إسلام ويب

جرت العادة عند عامة الناس أن الوصية هي من الأمور اللازم تنفيذها، والمتعين الإتيان ببنودها، فحين يأتي التوجيه بصيغة وصية، فإنما يدل ذلك على خطورة الموضوع الذي تتناوله الوصية، وأهمية استيعاب المتلقي لبنودها. ومن أعظم الوصايا التي شهدها التاريخ وصايا الأنبياء لأتباعهم فيما يتعلق بتقرير الدين وعبادة رب العالمين.

الأنبياء هم أول العاملين بوصاياهم

إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا *a= 6003603>يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب:70-71] .

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه هو وابن حبان والحاكم من حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات؛ ليعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وإن يحيى أبطأ فقال له عيسى عليه السلام: إن الله أمرك بخمس كلمات؛ لتعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم، فقال يحيى عليه السلام: إني أخشى إن أبطأت أن أُعَذَّبْ أو يخسف بي، فامتلأ المسجد -بيت المقدس- بالناس لما دعا يحيى عليه السلام إلى هذه الموعظة حتى قعد الناس في الشرفات فوعظهم قائلاً: إن الله أمرني بخمس كلمات، لأعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن: آمركم أن لا تشركوا به شيئاً، وإن مثل ذلك -أي: مثل من أشرك- كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله وقال له: هذه داري وهذا عملي فاعمل وأد إليَّ، فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟! وإن الله خلقكم ورزقكم فلا تشركوا به شيئاً، وأمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا، وأمركم بالصيام، وإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة مسك، وهو في عصابة، فكلهم يعجبه أن يجد ريحها، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وأمركم بالصدقة، وإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو وأوثقوا يده إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، فقال: هل لي أن أفتدي منكم بمالي؟ فجعل يعطيهم القليل والكثير حتى فك نفسه، وآمركم بذكر الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو في أثره سراعاً فدخل حصناً حصيناً فأحرز نفسه، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله) .

الأمثال في الكتاب والسنة

هذه الوصايا الخمس اشتملت على المثل، والأمثال إنما تضرب لتقرير الفتوى، فالأمثال تدخل في باب المبين، فمن ضرب له المثل فلم يفهمه فينبغي أن يبكي على نفسه، فالكلام إما أن يكون مجملاً وإما مبيناً، وإنما يقع الإشكال في المجمل، ولا يقع الإشكال في المبين، فمن لم يفهم المثل فحقه أن يبكي على نفسه، قال الله تبارك وتعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43] .

روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن عمرو بن مرة رحمه الله أنه كان يقول: (إذا قرأت المثل في كتاب الله عز وجل ولم أفهمه بكيت على نفسي، وذلك أن الله يقول: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43] وقال تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21] ) .

وإنما يضرب العالم المثل للذي لا يعلم؛ لذلك أنزل ربنا تبارك وتعالى على الذين يضربون له الأمثال، قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ * فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:73-74] .

فالعالم هو الذي يضرب المثل؛ لأنه يدري ما هو المجمل، ويدري كيف يبين هذا المجمل، إن الذين يضربون الأمثال لرب العالمين لم يؤمنوا حق الإيمان، فهناك أوامر أنت لا تفهمها فلا تعترض وسلِّم للذي يعلم.

جاء رجل من الذين يضربون الأمثال للناس -وهم كُثر- إلى إياس بن معاوية فقال له: (لم حرم الله الخمر، ومفرداتها مباحة؟). فإن الخمر عبارة عن ماء وعنب، أو ماء وتمر، أو ماء وشعير، فإن الماء حلال! والعنب حلال! والتمر حلال! فإذا كانت مفردات الشيء مباحة لم يحرم في المجموع؟!

فقال له: (أرأيت لو ضربتك بكف من ماء أكنت قاتلك؟ قال: لا، قال: ولو ضربتك بكف من تبن أكنت قاتلك؟ قال:لا، قال: ولو ضربتك بكف من تراب أكنت قاتلك؟ قال: لا، قال: فإذا جمعت التبن على الماء على التراب فصار طيناً فجففته وضربتك أكنت قاتلك؟ قال: نعم، قال: فكذلك الخمر) مفرداتها لا تقتل، لكن إذا جمعتها وضربت بها قتلت، فلا يضرب المثل إلا الله عز وجل.

العبادة نوعان: معقول المعنى وغير معقول المعنى

العبادات على قسمين: قسم يسميه العلماء معقول المعنى، والقسم الآخر: غير معقول المعنى، ومعقول المعنى: هو ما ثبتت منه الحكمة من تشريعه، وغير معقول المعنى: هو ما لم يُعقل الحكمة من تشريعه.

وهذا النمط الثاني يبتلى به المؤمنون، فمن آمن سلم، كما روى مسلم في صحيحه عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: (أتانا بعض عمومتي فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء كان لنا نافعاً وهو -ابتغاء الأجر- وطاعة الله ورسوله أنفع) نهانا عن شراء الأرض، وقد كانت تجلب المال، لكن طاعة الله ورسوله أنفع، هذا هو التسليم الذي كان يتميز به دين الصحابة فلا إنكار ولا اعتراض؟

فهذا النمط الثاني الغير معقول المعنى، لا يسعك فيه إلا الاتباع؛ لأنه لم تظهر الحكمة منه، وهذا مثل الحديث الشهير وهو في الصحيح: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قبَّل الحجر الأسود قال: (والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولكن لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) فكأنما قال: أنا لا أفهم معنى لتقبيل الأحجار، وقد جاء هذا في ديننا، والعرب كانوا يصنعون الأصنام من الحجارة ثم يعبدونها، فكان المناسب أن لا يأتي الأمر بتعظيم أي حجر؛ سداً للذريعة، لكن قبَّل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحجر فنحن نتابعه وإن لم نفهم لهذا التقبيل معنى.

لا يفعل هذا إلا المؤمنون الذين إذا علموا وتيقنوا أن هذا من عند الله أو أن هذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بادروا إلى العمل به، ولم يعترضوا على الله ورسوله، كأن يقولوا: يا رب! لم فعلت هذا، فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:74] .

