إسلام ويب

القرآن الكريم كلام الله المنزل من عنده سبحانه، وهو معجز في آياته وأحكامه، وهو سبيل عز هذه الأمة، ولما عمل به السلف وترجموه إلى واقع عملي، نصرهم الله، ومكن لهم في الأرض، وفتحوا الدنيا شرقاً وغرباً. وفي المقابل: لما تركه الخلف وراحوا يتلمسون العزة في غيره أذلهم الله، والواقع خير شاهد على هذا، فإذا أرادت الأمة العزة والنصر فعليها أن تراجع كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم فإنهما مصدر العز.

داء الانفصام النكد بين المنهج المنير والواقع المرير

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد:فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الأخيار، وأيتها الأخوات الفاضلات، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك ومولاه. أحبتي في الله! حقوق يجب أن تعرف، سلسلة منهجية تحدد الدواء من القرآن والسنة لهذا الداء العضال الكبير الذي استشرى في جسد الأمة، ألا وهو داء الانفصام النكد بين المنهج المنير والواقع المؤلم المرير، فأنا لا أعرف زماناً قد انحرفت فيه الأمة عن منهج ربها ونبيها صلى الله عليه وسلم، وضيعت فيه حقوق الإسلام كهذا الزمان، فأردت أن أذكر نفسي وأمتي من جديد بهذه الحقوق الكبيرة التي ضاعت، عسى أن تسمع الأمة مرة أخرى عن الله ورسوله، وأن تردد مع السابقين الصادقين الأولين قولتهم الخالدة: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285].ونحن اليوم بحول الله وطوله على موعد مع اللقاء المتمم للثلاثين من لقاءات هذه السلسلة الكبيرة، والحقوق الجليلة، ونحن اليوم على موعد مع حق جليل .. جليل جليل، كبير كبير عظيم عظيم، ولم لا؟! وهو حق القرآن الكريم.وكعادتي حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، فسوف أركز الحديث مع حضراتكم تركيزاً شديداً في هذا الموضوع الجليل في المحاور التالية: أولاً: مصدرية القرآن دليل على إعجازه.ثانياً: كيف جمع القرآن ووصل إلينا؟ثالثاً: حق القرآن. فأعيروني القلوب والأسماع بل والكيان كله، فإن الموضوع من الجلال والأهمية والخطورة بمكان، والله أسأل أن يرد الأمة رداً جميلاً إلى القرآن والسنة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

