إسلام ويب

الدعوة إلى الله مسئولية كل من ينتسب إلى الإسلام بحسب جهده وعلمه، ومما ينبغي للداعية أن يتسلح به أثناء دعوته إلى الله: الإخلاص، والعلم، والأخلاق العالية الحسنة، كما أن عليه أن يترفق بالناس عند دعوتهم.

الدعوة إلى الله أمانة في أعناقنا

الحمد لله رب العالمين، وأشهدُ أن لا إله الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى جميع أصحابه الغر الميامين، وعلى من اهتدى بهديهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الأحبة في الله! أيُ شيءٍ أعظم وأجل وأكرم من رضوان الله على عبده؟ هذا الرضوان الذي شهد الله جل جلاله أنه أكبر من كل شيء، فقال سبحانه: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72] وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا: (أن أهل الجنة إذا نزلوا في منازل الجنة، ورأوا نعيمها، وذاقوا لذتها وسرورها، وقالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، إن ربنا لغفورٌ شكور، قال الله جل وعلا: ألا أزيدكم؟ فيقولون: ربنا أعطيتنا وأعطيتنا، فيقول الله جل جلاله: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً).

إذا رضي الله على عبده أرضاه وسدده ووفقه، وجعل السعادة بين عينيه، ولذلك كتب الله لأوليائه بسعادة الدنيا والآخرة.

وأحب العباد إلى الله وأكرمهم عليه -سبحانه- من تمسك بدينه والتزم بشريعته، الذي أحب الله من كل قلبه وظهرت آثار هذه المحبة في جوارحه.

أسعد الناس بالله، من عرف الله؛ فهابه واتقاه، والتزم حدوده جل في علاه، ولقد اصطفى الله جل وعلا لهذه السعادة أحب الخلق إليه، وأكرمهم عليه، وهم الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

اصطفى الله الأنبياء والرسل، فجعل من دلائل حبه لهم أن حمّلهم الأمانة، وقلّدهم المسئولية، فجعلهم أمناء على وحيه ودينه: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165].

لقد حمل رسل الله أمانة الله إلى عباده، على نورٍ من الله، يرجون رحمته، فأدوا رسالته، وبلغوا أمانته، وقرت عيونهم برضوان الله عليهم، ثم اصطفى الله جل جلاله لختم هذه الصفوة -خير خلقه وأفضل رسله وأكرمهم عنده سبحانه- نبينا صلى الله عليه وسلم.

اختاره الله جل جلاله خاتماً للأنبياء والمرسلين، وهدىً لعباده المتقين، ما ترك باب خيرٍ إلا دلنا عليه، ولا سبيل رشدٍ إلا هدانا إليه، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشف -بإذن الله- عن العباد الغمة، ووقف أمام الأمة يوم حجة الوداع، فأشهد الله من فوق سبع سماوات أنه بلغ رسالته، وأدى أمانته، ورجع إلى طيبة الطيبة، ففاضت روحه ولقي الله جل جلاله، حمل هذه الأمانة من بعده الصحابة الكرام، الأئمة الأعلام، الذين هم القدوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حملوا هموم الدعوة، هموم الدعوة إلى الله، وتبليغ رسالة الله جل جلاله، وأحس كل صحابي أنه مسئولٌ أمام الله عما سمعته أذنه وأبصرته عيناه ووعاه قلبه، فنشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السنن والآثار، وحدثوا بالسيرة والأخبار، ففتح الله بها قلوباً غلفاً وأذانٌ صماً وأعيناً عمياً، وقادوا إلى صراطٍ مستقيم.

حمل الصحابة رضوان الله عليهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة، وبلغوا الرسالة، فكانوا خير قدوةٍ بعد النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله.

كان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم -في علمه وحلمه وعمله ودعوته- هم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وما زالت الأمة تحمل هذه الأمانة وهذه المسئولية، جيلاً بعد جيل، ورعيلاً بعد رعيل، ووقفنا -أيها الأحبة في الله- في هذا الزمان، بعد أن مضت قرونٌ عديدة وأزمنةٌ مديدة بيننا وبين رسول الأمة صلى الله عليه وسلم. وقفنا أمام هذه الشريعة الغراء، بعد أن ذاق من شاء الله رحمته، ذاق لذة الهداية وطعم العبودية لله والولاية، فأخذ يتساءل: كيف أبث هذا الخير، وأدعو الناس إلى الإحسان والبر، فما من مسلم يهديه الله إلى صراطه المستقيم ويذوق لذة هذا الدين إلا تمنى أن الأمة كلها تشاركه في هذا الخير الكثير.. من ذاق حلاوة الإيمان ولذة العبودية للرحمن تمنى أن هذه الأمة كلها تشاركه هذا الخير، ولذلك يرد السؤال: كيف السبيل؟ ما هو الطريق الأمثل للدعوة إلى الله وتبليغ رسالته؟

أهمية الإخلاص في الدعوة إلى الله

على الداعية إلى الله أن يعلم علم اليقين أن أول ما يجب عليه، أن يخلص لله جل جلاله، ما كان لله دام واتصل، وما من داعية إلى الله يخلص في قلبه إلا أظهر الله له التوفيق والسداد في جوارحه وأعماله، وفتح الله أبواب الخير أمام دعوته وكلماته ومواعظه؛ لأن الله سبحانه يحب ما كان خالصاً لوجهه، ولا يرضى من الأقوال والأعمال إلا ما أريد به وجهه.

من كان لله كان الله له، ومن وطئت قدماه سبيل الدعوة إلى الله، مفرغ القلب من كل شيءٍ سواه، ملأ الله قلبه بالحكمة والنور والتوفيق والسداد، وجعل الله البركة والخير في قوله وعمله.

فقبل كل شيء: أن يخلص الإنسان، فإذا تكلم سأل نفسه: لمن يتكلم؟ وإذا خطب أو وعظ أو ذكّر: هل هذا الكلام لله، أو لأحدٍ سواه؟

فالوقفة الأولى: أن يخلص الداعية في عمله لله:

إن الله سبحانه مطلعٌ على القلوب والضمائر، مطلع على من يريد وجهه ومن يريد حظوظ الدنيا، ومن أراد الإخلاص لله، فليعلم أن التجارة مع الله رابحة، وأنه إذا سلك سبيل الإخلاص، فلم يتكلم بكلمة إلا خطها الملك الأمين الحافظ؛ لكي يراها العبد أمام عينيه يوم القيامة حجةٌ له لا عليه.

من أراد أن يدعو إلى الله، فليعلم أن هذا الدين لله وليس لأحدٍ سواه، لا يدعو للدنيا ولا يدعو رياءً، لا يدعو ليمدح أو يثنى عليه، ولكن لله جل جلاله، فلا يقف أمام الناس إلا وقلبه معمورٌ بالله، فطوبى لقلوبٍ آمنت وأسلمت وأخلصت، فنظر الله إليها -يوم تكلمت ووعظت وقالت- أنها تريد وجهه، وتريد أجره ورضوانه ورحمته، وما ضرتنا إلا حظوظ من الدنيا ساقتنا عن سبيل الله إلى سبيل من سواه.. قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86].

الداعية الموفق نظر إلى ما عند الله، فعلم أنه باقٍ وما عند سواه فانٍ زائل.. مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96].

الدعوة إلى الله على بصيرة

الوقفة الثانية: الدعوة إلى الله على بصيرة وحكمة يهتدي به الداعية ويهدي به من وراءه.

العلم الذي به يستنير قلب الداعية، وينال به البصيرة قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي [الأنعام:57] فمن كان على بينةٍ من الله اتضح له الحق، فأحبه والتزمه ودعا إليه، ومن كان جاهلاً بالله وبشرعه ضل وأضل، ومن علامات الساعة وأمارتها: (أن يتخذ الناس رءوساً جهالاً، سئلوا فأفتوا بغير علمٍ فضلوا وأضلوا).