ثم ضرب رب العالمين مثلين، كأنما قيل: لا تضربوا لله الأمثال، فإنكم لا تعلمون حقيقة ضرب المثل، وإن أردتم أن تتعلموا فسأضرب لكم مثلين، ثم ذكر الله عز وجل مثلين بعد ذلك.

مثل المؤمن والمشرك في سورة النحل

قال: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [النحل:75] هذا الطرف الأول للمثل، وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا [النحل:75] هذا الطرف الثاني، والمثل في العادة لابد أن يكون له طرفان، ثم قال: هَلْ يَسْتَوُونَ [النحل:75] فالمثل واضح، ثم من الحكمة والبلاغة أن لا يُعيَّن الجواب هَلْ يَسْتَوُونَ [النحل:75]؟

فلا جواب؛ لأنه واضح، فالمثل في غاية الوضوح، عبد لا يملك من أمر نفسه شيئاً، وزاد الله عز وجل في بيان عجزه أن قال: لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [النحل:75] مع أننا نعلم أن العبد لا يقدر على شيء، حتى إن بعض العلماء لم يعتد بشهادة العبد، قالوا: لأن سيده يمكن أن يمنعه من أداء الشهادة، فلا يعتد بشهادته؛ لأنه لا يملك من أمر نفسه شيئاً، ومع ذلك فإن بعض العبيد قد يملك من الأمر ولو شيئاً جزئياً، إنما هذا العبد المضروب به المثل لا يملك شيئاً قط، رجل مكبل مقيد، هل يستوي هذا الرجل مع آخر آتيناه رزقاً حسناً وأعطيناه؟

فهذا يملك المال فهو ينفق منه سراً وجهراً، إذن عنده إرادة في النفقة، وإرادة النفقة يقابلها عجز ذلك العبد الآخر الذي لا يملك شيئاً على الإطلاق، حتى لو أراد.

(هل يستوون؟) لم يقل رب العالمين: لا يستوون؛ لأن ترك الجواب هنا أبلغ، والإبهام دليل الإعظام والفخامة، كما في قصة يوسف عليه السلام لما كاد له الله عز وجل ووضع صواع الملك في رحل أخيه ونادوا في الناس: إننا نفقد هذا الصواع قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [يوسف:71-72] فلما اتهمهم قال لهم: فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ [يوسف:74] إن وجدنا الصواع في رحل أحدكم فما جزاؤه؟ فلأنهم كانوا متأكدين مائة بالمائة أنهم لم يسرقوا أبهموا الجزاء: قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ [يوسف:75] ما تعملونه به فهو جائز لكم.

ولو علموا أن السارق منهم لعينوا العقوبة وقالوا: يجلد أو يضرب أو يسجن، لكنهم لثقتهم أن السارق ليس منهم أرادوا أن يفخموا العقوبة فأبهموها: قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ [يوسف:75] .

وكذلك الرجل الذي ذكر أهل التفسير حكايته: (أنه كان من المستضعفين، وكان رجلاً كبير السن، فلما تذكر إخوانه المهاجرين في المدينة واجتماعهم، ووجد أنه يفتقد الأخوة، ويعيش في وسط هؤلاء الكافرين، مع أن الله وضع الهجرة عن أمثاله، خرج -رغم شيخوخته وعجزه- مهاجراً من مكة إلى المدينة ماشياً فأدركه الموت في الطريق، فلما أحس بذلك ضرب كفاً بكف وقال: اللهم هذه بيعتي لك، اللهم هذه بيعتي لنبيك ومات، فأنزل الله عز وجل في شأنه: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100] لم يعين له جزاء إنما أبهم الجزاء للإعظام.

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور المتفق عليه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله) ولم يعين جزاء، فمثل هذا السكوت والإبهام دليل الفخامة والإعظام.

(هل يستوون) ؟ بعد ضرب المثل لا يستوون عند أي إنسان، فالجواب واحد عند كل من يسمع هذا المثل إن كان عاقلاً: (لا يستوون) .... فالحمد لله أن جعل من سنته وحكمته أن لا يستوي العبد العاجز مع الحرّ الصالح، فتنزه رب العالمين أن يساوي بين المسلمين والمجرمين، فكمال عدله يأبى ذلك، وهناك جواب آخر في قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ [النحل:75] أي: الذي ضيَّع موضع الحجة على المشركين فضيع لهم الفرق بين المثلين مع الوضوح، وهذا من منن الله عز وجل أن لا يرزق كافراً حجة حتى لا يلبس على الذين آمنوا، قال صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان، يجادل بالقرآن) وهذا النمط موجود لكن كانوا قديماً كالفئران لا يخرجون من الجحور، فلما قلّ عدد العلماء ظهر أمثال هؤلاء وكانوا يتوارون قبل ذلك.

إن وجود النفاق دلالة على قوة الإسلام، وإن وجود الكفر دلالة على ضعف المسلمين، فالكفر لا يظهر أبداً إلا مع الضعف، والنفاق لا يظهر إلا مع القوة.

في مكة لم يكن ثمة نفاق على الإطلاق، بل كان إيمان وكفر، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وصارت له دولة ظهر النفاق، فالمنافق كافر لكن يريد أن يحفظ دمه، ويريد أن يستفيد بذلك، ولا يستطيع مع هذه الشوكة أن يظهر عقيدته، فيبطن الكفر ويظهر الإسلام.

بطلان القول بإيمان فرعون

إن الذي يجري على الساحة الآن من القول بإيمان فرعون، وأنه مات مؤمناً، وأننا نحن هنا في مصر أجدادنا فراعنة، ولا بد أن ندافع عن جدنا الأعلى، معاذ الله أن يكون لنا جداً، إنه عريق في الضلالة، إن رب العالمين ذم فرعون بقدر ما ذم إبليس، ثم يأتي آت بعد ذلك ليقول: إن فرعون مسلم، ليرد بذلك على رب العالمين! ولا يوجد أي هيئة رسمية تحمل شعار الإسلام ردت على هذا الكافر الأثيم حتى هذه اللحظة، إن كفر فرعون مثل الشمس في رابعة النهار، لا يمتري فيه أحد على الإطلاق، ثم يأتي رجل فيقول: إن فرعون مسلم، وإنه في الجنة!!

