-
تفسير قوله تعالى: (ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن...)
-
تفسير قوله تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون)
-
تفسير قوله تعالى: (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين)
ثم يقول تبارك وتعالى:
أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ [الأنعام:156].
قوله: (أن تقولوا) علة لقوله: (أنزلنا) أي: كراهة أن تقولوا يوم القيامة. أو: لئلا تقولوا يوم القيامة ( إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) فالله سبحانه وتعالى يقيم الحجة على هذه الأمة، حتى لا يأتوا يوم القيامة فيقولوا: نحن ما جاءنا كتاب.
وقوله: ( إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) هم اليهود والنصارى لعنهم الله ( وإن كنا عن دراستهم ) أي: عن تلاوة كتابهم ( لغافلين ) أي: لا علم لنا بشيء منها؛ لأنها ليست بلغتنا.
قال
أبو السعود : ومرادهم بذلك دفع ما يرد عليهم من أن نزوله عليهم لا ينافي عموم أحكامه، فلمَ لم تعملوا بأحكامه العامة؟! والمعنى: وإن كنا لا ندري ما في كتابهم؛ إذ لم يكن على لغتنا حتى نتلقى منه تلك الأحكام العامة ونحافظ عليها وإن لم يكن منزلاً علينا.
وبهذا يتبين أن معذرتهم هذه غير مقبولة، مع أنهم غير مأمورين بما في الكتابين لاشتمالهما على الأحكام المذكورة المتناولة لكافة الأمم، كما أنه قد قطعت تلك المعذرة بإنزال القرآن لاشتماله -أيضاً- عليها لا على سائر الشرائع والأحكام فقط.
وقوله:
أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ [الأنعام:156] أي: بلغة غير لغتنا، فلم نتمكن حتى من معرفة الأحكام العامة التي تشملنا وتشملهم، كالأمر بالتوحيد ومكارم الأخلاق وغير ذلك، فالآن ما بقي لكم حجة، فقد آتاكم الله هذا الكتاب المبارك لعلة أن لا تقولوا: إنما أنزل الكتاب -التوراة والإنجيل- على طائفتين من قبلنا. فقد جاءكم الآن هذا الكتاب المبارك (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
-
تفسير قوله تعالى: (أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم...)
ثم قال تبارك وتعالى:
أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ [الأنعام:157].
قوله: ( أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب )، يعني: كما أنزل عليهم ( لكنا أهدى منهم )، أي: لكنا أسرع إلى الحق وأسرع إجابة للرسول صلى الله عليه وسلم لمزيد ذكائنا وجدنا في العمل.
( فقد جاءكم بينة من ربكم ) كأن كلمة (فقد) متعلقة بمحذوف تنبئ عنه هذه الفاء التي يسمونها بالفصيحة، يعني: لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم. وإما أن تكون واقعة في جواب الشرط، يعني: إن صدقتم فيما كنتم تعدون من أنفسكم من كونكم أهدى من الطائفتين على تقدير نزول الكتاب عليكم فقد حصل ما طلبتم وجاءكم ما كنتم تتعجلونه، ( فقد جاءكم بينة من ربكم )، أي: كتاب حجة واضحة، ( من ربكم ) يعني: جاءكم من ربكم كتاب، أو ( فقد جاءكم بينة من ربكم )، أي: بينة كائنة من الله تعالى لا يتوهم فيها السحر ( وهدىً ) أي: بإقامة الدلائل ورفع الشبه ( ورحمة ) أي: بإصابة الفوائد وتسهيل طريقكم وتيسيرها إلى أشرف الكمالات.
وقوله: ( فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها ) أي أن مجيء الآيات المشتمل على الهدى والرحمة موجب لغاية أظلمية من يكذبه؛ فإن هذا القرآن مشتمل على أقصى درجة من الهدى والرحمة والبيان والحجة والبرهان، فإذا كان هو بهذه الحالة فهل يوجد أظلم ممن يكذب بمثل هذا القرآن الذي اشتمل على أقصى وأعلى وغاية الهدى والرحمة، فإذا كان الأمر كذلك فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصرف عنها؟! أي: صرف الناس وصدهم عن اتباع القرآن الكريم، فجمع بين الضلال والإضلال، حيث كذب بآيات الله بنفسه، وصدف عنها، أي: صد غيره عن سبيل الله تبارك وتعالى، والمعنى: إنكار أن يكون أحد أظلم منه أو مساوياً له.
وقوله: (( سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا ))، يعني: يصدون ويصرفون الناس عن آياتنا التي لو لم يصرفوا عنها لعرفوا إعجازها، أي: أنهم هم الذين يحولون بين الناس وبين آيات الله ومعرفة إعجاز كلام الله.
وقوله: ((سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ))، يعني العذاب السيء، وهذا كقوله تعالى:
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل:88] أي: لأنهم كانوا فاسدين في أنفسهم ومفسدين لغيرهم، فكانوا كافرين في أنفسهم وصادين الآخرين عن سبيل الله، وكانوا يصدفون عن آيات الله، فحملوا وزرهم ووزر الذين أضلوهم بغير علم، فلذلك قال: ( زدناهم عذاباً فوق العذاب )، فهم يحملون أوزارهم وأوزاراً مع أوزارهم، ولا يشترط أن يكون لهم في ذلك حجة، لكن المقصود المبالغة في إبطال كل المعاذير المحتملة التي يحتمل أن يعتذروا بها، وهذه المسألة متعلقة بمسألة أخرى، وهي حال المشركين قبل نزول القرآن الكريم قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، فهل هم مسئولون عن الشريعة فهل هم من أهل النار، أم أنهم معذورون؛ لأنه لم يأتهم رسول؟ والظاهر أنهم كانوا على بقية من دين إبراهيم عليه السلام؛ لحديث: (
إن أبي وأباك في النار).
-
تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك...)
ثم قال تعالى:
هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ [الأنعام:158].
قوله: ( هل ينظرون )، يعني: قد أقمنا حجج الوحدانية وثبوت الرسالة وأبطلنا ما كانوا يعتقدون من الرسالة، فما ينتظر هؤلاء بعد تكذيبهم الرسل وإنكارهم القرآن وصدهم عن آيات الله؟
قال
البيضاوي : أهل مكة، وهم ما كانوا منتظرين لذلك، ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر شبهوا بالمنتظرين.
يعني أن هذا الشيء الذي سيقع يلحقهم تماماً كما يلحق الشخص الذي ينتظر الذي سيقع.
وقوله: ( إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك )، يعني: للحكم والفصل والقضاء بين الخلق يوم القيامة، قال
ابن كثير : وذلك كائن يوم القيامة.
وهذه الآية هي كما قال عز وجل:
هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ [البقرة:210]، ومذهب السلف إمرار ذلك بلا كيف، أي: لا يتعرض الإنسان لتأويل قوله تعالى: ( إلا أن يأتيهم الله )، أو قوله تعالى: ( أو يأتي ربك )، ولا يقل: كيف الإتيان؟ ولا يقال: لله سبحانه وتعالى كيف. لأن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فنثبت الصفة على ما يليق بالله عز وجل، ولا نشبه الله بخلقه، وفي نفس الوقت لا نعطل الصفة ولا ننفيها، هذا هو مذهب السلف.
وقوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة ) قيل: ملائكة الموت لقبض أرواحهم. والتفسير المعتمد هو أنه تأتيهم الملائكة يوم القيامة.
وقوله تعالى: ( أو يأتي بعض آيات ربك ) وهذا كائن قبل يوم القيامة، وهو من أمارات الساعة وأشراطها، كما روى
البخاري في تفسير هذه الآية عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها)، لكن هذا الإيمان لن ينفع، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (
فذاك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل) ورواه
مسلم أيضاً، ولـ
مسلم و
الترمذي عن
أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (
ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض).
وقوله: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل ) جملة: (لم تكن آمنت من قبل) صفة لـ(نفساً) وجملة ( أو كسبت في إيمانها خيراً ) عطف على (آمن)، والمعنى أن بعض أشراط الساعة إذا جاء يؤمن الناس إذا رأوه؛ لأن هذه الآية حينئذٍ فيها إلجاء وفيها اضطرار إلى الإيمان؛ لأنهم إذا رأوا الشمس تطلع من المغرب علموا أن هذه الآية قاطعة على قدرة الله سبحانه وتعالى الذي أتى بها من المغرب، وحينما يعلمون أن القرآن أخبر بذلك وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك وأن الساعة تكون قد اقتربت من هذه العلامة، فحينئذ يؤمنون، لكن هذا الإيمان لا ينفع؛ لأن أوان التكليف قد انتهى، ففي هذا الوقت يتوقف وينقطع أوان التكليف عند حصول هذه الآية، فلن ينفع الإيمان حينئذٍ نفساً غير مقدمة إيمانها من قبل ظهور هذه الآية، فالإيمان الذي ينفع الإنسان هو الذي يكون قبل أن تظهر هذه الآية، أما إذا ظهرت فلا ينفع ذلك الإيمان.
وكذلك إذا كان الشخص مؤمناً قبل مجيء هذه الآيات كطلوع الشمس من مغربها، ولكن مع إيمانه لم يكتسب في إيمانه خيراً، ولم يستكثر من الأعمال الصالحة، فإنَّه في هذا الوقت لا يستطيع أن يستزيد، بل يتوقف أوان التكليف في هذه الحالة، فهي تشمل كل الناس، تشمل المؤمنين وتشمل الكافرين، تشمل الكافر الذي يؤمن حين تأتي الآية، وتكون الآية في حقه مثل الغرغرة، فلا ينفعه إيمانه في ذلك الوقت؛ لأنه إيمان ناشئ عن اضطرار وعن إلجاء بظهور هذه الآية العظيمة، وكذلك النفس المؤمنة التي لم تكسب في إيمانها خيراً لا تستطيع بعد ظهور هذه الآية أن تزيد في عملها شيئاً.
يقول: والمعنى أن بعض أشراط الساعة إذا جاء -وهي آية ملجئة مضطرة- ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع الإيمان حينئذ نفساً غير مقدمة إيمانها من قبل ظهور الآية، أو مقدمة الإيمان غير كاسبة في إيمانها خيراً، فتوبتها حينئذ لا تجزئ.
يعني أن المؤمن أو المسلم الذي هو فاسق ولم يكتسب خيراً بالتوبة قبل ظهورها إذا جاءت هذه الآية وأراد أن يكتسب الخير ويعمل أعمالاً صالحة أو يتوب لا ينفعه ذلك.
قال
الطبري : معنى الآية: لا ينفع كافراً لم يكن آمن قبل الطلوع إيمان بعد الطلوع، ولا ينفع مؤمناً لم يكن عمل صالحاً قبل الطلوع عمل صالح بعد الطلوع؛ لأن حكم الإيمان والعمل الصالح حينئذٍ حكم من آمن أو عمل عند الغرغرة، وذلك لا يفيد شيئاً، كما قال تعالى:
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [غافر:85] فإذا أتى عذاب الله لا تقبل التوبة، كما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر).
وبالجملة فالمعنى أنه لا ينفع من كان مشركاً إيمانه، ولا تقبل توبة فاسق عند ظهور هذه الآية العظيمة التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة، وذلك لذهاب زمن التكليف.
قال
الضحاك : من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه قبل الله منه العمل الصالح بعد نزول الآية، كما قبل منه قبل ذلك. وكأنه يقول: إن هذه الحالة غير مذكورة هنا في الآية؛ لأن الآية سكتت عن الشخص الذي كان قبل نزول الآية مؤمناً يعمل صالحاً، فسكت عن كونه بعد طلوع الآية يتوقف -أيضاً- عمله ويتوقف التكليف في حقه، فـ
الضحاك يذهب إلى أن هذه الحالة لا تستوي مع الحالتين السابقتين: حالة الكافر الذي يؤمن عند نزول الآية، فإنه لا ينفعه بعد ذلك أن يؤمن، أو المسلم الفاسق الذي لم يتب قبل نزول هذه الآية، فإنه لا تنفعه توبته عند طلوع الشمس من المغرب، وسكتت عن المؤمن الذي كان قبل الآية مؤمناً وكان يعمل الصالحات مستقيماً، فلذلك يقول
الضحاك : من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه قبل الله منه العمل الصالح بعد نزول الآية، كما قبل منه قبل ذلك. فأما من آمن من شرك أو تاب من معصية عند ظهور هذه الآية فلا يقبل منه؛ لأنها حالة اضطرار، كما لو أرسل الله عذاباً على أمة فآمنوا وصدقوا، فإنهم لا ينفعهم إيمانهم ذلك؛ لمعاينتهم الأهوال والشدائد التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة، وهذه حكمة الله سبحانه وتعالى، وهي أنه إذا نزل عذاب الله لا يقبل التوبة من هؤلاء القوم؛ لأنهم رأوا من الآيات ما يجعلهم يوقنون ويؤمنون، لكن العبرة بالإيمان الاختياري، أما هذا فهو إيمان اضطراري، كإيمان الكفار يوم القيامة حين يقولون كما حكى الله عنهم:
رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا [السجدة:12].
وقال
ابن كثير : إذا أنشأ الكافر يومئذ إيماناً لم يقبل منه، فأما من كان مؤمناً قبل ذلك فإن كان مصلحاً في عمله فهو بخير عظيم، وإن لم يكن مصلحاً فأحدث توبة حينئذ لم تقبل منه توبته، كما دلت عليه الأحاديث، وعليه يحمل قوله تعالى: ( أو كسبت في إيمانها خيراً ) أي: لا يقبل منها كسب عمل صالح إذا لم يكن صاحبها عاملاً به قبل ذلك، أي: قبل مجيء الآية.
والأحاديث المشار إليها منها ما رواه
مسلم عن
أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (
من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه)، وروى
الترمذي عن
صفوان بن عسال المرادي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
باب من قبل المغرب مسيرة عرضه -أو قال: يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين سنة- خلقه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض مفتوحاً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه) أي: لا يغلق باب التوبة حتى تطلع الشمس من المغرب، ولـ
أبي داود و
النسائي من حديث
معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
لا تزال تقبل التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)، يعني نهاية التوبة في عمر الدنيا، لكن هناك توبة في حق كل واحد منا، وهي ما قبل الغرغرة، وحديث
أبي داود و
النسائي عن
معاوية رضي الله عنه مرفوعاً: (
لا تزال تقبل التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) قال
ابن حجر : سنده جيد، والظاهر أن
القاسمي يقصد
ابن حجر العسقلاني ، وإلا فبعض المصنفين -للأسف- أحياناً يعمل نوعاً من التدليس، فيقول: وصححه ابن حجر أو: وحسنه ابن حجر. ويكون يقصد بذلك
ابن حجر الهيتمي ، بالتاء المثناة، وهذا يثبت التدليس، وهذا مثل الذي يقول مثلاً: رواه
البخاري ، وهو صادق في أنه رواه
البخاري ، لكن عند الإطلاق يفهم أنه رواه
البخاري في الجامع الصحيح، ويكون الحديث في (الأدب المفرد) أو في (التاريخ الكبير) أو في غيرهما من الكتب التي هي
للبخاري ، فهذا -أيضاً- نوع من التدليس إذا تعمده الإنسان، فحين يقول: رواه
البخاري ويسكت، ولا يقول: رواه
البخاري في (الأدب المفرد) يعتبر كلامه إيهاماً، ولذلك تجد رموز الجامع الكبير
للسيوطي أو الصغير تختلف، فـ(خ)
للبخاري ، و(خد)
-
تفسير قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً...)
-
تفسير قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها...)
-
تفسير قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً...)
-
تفسير قوله تعالى: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم...)
ثم قال عز وجل مبيناً نعمته على نبيه:
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:161].
قوله: ( قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ) هو دين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده المخلصين ( ديناً قيماً ) النصب هنا على البدل؛ لأن قوله: ( إلى صراط مستقيم ) يعني: صراطاً مستقيماً، و( ديناً ) نصب على البدل من محل (إلى صراط)؛ لأن معناه: هداني صراطاً، بدليل قوله تعالى:
وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:175] ، أو أنه مفعول لمضمر يدل عليه المذكور، فقوله: (( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا )) يعني: عرفني ديناً قيماً: (( مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا )) أو مفعول (هداني) فقوله: ( قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً ) يعني: هداني ديناً، فـ(هدى) يتعدى إلى مفعولين، و(قيماً) صفة (ديناً)، ويقرأ بالتشديد: (قيّماً)، أي: ثابتاً أبداً لا تغيره الملل والنحل، ولا يستطيع أحد أن يغيره ويبدله، ولا تنسخه الشرائع والكتب، يقوم ويعدل ويصلح أمر المعاش والمعاد، و(قيماً) أصلها: (قوماً)، كـ(عوض)، فأعل لإعلال فعله.
وقوله: ( ملة إبراهيم حنيفاً ) ( حنيفاً ) حال من إبراهيم، يعني أن إبراهيم كان حنيفاً مائلاً عن كل دين وطريق باطل إلى دين الإسلام ودين الحق، فـ(حنيفاً) يعني: مائلاً عن كل دين وطريق باطل فيه شرك ما.
وقوله: (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) اعتراض مقرر لنزاهته عليه السلام عما عليه المفرقون لدينه من اعتقاد وعمل، وفي قوله: ( وما كان من المشركين ) إشارة إلى أن إبراهيم بريء من هؤلاء الذين يزعمون الانتساب إلى إبراهيم مع أنهم واقعون في الشرك، سواء أكانوا من مشركي العرب أم من اليهود أم من النصارى، قال
ابن كثير : هذه الآية كقوله تعالى:
ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:123]، وليس يلزم من كونه أمر باتباع ملة إبراهيم الحنيفية أن يكون إبراهيم أكمل منه فيها.
أي: هل يلزم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر باتباع إبراهيم أن معنى ذلك أن يكون إبراهيم أكمل عند الله من رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام؟
الجواب: لا يلزم ذلك؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قام بها قياماً عظيماً، وأكملت له صلى الله عليه وسلم إكمالاً تاماً ولم يسبقه أحد إلى هذا الكمال، ولهذا قال: (
أنا خاتم الأنبياء، وسيد ولد آدم). وهو صاحب المقام المحمود الذي يرغب إليه الخلق، حتى إبراهيم الخليل نفسه عليه السلام، كما في حديث الشفاعة، فإن جميع الأنبياء يحيلون الشفاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: (
أنا لها أنا لها)، عليه الصلاة والسلام، فيظهر الله سبحانه على مشهد من جميع الأمم وجميع الأنبياء والمرسلين وجميع الخلائق يوم القيامة شرف رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
عن
ابن أبي أبزى عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: (
أصبحنا على كلمة الإسلام وكلمة الإخلاص وملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين)، وروى الإمام
أحمد عن
ابن عباس قال: قيل لرسول صلى الله عليه وسلم: أي الأديان أحب إلى الله تعالى؟ قال: (
الحنيفية السمحة) ، وروى الإمام
أحمد عن
عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (
وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذقني على منكبيه لأنظر إلى زخم الحبشة، حتى كنت التي مللت فانصرفت عنهم، وقالت عائشة : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ: ليعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني أرسلت بحنيفية سمحة).
-
تفسير قوله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)
ثم قال تعالى:
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162].
هذا المأمور به متعلق بفروع الشرائع، وما سبق متعلق بأصولها. أي: أن الأمر السابق أمر متعلق بأصول العقيدة، وهو قوله تعالى: ( قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين )، فقرر الأمر هنا؛ لأنه يقصد هنا فروع الشريعة، والقضايا العملية، فقوله: ( قل إن صلاتي ) يعني: صلاتي إلى الكعبة (ونسكي) يعني: طوافي وذبحي للهدايا في الحج والعمرة أو عبادتي كلها؛ لأن النسك يطلق إما على الذبح، وإما على العبادة كلها.
وقوله: ( ومحياي ومماتي ) يعني: ما آتيه في حياتي، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح، أو ( محياي ) يعني: طاعات الحياة و(مماتي) الخيرات المضافة إلى الممات، كالوصية والتدبير، أو الحياة والممات لله رب العالمين.
وقوله: (لا شَرِيكَ لَهُ) يعني: خالصة لله لا أشرك فيها غيره، (وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ) أي: بذلك القول أو بذلك الإخلاص أمرت، (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) يعني: من هذه الأمة؛ لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته.
قال
ابن كثير : يأمر تعالى نبيه أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله تعالى ويذبحون لغير اسمه أنه مخالف لهم في ذلك، فإن صلاته لله ونسكه على اسمه وحده لا شريك له.
-
تفسير قوله تعالى: (قل أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء...)
ثم قال تعالى:
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [الأنعام:164].
قوله: ( قل أغير الله أبغي رباً ) يعني: فأشركه في عبادته، وهو جواب عن دعائهم له عليه الصلاة والسلام إلى عبادة آلهتهم، حيث يفهم من ذلك أنهم عرضوا عليه أن يشاركهم في عبادة آلهتهم، ودعوه إلى ما هم عليه من الشرك، فجاء الجواب عليهم: ( قل أغير الله أبغي رباً )، أي: هل يصلح أن أبغي رباً غير الله سبحانه وتعالى كما تدعونني؟ وفي إيثار نفي البغية والطلب على نفي العبادة أبلغية لا تخفى، أي: أنه لا يفكر في مجرد أنه يطلب رباً أو يبغي رباً فضلاً عن أن يعبد هذا الرب.
فقوله: ( قل أغير الله أبغي ) يعني: أطلب رباً، ولم يقل: قل أغير الله أعبد رباً، أي: أن مجرد أن يتطلع إلى رب غير الله غير وارد، ولا شك في أن هذا من الأساليب البلاغية الرفيعة، فمجرد أنه يفكر في إله غير الله أمر مرفوض، فكيف يعبد غير الله؟!
وقوله: ( وهو رب كل شيء ) أي: وكل ما سواه مربوب، يعني: مهما تدعونني لعبادة أي إله تدعونني إليه فهو مربوب لله ومخلوق، والذي خلق هذا الإله هو الله سبحانه وتعالى، فكيف أعدل عن عبادة الرب الخالق إلى عبادة المربوبين؟! وكيف أعبد مخلوقاً؟
وقوله: ( وهو رب كل شيء ) حال في موضع العلة للإنكار والتدليل على هذا الإنكار.
وقوله: ( أغير الله ) أي: وكل ما سواه مربوب مثلي لا يصلح للربوبية، فلن أكون عبداً لعبده، قال
ابن كثير : أي: فلا أتوكل إلا عليه، ولا أنيب إلا إليه؛ لأنه رب كل شيء ومليكه، وله الخلق والأمر.
ففي هذه الآية الأمر بإخلاص العبادة والتوكل، كما تضمنت الآية التي قبلها إخلاص العبادة لله تعالى لا شريك له، وهذا المعنى يقرن بالآخر كثيراً، كقوله تعالى مرشداً عباده إلى أن يقولوا:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].