فأول ما ينبغي على الداعية: العلم إن على كل داعية أن يبتدئ دعوته بمجالس العلم ورياض الجنة ويسير في طريق طلب العلم، ويحب العلماء يتزود منهم وينتفع بهم، ويلتمس رحمة الله جل جلاله، فالعالمُ الرباني إمامٌ للداعية يهتدي به بعد كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

إذاً: لا بد للداعية من وقفة مع طلب العلم، ينتهل فيها من المعين الصافي؛ من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا تعلم وعلم واستنار قلبه، أمكنه أن يهتدي في نفسه وأن يهدي غيره.

لا دعوة بالجهل، والداعية إذا كان جاهلاً ضل وأضل وراءه؛ فيهلك وتهلك به أمم، فيحاسبه الله جل وعلا عليها.

فحريٌ بطالب العلم والداعية إلى الله، أن يجد ويجتهد في طلب العلم، وليعلم أن سبيل الدعوة والتذكير بالله والهداية إليه تحتاج إلى سلاح ونورٍ وبصيرة، لا يمكن أخذ ذلك كله إلا عن طريق العلماء الأمناء الثقات الأثبات.

إذا جلس الداعية في مجالس العلم وأحب العلماء والتزم بسبيلهم وحرص على الاستفادة منهم، وتأدب ورأى حرمتهم؛ فإن الله يوفي له كما وفى لعلمائه الذين ائتمنهم على دينه.

ما من داعيةٍ إلى الله يحب أهل العلم ويلتزم بحلقهم وينتفع بعلومهم؛ إلا وجدت آثار ذلك كله في دعوته؛ فيقيض الله له من يأخذ من علمه وينتفع به ويتأدب معه كما كان حاله مع العلماء.

العلم لابد منه، وقد قال بعض العلماء في قوله تعالى: قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي [الأنعام:57] قالوا: لا يجوز لأحدٍ أن يدعو الناس ويدلهم على الدين إلا بعد البصيرة والبينة من رب العالمين.

قال بعض العلماء: قل إني على بينة، أي: حجةٌ ومحجة، حجة: يعرف بها الحق من الباطل والهدى من الضلال، ومحجة يسير عليها حتى تنتهي به إلى الجنة.

ضرورة اقتران علم الداعية بعمله

الوقفة الثالثة: لابد للداعية إلى الله أن يوطن نفسه من بداية دعوته على العمل، فالدعوة إذا كانت نابعة من إنسان ذاق حلاوة العمل بالعلم، وذاق لذة المعاملة مع الله، أمكنه إذا ذكّر الناس ووعظهم أن يذكرهم بشيءٍ ذاق حلاوته ولذته، أما فاقد الشيء لا يعطيه.

الداعية إلى الله الذي قرن علمه بالعمل يضع الله له البركة في قوله وعمله، فإن الناس تنظر إلى قول كل قائل وعمله، فإذا وافق القول العمل أحبه الناس وتأثروا بكلامه.. إذا وقف أمام الناس يحدثهم ويعظهم وضع الله عز وجل لمواعظه أثراً نافعاً في قلوب الخلق فوق ما يرجو ويؤمل.

إذا تحدث عن الإخلاص لله كان أخلصهم لله، وإذا تحدث عن الطاعات والقربات كان أسبقهم إليها، وأحبهم لها، وأكثرهم مداومةً عليها، وفاقد الشيء لا يعطيه، ولذلك عاتب الله من قبلنا، أنهم حملوا التوراة ثم لم يحملوها فكانوا كمثل الحمار يحمل أسفاراً، فمقتهم الله جل جلاله حينما قالوا بما لم يعملوا.

قال بعض السلف: (كونوا دعاةً وأنتم صامتون، قالوا: وكيف ندعو ونحن صامتون؟ قال: ادعوا الناس بأخلاقكم وأقوالكم وأعمالكم قبل أن تدعوهم بتذكيركم).

فالذي يدعو الناس بأخلاقه وأقواله وآدابه وشمائله؛ تتأثر الناس بدعوته، ولن يكون ذلك إلا بالعمل، لن يكون ذلك إلا إذا رأى الناس آثار السنة وأخلاق الإسلام في الداعية إلى الله، سواءً كان خطيباً أو واعظاً أو مذكراً أو معلماً، ونسأل الله العظيم أن يوفقنا إلى القول والعمل، فإنها من أعظم نعم الله عز وجل على عبده، حتى قال بعض العلماء: لن يكون العبد هادياً مهدياً إلا إذا قرن العلم بالعمل.

تحلي الداعية بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم

الوقفة الرابعة: الدعوة إلى الله تحتاج إلى تأسٍ برسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن أعظم ما ينبغي أن يتحلى به المسلم أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه الأخلاق التي إذا نظرها المسلم في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم العطرة، وشمائله الجليلة النضرة، هذه الأخلاق التي نراها في أكمل صورها وأجمل حللها في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ في عسره ويسره، وفي منشطه ومكرهه.

طلاقة الوجه وسلامة الصدر

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم داعيةً إلى الله.. خرج إلى الناس طليق الوجه، دائم البشر والسرور صلى الله عليه وسلم، ما كان يلقى الناس مكفهر الوجه أو عابساً أو محتقراً لهم، بل كان يلقاهم صلوات الله وسلامه عليه بالوجه الطليق والقول الرقيق، قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه: (ما لقيت النبي صلى الله عليه وسلم إلا تبسمَ في وجهي).

فالداعية إلى الله، يتحلى بمثل هذا الأدب النبوي الكريم.

كان يخرج صلى الله عليه وسلم لأصحابه نقي السريرة والقلب، ليس في قلبه غل ولا حسد ولا بغضاء على المسلمين، إنما كان يخرج لهم بالمحبة والصفاء والمودة والإخاء صلوات الله وسلامه عليه.

لن نستطيع أن نهدي الناس إلا إذا سلمت صدورنا من آفات القلوب، لن نستطيع أن نأخذ بمجامع قلوب الناس إلا إذا سلمت سرائرنا وضمائرنا من الحقد على عباد الله، وسوء الظن بهم، ولن يكون الداعية كما ينبغي أن يكون عليه الداعية إلا بمجاهدة القلب، فإذا خرج إلى المسلمين أحب لهم ما يحب لنفسه، وكره لهم ما يكره لنفسه؛ لعلمه أن الله يحب منه ذلك.

إذا لم يسلم صدرك ولم يكن نقياً لإخوانك المسلمين، أظهر الله ما في قلبك في فلتات لسانك وزلات جوارحك وأركانك، وقد قال بعض العلماء: ما أسر عبدٌ في قلبه سريرة إلا أظهرها الله في فلتات لسانه، أو في جوارحه وأركانه.

فالذي يريد أن يدعو إلى الله ينبغي له أن يجعل في صدره السريرة النقية للناس التي تتمنى لهم الخير، فإذا قوي هذا الباعث في القلب دعاه إلى أن يبذل كل ما يستطيع لهدايتهم ودلالتهم على الخير وتحبيبهم في طاعة الله جل جلاله.

التواضع

ومن الأمور التي كان يتحلى بها عليه الصلاة والسلام: التواضع، فلا يرى الداعية نفسه أنه فوق الناس، وإنما يتواضع لهم، يتواضع للصغير والكبير والجليل والحقير، والناس عنده في كفةٍ واحدة، من حيث التواضع وتوطئة الكنف، وقد ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يَألفون ويؤلفون).