وقد صنف كتاباً سماه: (كشف الأستار عن المقطوع لهم بالجنة والمقطوع لهم بالنار) فذكر فرعون في المقطوع لهم بالجنة مع وضوح القرآن في أمر فرعون: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود:98] وقال تعالى: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى [النازعات:25]، وقال تعالى: إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4] وقال تعالى: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:91] ، وقال تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46] وهذا يقول: إن ( الآل ) ليس المراد به الشخص! هذا كذب، (اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، كما صليت على آل إبراهيم) فإن آل إبراهيم هو إبراهيم نفسه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي موسى الأشعري : (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود) وما ثمَّ إلا داود الذي كانت الجبال والشجر والأرض تردد ترتيله، فلم يكن من ذرية داود من كان حسن الصوت مثله. يقول هذا الكاتب: إن آل فرعون سيدخلون كلهم النار، وأما فرعون فيدخل الجنة، كيف وهو قائدهم، وهو معلمهم، وهو رائدهم؟!!

لكن الشاهد في المسألة: أن يخرج رجل فيتكلم على شيء مقطوع به عند الخاص والعام، وهذا الذي يسميه العلماء: المعلوم من الدين بالضرورة، أي: يستوي فيه علم الخاصة وعلم العامة، وهذا هو الذي يقول فيه العلماء: يكفر تاركه أو جاحده، إنما الذي لا يعلمه إلا أهل العلم لا يكفر المرء به حتى تقام عليه الحجة المثالية التي يكفر تاركها.

فإذا قال رجل: إن فرعون مسلم، فما بال بقية أركان الإسلام؟ وما بال بقية أحكام الإسلام إن جحدها جاحد؟!

وأطم من ذلك الرجل الذي قال: (إن إبليس هو الذي وحد الله والملائكة أشركوا) وينشر هذا في كتاب فيقول: إن إبليس هو الذي وحد الله، لماذا؟ قال: لأنه أبى أن يسجد إلا لله، لكن الملائكة سجدوا لبشر، والسجود لغير الله شرك.

أرأيتم إلى هذا الكلام!! ينشر فينا هذا الكلام ولا يحاسب فاعله ولا يقتل ردةً!! هذه علة لم يذكرها أحد من العالمين، بل أظهر رب العالمين العلة في عدم سجود إبليس فقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12] لم يقل: أنا الذي وحدتك ولا أسجد إلا لك، وهذه علة مبتكرة، هذا الكفر الذي يظهر الآن ويصادم المعلوم من الدين بالضرورة لهو علامة ضعف! وكيف لا يتجرأ اليهود علينا وقد رأوا مثل هذا في ديارنا، ومن كتَّاب ينتمون إلى الإسلام؟!

إن الذي فعله اليهود برسم النبي صلى الله عليه وسلم على الصورة المشينة التي حدثت قبل ذلك ناجم عن مثل هذا.

لو كنا في أيام الخلافة العثمانية -التي وصفوها بالرجل المريض، لكنها كانت تقض مضاجع الأعداء- ما تجرأ أحد أن يفعل هذا، فهذا كفر مجرد، إنما أغراهم بفعل ذلك أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يسب في ديار المسلمين، ورأوا رب العالمين يسبُّ في ديار المسلمين، ومع ذلك لا توجد عقوبة رادعة فأغراهم ذلك ففعلوا الذي فعلوا!!

فضياع موضع الحجة على أمثال هؤلاء نعمة؛ لأنهم إذا علموا موضع الحجة حرفوها، فليسوا أمناء، فإذا حرفوها ضل من ورائهم جيل، فقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ [النحل:75] أي: الذي أعماهم عن موضع الحجة بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النحل:75] .

مثل الضال والمهتدي في سورة النحل

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ [النحل:76] وهذا المثل أوضح من الأول وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ [النحل:76]هذا الطرف الأول للمثل، والأبكم هو الإنسان الذي لا يتكلم ولا يُحب، وإنما يحب المرء لمنطقه، والإنسان إذا تكلم أعرب عن حبه وشكره وامتنانه؛ فله مكانة في القلوب، لكن الأبكم الذي لا يصارحك، ولا ينادمك، ولا يسامرك كعمود من خشب، إذا جلس معك لا تأنس به ولا تشعر بوجوده. أبكم لا يقدر على شيء! وهو عبد، فالمناسب أن يخدم العبد سيده، وليس سيده هو الذي يخدمه، فهذه مصيبة أخرى! وهو كّلٌّ على مولاه، يأكل ويشرب فقط فليته يشكر أو يعرب عن هذا الجميل لكنه أبكم، فأنت لا تشعر بأي مزية له بل إنك تخدمه وأنت متضرر، فالأصل أنه هو الذي جاء ليخدمك فإذا بك تخدمه، فإن بدا لك أن ترسله إلى جهة معينة فلابد أن يأتيك بمصيبة ولعل هذا معنى: (أينما يوجهه لا يأت بخير).

هل يستوي هذا مع الطرف الثاني من المثل وهو الذي يأمر بالعدل وهو على صراط المستقيم؟ يا للوضوح! هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل؟! ففي الطرف الأول من المثل أربع صفات: أبكم، لا يقدر على شيء، وهو كلٌّ على مولاه، أينما يوجه لا يأت بخير.

أما الطرف الثاني: ففيه من الصفات ما يقابل هذه الأربع وزيادة (هل يستوي هو ومن يأمر) فلا يكون آمراً إلا متكلماً، ولا يكون آمراً إلا إذا كان في جهة عليا وقادر على إمضاء أمره، فهو متكلم في مقابل أبكم لا يقدر على شيء، والآمر يقدر ولو لم يكن يقدر لما كان للأمر معنى، يأمر بالعدل، فلا يستطيع أن يأمر بالعدل إلا إذا كان عالماً بالفرق بين العدل والجور، وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل:76] أي: ليس كهذا الذي أينما توجهه لا يأت بخير؛ لأنه على صراط مستقيم، فالمسألة في غاية الوضوح.