مصدرية القرآن دليل على إعجازه

أحبتي في الله! القرآن كلام الله جل وعلا، وهذا أعظم دليل على إعجاز القرآن، فمصدرية القرآن دليل على إعجازه، فهو كلام الله الذي فضله على كل كلام كفضل الله على سائر الخلق.القرآن هو كلام الله الذي تحدى الله به البشرية عامة، وتحدى به المشركين المنكرين خاصة، ومازال التحدي قائماً إلى يوم القيامة قال تعالى: قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء:88]، فلما عجزوا عن الإتيان بقرآن مثله خفف الله جل وعلا التحدي، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور فقال الله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [هود:13], فعجزوا. فخفف الله التحدي إلى أقل درجاته، فتحداهم أن يأتوا بسورة واحدة من مثل سور القرآن الجليل فعجزوا، قال تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:23-24].أيها الأفاضل! كلام الله جل جلاله لو أنزله على جبل لتصدع الجبل من خشية الملك الجليل، قال سبحانه: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21], فالقرآن تخشع وتتصدع له الجبال، ولا تتحرك له القلوب الغافلة! لذا قال عثمان رضي الله عنه: (والله لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من كلام ربنا).تصور أن المشركين في مكة كانوا يخافون على أنفسهم من سماع القرآن! تصور معي مرة أخرى أن المشركين أنفسهم كانوا يخشون على أنفسهم من سماع القرآن، لماذا؟!لأن القرآن كان يصدع الكفر والكبر في قلوبهم، بل في السنة الخامسة من البعثة النبوية المطهرة انطلق النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت الله الحرام ليصلي لله جل وعلا على مرأى ومسمع من صناديد الشرك والكفر، وكانوا يكرهون ذلك، حتى قال اللعين أبو جهل : أيعفر محمد وجهه وهو بين أظهرنا! يعني: أيسجد محمد لربه على مرأى ومسمع منا عند الكعبة؟! قال: واللات والعزى لئن أتى محمد ليصلي لأطأن عنقه، أي: لأضعن رجلي أو حذائي على عنقه وهو ساجد بين يدي ربه، فجاء الحبيب صلى الله عليه وسلم ودخل المسجد الحرام ووقف يصلي لله تعالى، فلما سجد انطلق اللعين أبو جهل وهو يزعم أنه سيطأ بقدمه في عنق النبي وهو ساجد، فلما اقترب من رسول الله عاد إلى الخلف وهو يجري ويدفع بيديه، وكأنه يرد عن وجهه شيئاً، فلما اقترب من المشركين قالوا: ماذا يا أبا الحكم؟! لماذا رجعت؟! لماذا جريت بهذه الصورة المزرية؟!فقال أبو جهل : إن بيني وبين محمد لخندقاً من نار، ووالله إني لأرى أجنحة. فلما انتهى النبي من صلاته قال قولته الجميلة: (والذي نفس محمد بيده! لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً).الشاهد: دخل النبي صلى الله عليه وسلم كعادته يوماً ليصلي لله جل جلاله، والمشركون ينظرون إليه بتغيظ شديد، ورفع الحبيب صوته بالتلاوة فقرأ سورة النجم كاملة، وأرجو أن تتصور حلاوة وجلالة القرآن وهو يخرج من فم الحبيب، الرسول هو الذي يتلو، فليست التلاوة الآن لبشر عادي، والمشركون يسمعون القرآن من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأ النبي السورة كاملة، وقرأ في أواخر السورة آيات جليلة تهتز لها الحجارة، وتخشع لها الجبال والقلوب: أَزِفَتْ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ [النجم:57-61], أي: تغنون وترقصون وتطبلون وتزمرون، وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم:61-62], وخر النبي ساجداً لربه، فلم يتمالك أحد من المشركين نفسه فخر ساجداً لله خلف رسول الله! هل تتصورون هذا أيها الأفاضل؟!الحديث رواه الإمام البخاري في كتاب سجود التلاوة مختصراً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم -أي: بسورة النجم- وسجد معه المسلمون والمشركون والجن الإنس. نعم والجن. قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً [الجن:1], الجن هم الذين يتحدثون عن القرآن: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً [الجن:1-2], سجد النبي وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس، وهذا هو السر -يا طلبة العلم- الذي جعل المهاجرين الأول الذين هاجروا من مكة فراراً من بطش المشركين إلى الحبشة؛ هذا هو السر الذي جعلهم يرجعون من الحبشة بعد هجرتهم الأولى لما بلغهم أن المشركين سجدوا خلف رسول الله، فظنوا أنهم قد آمنوا بالله جل وعلا، فعادوا إلى مكة، لكنهم لما رفعوا رءوسهم أنكروا جميعاً ما فعلوه وما صنعوه! لكنه القرآن الذي صدع عناد الكفر والكبر في قلوبهم فسجدوا جميعاً لله من جلال القرآن وروعته وعظمته. نعم أيها الأفاضل! والوليد بن المغيرة والد فارس الإسلام وسيف الله المسلول خالد بن الوليد كان متعنتاً متكبراً منكراً، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعرض عليه الملك والجاه والمال والسلطان حتى يرجع إلى دين آبائه وأجداده؛ قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم آيات جليلة من القرآن الكريم، فقال الوليد كلماته الخالدة في حق القرآن -والحق ما شهدت به الأعداء- قال الوليد : والله! إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه. هذه شهادة كافر عنيد للقرآن، فلما قال هذه الكلمات للمشركين قالوا: صبأ والله الوليد ، إذاً لتصبأنّ قريش كلها، فعاد حتى لا تضيع زعامته في القوم، ففكر وقدر الأمر من جميع جوانبه، ثم عاد ليعلن شهادته الظالمة في حق النبي صلى الله عليه وسلم كما قال ربنا جل وعلا في شأن الوليد : ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ ً [المدثر:11-16], لماذا؟ تدبر القرآن، إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ [المدثر:16-28] ...إلى آخر الآيات .