ما أجمل الدعوة إذا جمل الله الداعية بالأخلاق والتواضع والحلم وتوطئة الكنف! إن كريم الأصل كالغصن؛ كلما ازداد من خيرٍ تواضع وانحنى.

كان صلى الله عليه وسلم يقف لصغار المسلمين وكبارهم وشبابهم، لن يستطيع الداعية أن يكون موفقاً في دعوته إلا إذا حرص على أخلاق الإسلام وآداب النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت مع الصحب الكرام.

وإذا وفق الله الداعية لهذه الأخلاق والآداب أحبه الناس، فإذا كانت أخلاق الداعية وآدابه وشمائله وتصرفاته تدل على حبه للناس وتوطئته للكنف أحبه الناس.

إنما يتواضع الداعية ويكون قريباً من الناس؛ لأن حوائجهم عنده، فالضال ينتظر منه الهداية بإذن الله عز وجل، والمهموم والمغموم ينتظر منه الكلمة التي تبدد -بإذن الله- الهم والغم، والحائر والتائه ينتظر منه التوجيه والإرشاد حتى تذهب الحيرة ويذهب التيه، فإذا به يلتزم بدين الله عز وجل.

فإذا جاء هذا الحائر أو التائه إلى الداعية ووقف أمامه، فرأى من آدابه وشمائله وتواضعه وحبه الخير للناس ما يشجعه على الاقتراب اقترب ودنا وأنصت وأحب، وتمنى أنه معه وعلى سبيله ونهجه الذي يسير فيه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

سعة الصدر

ومن الأمور التي ينبغي للداعية أن يحرص عليها وأن يكون محافظاً عليها: سعة الصدر.

فالداعية تواجهه مواقف حرجة، يأتيه السفيه بسفهه، والطائش بطيشه والغاوي بغوايته، فيتسع صدره للناس حتى يستطيع أن يسع الناس بهذا الحلم، قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن سعوهم بأخلاقكم).

فالداعية إلى الله إذا كان واسع الصدر لزلات أهل الزلل وخطيئات أهل الخلل؛ أحبه الناس وتأثروا بدعوته، وأصدق شاهدٍ على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح: (أنه عندما قسم غنائم حنين، وجاءه ذو الخويصرة فجذبه وقال له: يا محمد! اعدل، فقال صلى الله عليه وسلم: ويحك، من يعدل إذا لم أعدل!) ما تذمر عليه الصلاة والسلام، ولا أمر بقتله ولا سبه أو شتمه، فما كان عليه الصلاة والسلام سباباً ولا شتاماً ولا لعاناً، ولكن كان رحمةً للعالمين، صلوات الله وسلامه عليه.

تسلح الداعية إلى الله بالصبر

من الأمور المهمة التي ينبغي للداعية أن يحرص عليها في دعوته: التضحية والصبر والتحمل.

إن الدعوة إلى الله تحتاج من الداعية أن يصبر، ولن يستطيع أن يصبر إلا إذا صبره الله عز وجل، فالصبر من أجل النعم التي يمتن بها الله عز وجل على عباده، قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: (وجدنا ألذ عيشنا بالصبر)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أعطي عبدٌ عطاءً أفضل من الصبر).

يصبر الداعية في تبليغ رسالة الله، وقد يفاجأ بما يوجب السآمة والملل، فيصبر ويحتسب الأجر عند الله، ولا يقتصر هذا الأمر على الداعية في مسجده أو الخطيب في جمعته، بل إنه يشملك وأنت أمام الابن أو البنت أو الزوجة أو أمام القريب، إذا رأيت منه الصدود والإعراض، أو رأيت منه السخرية والتهكم، تعلم أن هذا البلاء الذي ابتلاك الله به قد يكون لحكمةٍ منه سبحانه وتعالى، فتصبر ولا تتضجر أو تمل أو تسأم، ولكن وطن نفسك على الصبر، فلعل الله -لحكمة- أن يؤخر عنك هداية الأخ أو الأخت أو القريب... إلخ، حتى يكون ذلك أصدق شاهدٍ على صبرك على طاعة الله.

قال تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179]، فهناك من هو أطيب الطيبين في صبره وتحمله، وهناك من هو دون ذلك، فلا تسأم، بل كرر الدعوة، واقرع القلوب مرةً بعد مرة، واعلم أن هذه الكلمات والنصائح والتوجيهات في ميزان حسناتك، فلو عدت المرة بعد المرة لم تسأم ولم تمل؛ لعلمك أن الله يرضى عنك عند تكرارها، ولعلمك أن الله يحب منك الصبر والتحمل، فتصبر وتصابر وترابط على طاعة الله جل جلاله، تتحمل مهما سمعت ومهما رأيت، فسيأتي اليوم الذي تقر فيه عينك على الصبر الذي صبرك الله، ولن تقف موقف ابتلاءٍ فتهان فيه من أجل الله إلا أقامك الله مقاماً أعز منه وأكرم، فمن أهين في الله جل جلاله -كأن يسخر منه أهله أو أقاربه- فإن الله يعزه ويكرمه، ويأتي اليوم الذي تقر فيه عينه، فيرى فيه بشائر صبره، وحسن عاقبة مرابطته في طاعة ربه.

لقد صبر أهل الدنيا على الدنيا وما ملوا، وصبر أهل الباطل على باطلهم فما سئموا ولا تضجروا، وأنت على الصراط المبين، والسبيل المستبين، وفي رحمة أرحم الراحمين، فأنت أحق بالصبر منهم.

ألا ترى إلى التاجر كم يصبر ويتحمل ويجد من الجهد والتعب وأذية الناس! وهو في تجارته يتحمل، ويتحمل لعلمه بالأرباح التي تكون في الأخير، فتعامل الله جل جلاله، لئن سمعت سخريةً من ساخر، فاحمد الله جل جلاله أن تغيب عليك شمس ذلك اليوم وقد أهنت في ذات الله سبحانه وتعالى، وإذا سبك أو عابك أو شتمك غويٌ أو ضال، فاعلم أن هذا الشتم والسب مكتوب في صحيفة عملك، فلا يزيدك إلا صبراً وتحملاً واحتساباً عند الله وثواباً وأجراً، والله جل وعلا لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

ومن أعظم الإحسان: أن تصبر في ذات الله جل جلاله، فلقد ضحى أهل الباطل، فترى النصراني يدعو إلى نصرانيته وهو في الأدغال فلا يستوحش أو يسأم، ولا يمل أو يتكدر، وأنت على صراط الله، وفي سبيلٍ يحبه الله، فأنت أولى بالصبر منه.

فهذه أمور ينبغي أن يجعلها الداعية نصب عينيه، واعلم رحمك الله أن الصبر يختلف، فلا تتوقع من الله عز وجل أن يبتليك بشيءٍ تألفه، لا، بل قد يأتيك الابتلاء بشيءٍ لا تألفه، فأنت في دعوتك إذا كنت في بيتك أو في خطبتك أو موعظتك أو درسك وتعليمك، قد يسلط الله عليك من الابتلاء ما يوجب السآمة والضجر بما لم يكن في حسبانك، فما عليك إلا أن تعلم أن الله رقيب وحسيب، وتعلم أن الله معك عندما صبرت لوجهه واحتسبت الأجر عنده سبحانه وتعالى.

لقد نعمت وقرت عيون الصابرين حينما سمعوا قول الله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146] فمن علم أن الله يحبه إذا صبر وثبت على صبره ازداد صبراً وثباتاً، وتكمل محبة الله لعبده على قدر كمال صبره، فعندما كمل صبر النبي صلى الله عليه وسلم كملت محبة الله جل جلاله له.