مثال على عجز الكافرين

ثم ذكر الله مثلاً آخر: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73] وهذا المثل كله استهزاء بالذين يدعون من دون الله، فالذباب هو: هذا الذباب الذي نعرفه وإنما سمي ذباباً لأنه كلما ذُبَّ آب، فقيل ذباب؛ أي: كلما تذبه يرجع إليك، هذا الذباب الذي أنت تعرفه وتستنكف منه، لو سقط في طعامك لأرقت الطعام، فإذا وقف هذا الذباب على شفير إناء وأخذ رشفة من هذا الإناء فلن تستطيع أن تستنقذ منه شيئاً، مع ضعفه، فالذين تدعون من دون الله لا يملكون شيئاً من القوة كهذا الذباب ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا [الحج:73] وهذه الآية هي التي كفر بها بعض الكتبة حين قالوا: إن ميلاد الخلية المستنسخة أعظم من ميلاد المسيح، فيقولون: إن الإنسان استطاع أن يخلق الخلية، وهذا كذب، إنما يأخذون الخلية التي خلقها الله ويصورون عليها نسخاً، لكن أصل الخلق أن توجد الشيء من العدم من دون مثال سابق، وهذا مستحيل! بدلالة هذه الآية: لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73] .

وهذا المثل الأخير أشد وأنكى، وكل هذه الأمثلة في باب التوحيد؛ ليبين رب العالمين قبح الشرك، وأن الإنسان العاقل إنما يلجأ إلى من يدفع الضر عنه ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ [الزمر:29] هذا الطرف الأول من المثل وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ [الزمر:29] وهذا الطرف الثاني هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:29] فإن أكفر إنسان على وجه الأرض هو هذا الإنسان، رجل عبد خادم له عشرة من السادة وهم متشاكسون، وكل سيد يريد أن يمضي كلامه على الآخر؛ لتكون له الغلبة، فيقول الأول للعبد: اذهب يميناً، وتجد الثاني المعاند المشاكس يقول له: يا غلام اذهب يساراً، ويقول الثالث: اذهب جنوباً والرابع يقول: اذهب شمالاً .. وهو لا يستطيع أن ينفذ قول واحد منهم، فإذا لم ينفذ قول الآمر ضربه وجره واستخدمه إلى ما يريد، ولكنه لا يستطيع؛ لأن الآخر يجره إلى الجهة المعاكسة، ثم لأنه لا يستطيع أن ينفذ أمر واحد منهم فليس له جميل عند أحد، فإذا طلب شيئاً من أحدهم يقول له: وهل صنعت لي شيئاً؟! أمرتك ولم تفعل! فيول له: إن سيدي فلان أمرني بضد أمرك، وليس لي شأن!

هل يستوي هذا العبد المعذب مع رجل آخر له سيد واحد إذا أمره بأمر ابتدر أمره، فإن فعل المأمور به حفظ له الجميل؟! فهل يستوي هذا مع ذاك؟! هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا [الزمر:29] ؟! الحمد لله لأنه أعمى هؤلاء الضلال عن موضع الحجة مع وضوح المثل.

إن الأمثال تضرب في القرآن لتبيين الفكرة، وتجد المثل في غاية الوضوح، فكذلك ضرب يحيى عليه السلام في باب التوحيد مثلاً، لا أظن أحداً رزقه الله عز وجل شيئاً من العقل لا يميزه، (أمركم أن لا تشركوا به شيئاً، وإن مثل ذلك -مثل من يشرك بالله عز وجل- كمثل رجل) واجعل نفسك في مقام هذا الرجل: جاءك عامل فقلت له: يا غلام هذا محلي .. وهذه الأسعار .. بع وأتني بمحصول المبيعات آخر النهار، فكان الغلام يخرج بحصيلة اليوم ويذهب إلى غيرك ويعطيه الحصيلة، أفليس من الممكن أن يبقى معك يوماً واحداً؟!!

فإذا كنت تأنف أن يكون عبدك يأخذ البيع ويعطيه لغيرك، فصرف العبادة لغير الله وهو الذي يرزقك أشد وأكبر، ولذلك تقدم في سورة النحل: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا [النحل:73] ؛ لأن قضية الرزق هي التي جعلت كثيراً من الناس يترك أمر الله، فكثير من الذين خالفوا الأوامر خالفوها بحجة الرزق والبحث عن الرزق وأكل الأولاد، فلذلك ضرب المثل ونص على الرزق نصاً.

فإذا كان الله عز وجل هو المتفرد بذلك فكيف خلطت ماله بغيره؟!! وأنت تستنكف أن يكون هذا من عبدك، وكلاكما عبد (وإن الله خلقكم ورزقكم فلا تشركوا به شيئاً) .

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

عمل الجارحة دليل على عمل القلب

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

قال: (وأمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا) ، وفي الحديث: (إن الله ينصب وجهه في وجه العبد ما لم يلتفت) يعني: فإذا التفت صرف الله وجهه عنه.

إن الجارحة تتبع القلب، ولا تلتفت الجارحة إلا بعد التفات القلب، فإذا التفت القلب التفتت العين والتفت الرأس؛ لأن القلب بمنزلة الملك، فلما قال: (لا تلتفتوا) دل ذلك على التفات القلب، والمسائل التي لا يعرفها الإنسان ولا يستطيع أن يحكم عليها تنصب لها علامة في الخارج يعلق الحكم بها، فإذا التفت إنسان برأسه في الصلاة نعلم يقيناً أن قلبه التفت، لكن بدون وجود هذه الأمارة وهي التفات الرأس لا نستطيع أن نقول للإنسان إن قلبك التفت.

لأن هذا لا يعلمه أحد، وكذلك الأحكام التي تجري في هذا المجرى لابد أن تنصب لها أمارة في الخارج يعرف الحكم بها، وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) فالسرور أمر قلبي لا يعلمه أحد، فنحن في هذه الحالة ننظر إلى أمارة في الخارج، فإذا وجدناها علقنا الحكم بها، فإذا قلنا للأستاذ: حين تدخل الفصل ويقوم لك الطلاب، ويتخلف أحد الطلاب عن القيام فهل تضربه؟ فإذا قال: نعم، نقول له: إنما ضربته لأنه ساءك وأغضبك، إذن فغضبك دلالة على أنك تسرس بأن يقوم لك، فكان الغضب أمارة خارجية نحن نعلمها ونراها فعلقنا الحكم على الباطن بها، ويسوغ لنا ويصح لنا أن نقول: إنك مسرور بأن يقوم لك التلاميذ في الصف، لأن فيك علامة دلت على ذلك.