كيف وصل إلينا القرآن؟

المرحلة الأولى

عنصرنا الثاني: كيف جمع القرآن؟ وكيف وصل إلينا المصحف الإمام؟والجواب باختصار سريع: المرحلة الأولى من مراحل جمع القرآن كانت على عهد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي المرحلة التي جمع القرآن فيها في صدر النبي وفي صدور الصحابة، فقد من الله عليهم بملكة حفظ جليلة، حفظ النبي القرآن وانتقل القرآن من صدر النبي إلى صدور الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم من شدة حرصه على القرآن يتعجل بالتلاوة خلف أمين وحي السماء فنزل قول الله جل وعلا: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ [القيامة:16-17], أي: في صدرك إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ [القيامة:17-18], أي: قرأه جبريل عليه السلام ، أو قرأناه على لسان جبريل ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة:18-19]، سيبينه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.فجمع القرآن في صدر النبي، واتخذ النبي مجموعة من كتاب الوحي كـزيد بن ثابت رضي الله عنه الذي سماه الإمام البخاري بكاتب النبي، وكـأبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وغيرهم رضوان الله عليهم، فكان النبي إذا نزل عليه جبريل بالآية أمر كتاب الوحي فنسخوها في الجلود والعسب واللخاف وهي نوع من أنواع الحجارة الرقيقة كان يكتب عليها, والعسب جمع عسيب، وهو جريد النخل، كانوا يكتبون عليه أيضاً، فكان يأمر النبي صلى الله عليه وسلم كتبة الوحي بكتابة الآيات كما يمليها عليهم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وظل القرآن مكتوباً في هذه المرحلة في الجلود والعسب، أي: في جريد النخل، ومكتوباً على الحجارة، وفي صدور الرجال إلى أن مات سيد الرجال صلى الله عليه وسلم.

المرحلة الثانية

المرحلة الثانية: كانت في عهد أبي بكر رضي الله عنه، لما وقعت معركة اليمامة بين مسيلمة الكذاب وبين الصحابة قتل في هذه المعركة عدد هائل من الصحابة الذين كانوا يحفظون القرآن في صدورهم، فجاء الملهم عمر رضوان الله عليه إلى الصديق أبي بكر ، وقال عمر للصديق : يا أبا بكر ! يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! اجمع القرآن في صحف، فقال الصديق الذي كان مثالاً في الإخلاص والاتباع: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله؟ لا. فقال عمر : هذا والله خير -والحديث في صحيح البخاري- قال الصديق : فما زال عمر يراجعني، أي: بجمع القرآن في الصحف، حتى شرح الله صدري لقول عمر ، فأرسل إلى زيد بن ثابت رضوان الله عليه، فقال الصديق لـزيد : يا زيد! إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك.انظروا يا شباب الإسلام إلى شباب الصحابة، فـزيد بن ثابت كان شاباً في ريعان شبابه، واختاره النبي كاتباً من كتاب الوحي، بل سماه البخاري كاتب النبي، يا لها من كرامة! (إنك شاب عاقل لا نتهمك، فتتبع القرآن فاجمعه). قال زيد: (والله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن) انظروا إلى أصحاب الهمم العالية الذين يقدرون المسئوليات الضخام الجسام، قال: والله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، قال: فتتبعت القرآن فجمعته من اللخاف، أي: من الحجارة الرقيقة، والعسب ، أي: جريد النخل، وصدور الرجال، وجمع القرآن في صحف ضخمة عديدة، وانتقلت هذه الصحف إلى بيت الصديق رضي الله عنه، فلما توفي أبو بكر انتقلت الصحف إلى بيت عمر رضي الله عنه، فلما توفي عمر رضوان الله عليه انتقلت الصحف إلى بيت أم المؤمنين حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.