لقد أوذي عليه الصلاة والسلام فانطلق إلى الطائف يريد دعوتهم وهدايتهم إلى سبيل الله، فأغروا به السفهاء، وقد وقف أمامهم يدعوهم بدعوة الله ويهديهم إلى صراطه، فقال له القائل: أما وجد الله رسولاً غيرك؟ وقال الآخر: أنا أمزق ثيابي إن كان الله بعثك، ثم أغروا به السفهاء -صلوات الله وسلامه عليه- فانطلقوا يرمون بالحجارة خير خلق الله، وأحب عباد الله إلى الله! فانطلق وهم وراءه يرمونه بالحجارة حتى آوى -عليه الصلاة والسلام- إلى الظل من شدة التعب والنصب.

نعم أوذي عليه الصلاة والسلام، وسمي: الساحر والكاهن، والأبتر، والصابئ، والأفاك، ومات وهو سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وسلم.

مضت تلك الأيام وما مضى ثوابها، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

فيا من يريد الدعوة إلى الله! اجعل نصب عينيك مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم شج في وجهه، وكسرت رباعيته، وسالت دماؤه على وجهه، ويقول: (كيف يفلح قومٌ شجوا وجه نبيهم) والله لا تضجر، ولا سئم، بل زاده ذلك ثباتاً على دين الله وتمسكاً بصراطه حتى أتاه الموت وقد رضي الله عنه وأرضاه، فما من إنسانٍ يصبر لله إلا أقر الله عينه بحسن العاقبة، فلن تجد داعية يبتلى ويصبر إلا وجد الثمار اليانعة والعواقب الحميدة.

على الداعية إلى الله أن يعلم أن توجيه الناس ودلالتهم إلى الخير مقام شريف، واعلم أنك إذا وقفت أمام الناس واعظاً أو مذكراً أو هادياً، فأنت تقف في موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليكن أول ما يكون منك أن تحمد الله جل جلاله، وأن تقول: يا رب! من أنا حتى تجعلني مذكراً وهادياً ودليلاً إلى سبيلك؟! فلتحمد الله على نعمته وتشكره على فضله.

ثانياً: أن تعلم علم اليقين، أنه إذا أراد الله أن يرضى عنك في دعوتك جعل أتباعك كثيرين، قال صلى الله عليه وسلم: (إني لأرجو أن أكون يوم القيامة أكثرهم تابعاً) فالداعية الموفق يحرص على أن يكون أكثر الناس أتباعاً، وهذا يحتاج منه أن يبحث عن الأسباب والوسائل التي تحبب الناس في دعوته، وترضي الناس عن قوله وعمله، فيرضي الله أولاً، ثم يرضي عباد الله بعد ذلك.

رفق الداعية إلى الله بالمدعوين

على الداعية إلى الله أن يلتزم بالقول الحسن والأسلوب الذي فيه رفقٌ بالناس، فإن الله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين، ما بعثه صخاباً ولا لعاناً ولا سباباً، إنما بعثه لكي يكون رحمةً للأمة ولكل من اتبعه، فما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما؛ وكان صلى الله عليه وسلم رفيقاً بالأمة، فكل ما كان من تشريع أو أمر فيه ضيقٌ على الأمة إلا سأل ربه أن يخفف وأن يلطف بعباده.

فينبغي على الداعية إلى الله أن يلتزم هذا النهج في تحبيب الناس للخير، وهذا يحتاج منه إلى القول الطيب، وأن يكون في دعوة الناس حليماً رحيماً رفيقاً، قال صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه، ولا نزع من شيءٍ إلا شانه).

وإذا أراد الله أن يحرم الداعية التوفيق، سلّط عليه الشيطان فأزله بلسانه، فاتجه إلى الناس ساباً أو شاتماً أو كاشفاً لعوراتهم أو مبدداً لأعمالهم، حتى ينفر الناس من دعوته.

قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن منكم منفرين) فليتق الله الداعية، ولا يكن حجرة عثرة في قبول الخير.

ينبغي أن يأخذ الناس باللطف واللين، وعليه أن يعرف كيف يخاطب الناس، وكيف يقرع القلوب، وكيف يوجه، وكيف يدل، وإذا لم يجد في نفسه ذلك، فليسأل العلماء ما هو السبيل.

وإذا أراد الله أن يوقف الإنسان على أكمل هديٍ في التوجيه، فإنه يوقفه ويحبب إلى قلبه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الصحيح: (عندما بال الأعرابيُ في المسجد، طفق الصحابة يريدون أن يؤذوه، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تزرموه، فلما قضى بوله وأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عليه الصلاة والسلام: إن هذه المساجد لم تبنَ لهذا) فلو كان عليه الصلاة والسلام أخذه بالعنف والشدة لأضر به وأضر ببيت الله عز وجل.

انظر إلى الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما رأى من المحسن الإساءة كيف تحمله، وأخذه بحلمه ورفقه، ففي الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أراد فتح مكة، هيأ أصحابه، وغيّب عن قريشٍ خبره، فكتب حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه وأرضاه- إلى قريشٍ كتاباً يحذرهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقت المرأة ومعها الكتاب، فنزل جبريل من السماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره الخبر، فبعث عليه الصلاة والسلام علياً ، فأدرك المرأة في الروضة، فقال لها: أخرجي لي الكتاب، فأنكرت، فقال لها: إن لم تخرجيه لأجردنك، فتنحت عنهم وأخرجت كتاب حاطب رضي الله عنه من تحت شعرها، فأخذ علي الكتاب، وأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) تصوروا مثل هذا الموقف، صحابي يكتب بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أعدائه، وفعل ذلك على غرة دون علمٍ من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، (فلما وقف عليه الصلاة والسلام على الخبر، وقرأ الكتاب واستبان الأمر، وحاطب أمامه، قال: يا حاطب ! ما حملك على هذا؟) ما الذي حملك على أن تكتب لقريشٍ بهذا الأمر؟ هل سبه أو شتمه؟ لا، بل يسأله عن العذر أولاً؛ لكي يعلم ما الذي دفعه إلى ذلك (قال حاطب رضي الله عنه: والله -يا رسول الله- ما فعلت ذلك حباً للكفر، ولا إيثاراً له عن الإسلام، ولكنني رجل لا عشيرة عندي، وإني أخاف على قومي، فأحببت أن أتخذ يداً عند قريش، فقال عمر : يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم: يا عمر ! وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم).

قد ترى من رجل بعض الزلات والهنات، فاذكر ما لهذا الرجل من الحسنات أو المواقف الطيبة، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عظم الله -من فوق سبع سماوات- لـحاطب موقفاً شهده، نصر به الإسلام، فما كان ربك نسياً.

فينبغي على الداعية إلى الله أن يأخذ الناس بالتي هي أحسن إلى السبيل الأقوم والهدي الأكمل والأجمل بلسانه الطيب وكلماته الرقيقة.

وما من إنسان يحرص على الدعوة بالأسلوب الطيب والكلمات الطيبة إلا وضع الله له الأثر؛ فإن الكلام الطيب حسن الوقع والأثر في القلوب، فالطيب لا ينبت إلى طيباً، ولا يأتي إلا بالطيب، والله عز وجل قال: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة:100]. فاتقوا الله، فكلما كان الإنسان في دعوته يخرج منه الكلمات الطيبة ويأخذ بمجامع قلوب الناس بالتي هي أحسن؛ كلما نفع الله بدعوته.

أيها الأحبة في الله: الحديث عن الدعوة يطول، ولكن أحب أن أنبه على أن الدعوة إلى الله لا تقتصر على منبر، ولا تقتصر على تعليم أو توجيه في مكانٍ جامع، بل أنت داعيةٌ إلى الله في كل لحظة وفي كل طرفة عين ما دمت منتسباً للإسلام ومتبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واعلم أنك إذا جئت بين قومٍ ضلوا السبيل، وأنت مهتدٍ بسبيل الله، فاعلم أن العيون تلحظك، وأن الناس ينظرون إليك كقدوة وإمام وداعية إلى الخير.