في تاريخ بغداد للخطيب : أن المأمون نادى في تجار الذهب، وأراد أن يشتري ذهباً، فأقبل تجار الذهب الكبار لأمير المؤمنين لكي يشتري منهم، فأقبل بالحيتان والقطط السمان، ودخل في وسطهم علي بن الجعد الإمام العالم، ولم يكن عنده من الذهب ما يساوي عشر معشار هؤلاء التجار الكبار، فدخل المأمون ، فقاموا له جميعاً ما عدا ابن الجعد ، فلما رأى المأمون ذلك قال: (لمَ لم يقم الشيخ؟ قال: أجللت أمير المؤمنين أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وانظر الجواب، فلم يقل له: أنت بشر، أو أنت عبد، فلماذا أقوم لك؟ لا، إن الكبار يأنفون أن تقابلهم بهذا، فكبير المحل لا يقبل أن تخاطبه بهذا أبداً، إنما كن كما قال هذا الإمام العالم، وهذا هو الفرق بين العالم والجاهل، قال: (أجللت أمير المؤمنين أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له المأمون : وما ذاك؟ فقال: حدثني المبارك بن فضالة عن الحسن البصري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن يتمثل الناس له قياماً فليتبوأ مقعده من النار) فحينئذٍ أطرق المأمون ساعة وقال: لا ينبغي لنا أن نشتري إلا من هذا الشيخ، وهذا من باب قول الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3] فاشترى المأمون منه بثلاثين ألف دينار، فلم يغضب المأمون من قوله، فلما لم يغضب وخضع للحديث علمنا أنه لا يسر أن يقوم الناس له، وهذا ما يسميه العلماء علامة أو قرينة، ولاجرم أن يعلق الحكم عليها.

ومثله -بل أدق منه- في الفهم والاستنباط ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قام النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا فقاموا من بيننا واقتطع دوننا وخشينا أن يصاب بأذى، ففزع الناس وفيهم أبو بكر وعمر ، وكنت أول من فزع، فجاء أبو هريرة حائطاً لبعض الأنصار فالتمس باباً ليدخل فلم يجد، لكنه وجد ربيعاً -والربيع: هو ممر لقناة ماء تمر من أسفل الجدار- حاول أن يدخل من ممر هذه القناة فلم يستطع، قال: فاحتفزت كما يحتفز الثعلب -أي: جمع أطرافه بعضها إلى بعض حتى يستطيع أن يدخل، وفي رواية أبي عوانة أو ابن حبان قال: فحفرت كما يحفر الثعلب -وذلك ليوسع لنفسه- ودخل، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مسنداً ظهره للحائط، قال: فلما رآني قال: أبو هريرة ؟ قلت: نعم يا رسول الله! قال: مالك؟ قلت: يا رسول الله! قمت من بين أظهرنا واقتطعت دوننا وخشينا أن تصاب بأذى، ففزع الناس وفيهم أبو بكر وعمر ، وكنت أول من فزع، قال: يا أبا هريرة ! خذ نعليَّ هاتين -وهنا الشاهد- فمن لقيته خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة) فالمقصود أن يشهد مستيقناً بها قلبه ولا أحد على الإطلاق يعلم هذا إلا الله أو من أطلعه الله عز وجل على ذلك. (من تلقاه خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه) وأنَّى لـأبي هريرة أن يعلم ذلك؟ أستيقن أم لم يستيقن، فهذا من عمل القلوب (فبشره بالجنة، فخرج أبو هريرة كما دخل فأول من لقيه عمر فبشره بالجنة، فضربه عمر ضربة، قال أبو هريرة : فخررت لأستي، ثم رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأجهشت بكاءً، فلما رآني قال: ما يبكيك يا أبا هريرة ؟ قلت: يا رسول الله! إن هذا عمر وركبني عمر -أي جاء بعده مباشرة- فقلت له الذي أمرتني، فضربني ضربة خررت لأستي فقال عمر : يا رسول الله! أأنت قلت لهذا كذا وكذا؟ قال: نعم، فقال عمر : يا رسول الله! خل الناس يعملون ) يعني: حتى لا يتكلوا، فإنهم إذا سمعوا هذا الكلام: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) اتكلوا فكل من يقول: لا إله إلا الله، سيترك عمله، فالذي في القيام يقول: أنا أقول لا إله إلا الله فلماذا هذا العناء. وعندئذ ستفتر همم العاملين، فكأنه قال: يا رسول الله! احجب هذه البشارة عن الناس حتى لا يتكلوا عليها.

الشاهد هنا، كيف لمثل أبي هريرة أن يعلم أن فلاناً هذا قلبه مستيقن بالإيمان؟ هذا كما قلنا أخفى من المثل الأول، وهذا يدل على أن الحديث -وإن خرج مخرج الغموض- لا يراد به إلا عمر ؛ لأنه لم يلق إلا عمر ، فكأن الكلام منزَّل عليه: (من لقيته خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه) فلم يلق إلا عمر ، فكان هذا خاص بـعمر وهي بشارة له ، وإن خرج الكلام مخرج العموم، وهذا الأمر ثابت عند جماهير العلماء: إن الكلام قد يكون عاماً في لفظه خاصاً في مراده، كقول الله تبارك وتعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج:27] فالناس: لفظ عام يشمل الكل، كما قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158] لكن في قوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج:27] المراد بالناس هنا هم المسلمون فقط، فلا يراد به غيرهم. فيجوز إذا كان ا لأمر باطناً أن يبحث عن أمارة خارجية يعلق بها الحكم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.

اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.

رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

من خشع قلبه خشعت جوارحه

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

قال يحيى عليه السلام: (وأمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا) قلنا: إن التفات الجارحة دلالة على التفات القلب قبلها، وفي بعض الأخبار الضعيفة: (إن العبد إذا حوَّل وجهه في الصلاة عن القبلة يقول الله له: إلى خير مني؟!) فالله عز وجل ينصب وجهه في وجه العبد، (ما لم يلتفت) أي: إذا التفت صرف عنه وجهه، فإذا التفت إلى شيء آخر يقال له: إلى خير من الله تبارك وتعالى؟!