المرحلة الثالثة

المرحلة الثالثة: وهي الكبيرة والخطيرة، وكانت في عهد عثمان رضي الله عنه، ففي صحيح البخاري أن حذيفة بن اليمان عاد إلى عثمان رضي الله عنه بعد غزوة أرمينية مع أهل الشام، وبعد غزوة أذربيجان مع أهل العراق، فدخل حذيفة على عثمان فزعاً وهو يقول: يا أمير المؤمنين! أدرك الأمة قبل أن تختلف في كتاب ربها كما اختلف اليهود والنصارى! قال عثمان : وما ذاك؟ رأى حذيفة أهل الشام يقرءون القرآن بقراءة أبي بن كعب ، ورأى أهل العراق يقرءون القرآن بقراءة عبد الله بن مسعود ، فكان أهل الشام يسمعون قراءة من أهل العراق لم يسمعوها من قبل، وكان أهل العراق يسمعون قراءة من أهل الشام لم يسمعوها من قبل، فاختلفوا اختلافاً شديداً حتى كفر بعضهم بعضاً! فجاء حذيفة فزعاً وقال: أدرك الأمة قبل أن تختلف في كتاب ربها كما اختلف اليهود والنصارى، مع أن الله عز وجل من رحمته وتيسيره على الخلق قد أنزل القرآن على سبعة أحرف كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف), لا حرج أن تقرأ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6], وفي قراءة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتثبتوا), والقراءتان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت بعض القبائل لا تستطيع أن تنطق حروفاً محددة، كانوا ينطقون مثلاً حرف الحاء عيناً، فيقولون في (حتى حين): عتى عين، فنزل القرآن ميسراً على سبعة أحرف قرأها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمع أهل الشام قراءة ما سمعوها من أبي وسمع أهل العراق قراءة ما سمعوها من ابن مسعود رضي الله عنهم جميعاً؛ اختلفوا، فأرسل عثمان بن عفان رضوان الله عليه إلى حفصة أم المؤمنين: أن أرسلي إلينا بالصحف -أي: التي جمعت في عهد الصديق رضي الله عنه- لننسخها في نسخة واحدة، فأرسلت حفصة الصحف إلى عثمان ، فأرسل عثمان إلى كاتب النبي زيد بن ثابت رضي الله عنه وإلى مجموعة من أصحاب رسول الله، وأمرهم أن ينسخوا الصحف في مصحف واحد، ونسخوا مجموعة كثيرة من هذا المصحف الواحد. وأرسل عثمان إلى كل مصر -أي: إلى كل بلد من البلدان- بمصحف واحد إمام، وأمر ببقية الصحف غير هذا المصحف الإمام أن تحرق، وبذلك جمع عثمان رضوان الله عليه الأمة كلها على مصحف واحد قرأ به كله نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المصحف الذي تجدونه بين أيديكم الآن وهو يسمى: بالمصحف الإمام، أي: المصحف الذي جمعه عثمان رضي الله عنه من الصحف كلها، فلقد قال للصحابة: إن اختلفتم مع زيد فاكتبوا بلسان قريش فإنه قد نزل بلسانهم، أي: بالقراءة التي حفظها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من قريش. وبهذا -أيها الأفاضل- حفظ الله القرآن الكريم فلم تتغير منه آية ولم تبدل منه كلمة ولم يحذف منه حرف، فما تولى الله حفظه لا يضيعه أحد: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

حق القرآن

بيت القصيد، وهو العنصر الثالث والمهم من عناصر اللقاء، ما هو حق القرآن؟ لكن ولابد من هذه المقدمة الموجزة لنقف جميعاً على هذه الكلمات الجليلة التي قدمت.ما حق القرآن؟ هل أنزل الله القرآن ليقرأ على الأموات في القبور؟! هل أنزل الله القرآن ليحلي به النساء صدورهن في مصاحف صغيرة؟! هل أنزل الله القرآن ليهدى من الزعماء والحكام إلى بعضهم البعض؛ فترى الحاكم يستلم المصحف منحنياً على كتاب الله ليقبله بخضوع جسدي كامل وكأنه عثمان بن عفان في الوقت الذي يضيع فيه شريعة هذا القرآن؟!طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:1-2], ما أنزل الله عليك القرآن لتشقى به، أو لتشقى به أمتك من بعدك، أو لتشقى بحدوده وأوامره ومناهيه وتكاليفه, كلا. بل أنزل الله عليك القرآن لتقيم به أمة، لتحيي به أمة، لتقيم به دولة، لتسعد به البشر في الدنيا والآخرة: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً [الإسراء:9].

تلاوة القرآن الكريم

أول حق: أن نقرأ القرآن، أقسم بالله العظيم أن من المسلمين الآن من لم يقرأ كتاب الله، وإن قرأ فإنما يقرأ في رمضان وربما في العشر الأوائل فقط، فإن انتهى رمضان أودع كتاب الله علبته مرة أخرى لتتراكم عليه الأتربة، وهجر القرآن بالكلية هجر تلاوة، مع أن الأصل أنه يجب على كل مسلم قارئ أن يكون له ورد يومي مع كتاب الله تبارك وتعالى، قال ابن القيم : يقرأ القرآن وهو يتصور بقلبه وكيانه أن الله يحدثه. أما أجر تلاوته فلا يعلمه إلا الله، قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره من حديث ابن مسعود قال: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنه، والحسنة بعشر أمثالها، أما إني لا أقول ألم حرف، بل ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف), وفي الحديث الذي رواه الطبراني وصححه شيخنا الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أبشروا! فإن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فإن تمسكتم به لن تهلكوا أبداً). وفي صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه -أي: تقدم القرآن- سورة البقرة وسورة آل عمران كأنهما غمامتان أو غيابتان أو غيايتان أو كأنهما خرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما) أي: بين يدي الله جل وعلا. وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204]، ولا يسمع القرآن إلا صاحب القلب الحي، وهو الذي يصغي بأذن رأسه وقلبه فيسمع عن الله جل وعلا؛ لينتفع بآيات الله المتلوة وآيات الله المرئية في الكون من عرشه إلى فرشه.

العمل بالقرآن

ثم حق العمل بالقرآن، آهٍ! ما أكثر من تغافل عن دائه، وأعرض عن دوائه؟! فظل في ضنكه وشقائه، والله ما ذلت الأمة لكلاب الأرض من الإرهابيين السفاحين المجرمين من اليهود، ولأنجس أهل الأرض من عباد البقر الهندوس، ولأكثر أهل الأرض من الملحدين الروس، ولغيرهم من أذل أمم الأرض؛ إلا يوم أن أعرضت عن القرآن. والله ما هانت الأمة إلا يوم أن نحّت القرآن، وهجرت التحاكم إلى القرآن، وضيعت العمل بالقرآن، أعلنها بملء فمي وأعلى صوتي، يوم أن استبدلت الأمة بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقاً محرقاً مدمراً، يوم أن تركت الأمة سفينة النجاة الوحيدة وركبت قوارب الشرق الملحد تارة، وقوارب الغرب الكافر تارة، وقوارب الوسط الأوروبي تارة؛ فغرقت في أوحال الذل، وغرقت في بحار من الظلمات من الفتن. ويوم أن نطق العربي في قلب الجزيرة بكلام الوحي، سادوا العالم، فقد تفاعلوا مع القرآن بصورة مذهلة للعقل، سمع أعرابي رجلاً يوماً يتلو قول الله جل وعلا: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات:22-23], فقال الأعرابي -ليس صحابياً-: من ذا الذي أغضب الكريم حتى يقسم؟!إلى هذا الحد من التفاعل مع القرآن، كانت الآية تنزل فيقرأها النبي صلى الله عليه وسلم فتتحول في التو واللحظة إلى واقع، كان الصحابة في المدينة يشربون الخمر، ويدير أنس بن مالك كأس الخمر على الصحابة، قبل أن تحرم الخمر، فدخل عليهم أحد الصحابة وكئوس الخمر تدور بينهم، وقرأ عليهم قول الله جل وعلا: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوه [المائدة:90], فلما قرأ الآية والله ما أكمل صحابي جرعة الخمر في يده! ما قالوا: نكمل هذه الكئوس وننتهي، لا. بل قام أنس بن مالك وسكب قلال وجرار الخمر، وسكب الصحابة الخمر في الشوارع حتى سالت في طرقات المدينة وقالوا على لسان وقلب رجل واحد: انتهينا ربنا، انتهينا ربنا.

ساد الصحابة العالم باتباعهم للقرآن

الحمدلله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد:فيا أيها الإخوة الكرام! إن الصحابة رضوان الله عليهم حولوا القرآن الكريم إلى واقع عملي ومنهج حياة؛ فسادوا الأمم، وحولوا العالم كله إلى كثيب مهيل، وأحالوه ركاماً في ركام، في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق، لما قرأ الأعرابي قول الله، وقرأ العربي في قلب الجزيرة قول الله، وتحرك للقرآن قلبه، وانتفضت للقرآن جوارحه، وحول هذا الكلام في حياته إلى منهج حياة؛ صار قائداً.والله ما عرفنا عمر ، وما عرفنا خالد بن الوليد ، وما عرفنا الصديق ، وما عرفنا أبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وما عرفنا الصحابة إلا بعد أن أحياهم ربنا تبارك وتعالى بفضل هذا القرآن، إلا بعد أن أخرجهم ربنا سبحانه وتعالى من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد والإيمان بهذا القرآن الذي كان يتلوه عليهم النبي عليه الصلاة والسلام. ظلت الأمة ترفل في ثوب العز والكرامة وهي تطبق آيات وأحكام هذا الكتاب، فلما نحت القرآن هزمت عسكرياً واقتصادياً ونفسياً وسياسياً وثقافياً، وراحت تحاكي الغرب الذي انتصر، وكسب الجولة الأخيرة، فماذا كانت النتيجة؟! ما ترونه الآن من ذل وهوان، فلقد صارت الأمة قصعة مستباحة لأذل أمم الأرض، وأعلنها أعداؤنا مراراً وتكراراً: لابد أن يظل القرآن بعيداً عن ساحة المعركة، كما أعلنها الحقود قلادستون وغيره؛ لأن القرآن لو نزل ساحة المعركة لتحولت المعركة إلى جهاد في سبيل الله، وهذا هو الذي حرك الدنيا كلها وحرك العالم كله، يوم أن تحولت المعركة على أرض فلسطين إلى معركة يظلل سماءها كلام رب العالمين وكلام سيد المرسلين، حينما ترددت لفظة الجهاد، لفظة الشهادة، لفظة العمليات الاستشهادية، لما ترددت هذه الألفاظ؛ تحرك العالم كله!والله لا كرامة الآن لأي زعيم ولا لأي حاكم إلا بفضل أطفال الحجارة، هؤلاء هم الذين ردوا للأمة الآن شيئاً من اعتبارها، وشيئاً من كرامتها، وشيئاً من عزتها، ولأول مرة في التاريخ الحديث نرى أن اليهود أنفسهم يعيشون حالة فزع ورعب مع ما يتحصنون به من ترسانة عسكرية أمريكية حديثة لم يسبق لها مثيل! يعيشون الآن حالة من الرعب والفزع! لما علم أولادنا وشبابنا في المعركة أن الأمة قد تخلت عنهم ولن تنصرهم، وأن العالم الغربي الكافر لا ينصر إيماناً ولا توحيداً، فعاهدوا الله جل وعلا على الجهاد في سبيله، ورددوا قوله تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160], وعلموا يقيناً قول الله تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120], ورددوا بيقين منقطع النظير قول الله تعالى عنهم: وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ [آل عمران:73], وعلموا قول الله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51]، وسعدوا كثيراً بقراءة قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].

الحث على الجهاد والشهادة في سبيل الله

لما تعامل جيلنا الآن على أرض فلسطين مع القرآن، وفهم هذه الآيات، وعلم شبابنا عقيدة اليهود لا عن طريق ألسنة البشر، ولا عن طريق المثقفين والكتاب والمفكرين، بل عرف شبابنا عقيدة القوم من كلام رب العالمين، ومن كلام سيد النبيين وسيد الصادقين صلى الله عليه وسلم؛ انطلقوا بهذه العقيدة التي حولت مجريات الأمور.لما حول شبابنا شيئاً من منهج القرآن على أرض الواقع إلى منهج حياة؛ قلبت الأمور كلها وتغيرت تماماً، فبالأمس فقط شاب يضحي بنفسه لله جل وعلا، أسأل الله أن يتقبله عنده في الشهداء، والله ما حركه إلا كلام الله وكلام الصادق رسول الله. أقسم بالله إن فلسطينية رزقها الله بست بنات وابن في العاشرة من عمره، فيخرج هذا الولد ابن العاشرة يحمل حجارة، ويلبس زياً عسكرياً! فيقول له أحد الكبار من الشيوخ حينما رأى طفلاً في العاشرة: ما اسمك يا بني؟ قال: محمد.قال: وإلى أين أنت ذاهب؟! قال ابن العاشرة: إلى الجهاد في سبيل الله!فقال له الشيخ: أين أبوك؟قال: استشهد قبل أربعين يوماً! فقال له الشيخ: هل استأذنت أمك؟ قال له ابن العاشرة: نعم، استأذنت أمي قبل أن أخرج!قال له: ماذا قالت؟! فقال ابن العاشرة: قالت لي: اذهب يا محمد إلى الجهاد، وأسأل الله أن يلحقك بأبيك! هل يحرك هذه القلوب بهذه الصورة كلام بشر؟! والله ما تعطشت القلوب للشهادة إلا لما حركها كلام الله وكلام الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما ذاقت حلاوة وعد الله، وخافت وعيده. يا عابد الحرمين لو أبصرتنالعلمت أنك في العبادة تلعبمن كان يخضب خده بدموعهفنحورنا بدمائنا تتخضب ريح العبير لكم ونحن عبيرنارهج السنابك والغبار الأطيبمن كان يتعب خيله في باطلفخيولنا يوم الكريهة تتعب ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب لا يلتقي غبار خيل الله فيأنف امرئ ودخان نار تلهب وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169], والله ما سطر الشاب الذي لم يبلغ العشرين من عمره على جدار في القدس الشريف هذه الكلمات إلا من منطلق كلام ربه وكلام نبيه حينما قال: إما عظماء فوق الأرض، وإما عظام تحت الأرض، إنه القرآن الذي يربي.قال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فقال عمير : بخ بخ جنة عرضها السماوات والأرض! فقال له النبي: ما حملك على قول بخ بخ يا عمير؟ قال: لا، غير أني أرجو الله أن أكون من أهلها، قال له الصادق: أنت من أهلها)، فأخرج عمير بن الحمام تمرات يأكلهن؛ ليتقوى على القتال، فقال لنفسه: كأنه ما بيني وبين الجنة إلا أن ألقي بهذه التمرات وأنطلق في الصفوف لأقاتل فأقتل فأدخل الجنة! والله لئن حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة!يا من تعيشون للعروش! يا من تعيشون للفروش! يا من تعيشون للكروش! كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26], سيموت الصغار والكبار، سيموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن، ويموت الصادقون المخلصون الذين يبذلون لدين الله كل ثمن، سيموت أصحاب الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية، ويموت كذلك التافهون الراقصون على الجراح، الذين يعيشون من أجل متاع دنيوي حقير زائل رخيص، الكل سيموت فلنمت بشرف، فلنمت بكرامة، ماذا لو اتخذت قمة كقمة الأمس قراراً برفع راية الجهاد بعد العودة إلى شريعة الله؟!أقسم بالله لتغير كل شيء، قرار على ألسنة قادة الأمة بالعودة إلى الله أولاً، ومحال أن ترفع راية للجهاد في سبيل الله قبل أن تعود الأمة إلى الله، وإلى تطبيق شرعه، وإلى التحاكم للقرآن، أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً [الأنعام:114]، أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ [آل عمران:83]، أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ [يوسف:39]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65]، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ [النور:51-52].أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً [النساء:60-61], فلابد من العودة أولاً إلى القرآن وامتثال آياته وأوامره وتكاليفه وحدوده أمراً أمراً .. وتكليفاً تكليفاً .. ونهياً نهياً .. وحداً حداً ، بل وكلمة كلمة وحرفاً حرفاً، والعودة إلى القرآن ليست نافلة، العودة إلى القرآن ليس تطوعاً منا ولا اختياراً، بل إننا أمام شرط الإسلام وحد الإيمان، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [النساء:65]... إلخ الآية.على قادة الأمة أن يعلنوا الجهاد في سبيل الله، وأنا أعي ما أقول، وأعي كل لفظة -بفضل الله- أرددها، فلنرجع إلى الله، ولنمتثل الأمر، ونحول القرآن إلى واقع، ولنجدد الإيمان، ولنحقق الإيمان، ثم لترفع راية الجهاد، وسيرى حكامنا -بهذا الشرط الذي ذكرت- سيرون من شباب الأمة العجب العجاب -أستغفر الله- بل سيرون من شيوخ الأمة العجب العجاب! والله لقد كنت أذكر بمثل هذا الكلام في مسجد التوحيد في القاهرة يوماً، وقلت: إن من شبابنا الآن من يحترق قلبه شوقاً للشهادة، وإذا برجل يجلس عن يمين المنبر على كرسي جاوز التسعين من عمره، بلحية بيضاء، حينما سمعني أقول: فإن من شبابنا، إذ به يقف ويقول: ومن الشيوخ يا شيخ! ومن الشيوخ! فلم تحمله قدماه فسقط على الأرض! جاوز التسعين وهو يريد الشهادة في سبيل الله! والله لرأى حكامنا من شباب الأمة ومن شيوخ الأمة العجب العجاب.نريد أن نقتل في سبيل الله، والله نريد أن نقتل في سبيل الله، والله الذي لا إله غيره إن من شبابنا الآن من يستعد أن يضع صدره بغير سلاح على فوهة مدافع أعداء الله؛ ليعُلموا العالم كله أن محمداً ما مات وما خلف بنات، بل خلف رجالاً أطهاراً تحترق قلوبهم شوقاً للشهادة وللجنة. آه يا مسلمون!متنا قروناً والمحاقالأعمى يليه محاقأي شيء في عالم الغابنحن آدميون أم نعاج نساق نحن لحم للوحش والطيرمنا الجثث الحمر والدم الدفاقوعلى المحصنات تبكي البواكييا لعرض الإسلام كيف يراققد هوينا لما هوت وأعدواواعدوا من الردى ترياقواقتلعنا الإيمان فاسودتالدنيا علينا واسودت الأعماق وإذا الجذر مات في باطن الأرضتموت الأغصان والأوراق اللهم رد الأمة إلى القرآن رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى القرآن رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى القرآن رداً جميلاً، اللهم رد حكام الأمة إلى القرآن رداً جميلاً، اللهم رد حكام الأمة إلى القرآن رداً جميلاً، اللهم رد علماء الأمة ورجالها ونساءها وشبابها وأطفالها إلى القرآن رداً جميلاً، اللهم انصر الإسلام والمسلمين نصراً مؤزراً، اللهم اشف صدور قوماً مؤمنين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , حق القرآن وسبيل العزة للشيخ : محمد حسان

https://audio.islamweb.net