علينا أن نعلم أن الدعوة ليست محجورة أو محصورة على الخطبة أو الموعظة، أو على من يخطب أو يعظ، بل أنت داعية إلى الله في كل كلمة تقولها وتهدي بها إلى صراط الله، لو قلت لابنتك: اتق الله، فأنت داعيةٌ إلى الله، ولو قلت لابنك: خف الله، فأنت داعيةٌ إلى الله، ولو أمرت بأمرٍ أمر الله به أو نهيت عن نهيٍ نهى الله عنه، فأنت داعيةٌ إلى الله.

إكثار الداعية من ذكر الموت والآخرة

أختم هذه الكلمات بأمرٍ عظيم ما وفق الله له الداعية إلا كان له خير الدنيا والآخرة، هذا الأمر العظيم الذي لا ينال إلا بتوفيق الله ذي العزة والجلال، هذا الأمر العظيم الذي إذا وقر في القلب أتبعه الإنسان العمل، ألا وهو كثرة ذكر الآخرة.

ينبغي للداعية إلى الله أن يعلم أنه إلى الله صائر، وأنه منقلبٌ إلى الجنادل والحفائر، فإن وجد ثمار دعوته، فرمقته العيون، وأصغت إليه الأسماع، فليعلم أن الله يحاسبه، وأن الله سائله، وأن الله موقفه بين يديه، وقائلٌ له: عبدي ماذا أردت بهذا؟ فإن قال: أردت وجهك وما عندك -وكان صادقاً- قال الله: صدقت، وقالت الملائكة: صدقت، وقال الله: اذهبوا بعبدي إلى الجنة.

إذا أحس الداعية إلى الله أن له موقفاً بين يدي الله هانت عليه الدنيا وما فيها.

إذا أكثر الداعية من ذكر الموت والبلاء وقرب المصير إلى الله جل وعلا، هانت عليه الدنيا وما فيها وأصبحت كلماته ومواعظه للآخرة، فنفع الله به وانتفع.

أيها الأحبة في الله! نقول ونعمل، وبين يدي الله نسأل، ولسنا ندري أهذه الأمم التي وراءنا تقاد إلى روضة جنة أم إلى حفرة نار.

فنسأل الله العظيم بعزته وجلاله أن يجعلنا ممن أراد وجهه وأراد ما عنده، ونسأله جل وعلا أن يعمر قلوبنا بإرادة وجهه الكريم.

اللهم إنا نسألك الفقر إليك، والغنى بك، والتوكل عليك، وصدق اللجوء إليك.

اللهم املأ قلوبنا بحبك وحب كل شيءٍ يزيدنا من حبك، واجعل جوارحنا في طاعتك، واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، نسألك عيشة السعداء، وميتة الشهداء، ومرافقة الأنبياء، والنصر على الأعداء.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، وأسأله تعالى أن يجعل هذا كله خالصاً لوجهه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

أفضلية الجمع بين طلب العلم والدعوة إلى الله

السؤال: فضيلة الشيخ! ما هو الأفضل للداعية: أن يعكف على طلب العلم حتى يبلغ الحد الذي يؤهله ليكون داعية، أم يجمع بين طلب العلم والدعوة؟

الجواب: الأفضل والأكمل أن يجمع الإنسان بين الحسنيين، أن تجعل لك وقتاً لطلب العلم، ووقتاً للدعوة إلى الله، وطلاب العلم يختلفون، فهناك من هو قليل العلم، لا ينبغي أن يشغل نفسه بالدعوة حتى يتسلح بالعلم، وهناك من هو في بيئة تحتاج إلى كل كلمةٍ منه، وتحتاج إلى العلم القليل الذي عنده، فينبغي عليه أن يؤدي رسالة الله، وأن يتكلم بما عنده من الخير ويبثه للناس.

كان بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الليالي ذوات العدد، فيمكث عنده، فيقول عليه الصلاة والسلام: (انطلقوا إلى أهليكم فعلموهم) فإذا كان الإنسان في بيئة تحتاج إليه، وتحتاج إلى مواعظه وتذكيره وإلى خطبه، فليحرص على أن يجعل لهم حظاً من ذلك ونصيباً، فإن الله سائله عن ذلك، ولا ينتظر حتى يكمل طلب العلم، بل يبذل ما عنده من العلم والتوجيه حتى يعذر إلى الله عز وجل بتبليغ رسالته وأداء أمانته.

والأفضل أن يجعل له وقتاً من الأسبوع للدعوة، فيخرج مثلاً يوم الخميس أو الجمعة حسب المستطاع له، ولن نستطيع أن نضع للناس برنامجاً أو طريقة؛ لأن وضع البرامج في هذا من الخطأ، فقد يناسبُ قوماً ولا يناسبُ آخرين، ولكن اتق الله وسدد وقارب، فلن تزال بتوفيقٍ من الله ما سددت وقاربت، والله تعالى أعلم.

وصايا لمن وضع له القبول بين الناس

السؤال: إذا وجد الداعية القبول لدعوته، فإنه يجد لذلك ارتياحاً وفرحاً وانشراحاً فهل يقدح ذلك في إخلاصه؟

الجواب: الله المستعان، ينبغي على الداعية ألا يلتفت إلى الناس، فلو أن الأمة كلها أحبت العبد والله ساخطٌ عليه فماذا ينفعه؟ وإذا رضي الله عن العبد والأمة كلها ساخطةٌ عليه فلا يضره ذلك.

إذا كان العبد لله ورضي الله عنه، نعمت عينه وإن كان الناس كلهم بمعزلٍ عنه، ولكن إذا وجد القبول، فليعلم أن عليه -أولاً-: أن يشكر الله جل جلاله مقلب القلوب والأبصار، فيقول: يا رب! ما زلت تُنعمُ علي، وما زلت تتفضل علي، فأنت صاحب الفضل أولاً وآخراً، ولا يعتقد أن لسانه أو كلماته ومحاضراته ودروسه تغني له من الله شيئاً، ولو شاء الله في طرفة عين أن يسلب من قلوب العباد حبه لسلبه، فهو على كل شيءٍ قدير، ولو شاء الله في طرفة عين أن يقلب العباد كلهم على حبك وإجلالك وهم في سخطٍ لك لفعل، فالله على كل شيءٍ قدير.

فينبغي على الداعية ألا يلتفت إلى الناس، بل ينظر ويراقب الله جل جلاله، حتى إذا علم أن الله سبحانه وتعالى أنعم عليه بهذه النعمة أجلَّ نعمة الله، ومن عرف نعم الله شكرها وحفظها وحافظ عليها وقام بحقوقها.

فعلى الداعية إلى الله إذا رأى القبول أن يثني على الله بما هو أهله، وأن يعلم أن هذا القبول كله مسئوليات وتبعات وأمانات يحملها على ظهره في الدنيا ويسأل عنها بين يدي الله جل جلاله، فلو سأله الله: قد وضعت لك القبول، فماذا قدمت لي؟ فماذا يقول وبماذا يجيب؟

ثانياً: ألا يأمن من مكر الله فتزل قدمٌ بعد ثبوتها، فإن الله مطلعٌ على قلبه، فإن رأى في قلبه أنه لا يميل إلى الناس ثبته ووفقه وسدده، والله على كل شيءٍ قدير، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27].

وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين) أنت بكلماتك ومواعظك لا شيء، فإذا كنت تظن أن كلامك ومواعظك وحسن بيانك هو الذي جمع الناس حولك، فما صدقت ولا بررت، فكم من بليغ هو أبلغ منك ولا يجد ربع ما تجده، وكم من فصيح هو أفصح منك، ويجد ثُمنَ أو عُشرَ معشار ما تجده، ولكن الفضل كله لله.

فأول ما ينبغي على الداعية أن يوطن نفسه على حب الله وإجلاله وشكره والثناء عليه.

ثالثاً: إذا أحس الإنسان أن النعمة نعمة الله وأن الفضل كله لله؛ خاف من الله جل جلاله أن يكون استدراجاً، فإن الله يستدرج العبد من حيث لا يحتسب، فعليه أن يتقي الله فيما يقول ويعمل، فيأخذ بهذه الأمة التي وضع الله له القبول فيها إلى كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لا إلى مجده وإلى شخصه والثناء على نفسه، ولا يحتكر هذه النعمة، فيخون الأمانة ويضيع عباد الله على حساب ما يكون له من حظوظ، بل ينبغي أن يصوغ القلوب كلها لله، وفاءً وشكراً لنعمة الله جل جلاله عليه.

انظر إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رأى بأم عينيه القبول في الأرض؛ قام حتى تفطرت قدماه من طول القيام، وقالت له أم المؤمنين: (يا رسول الله! أوتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً) فينبغي على الداعية أن يجعل كل ما عنده -ممن التزم سبيله وسار على نهجه- على صراط الله، فالله معك لئن أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، ووفيت له في دعوتك، فهذه من الأمور التي ينبغي أن يتواصى بها، فإذا وجدت في حيك ومسجدك القبول بين الناس، فصغ عباد الله لله، وارجُ الثواب من الله، فإنك إن فعلت ذلك شكر الله سعيك، وأعظم أجرك، ورفع ذكرك، وأحسن العاقبة لك في الدنيا والآخرة.

ونسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، ونسأله تعالى ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يصرف عنا فتنة الرياء، وفتنة السمعة والثناء، وأن يجعل أقوالنا خالصة لوجهه حتى نقف بين يديه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

التفصيل بين طلب العلم وغيره من العبادات التفرغ لطلب العلم وإتقانه إولى

السؤال: فضيلة الشيخ! هل الأولى أن يصرف العبد أغلب أوقاته في العبادة والنوافل، أم الأفضل أن يعكف على طلب العلم والدعوة إلى الله؟

الجواب: هذا أمر يختلف باختلاف الناس، فإذا كان الإنسان يستطيع أن يفرغ نفسه لطلب العلم ويعطي العلم حقه من الحفظ والفهم والإتقان ويخرج للأمة إمام هدىً، على بصيرةٍ من الله ونورٍ يخرج إلى الناس لكي يسد لهم ثغرةً من ثغور الإسلام، فإن تعلم العقيدة أتقنها، وعرف ما فيها، وأقام الناس على الصراط السوي في العقيدة، وذب عن الإسلام فردّ الشبهات والضلالات، وقام لله بحقه، وإن تعلم الفقه تعلم كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعرف الحلال والحرام، وعرف الشريعة والأحكام، وقام بذلك على أحسن وجه وأتقن أتم الإتقان وأكمله، فهو على خيرٍ عظيم، وهو بخير المنازل يوم القيامة؛ لأن العلم هو أشرف ما يطلب، وأفضل ما يكون، وهو أفضل من العبادة.

أما إذا كان الإنسان قد فتح الله عليه في العبادة ويريد أن يجمع بين العلم والعبادة فهذا شيءٌ طيب، ولكن الأفضل والأكمل أن يتقن العلم، وأن يفرغ نفسه للعلم ولضبط العلم حتى يسد الناس ثغرة هذا العلم وخاصةً في هذا الزمان الذي قل فيه العلماء، وكلما فقدت الأمة عالماً قل أن تجد من يخلفه.

كانت القرون الماضية إذا مات عالم خلف للأمة علماء فعندما توفي زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه -الصحابي الجليل العالم العامل العابد القانت- وبلغ الخبر أبا هريرة رضي الله عنه بكى، وقال: (لقد دفن الناس اليوم علماً كثيراً -فقد كان زيد رضي الله عنه أعلم الناس بكتاب الله.. أعلمهم بالحلال والحرام، وأعلمهم بما في القرآن من حدود، وأعلمهم بأوامر الله ونواهيه- ولعل الله أن يجعل لنا في ابن عباس خلفاً من زيد ).

لأن ابن عباس لزمَ زيداً ، وقد كان يأتي في شدة الظهيرة وينام على بابه، ويأتي في ظلمة السحر وينام على باب زيد ، إعظاماً لكتاب الله، وإجلالاً لأهل كتاب الله -رضي الله عنه وأرضاه وجزاه عن الأمة والإسلام خير الجزاء- فخرج بحراً حبراً للأمة وعالماً من علماء المسلمين، فكان العلماء إذا ماتوا وفقدوا خلفوا من ورائهم أمة، ولكن اليوم إلى الله المشتكى!

فكون طالب علم يحتسب عند الله أن يتقن ثغر العلم، وأن يلتزم بالتعلم وبحلق العلم، ويحب العلماء، ويحرص على مجالسهم والاستفادة من علومهم، فهذا من أفضل ما يكون، فقراءة العلم والنظر في كتب أهل العلم عبادة، والتفكر والتدبر في المسائل ومناقشتها ومناظرتها بنية الوصول إلى الحق عبادة، ولا تزال في عبادة ما كتبت وسمعت وتعلمت ومشيت، فأي مقامٍ مثل هذا المقام؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله -وإذا سهل الله فلا تسأل- له به طريقاً إلى الجنة) يقول العلماء: أقرب السبل إلى الجنة طلب العلم، فنحن نقول: إذا كان الإنسان يستطيع أن يتفرغ للعلم ويعطي العلم كليته ويجعل له حظاً من قيام الليل ومن صيام النهار وحظاً من العبادة والبكاء والخشوع والقراءة في سيرة السلف الصالح، فقد جمع بين الحسنيين، نسأل الله العظيم أن يجعلنا ذلك الرجل، والله تعالى أعلم.

تعيير الناس الداعية بفساد أقاربه

السؤال: فضيلة الشيخ! إذا كان بيت الداعية على غير استقامة وأصبح يعير لذلك في حيه إذا أراد أن يدعو إلى الله، فما هي الوصية في هذا الأمر؟

الجواب: الداعية إلى الله يدعو إلى الناس بقوله وعمله، ولو كانت بيئته وأهله وقبيلته وأمته التي خرج منها ضالة بعيدة، فلا يضره ذلك شيئاً، ما ضر عكرمة كفر أبيه.

فالداعية إلى الله يبحث عن رضوان الله، ولا يلتفت إلى ما يقوله الناس، فلست بمسئولٍ عن قرابتك إذا بلغتهم رسالة الله على وجهها، فالرسول عليه الصلاة والسلام قد وقف أول موقف في الجهر بالدعوة، فكان أول من سفهه ورد عليه على الأشهاد عمه أبو لهب ، (فقال له: تباً لك، ألهذا جمعتنا) فأنزل الله من فوق سبع سماوات غيرةً على نبيه، قال سبحانه وتعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] فجعله في تبابٍ إلى يوم القيامة، وجعله يوم القيامة في أعظم التباب وأشد النكال، نسأل الله السلامة والعافية.

فالذي يريد أن ينظر إلى أهله وجماعته وإخوانه أو أحدٍ يقول له: كنت وكنت، وفعلت وفعلت، فإنه لن يستطيع أن يدعو، فلا عليك من كلام الناس إذا وجدت الحلاوة وأردت أن تعامل الله وأن تشكر نعمته عليك، فعاجل ما تنتظره من عظيم الأجر عند الله؛ أن تؤذى في ذات الله جل جلاله. يقول بعض العلماء: من دلائل القبول للداعية أن يؤذى في بداية دعوته. ولذلك بمجرد ما يأتي الداعية يريد أن يتكلم يقول له قائل: اسكت فمن أنت؟ أنت الذي كنت تفعل وتفعل، اسكت فمن أنت حتى تتكلم، فأبوك ليس بعالم، ولا جدك، فما عليك من سخرية الساخرين وتهكم المستهزئين، وعليك برضوان الله رب العالمين.

فهذا لوط عليه السلام أوذي بزوجه، وهذا إبراهيم عليه السلام أوذي بأبيه، وأوذي نوحٌ عليه السلام بابنه، ويقول العلماء: ما ذكر الله هذه القصص إلا لكي تكون سلواناً لكل داعيةٍ إلى الله ولكل هادٍ يهدي إلى صراط الله، فعليك أن تبحث عن مرضاة الله جل جلاله ولا تلتفت إلى غيره، وأسأل الله العظيم أن يصرف عنا قول الناس وضرهم، وأن يجعلنا ممن أراد وجهه وابتغى ما عنده.

قال الله تعالى: لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69].

فمن أراد الوجاهة عند الله فليصبر على طعن الناس فيه وفي زوجته وأهله وولده، قد يأتي الداعية يريد أن يدعو فينتشر بين الناس أن زوجته ليست بملتزمة، وأن أولاده ليسوا بملتزمين، فما دام أنه نصحهم ووعظهم وذكرهم بالله فهو على خير، ولا يضره كلامهم شيئاً وإذا صدق مع الله وبلغ رسالته إليهم، فقد أعذر إلى الله، وذلك لا يمنعه من تبليغ رسالة الله إلى عباده، والله تعالى أعلم.

التدرج في طلب العلم على ضوء ما يقرره العلماء

السؤال: فضيلة الشيخ! ما الكتب التي تنصح الداعية بقراءتها في الأصول والفقه والعقيدة والتفسير؟

الجواب: خير ما يوصف به من أراد أن يتعلم العلم النافع، وأن يهتدي إلى الصراط المستقيم، فليلتزم بكتاب الله، قال الله عز وجل: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9] فالله عز وجل جعل هذا الكتاب هادياً لأقوم السبل، فإذا أردت أن تتعلم فأول ما تسأل عنه: ماذا قال الله، وقال رسوله عليه الصلاة والسلام؟ تبحث عن الأساس، فكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم هما السبيل الأقوم والصراط الذي لا نجاة للعبد إلا بهما، وهما الصراط الذي تسأل الله في كل صلاةٍ تصليها بين يديه، وتقف بين يديه حين تقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] وليس هناك صراط مستقيم إلا صراط القرآن.

قال بعض العلماء في قوله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153] قالوا: هو كتاب الله جل جلاله، فالذي يريد أن يدرس العقيدة والفقه والحديث ويدرس الأحكام فعليه أن يبدأ أولاً بكتاب الله عز وجل، وإذا بدأ بكتاب الله، فإنه يصيب السداد والرشاد على أتمه وأكمله.

ما ضرنا اليوم إلا الاشتغال بالفروع عن الأصول، وتجد الشخص إذا أراد أن يخطب خطبة أو يحضر موعظة يبحث عن كتب معينة فيها كلمات وأساليب وألفاظ وعظية معينة، وقلَّ أن تجد من تنعم عينه بكتاب الله جل جلاله، ولو أن كل داعية قبل أن يدعو وقف أمام كتاب الله وسأل نفسه قبل أن يتكلم، ماذا قال الله وماذا قال رسوله صلى الله عليه وسلم لكان خيراً له، فإذا جاء يبث للناس بث لهم كلاماً من كتاب الله، حتى وإن لم يأتِ بالآيات أتى بمضمونها وبما فيها من دلائل وحجج: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].. كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1] فلا أصدق من الله قيلاً: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ [النساء:58] فأكمل ما يكون الهدي والاهتداء في الكتب والرسائل والمسائل كتاب الله جل جلاله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن يكون الفقيه أو المعلم ملتزماً بكتاب الله، فيأتي إلى الباب وينثر حجج القرآن والسنة ودلائلهما، وما كان عليه سلف الأمة بينة ومحجة واضحة، فإذا وفق الله طالب علم بهذا فإنه سيوفق كما وفق سلفه، وقد كان بعض العلماء يقول: من أراد التوفيق على أتم ما يكون، فلينظر إلى حال السلف رضوان الله عليهم. السلف لم يتجاوزوا كتاب الله، بل كانوا مع كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الرجل منهم إذا أراد أن يتكلم فأول ما يبحث في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يقدموا بين يدي الله ورسوله.

جاءت امرأة إلى الشافعي -رحمه الله برحمته الواسعة- وسألته عن حجية السنة، فقالت: لماذا السنة حجة ودليل؟ قال لها: أنظريني ثلاثة أيام -وهنا وقفة: انظروا إلى أمانة السلف وإلى علمهم، لم يتسرع بالإجابة، بل قال: أنظريني ثلاثة أيام، أتعرفون لماذا ثلاثة أيام؟ لأنه كان -رحمه الله- يختم كتاب الله في ثلاثة أيام، ومعنى قوله: أنظريني ثلاثة أيام، أي: سأعرض ما سألتي عنه على كتاب الله حتى أعلم ماذا يقول الله- ثم في اليوم الثالث -في وقت السحر- كبّر رحمه الله عندما قرأ قوله تعالى: َمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، فجاءت المرأة فأخبرها بالآية التي هي من أقوى الحجج -وإن كان كتاب الله فيه حجج أخرى، لكن: َمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

وهناك حجج أخرى موجودة فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور:63] فـالشافعي رحمه الله أراد أن يعرض القرآن كاملاً، فوجد أقوى الحجج والآيات وأدمغها في الدلالة على حجية السنة، فأهم ما يتواصى به طلاب العلم -بل الناس جميعاً- الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ففي العقيدة ترجع إلى ما قال الله وما قال رسوله صلى الله عليه وسلم، انظر إلى كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله برحمته الواسعة وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء- تجده مشبعاً بآيات الله وبأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقد عجبت في بعض الأحيان عند بعض المسائل التي يختارها رحمه الله، تكاد المسألة لا تتجاوز ألفاظ الآية، وهذا والله لا شك أنه توفيق، ثم انظروا كيف وضع الله له القبول، وكيف نفع الله به الناس، فكلما كان الإنسان ملتزماً بالكتاب والسنة وكان مهتدياً بهديهما، نفع الله بقوله.

ولا يعني ذلك أن نرجع مباشرة إلى كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ونترك العلماء، قال الإمام ابن القيم :

نصٌ من كتابٍ وسنةٍوطبيب ذاك العالم الرباني

لا يكفي الكتاب والسنة، بل لابد من دليلٍ وهادٍ يهدي إليهما، ويبين ناسخ القرآن من منسوخه، ويبين حججه ومحجته، وهو العالم العامل.

ليرجع طالب العلم إلى العلماء ويفهم كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم عن طريقهم، فالله تعالى يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] اسألوا أهل الذكر، فمن عرف بحب كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ولزومهما، فهو العالم الذي تنعم به العيون، وهو العالم الهادي إلى صراط الله، الدال على طريق الله الذي ينتهي بمن اتبعه وسلك سبيله إلى الجنة.

أما الكتب: ففي كل علم مراتب ومتون ذكرها العلماء يتدرج فيها طالب العلم، والأفضل لطالب العلم إذا أراد أن يتعلم أن يأخذ بصغار العلم قبل كباره، فإذا أراد أن يقرأ العقيدة فليرجع إلى شيخه ليختار له الكتاب الذي يقرؤه عليه، ابدأ -مثلاً- بكتاب التوحيد ثم تدرج حتى تصل إلى العقيدة الطحاوية، ويتدرج في المتون في الفقه، فيبدأ -مثلاً- بعمدة الفقه للإمام ابن قدامة ، ثم المقنع، ثم الكافي، ثم المغني، ويتوسع بعد ذلك حتى يبلغ درجة الاجتهاد، ويبدأ في أصول الفقه بالورقات، ثم يتوسع بعدها إلى الروضة، ثم المستصفى ثم المطولات، وهكذا في الحديث، يبدأ بما صح من الصحيحين كعمدة الأحكام فيحفظها ويبدأ بالأحاديث الجامعة كالأربعين النووية، ثم بعد ذلك يتوسع بعد عمدة الأحكام وينتقل إلى المحرر، ثم ينتقل إلى بلوغ المرام، ويتوسع بعد ذلك في متون الحديث على حسب ما يقره له علماؤه ومشايخه، والله تعالى أعلم.

وصايا تقوي الهمة في طلب العلم

السؤال: إذا بدأ طالب العلم طلبه للعلم فإنه يجد العزيمة والهمة في ذلك، ولكن بعد فترة تصيبه الفترة والخمول؟ فهل يؤثر ذلك في إخلاصه؟ وما هو سبب ذلك الخمول؟

الجواب: هذا الفتور ابتلاءٌ وامتحان من الله عز وجل، فإذا ابتدأ طالب العلم في طلبه للعلم فإن الله عز وجل يمتحنه ويختبر صبره، فيجد شيئاً من الفتور والضعف، والله عز وجل من حكمته أنه يجعل للعلم في أوله لذة وحلاوة حتى يتمنى طالب العلم أنه عالم بين العشية والضحى، بسبب ما يجده من حب للعلم، لكن الله سبحانه وتعالى لابد وأن يختبر صبرك وإيمانك وصدقك في العزيمة والرغبة فيما عند الله عز وجل، فيبتليك بالفتور.

وقد يكون هذا الفتور بسبب الذنوب والمعاصي، نسأل الله السلامة والعافية، فما على طالب العلم إذا وجد مثل هذا إلا أن يتضرع بالدعاء لله عز وجل أن يعينه ويوفقه ويثبته، فكم من طالب علم ابتلي بمثل هذه الابتلاءات، فصبر وصبره الله عز وجل حتى جاءته العاقبة الحسنة، فالذي أوصي من وجد الفتور، أوصيه بأمور:

أولاً: الاستغفار، فإن الله تعالى يقول: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46].

فإذا أراد طالب العلم أن يصرف الله عنه الفتور وما يجد في نفسه من الضيق فليكثر من الاستغفار؛ لأنه معذب، والعذاب لا يرفع إلا بالتوبة والرحمة من الله عز وجل.

أما الأمر الثاني: أن يبحث عن عالمٍ يشحذ همته، فيوصيه ويقرع قلبه بقوارع التنزيل، وبما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمور التي تحيي في النفس حب الخير والإقبال عليه، وتشحذ الهمة بطلب العلم أكثر.

ثالثاً: أوصيه بكثرة قراءة سير السلف الصالح، فإنك ما أصبت بضعف أو فتور في طلب العلم فتقرأ سيرة عالم إلا خشع قلبك، وصدقت عزيمتك، وأحببت أن تكون مثله؛ لأن الله جبل قلوب أهل الخير على حب الخير والشوق إليه، فإذا قرأت سيرة العالم العامل تأثرت، فإذا لم تجد كتباً بحثت عن عالم تجلس معه يحدثك عن سير العلماء وما لاقوا من البلاء، فسافروا وتغربوا عن الأوطان والأهل والولدان، ونحن اليوم تأتينا فتن أخرى من الملهيات والمغريات والشواغل، فلكل زمانٍ بلاؤه، فعلى طالب العلم أن يعلم أن هذه الأمور تنصرف بحسن الظن بالله عز وجل وقراءة مواقف العلماء الصادقين؛ لأنها تسلي وتقوي العزيمة كما قال الله عز وجل: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120] قال العلماء: فيه دليل على أن القصص تثبت القلوب، فإذا أحس طالب العلم أن قلبه يريد أن يضعف ثبته بسير الصالحين وسير العلماء العاملين الأئمة المهديين، فزاده ذلك عزيمةً على الخير، وثباتاً على الخير.

ومما يقوي الهمة: تذكر حسن العاقبة، فإن لأهل العلم وطلاب العلم مراتب ومنازل، فمن كان أكمل صبراً وأكمل وثباتاً كانت عاقبته أعظم.

ويقول بعض العلماء: قل أن تجد إماماً يصل إلى درجة عالية في العلم إلا وجدت صفحات صدره على أكمل ما تكون، فإذا جاء البلاء وانصب عليك بقوة، فاعلم أنك صبرت بقوة كان فتح الله عليك بقوة وبكثرة، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا [السجدة:24] فكل من يصبر يكون إمام هدىً وداعيةً إلى الخير على قدر صبره، ومعنى الآية: أنه إذا كمل الصبر كمل فتح الله على العبد، فبمقدار تعبك ونصبك وجدك واجتهادك وثباتك يكون فتح الله عليك، فاصبر وصابر واحمد الله جل جلاله.

وانظر إلى أهل المعاصي وهم يسهرون عن المعاصي ويصبرون عليها حتى يتعلمون الشرور والآفات، فكيف وأنت على طاعة الله جل جلاله؟!

إنك تجد بعض أهل الفساد يتغرب عن أهله ويبتعد عنهم ويعاني من المشقة ما الله به عليم، وهو في مخدرات ومعاصٍ ومنكرات، نسأل الله السلامة والعافية، أما أنت فتخوض غمار رحمة الله جل جلاله، فعليك أن تعرف قدر النعمة التي أنت فيها.

المشكلة أن كثيراً من طلاب العلم يأتيهم الضعف بأسبابٍ من أنفسهم، وهذه هي البلية، فلو أن كل طالب علم أحس بضيق نظر إلى نفسه وقال: أنا حينما أخرج من بيتي إلى مجلس هذا العالم، أليس الله عز وجل يكتب لي خطواتي وحركاتي وسكناتي أنفاسي وجهدي؟ فلو حدث نفسه بذلك لهانت عليه الدنيا وما فيها من تعبٍ ونصب، فأي طاعة أو قربة تريد أن يثبتك الله عليها فاستشعر أن الله يسمعك ويراك وأنه يرضى عما تعمل؛ فإذا جلست في مجلس ذكر وأنت تعلم أن الله يرضى عن جلوسك ويحب أن يراك بين العلماء وبين طلاب العلم، وأن الله يحب أن يراك ساهراً في العلم، مذاكراً له منتفعاً به، إذا علمت أن الله يحب منك ذلك كله أحببت العلم وصبرت عليه، ما الذي جعل السلف الصالح رضوان الله عليهم يكتحلون السهر وتتقرح أقدامهم في الأسفار والمشقات والمصاعب، يتغربون عن الأوطان ويرون الموت وهم يخوضون البحار والفيافي والقفار لطلب الحديث؟

إنما فعلوا ذلك كله لأنهم علموا أن هذه المشقات والمتاعب كلها في ميزان الحسنات، إذا شعرت بسآمة وملل فما أتتك إلا من الغفلة؛ لأن من غفل عن أنه يعامل الله، لن يستطيع السير والصبر.

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم، ألا يزغ قلوبنا بعد إذ هدانا.

ربنا هب لنا من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلماً لأوليائك، حرباً على أعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من عاداك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , عدة الداعية للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

https://audio.islamweb.net