وفي هذا دلالة أكيدة على اهتمام الشرع بأمر القلب، فبعض الناس يظهر عمل القلب -مع أن القلب هو الملك- ويظن أن عمل القلب غير داخل، لا، بل عمل القلب أشرف من عمل الجوارح، ولذلك إذا انعقد القلب على الكفر وإن لم تنفعل له الجوارح عوقب به، ولا يُعارض هذا بحديث: (إذا همَّ العبد بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له سيئة) فيظن أن العمل مقصور على عمل الجوارح، لكن هذا خطأ، بل القلب عمله أشرف من عمل الجوارح، لأنه الملك، فإذا انعقد القلب على شيء من الكفر يؤاخذ المرء به؛ لأن عقد القلب عمل.

فالعبد إذا عمل حسنة جوزي بعشر أمثالها، فهل إذا عمل سيئة فانصرف عنها يأخذ حسنة؟ المناسب أن لا يأخذ شيئاً؛ لأنه إذا عمل سيئة استحق سيئة، فالطرف الأول: هو الذي عمل الحسنة وجوزي بعشر أمثالها، والطرف الثاني: هو الذي عمل السيئة فأخذ مثلها، وعلى هذا فيكون الوسط: أن لا يعمل شيئاً فلا يأخذ شيئاً، هذا هو المناسب.

وقد ورد التعليل في بعض الأحاديث الصحيحة: أن الله عز وجل قال: (لو همَّ عبدي بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة؛ إنه تركها لأجلي) فالذي جعله يتركها هو قلبه وخشية الله عز وجل، فلم تنفعل الجوارح لذلك، إنما الذي جعله يتركها هو خوف الله، ويفهم بمفهوم المخالفة: أنه إذا تركها لغير مخافة الله فلا يأخذ حسنة، هذا إن لم يكن قد دخل في منطقة الإثم، ومثال ذلك: رجل أراد أن يسرق بيتاً فلم يستطع لكنه لا يزال مُصراً على السرقة وعقد قلبه على أن يسرق هذا البيت ولم يمنعه خوف الله عز وجل، إنما لم يتمكن، فهذا انعقد قلبه على هذا الفعل فيؤاخذ به.

فهذا لم يترك هذا العمل لأن السرقة حرام، أو لأن الفاحشة التي كان يريد أن يفعلها حرام، لا، إنما تركها للعجز، وهذا دليل أن القلب هو الأصل، والجارحة إنما تنفعل له سلباً وإيجاباً، وقد قلت من قبل: إن القلب هو الذي يعطي صورة العظمة. إذا كنت واقفاً في الصلاة لمدة طويلة وخاشعاً ولا تتمنى أن تجلس ولا تشعر بملل ولا ضجر؛ فإن قلبك مقبل، أما إذا لدغتك بعوضة فأخذت تتملل فإن قلبك غير مقبل، وغير منتبه؛ لأن القلب هو الذي يعطي العزم للجارحة، وإذا أبدل القلب عنها ذهبت قوتها، فالقلب إذا أقبل ظهرت القوة في العضلة، فإذا أبدل القلب سحبت قوة العضلة معه.

فلو جئت إلى أقوى الناس جسماً، وأخبرته بخبر خارت له عزائمه فوقع على الأرض، فنقول: أين العضلة التي كانت تحمله منذ قليل؟ لما انكشف قلبك انكشفت العضلة، ولهذا عروة بن الزبير رحمة الله عليه؛ تابعي جليل كبير الشأن، لما انتشرت الأكلة في رجله ونصحه الأطباء بقطعها، قالوا له: (اشرب الخمر لنقطعها، فقال: ما كنت لأستعين على دفع البلاء بمعصية الله، ولكن إذا دخلت في الصلاة فاقطعوها) وهذا خبر صحيح، وبعض الناس يكذب هذا الخبر؛ لأنه لم يتصور أن إقبال عروة على ربه في الصلاة كان إقبالاً كاملاً، لما دخل في الصلاة واستجمع قلبه سحب قوة العضلة وإحساسها، فلما قطعوا رجله بالمناشير لم يحس بها عروة .

فعمل القلب خطير، فنبي الله يحيى عليه السلام حين قال: (وأمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا) قصد به التفات القلب ثم التفات الجارحة تبعاً لذلك.

قال: (وأمركم بالصيام، وإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة مسك وهو في عصابة) فهو يمشي مع رفقة ومعه صرة مسك والكل يشم المسك من على بعد، وكلهم يتمنى لو كان المسك معه، أو على الأقل يجد رائحة هذا المسك من الصرة. (وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) فخلوف فم الصائم كريه الرائحة، ومعنى هذا أنه ليس كل شيء يكرهه العبد يكون كذلك عند الله، إن الله عز وجل لام وعاتب بعض الصحابة في حديث الإفك حين نقلوا الخبر وتناقلوه، فقال تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15] ألا تعلم أن آدم خرج من الجنة بذنب واحد، وأن إبليس دخل النار بذنب، فما يؤمنك؟ من الذي أعطاك صكاً بالأمان أن تمشي في هذه الدنيا وأنت غير خائف من سوء الخاتمة؟

سفيان الثوري رحمه الله لما هرب من الخليفة بسبب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبسبب آخر جوهري: هو أن سفيان كان يخشى أن يقربوه فيفتنوه فأمير المؤمنين في موسم الحج لما تذاكر هو وسفيان الثوري خلع خاتمه ورماه وقال: أعط هذا لـأبي عبد الله وقل له ليحكم البلاد بالكتاب والسنة.

فجاء رجل إلى سفيان يقص عليه ما جرى فقال له: والله ما أخشى إهانته إنما أخشى إكرامه، فلا أرى سيئه سيئاً، ففر من الخليفة واختبأ منه عند يحيى بن سعيد القطان ، تصور حين يجتمع في الزمن الواحد مئات العلماء من أمثال هؤلاء الكبار فعلاً، ما كان لمبتدع أن يرفع رأسه، أو أن يكتب مثل هذا الذي يكتب في الجرائد، وما كان لأحد أن يجرؤ على ذلك.

كان أحدهم يروي حديثاً موضوعاً فقال له الطلبة: (إن لم تتب لنبلغن عنك السلطان) فذهبوا إلى الأمير فوراً يشكونه لمجرد رواية حديث موضوع واحد، والأحاديث الموضوعة هي (زاد المستنقع) الكثير من الخطباء والوعاظ الذين يروون الأحاديث الموضوعة، حتى صارت مشتهرة ومعروفة عند الجماهير، ولو قلت لأي شخص: قل لي ما عندك من الأحاديث؟ تجد عنده (60%) من الأحاديث الموضوعة لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم قط، ولم ينطق بها أبداً، إنما هي افتراءات كاذب.

فـسفيان كان هارباً عند يحيى بن سعيد القطان في البيت، وكان رأسه في حجر يحيى بن سعيد القطان ورجله في حجر عبد الرحمن بن مهدي ، وكانا من تلاميذه، ونحن نعرف قدر الأستاذ من قدر التلاميذ، والتلاميذ هم رزق من الله كسائر النعم، فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا رزقاً له، ولم يرزق نبي بأصحاب مثل أصحاب نبينا عليه الصلاة والسلام.

وابن حجر العسقلاني الحافظ رحمه الله يقول في كتاب الدرر الكامنة في ترجمة لكتاب ابن تيمية يقول للدلالة على إمامة هذا الإمام الكبير: (ولو لم يكن لهذا الإمام -أي من حسنة- إلا تلميذه ابن قيم الجوزية صاحب التصانيف السعيدة التي انتفع بها الموافق والمخالف لكان كافياً) ، مع أن سائر أصحاب شيخ الإسلام كانوا أئمة، وكان من أصغرهم الحافظ ابن عبد الهادي صاحب: الصارم المنكي في الرد على السبكي، ومات شاباً دون الأربعين رحمه الله، فلما حضرت سفيان الوفاة كان عنده عبد الرحمن بن مهدي فأخذته رعدة ونوبة بكاء فقال له عبد الرحمن : (يا أبا عبد الله ! أتخشى ذنوبك فتناول سفيان -ذلك العابد الزاهد الأواب، فيما نحسب والله حسيبه- حفنة من على الأرض وقال: والله لذنوبي أهون عليَّ من هذا، إنما أخشى سوء الخاتمة)؛ لأن الذنب قد يغفر لكن إذا ختم للإنسان بسوء ضاعت حسناته.

فما هذا الأمان الذي تتحرك به؟ كأنما كتب أنك من أصحاب الجنة فتمشي في الناس آمناً لا تخاف ذنباً؟ فتقبل على الذنوب وعلى أعمال قد تراها ليست من الذنوب، مثل حلق اللحية! وكثير من الناس يتساهلون في مسألة اللحية فإذا نبهته إلى ذلك قال: الإيمان في القلب، بينما الصحيح أن إطلاق اللحية واجب وحلقها حرام باتفاق العلماء، خالف في ذلك بعض المتأخرين، لكن الأئمة الأربعة وجماهير أصحاب الأئمة الأربعة يقولون: إن حلق اللحية حرام، فما يؤمنك أن يكون مثل هذا الذنب هو الذي يوردك؟!

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليقول الكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ به ما بلغت، يهوي بها في النار سبعين خريفاً، ثم لا يلقي لها بالاً) ولا يظن المسلم أن ربنا سبحانه وتعالى يؤاخذه بها (وإن العبد ليقول الكلمة من رضوان الله يرفعه الله بها درجات) فأنت لا تدري قد يكون الشيء في الدنيا مذموماً وهو عند الله ممدوح، فليس مقياس المسائل عند الله على ميزان الناس، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) فانظر المباينة بين أحكام الخلق وبين حكم رب الخلق تبارك وتعالى، إذا فتحت الباب ووجدته تغلق الباب دونه، وتزدريه بنظرك لكنه عند الله غال.

كالحديث الذي رواه الترمذي في الشمائل وهو حديث ثابت، كان هناك صحابي اسمه زاهر ، وكان جميل الوجه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يوماً داخلاً السوق فرآه فأتاه من خلفه ووضع يديه على عينيه، وجعل ينادي في السوق: (من يشتري هذا العبد) فلما سمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم وعرف أن هذه اليد الناعمة -كما يقول أنس : ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم- المباركة على عينيه وعرف أنه النبي صلى الله عليه وسلم جعل لا يألو، أي: يجتهد في أن يلصق ظهره ببطن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (إذن يا رسول الله! تجدني كاسداً) -يعني: لو بعتني لما وجدت من يشتريني- قال له: (لا، ولكنك عند الله لست بكاسد ) يا لها من بشارة! حين تطلع البشارة من فم النبي عليه الصلاة والسلام يكون لها وزن كبير، ولهذا كان الصحابة حريصين على أن يأخذوا البشارة منه، والعجيب أنهم لم يغتروا بها!!

أنس بن مالك يقول: (لا أشهد لأحد يمشي على الأرض أراه من أهل الجنة إلا عبد الله بن سلام ) ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عبر له رؤيا رآها فقال له: ( تموت وأنت مستمسك بالعروة الوثقى) ومع ذلك كان عبد الله بن سلام كما في الحديث الصحيح: (رآه بعض التابعين يحمل ثياباً على كتفه المكشوف فقيل له: أليس لك خدم يكفونك؟ قال: بلى -عندي خدم كثير- ولكني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) فهل نرى أحداً الآن يذل نفسه هكذا. فـعبد الله بن سلام عنده خدم، لكن أحب أن يؤدب نفسه، فكان الصحابة لا يغترون ببشارة من الرسول عليه الصلاة والسلام فلما يقول: (ولكنك عند الله لبست بكاسد) فهذه بشارة يقولها النبي صلى الله عليه وسلم له.

ونحن لا ندري! أيكون الحكم عند الله على ميزاننا عند الخلق أم لا؟ فقد تجيء أحكام الله عز وجل على خلاف أحكام الخلق مثل هذا الحديث: (لخلوف فم الصائم حين أطيب عند الله من ريح المسك) بالصيام يحقق العبد فيه مرتبة الإحسان.

