنه لا يفطر ولا قضاء عليه في ذلك.
لكن قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث لقيط: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)، فهنا استثناء واحتراز وهو أنك إذا كنت صائماً فلا تبالغ في المضمضة أو الاستنشاق، فنهى عن المبالغة فيها، ولم ينه عنها بالكلية، وأما حكمها فقد قدمناه فيما مضى.
الراجح أن الدليل خص حالة واحدة من حالات الإفطار وهي الإفطار بالجماع في نهار رمضان، ولا يلحق غيره به، فمن جامع في نهار رمضان فهذا الذي جاء فيه نص النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بالقضاء مع الكفارة.
فالذي تعمد الإفطار في نهار رمضان يلزمه أن يمسك بقية يومه، وإن كان إمساكه ليس صوماً، ولكن لمراعاة حرمة اليوم.
هنا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة، ولم يذكر زوجة الرجل وما الحكم بالنسبة لها، ولذلك اختلف العلماء هل الكفارة خاصة بالرجل فقط أم أنها تجب على كل من الرجل والمرأة؟
فالبعض يقول: تجب على الاثنين؛ لأن الرجل سأل عن حكم نفسه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، والمرأة تقاس على الرجل فيها، والبعض يقول: لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرجل بكفارةٍ واحدة، وقد علم أنه جامع أهله، ومع ذلك لم يذكر الكفارة على الزوجة، والراجح في هذه المسألة أن الشخص إذا أكره امرأته على ذلك فوافقته خوفاً منه، فيكون عليه القضاء والكفارة وهي عليها القضاء فقط، وإذا دعته هي إلى ذلك، فتكون هي مطيعة ومريدة للمعصية، فيلزم الاثنين القضاء والكفارة.
فالرجل إن استطاع أن يعتق رقبة فليفعل وعليه مع ذلك أن يقضي يوماً مكان اليوم الذي جامع فيه، وإذا لم يقدر على عتق رقبة ينتقل إلى صيام شهرين متتابعين، فإذا لم يكن يقدر على ذلك ينتقل إلى إطعام ستين مسكيناً، فإذا لم يقدر في الوقت الحاضر يصبر وينتظر حتى يقدر، وإذا لم يقدر فإنه مع العجز الدائم يسقط عنه ذلك.
والمرأة إذا كانت تقدر على العتق لزمها، وإذا كانت لا تقدر على العتق وتقدر على الصيام لزمها، فلا تعلق لكفارة الرجل بكفارة المرأة، فقد يكون الرجل فقيراً والمرأة غنية؛ ولذلك جاز إذا كان الزوج فقيراً والمرأة غنية ولها مال أن تعطي زكاة مالها لزوجها، ولم يجز العكس، فالرجل إذا كان غنياً لا يجوز أن يعطي زكاة ماله لامرأته؛ لأنه يجب عليه أن ينفق عليها، فالمقصود أن الشخص يكفر عن نفسه، سواء أكان الرجل أم المرأة بما يقدر عليه، على الترتيب الذي ذكر في الحديث.
وإذا كان الشخص متزوجاً أربع نسوة، ووطئ الأربع في نهار رمضان، فالراجح أن عليه كفارة واحدة مع القضاء، وعليه ذنب عظيم لانتهاك حرمة اليوم بذلك، والنساء فيهن التفصيل الذي ذكرناه آنفاً، وهو أن المطاوعة له في ذلك عليها القضاء والكفارة، أما المغلوبة على أمرها فإن عليها أن تقضي فقط.
لكن لو أن المرأة قاومت ولم ترد هذا الشيء فأجبرها بالقوة، فنرجع إلى حكم الإكراه، وهو أنها إذا كانت مكرهة لا تقدر على الفكاك ولا المقاومة، فإنها تبقى على صيامها وليس عليها القضاء إلا أن تخاف منه فتمكنه، أي: إذا ألجأها لذلك فليس عليها شيء، ففرق بين أن تكره إكراهاً ملجئاً وبين أن لا تكون كذلك.
فإذا لم يقدر على العتق ولا على الصيام، فيطعم ستين مسكيناً، والراجح أن الإطعام يكون وجبة لكل مسكين، فيعطي كل مسكين مداً، والمد يقدر بربع صاع إذا كان من تمر، ففي التمر يكون الصاع كيلو وربع الكيلو، إذاً فالمد من التمر سيكون أربعمائة جرام تقريباً، فإذا كان من القمح أو من الأرز ونحو ذلك سيكون أكثر من نصف كيلو بقليل، فإذا أعطى كل مسكين نصف كيلو من الأرز أو من القمح أو نحو ذلك، فالراجح أنه يجزئ عنه ذلك، وإن كان الأفضل أنه يعطي للمساكين من جنس الذي يأكل.
فقد أجمع العلماء على أنه لو استيقظ لحظة من النهار -مهما كانت قليلة ولو دقيقة واحدة- ونام بقية يومه صح صومه، وأما إذا نام جميع النهار فهنا المسألة فيها خلاف باعتبار أنه لم يستيقظ وأن حكمه حكم المغمى عليه، ولكن الراجح -كما قلنا- إن هناك فرقاً بين المغمى عليه وبين النائم، فالمغمى عليه لا يشعر مهما عملت معه ومهما حاولت أن تصحيه إلا أن يشاء الله سبحانه تبارك وتعالى؛ لأنه فاقد العقل، أما الإنسان النائم فعقله موجود وإنما ذهبت بعض أحاسيسه فقط.
فالمغمى عليه لو نوى الصيام من الليل ثم أغمي عليه جميع النهار، لم يصح منه صوم؛ لأنه لم يوجد منه إلا النية فقط، أما الشعور فلا يوجد؛ لأنه ذاهب العقل بسبب هذا الإغماء، فيقضي يوماً مكان هذا اليوم الذي أغمي عليه فيه.
ولو أن إنساناً تصيبه نوبات من الجنون في النهار كالصرع ونحو ذلك، فالراجح أنه لو كان جزءاً من النهار فلا شيء عليه طالما أنه نوى بالليل الصيام وبعض النهار كان صائماً ممسكاً، وإنما عرض له الجنون في جزء من النهار، وكذلك الحكم بالنسبة للإغماء في جزء من النهار.
أما من جن وذهب عقله النهار كله، فهذا ذاهب العقل غير مكلف، فلا يلزمه القضاء ولا يجب عليه، فنفرق بين هؤلاء الثلاثة: النائم اليوم كله، والمغمى عليه اليوم كله، والمجنون اليوم كله.
فالنائم اليوم كله: صومه صحيح طالما نوى الصيام من الليل.
والمغمى عليه اليوم كله: صومه باطل، ويلزمه القضاء؛ لأن حكمه حكم المريض.
والمجنون اليوم كله: يعتبر فاقد أهلية التكليف؛ لعدم وجود العقل، فلا يخاطب وهو في حالة جنون، ولا يلزم بالقضاء، بخلاف ما إذا ذهب عقله في بعض اليوم فإن صومه في باقي اليوم صحيح.
ولو أن إنساناً شرب مسكراً بالليل وبقي سكره إلى النهار، فهذا لا يصح منه صيام ويلزمه التوبة إلى الله عز وجل والقضاء.
نكتفي بهذا القدر، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر