إسلام ويب

اعلم أن الشيطان لا يريد من الإنسان إلا قلبه، الذي هو محل إخلاصه، وذلك ليفسده عليه، وثمة أمور كثيرة تفسد القلوب، ولقد ذكر العلماء من هذه المفسدات خمساً، تعد جماع فساد القلب وهلاكه، وهي: تعلق القلب بغير الله، وكثرة الاختلاط بالناس، والأماني، وكثرة الأكل، وكثرة النوم، فمن أراد السلامة لقلبه فليجتنبها، وليكن على حذر منها.

أهمية الصبر

إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

إن الله تبارك وتعالى امتن على بني إسرائيل، وبين كثيراً من النعم التي خصهم بها وكانت سبب التمكين لهم، وذكر أنه اصطفى منهم أنبياءه وهداة أتقياء وأئمة هدى، وبيّن سبحانه سبب نيلهم ذلك، فقال عز من قائل: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].

فبين أن الصبر هو أول ما نال به أئمة الهدى تلك الدرجة العالية الرفيعة، ولذا فإن الصبر لازم للعبد -وليس للمؤمن فقط، بل لا يستغني عنه الكافر، ولا الحيوان البهيم- فهو مطية المؤمن لا يضل راكبها أبداً ولا يشقى. والصبر مر كاسمه.

وما أحوجنا إلى الصبر، ونحن في مفترق الطرق، وأمام قوانين وضعية تُشرِّع لنا من القوانين مالم يأذن به الله، بدلاً عن الشريعة الإسلامية، ويسمع الحر ذلك فيتمزق قلبه لما يراه ويسمعه، ويتعجب من سكوت العلماء، فكيف لا يهبون ويدافعون عما يعتقدون؟! يسمع الحر هذا فيتفتت كبده من هذا السكوت! ولكنها مسألة تحتاج إلى صبر في هذه الآونة أكثر من أية آونة مضت. ولكن .. ما هي الأسباب المعينة على الصبر؟!

وعليك أن تصبر بغير ذل؛ لأن هناك فرقاً بين الذل والمسكنة وبين الصبر: فالصبر: أن تسكت وتعمل، أما الذل والاستكانة: فهي أن تسكت ولا تعمل، فالصابر يصبر ويعمل بمقتضى ما أمر به، وإذا نظر الله عز وجل إلى قلوب عباده فرآهم عادوا إلى دينهم وراجعوا معنى العبودية؛ مكن لهم كما مكن لبني إسرائيل: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]، يقين مضاف إلى الصبر.

ويعرف الصبر بأنه:

(ثبات باعث الدين إذا اعترته بواعث الشهوات).

مثل: رجل مصاب بعلة يصف له الطبيب شيئين: دواء يخفف العلة، والدواء الآخر يقويه.

فإذا كان الصبر هو ثبات باعث الدين؛ فما هو المعين على هذا الثبات في مقابل باعث الشهوات؟! وما هو المضعف لهذا الباعث الآخر؟

اعلم أن الشيطان لا يريد إلا قلبك: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83] ومحل الإخلاص: القلب، فلا يريد الشيطان إلا قلبك.

مفسدات القلوب

ومفسدات القلب خمسة: تعلق القلب بغير الله، ثم كثرة الاختلاط بالناس، ثم الأماني، ثم كثرة الأكل، ثم كثرة النوم. وهذه خمسة أشياء تفسد القلب:

المفسد الأول: تعلق القلب بغير الله

أعظمها وأهولها: تعلق القلب بغير الله، قال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم:81-82]، إن الذي يعبد شيئاً إنما يعبده ليحميه، وليأخذ العز منه، فعبدوا من دون الله آلهة لتكون لهم عزاً، فتعلق القلب بغير الله أصل الشرك.

المفسد الثاني: كثرة الاختلاط بالناس

المفسد الآخر: كثرة الاختلاط بالناس، فكثرة الاختلاط بالناس تورثك الهم والغم، وتشتت عزم قلبك، فقد ترى رجلاً غنياً فتسأله عن غناه، يقول لك: أنا أعمل كذا وكذا، وعندي خطط، ودراسات جدوى، وأعمل عشرين ساعة، أنا لست كسولاً، والحياة صراع فـ(كن ذئباً وإلا أكلتك الذئاب) فيدخل على قلبك الغم، فتفكر في سبيل الغنى اقتداء به، وتريد أن تكون كهذا الرجل، ورجل آخر يخوفك من الدعوة إلى الله، قائلاً: لا تسلك هذا الطريق، لا تصدع بكلمة الحق، لا تنكر منكراً، كن آمناً، كن في حالك، لا تتكلم! وأنت تريد أن تتقرب إلى الله؛ فيدخل على قلبك الغم والخوف الذي بثه .. وهكذا.

الاختلاط بالناس لابد أن يكون بقدر حاجتك، واختلط معهم فيما يفيد: في الجمعة والجماعات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اعتزلهم في فضول المباحات فضلاً عن المعاصي والمحرمات.

المفسد الثالث: الأماني

الأماني، وهذا بحر لا ساحل له ولا شاطئ، يركبه مفاليس العالم، فالأماني رءوس أموال المفاليس، وما ضيع أكثر العباد إلا الأماني، فاليهود والنصارى ضيعتهم الأماني، والمفرطون من هذه الأمة ضيعتهم الأماني، وهذا شرَك عظيم وخطير، فأمانيك تستغرق عمرك وعمر أولادك وأحفادك، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا كما في صحيح البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام: رسم لأصحابه على الأرض مربعاً -أربعة أضلاع- ثم قال: هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به لا يفر ولا يخرج منه، ثم رسم خطاً مستقيماً بدءاً من الضلع الأخير من المربع وخرج خارج المربع، ثم رسم خطوطاً قصاراً حول هذا الخط المستقيم داخل المربع، فقال: (هذا الإنسان وهذا أجله، والخط الطويل أمله) -أمله خرج من أجله، تلك الآمال تستغرق عمره وعمر أولاده وأحفاده- وهذه الخطوط القصار التي هي داخل المربع حول الخط الطويل قال فيها: (هذه الأعراض والابتلاءات والأمراض، إذا نجا من عرض نهشه الآخر) -أي: لابد أن يبتلى، لا ينجوا أبداً-.

ونفهم من هذا: إن الأمل الطويل والرغبة في الحياة هي التي تمكن الشيطان من قلب العبد، فيقول: أنا سأفعل غداً وبعد غد، والعام القادم سأفعل وأفعل، وهو ميت هذه الليلة.

أعرف رجلاً رحمه الله سلمت عليه في محله بعد صلاة الظهر، ووجدت بجانبه بطانية فقالت: ما هذا؟ قال: بطانية أسبانية، وفرشها طولاً، وقال: على الإنسان أن يتغطى، فالجو بارد وأنا سأتغطى بها الليلة، ولكنه بات في قبره، مات بعدما تركته بساعة، ودفنوه بعد العصر، وما استمتع بها.

ولذلك قال من قال من السلف: (ما ذُكر الموت في واسع إلا ضيقه، ولا في ضيقٍ إلا وسعه). وأنت جالس مع أولادك وكلهم بعافية، وأنت رجل موسر تأكل وتشرب وتضحك، لو ذكرت الموت تتعكر عليك هذه اللذة، ولو ذُهِلْتَ عنهم خمس دقائق فقط وفكرت أنك ستنزع من بين هؤلاء الأولاد، وتسأل نفسك: هؤلاء الصغار كيف يكون حالهم من بعدي لو مت؟ أترى أنهم يسلمون تقلب الزمان ونوائب الدهر؟ سيصير، أترى هناك من يحنو عليهم بعدي؟! فتضيع عليك اللذة الحاضرة ولا تستمتع بها. فكنت في سعة فضيقها عليك.

وكذلك أنك رجل مبتلى بالمصائب من كل جانب، وتذكرت الموت والبلاء، وأن ظالمك لن يخلد بعدك، وأن هناك قصاصاً، وأنك ستقتص من ظالمك، فأول ما تفكر في هذه المعاني يتسع عليك الأمر وتصبر. وهذا مصداق قولهم: (فما ذكر الموت في واسع إلا ضيقه، ولا في ضيق إلا وسعه)، والأماني أخطر شيء يعكر صفو القلب بعد تعلق القلب بغير الله.

المفسد الرابع: كثرة الطعام

قال لقمان لابنه: (يا بني! إن المعدة إذا امتلأت نامت الفكرة، وكفت الأعضاء عن العبادة)، إن كبير البطن لا يحرز شيئاً في السبق -لو تسابق الناس لا يحرز شيئاً- واعتبر بحال الجياد، إن الجواد الذي تركبه لتفوز بالسبق فيه لابد أن يكون مضمر البطن لا عظيمها).

المفسد الخامس: كثرة النوم

واعلم أن كثرة الطعام مجلبة للنوم، وكثرة النوم مظنة الفساد، وفوات المصالح وقد سئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن جده في نهاره وقيامه في ليله، وأن في هذا إرهاقاً وأي إرهاق، يقول: (إنني لو نمت في نهاري ضيعت رعيتي، ولو نمت في ليلي ضيعت نفسي، فكيف الخلاص منهما؟!).

وكان أبو حصين رضي الله عنه كثير قيام الليل، وكان يضع عصاه بجانب مصلاه، فإذا أحس أن رجليه لا تقويان على رفعه ولا على حمل بدنه، كان يضرب رجليه بالعصا، ويقول لهما: (أنتما أحق بالضرب من دابتي، أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم لم يخلفوا بعدهم رجالاً؟ والله لأزاحمنهم على الحوض.. ويقوم)، وهذه لا يفعلها رجل ممتلئ البطن، وهذا ما يدل عليه قول لقمان الحكيم فيما يروى عنه: (إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وكفت الأعضاء عن العبادة.

وكذلك إذا امتلأت المعدة ازداد الشبق، وعظمت الشهوة، وبدأ الشيطان يلعب بصاحبها ويفكر؛ كيف يصرف هذه الشهوة، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) -يعني: وقاية يتترس بها من عدوه-. فإذا كان الصيام -الجوع- وقاية من حدة الشهوة؛ فإن كثرة الطعام مجلبة لهذه الشهوة؛ ولذلك أكثر الناس عصياناً أصحاب الترف، الذين يأكلون ما شاءوا ويشربون مالذ لهم ويملئون بطونهم، وعندهم من المال ما يستطيعون به تنفيذ أهوائهم.

أمور تساعد على تقوية باعث الدين

فهذه مفسدات القلب، والشيطان لا يريد إلا قلبك، فإذا عجزت عن قتله بالكلية فَقَوِّ باعث الدين؛ فإنه يقتل البقية الباقية في بواعث الشهوات، واستعن على تقوية باعث الدين بأمور منها:

استحضار عظمة الله سبحانه وتعالى والحياء منه

الأول: أن تستحضر جلال الله عز وجل، وأنه يراك حين تعصيه، فإن القلب إذا قام في هذا المقام لا يقوى على معصية الله أبداً: والنبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: (عظني. قال: استحي من الله كما تستحيي من رجل من صالحي قومك)، أي: فإنك لا تجرؤ على أن تعصي الله وتأتي بالقبائح أمام الصالحين، فليكن جلال الله في قلبك أفضل وأقوى من إجلالك لهذا الرجل الذي تستتر وراء الجدار وتغلق الباب حتى لا يراك؛ حياءً منه، فالذي لا يغفل عنك طرفة عين ولا ما دونها أولى بالحياء.

وروى عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد بسند صحيح عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: (سمعت أبا بكر يخطب على المنبر فيقول: يا أيها الناس! استحيوا من الله، فوالله إنني لأتقنع -يعني: يتلثم بعمامته- إذا خرجت إلى الخلاء؛ حياءً من الله عز وجل) وهو يقضي حاجته حياءً من الله تبارك وتعالى.. فهكذا فليكن الحياء.

محبته سبحانه وتعالى

ثانياً: استحضر مشهد محبته تبارك وتعالى، وأن المحب لا يعصي من يحبه، وأن الطاعة أسهل ما تكون على المحبين، وأن خدمة المحب متعة، يصلي ويستمتع، يخرج من حر ماله ويستمتع، يناله ما يناله من الأذى وهو مستمتع!

(دخل بعض السلف على أخيه وهو مريض فسمعه يئن، فقال له: ليس بمحب من لم يصبر على ضرب حبيبه. فقال له الرجل: صدقت، بل ليس بمحب من لم يلتذ بضرب حبيبه!)، فنقلها إلى نقلة أعلى وأفضل، وليكن لسان حالك: (لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك) إذا كنت محباً استعن بهذا الحب على تقوية باعث الدين ودحر باعث الشهوات.

استحضار إحسانه سبحانه وتعالى

ثالثاً: استحضر إحسان الله إليك، وأنه المبتدئ عليك بنعمه قبل أن تستحقها، وليس من شيمة الكريم أن يرد الإحسان وأن يعقبه بالإساءة، فاستحضر إحسانه عليك: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34] لا تستطيع أن تعدها في بدنك فضلاً عن السماوات والأرض، لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر:57]، استحضر أسماءه وصفاته وآثارها في الكون، لا تعصه طرفة عين، هو لا يستحق منك ذلك، وهو المتفضل عليك.

واعتبر بحياة الناس: إذا لم تعلم صفات الرجل ما الذي يغضبه، وما الذي يحبه؛ فلا تستطيع أن تمد جسور الود بينك وبينه، كما أنك لا تستطيع أن تستلب قلوب الناس إلا إذا علمت ما يحبون فتفعله، وما يكرهون فلا تفعله، وقد ذكر العلماء في ترجمة شريح القاضي رحمه الله أنه جالس الشعبي عامر بن شراحيل ، وكلاهما من التابعين الكبار، فقال له الشعبي : ( يا شريح !كيف حالك مع أهلك -مع زوجتك-؟ قال: والله -يا شعبي - تزوجتها منذ عشرين عاماً فما رأيت منها سوءاً قط. قال له: وكيف ذلك؟ قال: في الليلة التي دخلت بها رأيت جمالاً نادراً وحسناً فتاناً أخاذاً، فقلت: لأتطهرن وأصلين لله تبارك وتعالى شكراً، فقمت فتطهرت وصليت، فلما سلمت وجدتها صلت بصلاتي وسلمت بسلامي، فمددت يدي نحوها، فقالت: على رسلك يا أبا أمية -ويستحب للزوجة إذا نادت زوجها أن تناديه بكنيته، كما قالت امرأة إبراهيم عليه السلام: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا [هود:72] (بعلي): والبعل هو السيد، وكانت امرأة أبي الدرداء إذا نادته تقول له: يا سيدي- قالت: على رسلك يا أبا أمية ، فإنني امرأة غريبة، وابتدأت الخطبة، فقالت: إن الحمد لله نحمده، ونستعين به ونستغفره، وأصلي وأسلم على محمد وآله.

أما بعد:

فأنت رجل غريب عني وأنا غريبة عنك، ولا علم لي بأخلاقك، فقل لي ما تكرهه فأجتنبه، وما تحبه فأفعله، وقد ملكت فافعل كما أمرك الله عز وجل: إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، واعلم أنه في قومك من كانت كفئاً لك وتستحقك، وكان في قومي من كان كفئاً لي ويستحقني، ولكن إذا أراد الله شيئاً فعل.. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

قال شريح : فأحوجتني والله يا شعبي إلى الخطبة -أي: أنها خطبَتْ خطبة عصماء! فهو سيخطب في مقابلها خطبة أخرى- فقال: إن الحمد لله نحمده، ونستعين به ونستغفره، وأصلي وأسلم على محمد وآله.

أما بعد:

فقد قلتِ قولاً لو ثبتِ عليه نفعكِ، وإن كنتِ تدعينه كان حجة عليك، أحب كذا وأكره كذا. فقالت له: وكيف صلتك بأهلي -أي: الزيارات لأهلها-؟ قال: لا أحب أن يملني أصهاري -يعني: نجعل الزيارات متباعدة-. قالت: وجيرانك؟ قال: بنو فلان قوم صالحون، وبنو فلان قوم سوء، قال: وبت معها بأنعم ليلة، وعشت معها عشرين عاماً ما اختصمت معها إلا في مرة واحدة، وكنت ظالماً لها).

لماذا عِشرة عشرين سنة بلا مشاكل؟ لأنها تعرفت على صفاته، يكره كذا ويحب كذا، كذلك الله -وله المثل الأعلى- يكره كذا ويحب كذا، فلا يراك حيث نهاك، ولا يفتقدك حيث أمرك، وهذا في الناس مثل ضربته، ولله المثل الأعلى، قال لك: افعل كذا وكذا، فكيف لا تفعل؟ ونهاك أن تفعل كذا وكذا، فكيف تجرأت على الفعل؟

استحضار مشهد غضبه وانتقامه

إذا لم تؤثر فيك محبته ولا إحسانه وإنعامه؛ استحضر مشهد غضبه وانتقامه، والله عز وجل إذا غضب على أحد لا يقوم لغضبه شيء، فضلاً عن هذا العبد الضعيف.

واعتبر بحال الجبل الذي تجلى الله له، ما غضب عليه، وإنما تجلى فقط فجعله دكاً، فلا يقوم شيء لغضبه أبداً فضلاً عن هذا العبد الضعيف.

واعلم أن العقوبة من جنس الفعل، فإذا علمت ذلك خفت من الله عز وجل، فإن قوماً لا يؤثر فيهم القرآن يؤثر فيهم السلطان؛ كما قال عثمان رضي الله عنه : (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن).....

مات أناس أصحاء أقوياء ما مرضوا قط، وصاروا تراباً وأكلتهم الأرض، وإذا شعرت بهذه القسوة فلابد أن تتدارك الخطر الداهم على هذا القلب، كيف لا تذهب إلى رجل وتقول له: قلبي قسا، ما علاجه؟

إن ميمون بن مهران -رحمه الله، وكان كاتباً لـعمر بن عبد العزيز رحمه الله ورضي عنه- قال لابنه عمرو : (يا بني! خذ بيدي -وكان قد كف بصره- واذهب بي إلى الحسن البصري . قال: فانطلقت به أقوده، فاعترضنا جدول ماء -(جدول ماء) يعني: قناة ماء، والرجل لا يستطيع أن يمر- قال: ففرشت نفسي على القناة فعبر عليَّ الشيخ، وانطلقت أقوده حتى ذهبنا واستأذنا على الحسن ، فخرجت جارية الحسن فقالت: من؟ فقال لها: عمرو بن ميمون . قالت: كاتب عمر بن عبد العزيز ؟ قال: نعم. قالت: يا شيخ السوء ما أبقاك إلى هذا الزمان السوء؟! فبكى عمرو وعلا نحيبه؛ فخرج الحسن على بكائه فاعتنقا، فقال عمرو : يا أبا سعيد ! شعرت بغلظة في قلبي فجئتك، هل أصوم لها -يستشيره هذه الغلظة التي وجدتها في قلبي علاجها أن أصوم لها-؟ يا أبا سعيد ،قل لي شيئاً، فقال الحسن : بسم الله الرحمن الرحيم، أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207] فخر ميمون بن مهران مغشياً عليه، فجعل الحسن يفحص رجله كما تفحص رجل الشاة المذبوحة، وأفاق بعد مدة، فخرج ميمون مع ابنه عمرو ، فقال ابنه له: يا أبتي! أهذا الحسن -يعني: هذا الرجل الضخم الذي أنت تصفه لي-؟ قال: نعم يا بني. قال: ظننته أكبر من ذلك. قال عمرو : فوكزني أبي في صدري، وقال: يا بني! لقد تلا آية لو تدبرتها لألفيت لها كلوماً في قلبك -لألفيت لها جراحاً في قلبك- ).

وتأمل! ميمون الثقة الثبت، الإمام الكبير العلم، يذهب إلى الحسن يقول له: ( آنست في قلبي غلظة )، قلبك لا يموت فجأة، فكيف قصرت في الدفاع عن هذا القلب الذي حياتك الأبدية متعلقة بسلامته من سهام الشيطان التي لا تكف عنك طرفة عين، تركته غرضاً للسهام.. ثم تبغي النجاة!

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

أن تعلم أن الجزاء من جنس العمل

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

من جملة شهود غضبه وانتقامه تبارك وتعالى، وأجارنا الله وإياكم من غضبه ومن ناره أن تعلم أن الجزاء من جنس العمل، فإذا علمت ذلك وخشيت أن الله تبارك وتعالى إذا غضب عليك لا يرحمك أحد؛ كان ذلك باعثاً على زيادة دينك وهادماً لشهواتك.

واعتبر بالحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول لأصحابه: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ فقال لنا مرة: أتاني آتيان بعد صلاة الغداة -أو قال: ذات غداة- فانطلاقا بي، فإذا رجل مضطجع ورجل آخر قائم بصخرة عظيمة يهوي بها على رأسه، فيثلغ بها رأسه، فيتدهده الحجر، فيذهب ليأتي به، فيرجع بهذه الصخرة ويضربه مرة أخرى. قلت: سبحان الله! ما هذان؟ فقالا لي: انطلق انطلق. قال: فجئت فإذا رجل مضطجع على قفاه، وآخر معه كلوب من حديد -الكلوب: خطاف- فيشرشر شدقه إلى قفاه -ينزعه من شدقه إلى قفاه- ومن منخره إلى قفاه، ومن عينه إلى قفاه، ثم يذهب إلى الشق الآخر فيشرشره إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فما أن يشرشر هذه الناحية حتى تعود الأخرى صحيحة فيرجع عليها.. وهكذا. قلت: سبحان الله! ما هذان؟! قال لي: انطلق.. انطلق. قال: فجئت رجلاً يسبح في بحر من دم، وعلى شاطئ البحر رجل عنده صخر كثير، يسبح ويجيء، فيلقمه الواقف على الشاطئ حجراً فيلتقمه ويدور ثم يجيء، فيرميه بحجر يلتقمه.. وهكذا. قلت: سبحان الله! ما هذان؟! قال لي: انطلق.. انطلق. قال: وجئت فرأيت تنوراً -فرن من الأفران العظيمة- وفيه رجال ونساء عراة، ولهب يأتيهم من أسلف، فإذا وصل إليهم اللهب ضوضوا -صرخوا- فقلت: ما هؤلاء؟! قالا لي: انطلق ..انطلق) ، وساق بقية الحديث.

ما أريده هو هذا الجزء من الحديث: الرجل الأول فسره الملكان للرسول عليه الصلاة والسلام (رجل مضطجع، وآخر معه صخرة عظيمة يضربه بها، فيثلغ رأسه، ويتدهده الحجر) هل تعرف ما معنى يتدهده؟ يعني يصير رملاً، هذا الصخر العظيم من هول الضربة يصير رملاً، فقالا له: هذا هو الذي ينام عن الصلوات المكتوبات، والجزاء من جنس العمل، ثقل رأسه فلم يجب المنادي، لم يجب داعي الله، فكان هذا هو الجزاء، ولقد أخذ بعض الجزاء في الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من رجل ينام ليله كله إلا بال الشيطان في أذنه)وإذا نام الإنسان يعقد الشيطان على قفاه ويقول: (نم، عليك ليل طويل).

فأما الرجل الثاني المضطجع على قفاه، وآخر قائم بالكلوب يشرشر شدقه..، فقالا له: هذا الرجل يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق.

أما الرجل الثالث -الذي يسبح في بحر من الدم، والآخر يلقمه حجراً- فذلك آكل الربا، الذي مص دماء الناس وأموالهم، وهو يسبح فيها الآن في البرزخ، هذا الذي يسبح فيه دماء الخلق التي مصها، ثم هو لم يخرج بشيء من دنياه إلا الحجر: كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ [البقرة:264] صفوان عليه تراب يغرك منظره، تراب كنت تظنه أرضاً صالحة، يأتيه الوابل -الذي هو المطر الغزير- فيدعه صلداً، وتكتشف أن هذا مجرد حجر لا يصلح للزراعة، والحجر لا ينفع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر) يعني: الولد لا ينسب إلا إلى فراش الزوجية الذي أتى بعقد صحيح، مثلاً رجل تزوج امرأة بعقد صحيح. فأولدها، فهذا الولد الذي جاء على فراش الزوجية بالعقد الصحيح ينسب إلى أبيه، ولو أن رجلاً زانياً فجر بالمرأة على فراش زوجها وأولدها ولداً، فإن الولد لا ينسب إلى الزاني، باتفاق العلماء، وينسب إلى أمه وليس إلى أبيه، فهذا ينزل بمنزلة الأنعام.

حسناً: (الولد للفراش) والعاهر الذي فجر بالمرأة ما هو جزاؤه؟ أو ما هي الفائدة التي حصلها؟ قال صلى الله عليه وسلم (وللعاهر الحجر) أي: الذي لا قيمة له، يعني أخذ الخيبة والخسران.

فهذا هو حال آكل الربا وهذا هو مآله -والعياذ بالله- فاحذروا البنوك وفوائد البنوك، فإنها ربا، ولا تسمعوا للمفتي، ولا لشيخ الأزهر ففوائد البنوك ربا! حرام! ومن وضع ماله في بنك فليخرجه، وليتقِ الله عز وجل لا يأكل حراماً، هكذا أفتى كل العلماء الذين تعقد عليهم الخناصر، وهذه هي الفتوى الرسمية للأزهر، وأيضاً هي الفتوى الرسمية لمجمع الفقه في مكة، وفي دبي، وفي المغرب، وقد اتفقوا على ذلك.

وأما التنور الذي فيه رجال عراة ونساء عرايا، قال صلى الله عليه وسلم: (هم الزناة والزواني) عادت نار الشهوة -التي كان يشعر بها في قلبه- تنوراً يحرقه، آه لو صبر وفعل ما أمر به -كالصيام مثلاً- لكسر حدة شهوته وفاز ونجا من ذلك الهول العظيم.

فليستحضر العبد العاقل مثل هذه المشاهد، فإن ذلك فيه تقوية على باعث الدين، وفيه هدم -أيضاً- لباعث الشهوات.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.

رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

لا يستوي الطائع والعاصي عند الله

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آله محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.

سابعاً: إن شهود أسماء الله عز وجل وصفاته في الكون من أعظم البواعث على تقوية باعث الدين، وعلمك أن الله عز وجل لا يسوي بين الطائع والعاصي، وأن الله تبارك وتعالى منتقم وشكور، ولا يظلم مثقال ذرة، لما تجمع هؤلاء الثلاثة؛ هذا يكون حافزاً لك على الإحسان، قال عز وجل: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21] هكذا قرأ حمزة والكسائي وخلف وحفص عن عاصم ، وقرأ بقية السبعة كـنافع وابن كثير وأبي عمرو بن العلاء - (سواءٌ محياهم ومماتهم) وهناك فرق عظيم بين القراءتين:

أما (سَوَاءً ): فهي داخلة مسبوكة في معنى الآية (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا ) اجترحوا: يعني اكتسبوا، ومنها الجوارح، (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ): فيقول: هم يتصورون ممات الكافرين كممات المؤمنين، وحياة الكافرين كحياة المؤمنين! إذاً المعنى جاء مسبوكاً في بقية الآية أولها، وآخرها (ساء ما يحكمون) طبعاً لا يمكن.

وعلى قراءة: (سواءٌ) بالرفع، تقرأ هكذا أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الجاثية:21] وتقف سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ [الجاثية:21] فـ(سواء) خبر مقدم، أي: أن حياة الكافرين ومماتهم واحد، هو ميت قبل أن يموت، هذا الجسم الذي تراه عبارة عن قبر متحرك لقلب ميت، إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ [النمل:80-81] قرأ حمزة وغيره وما أنت تهدي العمي عن ضلالتهم إذاً هؤلاء هم المقصودون بقوله تعالى: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [النمل:80 ]، سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21].

فإذا كنت على معرفة جازمة أن الله عز وجل لا يسوي أبداً بين الطائع والعاصي، ثم كما هو تبارك وتعالى من لطفه أن نصب لك الأدلة ونصب لك الثواب والعقاب؛ حتى لا تقول: يا رب! أخذت على حين غرة.

قال تبارك وتعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ [القلم:44-45] (أملي لهم): يمد لهم حبال الأماني، وقال تعالى: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ:35] هذا استدراج، يزين له المعصية ويقيم الدلائل عليها، لو كان ربنا يكرهنا لحرمنا من الأولاد والمال، ولكنه أعطانا الأولاد حتى نتقوى، والأموال لنفعل ما لذ وطاب، إذاً أكيد هو يحبنا قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103-104] كلمة (يحسبون) أي: يقيمون الشبهة دليلاً ويتكئون عليها.

وكما قالت اليهود والنصارى: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18] فرد الله سبحانه وتعالى عليهم الرد الدامغ الذي لا يخطئه أبداً ذو عقل: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [المائدة:18] أي: أن الحبيب يتجاوز عن الذنب -هذا معنى الآية- فإن كنتم أبناء الله وأحباؤه فعلاً يعذبكم بذنوبكم..؟ فالأصل أن يتجاوز، ولا يؤاخذ ولا يعاقب كما ذكر الله عن يوسف وإخوته: قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [يوسف:91-92] (الحبيب لا يرى ذنباً، والبغيض لا يرى حسناً).

وهذا ترجمة المثل العامي: (حبيبك يبلع لك الزلط، وعدوك يتمنى لك الغلط) الزلط -الحصى- الذي لا يُبلع -أصلاً- صديقك يبلعه؛ لأنه حبيب.

فالله تبارك وتعالى نصب الأدلة، وبين لك منذ البدء أنه بينك وبين هذا الشيطان عداوة قديمة، وأن الله تبارك وتعالى مكنك من الشيطان بكلمة واحدة فقط : (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، فأنت أقدر على شيطان الجن منك على شيطان الإنس، شيطان الجن بمجرد أن تستعيذ بالله منه يولي الأدبار، أما شيطان الإنس فلو جلست وقرأت عليه القرآن كله؛ يقول لك: الآية هذه معناها كذا وهذه معناها كذا، والعلماء قالوا كذا، والعالم الفلاني قال كذا... يشوش عليك، وإذا قلت له: أعوذ بالله من شرك؛ يقول لك: إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] وبرغم أن شيطان الجن أقوى، ولديه إمكانات وصلاحيات أن يصير كالجبل العظيم أو كالذر يجري في الدم! ومع ذلك أول ما تقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) يولي الأدبار، ويضعف كيده وبأسه.

إذاً: الله تبارك وتعالى مكنك منه، ثم أبان لك عداوته، والرسول عليه الصلاة والسلام ترجم هذه العداوة في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه في الصحيحين، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا وينخسه الشيطان؛ لذلك يستهل صارخاً) يصرخ؛ لأن الشيطان ينخسه، وما زال أبيض الصفحة، لم يفعل شيئاً، كأن الشيطان بهذه النخسة يقول له: أنا إنما نصبت لك، ولن تفلت مني. يذكره به، يقول له: هذه نخسة لكي أذكرك. فما من مولود يولد إلا يستهل صارخاً بسبب نخسة الشيطان، إلا مريم وابنها، واقرءوا إن شئتم: إِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36].

هذه العداوة بينها ربنا سبحانه وتعالى في القرآن -على أنها عداوة ظاهرة- ولا تخفى أبداً إلا على أعمى القلب.

ثم يقول الله تبارك وتعالى بعد ما بين العداوة: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50] بئس البدل: أنك تتولى الشيطان، ولا تتولى الله عز وجل.

إذاً: شهود انتقامه وشهود إنعامه، وأنه شكور، وأنك إذا فعلت الفعل اليسير أجزل لك المثوبة، وإذا فعلت الذنب العظيم كتبه ذنباً، وقد يمحوه، هذا كله مشجع وحافز لك لكي تحسن، إذا زلت بك القدم، فأنت عند رب محسن قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ [المائدة:18] لأنك تعلم أن ربنا سبحانه وتعالى قد يتجاوز لك، لكن لا تكن كالمرجئة، يفعل الشيء ثم يقول: إن الله غفور رحيم.. لا، اعمل صالحاً وحاول ألا تغلط، فإن أخطأت وزللت فتب إلى الله عز وجل، واعلم أن الصبر على أمره، والانتهاء عن نهيه عاقبته التمكين والعز، قال الله تبارك وتعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الممتحنة:4].

الأسوة الحسنة في زمن الفتن والمتغيرات

أيها الرجل: إن كنت رجلاً حقاً فلك أسوة في إبراهيم، رجل يساوي أمة، قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [النحل:120] فلك أسوة بهذه الأمة كما تأسى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم به، قال تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:123].

فإن فترت همتك ولم تكن رجلاً، فتأس بالصبيان بإسماعيل عليه السلام مع أبيه إبراهيم عليهما السلام: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] انظر هذا الاستثناء الجميل! (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ ) كأنما لم يثق بقوة عزمه فقد يتراجع حال الذبح؛ فوكل ذلك إلى الله، وهضم حق نفسه وأشار إلى ضعفه وخوفه أن يخور عزمه وهو يشعر بحد السكين على عنقه، فما أعقله من صبي (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ )، ولو تأسيت به لكنت كبيراً، مع أنه يوم قالها كان صبياً.

ثم إن نزلت همتك عن همة الصبيان فتأسَ بالنساء، لا أقول لك: تأسَ بامرأة حرة بل أمة -وتعد ربع رجل؛ إذ أن المرأة الحرة تعدل نصف رجل، والأمَة تعدل نصف حرة- بـهاجر عليها السلام، لما دخل إبراهيم عليه السلام وسارة إلى مصر، وكان يحكمها جبار عنيد، لا يسمع بامرأة جميلة إلا اصطفاها لنفسه، وقد كانت سارة عليها السلام آية في الجمال، فالجواسيس أول ما رأوا جمال سارة، قالوا له: هناك امرأة جميلة شكلها كذا وكذا، فإبراهيم عليه السلام قال لها: إذا سألك فقولي له: إنني أخته، فأنا لا أعلم أحداً يعبد الله غيري وغيرك.. وهذا تعريض، وهي من الكذبات الثلاث التي كذبها إبراهيم عليه السلام، ولكنه كذبها في الله.

فلما رآها جميلة جداً أراد أنه يصل إليها، فشلت يده، فقال: ادعي الله لي أن يخلصني ولن أمسك بسوء. فدعت الله عز وجل، فأراد أن يمد يده مرة أخرى، فشلت، فقال: ادعي لي، فدعت الله، فارتدت يده، فمد يده مرة ثالثة وهذا يشبه حال الكافرين في الآخرة بعد اعترافهم ومعايشتهم العذاب قال تعالى عنهم: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28].

ولذلك أمثال هؤلاء ممن لم يعاينوا التكليف في هذه الحياة الدنيا، كالأصم يأتي يوم القيامة، فيقول: يا رب! أنا أصم، لا أسمع، ولو جاءني الرسول لآمنت، وكذلك الولد الذي مات صغيراً قبل أن يبلغ الحلم يقول: أنا كنت صغيراً ولم أسمع، وكذلك المجنون يقول: أنا لم يكن لي عقل، ولو كان لي عقل وأتاني الرسول لآمنت.

فيقول لهم الله عز وجل: لئن أرسلت إليكم رسولاً لتؤمنن به؟ فأعطوه الموثق على ذلك: نعم، سنؤمن به، فأرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار، فمن أبى أن يدخلها قذف إليها، وهذا لو كان في الدنيا وجاءه الرسول كان سيكذب.

إذاً: ما هي العلاقة ما بين النار في الآخرة وما بين التكليف في الدنيا؟ أنت ربما تعذب في الدنيا وتدخل النار بسبب ثباتك على دينك، مثل أصحاب الأخدود، فهؤلاء رموا في الأخدود؛ لأنهم آمنوا بالله عز وجل، وكذلك كان في الأمم السابقة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل فينشر بالمنشار -وهو حي- حتى يفصل ما بين اللحم والعظم ما يرده ذلك عن دينه) فهذه هي النار، فشابهت النار في الآخرة نفس ثمار التكاليف في الدنيا: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28].

فهذا خبيث! مرة ثالثة -أيضاً- يمد يده فشلت، فطلب منها أن تدعو الله أن يرسل يده فدعت الله عز وجل فأرسل يده، وأحضر الجاسوس وشتمه، وحتى يتقي شرها أعطاها هاجر أمةً لها، فتزوجها إبراهيم عليه السلام، وحملت وولدت، فغارت سارة منها.

عن ابن عباس قال: إن أول من اتخذ المنطق -الحزام الذي تربطه النساء على الوسط- هاجر عليها السلام، وكان المنطف عبارة عن قطعة قماش تجره وراءها على الأرض لتمحو آثار أقدامها عن سارة، بسبب ماذا؟ بسبب الغيرة.

أخذها إبراهيم عليه السلام من الشام ورحل بها وجاء بها مكة كما قال الله عز وجل: بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [إبراهيم:37] لا إنسان ولا حيوان، واد خال تماماً، هي وابنها الرضيع، وتركها وابنها في مكة ولم يكلمها، وانطلق راجعاً إلى الشام، فنادته: (يا إبراهيم! يا إبراهيم! يا إبراهيم! وهو لا يرد، فانطلقت وراءه حتى وصلت إلى مشارف مكة تقول: يا إبراهيم ! حملتني إلى هذا الوادي ولا يوجد إنسان! لمن تتركنا يا إبراهيم؟ فلم يرد عليها، فقالت له : آلله أمرك بهذا؟ فأومأ برأسه أن نعم، قالت: إذاً: لا يضيعنا، ورجعت..).

هي هذه ربع الرجل! لو كنت متأسياً فتأسَ بمثل هذا الربع:

فلو كان النســاء كمن ذكرنالفضلت النساء على الرجال

فما التأنيث لاسم الشمس عيبولا التذكيـر فـخر للهلال

الرواية الأخرى في البخاري لهذه القصة قال ابن عباس : (فانطلقت وراءه ونادته، وقالت: لمن تتركنا يا إبراهيم؟! فسكت ولم يرد. فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، أمرني. قالت: رضيت بالله).

في الرواية الأولى: قالت: لن يضيعنا، والرواية الثانية قالت: رضيت بالله، وكفى بالله وكيلاً.

أرجو يا إخواننا! أن تتصوروا حال هاجر وهي في مكان مقفر مظلم، إذا جاء الليل تسمع دوي الريح! وليس معها إلا وليدها وقد وجف ضرعها، وكاد الولد يموت عطشاً وجوعاً، فلما رأته يموت قالت: أذهب فأعلل نفسي حتى يموت. لا تريد أن تراه وهو يموت، تنصرف وتأتيه بعد ساعة أو ساعتين ويكون قد مات فتدفنه، وينتهي الأمر.

فذهبت تبحث عن ماء، فرجعت فإذا جبريل عليه السلام قد ضرب بعقبه الأرض -وقيل: بجناحه- فانفجرت عين زمزم وجعلت تفور، وهذا فرج عظيم بعد شدة مدلهمة، وهكذا رزق الله تعالى أوليائه من حيث لم يحتسبوا.

ولا تقل هذا خاص بالأنبياء، فهذا لأولياء الله عز وجل في كل وقت، إذا حسُن توكلك عليه، كما حصل لـخبيب بن عدي في موقعة بئر معونة، لما جاء رجل من بني الحارث وقال للنبي عليه الصلاة والسلام: (لو أرسلت من يعلم الناس القرآن. قال: إني أخاف عليهم قومك؟ قال: لا، أرسلهم، وأنا جار لهم) أي: هم في حمايتي، فأرسل الرسول سبعين قارئاً للقرآن من خيار الصحابة آنذاك، كان منهم عاصم بن ثابت قريب لـعمر بن الخطاب ، وكان منهم خبيب بن عدي ، لكنهم بعد أن ساروا قليلاً سمعوا وقع أقدام الخيل وراءهم، فقال عاصم بن ثابت : هذا أول الغدر. أول ما جاء الفرسان قالوا: سلموا. قالوا: لا نسلم. فقتلوا عاصم بن ثابت الأنصاري وجماعة من الصحابة.

فبقي خبيب بن عدي ورجلان على خيولهم، فأعطوهم العهد والميثاق ولهم الأمان. فنزلوا على العهد والميثاق فعندما نزلوا كتفوهم، فأحد هؤلاء الثلاثة قاتل وظل يقاوم حتى قتلوه، فبقي اثنان: خبيب بن عدي والآخر.

أما خبيب بن عدي فقد كان من خبره أن هؤلاء الناس باعوه لبني الحارث، وكان خبيب قد قتل رجلاً من بني الحارث عظيماً في الجاهلية، فأردوا أن يقتلوه قصاصاً.

فلما سلموه لبني الحارث كانت الأشهر الحرم قد دخلت، وكان العرب يوقرون الأشهر الحرم، فأجلوا قتل خبيب بن عدي إلى انتهاء الأشهر الحرم، ووكلوا به امرأةً كسجان عليه- فهذه المرأة في يوم من الأيام طلب منها خبيب بن عدي موسىً يستحد بها -لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد وقت لشعر العانة ألا يبقى أكثر من أربعين يوماً- فهذه المرأة نامت وغفلت عن ابنها، وقد كان على حجرها، فنزل ودخل إلى خبيب بن عدي، فوضعه خبيب على حجره، فأفاقت المرأة فنظرت، فإذا الولد على رجل خبيب بن عدي فشهقت، وخافت أن يقتله خبيب بالموسى.

فقال لها: أتظنين أني قاتله؟ والله! ما كنت لأفعل ذلك. فقالت المرأة: والله! ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب، لقد رأيته يوماً يأكل عنباً وليس في مكة ثمرة، والرواية الأخرى: ما على الأرض حبة عنب؛ لأن مكة البلد الوحيد الذي تجد فيه فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، قال تبارك وتعالى: يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص:57] ليس عندهم أزمة في أي شيء، يؤكل فيها العنب والبطيخ، والفاكهة كلها في غير أوانه يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص:57] إذا كان لا يوجد في مكة حبة عنب، إذاً لا يوجد على الأرض حبة عنب.

المهم أن هاجر عليها السلام كما تقدم ذهبت تبحث عن الماء وبدأت السعي بين الصفا والمروة.

ويا لضخامة الأمر على هذه المرأة الوحيدة! يا ليت معها زوجاً يهون عليها، لكنها امرأة وحيدة لا تجد من يعينها ويسقي وليدها. عليك أن تستحضر كل تلك المعاني وأنت تسعى بين الصفا والمروة، في ظل التكييف الممتاز، والرخام الجميل، فتفرغ العبادة من مضمونها، تطوف وتتمنى أن تنتهي من السعي لشدة الإعياء، وتقول للذي بجانبك: عد معي، نحن وصلنا أي شوط؟!

الشيخ الألباني رحمه الله حججت معه سنة (1410هـ)، وكان في هذا الحج زحام شديد، ما رأيت مثل هذا الزحام قط، أنا شاب والشيخ الألباني رحمه الله كان سنه في ذلك الوقت حوالي (81) سنة.

طبعاً لما أتيت لأسعى صعدت إلى الدور الثاني؛ لأنه من المستحيل أن تجد في الأسفل موضعاً لقدمك، بعدما رجعنا إلى منى، ودخلت لأسلم على الشيخ في خيمته وجدت على يديه دماً معقوداً بضماد، فسألته عن سبب هذا الدم، فقال: إنني في السعي كنت أزاحم الجماعة الأفارقة، فقلت له: يا شيخ! أنت سعيت تحت؟ قال: نعم. فقلت له: لماذا لم تصعد فوق؟ قال: وجدت بي قوة فلم أجد من اللائق أن أترخص.

سبحان الله! أول ما قال لي هذه الكلمة احتقرت نفسي جداً!

فلما سألت الشيخ بعد هذا: ما الذي حملك على السعي تحت؟ قال: إن السعي في المكان الأصلي أدعى للعبرة من السعي في المكان الذي فوق.

إذ أن هاجر عليها السلام نزلت وصعدت، ونزلت وصعدت تبحث عن ماء، ولما جاء جبريل عليه السلام وضرب الأرض بعقبه -وقيل: بجناحه- فتفجرت زمزم وأول ما رأتها هاجر عليها السلام جعلت تحوط عليها، حتى لا يضيع الماء في الوادي، وتقول: زم زم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم لكانت عيناً).

وهم الآن يقولون لك: في المستقبل لن نجد قطرة ماء.

سبحان الله! وهذه زمزم صغيرة جداً، قال النبي : (لو تركتها لكانت عيناً) .

في ذلك الوقت كانت جماعة من قبيلة جرهم يبحثون عن الماء، فرءوا طائراً يحوم، قالوا: لا يحوم هذا الطائر إلا على ماء، فأرسلوا واردهم فوجدوا أم إسماعيل، فقالوا لها: هل نستطيع أن نقعد بجوارك؟ فأذنت لهم، فبنوا الدور وسكنوا، ولما كبر إسماعيل عليه السلام تزوج، ثم ماتت أم إسماعيل عليه السلام، وإبراهيم عليه السلام في الشام، وورد في بعض الروايات أنه كان يزورهم كل شهر، وكان يركب البراق، وإلا كيف يسافر من مكة إلى الشام.

بعد مدة طويلة جاء يتفقد ابنه وامرأته، فجاء فوجد زوجته هاجر قد ماتت، فسأل: أين بيت إسماعيل؟ قالوا: البيت الفلاني، وعندما دخل وجد امرأة، قال: من أنتِ؟ قالت: أنا امرأته. قال: أين إسماعيل؟ قالت: خرج يبتغي لنا. أي: يبحث عن العيش والقوت.

قال: كيف هي أحوالكم قالت: الحياة صعبة جداً، فمتى يفتح الله علينا ونرتاح.

فقال لها: أنا ذاهب، وعندما يأتي إسماعيل أقرئيه السلام وقولي له: غيّر عتبة دارك.

فلما جاء إسماعيل فكأنما آنس شيئاً -كما قال تعالى عن يعقوب: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ [يوسف:94].- فقال لها: هل جاء أحد؟ قالت: نعم، جاء رجل وضيء. فقال لها: هذا أبي، فهل عهد إليك بشيء؟ قالت: قال: غير عتبة دارك. قال لها: إن أبي يأمرني أن أطلقك. فطلقها، وتزوج امرأة أخرى من جرهم.

وهذا يذكرنا بقصة لـعبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى فقد كان رجلاً كريماً جواداً، وكانت نفقته في السنة مائة ألف درهم، ومع ذلك ما وجبت عليه الزكاة.. لماذا؟ ليس عنده مال يحول عليه الحول، وقد كان يصرف على ستة من كبار العلماء وهم: سفيان الثوري ، سفيان بن عيينة ، حماد بن سلمة ، حماد بن زيد ، إسماعيل بن علية، الفضيل بن عياض .

وكان يقول: لولا هؤلاء ما اتجرت.

فعندما تزوج، كانت الزوجة تمسك في النفقة، وكانت تنكر عليه إنفاقه، فما كان منه إلا أن قوم نفقتها، وأعطاها وقال لها: أنت طالق، أنا رجل كريم وأكره الإمساك عن النفقة، ثم تزوج امرأة غيرها، كانت تعينه على النفقة.

فرأى في المنام كأن منادياً يناديه -بعدما تزوج الأخرى وأكرمه الله بها- قال له: اخترتنا فاخترنا لك. فاستيقظ من نومه، وهو يؤول هذه الرؤيا على المرأة الأخرى التي تزوجها.

إذاً: المرأة البخيلة، والتي تشتكي لا تصلح أن تكون زوجة.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الصبر للشيخ : أبو إسحاق الحويني

https://audio.islamweb.net