لأن الدين ثلاث درجات: إسلام، وإيمان، وإحسان، هكذا على الترتيب كما في حديث عمر رضي الله عنه في صحيح مسلم، وكذلك في حديث أبي هريرة على اختلاف بين الروايات في هذا الترتيب في الصحيحين، فترتيبه هكذا إسلام، وإيمان، وإحسان، فالإحسان أخص من جهة أهله، أعم من جهة نفسه، أي: أهل الإحسان هم أقل الناس فالإحسان أخص من جهة أهله وأصحابه، لكنه أعم من جهة نفسه، إذ كل محسن مؤمن ومسلم، فمن أسلم فقد يترقى في السلم درجة، فالدرجة الأولى الإسلام، والدرجة الثانية الإيمان، والدرجة الثالثة الإحسان، فلا تتصور أن تصل إلى الدرجة الثالثة إلا إذا مررت بالدرجة الأولى والثانية، وأهل الإحسان في مأمن، لأنهم إن خرجوا من الإحسان وقعوا في دائرة الإيمان، وأهل الإيمان في مأمن؛ لأنهم إن خرجوا من الإيمان وقعوا في دائرة الإسلام، أما الإسلام فليس بعده إلا الكفر المجرد، أي: أن من خرج من الدائرة الثالثة خرج إلى الفضاء الواسع.

الصيام مدرسة الإخلاص

فالإنسان بالصيام يحقق مرتبة الإحسان، يقول الله تبارك وتعالى في الحديث الإلهي المتفق عليه: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) فقوله تعالى: (فإنه لي) دلالة على عظم الأجر؛ لأنه لم يحدد أجراً، قال: (فإنه لي) وأنا أكرم الأكرمين، لأن الصائم قد يكون أمامه الماء العذب والأكل الجيد ومع ذلك لا يستطيع أن يفطر، ومع أنه معلوم أن الصلاة أعظم من الصيام، إلا أن الله قال عن الصيام: (فإنه لي) ؛ لأن العبد لا يستطيع أن يرائي بصيامه، فنحن الآن جالسون في المسجد وقد يكون بيننا صائم، فهل يستطيع أحد أن يعرف من هو الصائم في هذا الزحام؟ لا، لكن كلنا يقطع أن كل من في هذا المسجد صلى الجمعة، إذن فالصلاة مما يمكن أن يرائي العبد بها رغم عظمها فهي أعظم ركن عملي من أركان الإسلام، وثاني ركن بعد الشهادتين، لكن يمكن أن يرائي المرء فيها.

كذلك الزكاة قال تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271] فيمكن للعبد أن يرائي بالصدقة، والحج كذلك فبعض الناس حج مرة وحج مرتين وحج ثلاث مرات فيقال له: الحاج فلان.

فيمكن للإنسان أن يرائي في كافة الأنساك إلا الصيام، لذلك قال الله عز وجل: (فإنه لي وأنا أجزي به) إنما جعل الأجر له لأن العبد يحقق به أعلى مراتب الدين وهو الإحسان.

المرء تحت ظل صدقته

قال: (وأمركم بالصدقة، وإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثق يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه، فقال: هل لي أن أفتدي منكم بمالي؟ -أن أعطيكم مالي وتتركوني- فقبلوا ذلك، فأعطاهم القليل والكثير) كأنما قال: لم يبق معه شيئاً ليستنقذ نفسه ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما المرء تحت ظل صدقته يوم القيامة) فلا تحقرن شيئاً من الصدقات، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقبل الصدقة بيمينه فيربيها للعبد كما يربي أحدكم فلوه) فيأتي الإنسان يوم القيامة وله جبال من الحسنات، وما هي إلا من صدقة قدمها، والنبي عليه الصلاة والسلام قال لزوجاته: (أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً) فاجتمعن نساؤه لينظرن أيهن أطول يداً. ولم يعلمن وجه الحديث حتى ماتت زينب ، وكانت أكثرهن تصدقاً.

فلما ماتت زينب رضي الله عنها علمن أن المقصود بطول اليد في الحديث هو طول اليد بالصدقة، وكانت زينب كثيرة الصدقة، ومرة أرسل لها عمر بن الخطاب بعطائها فقالت: (مالي ولهذا؟! لأفرقنه كله، ثم قالت: اللهم لا تدركني صدقة عمر )، فماتت رضي الله عنها.

تنبيه مهم في إطلاق معنى اليد

لكن قبل أن أنهي هذا الكلام أحببت أن أنبه على مسألة أصولية، وهذه المسألة يعيِّرُ بها أهل السنة والجماعة كثير من الجهلة الذين يستخدمون عبارة: روح النص، فهو يقول لك: ( نحن طلعنا روحه ) والمفروض أن الألفاظ قوالب المعاني، وهو يقول: لا القالب روح النص، فيقول أهل العلم: إن الأصل في الألفاظ الحقيقة أي: الأصل في اللفظ ما وضع له أولاً، ولا ينقل إلى غير الحقيقة إلا بقرينة، فلو قلت لك: هذه يد فأول شيء يخطر في ذهنك هو هذه الجارحة، فإذا قلنا: فلان له عليَّ أياد، فلا يخطر في الذهن أنه واضع يديه على أكتافه، إذن فنحن نفهم بدلالة السياق أن الأيادي أو اليد في هذا السياق ليس المقصود بها الحقيقة؛ لأن السياق من المقيدات كما يقول أهل العلم، فبعض الناس يغفل عن هذه القاعدة وهي مهمة: (السياق من المقيدات) فمثلاً: كلمة (عزيز) ليست كلمة ذم، وكذلك كلمة (كريم) فإذا قرأت قوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49] فكلمة عزيز وكريم في هذا السياق ذم. وذلك من أجل السياق؛ لأنه هو الذي غير معنى الكلام، فالسياق من المقيدات، فمثلاً قوله تعالى: فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا [النمل:19] فلماذا ذكر ضاحكاً، ولم يقل: تبسم فقط؟ قال: لأن الابتسام على نوعين: ابتسام المغضب، وابتسام المعجب، فابتسام المغضب كما في قصة كعب بن مالك في الحديث الذي في الصحيحين: (فلما أظل النبي صلى الله عليه وسلم قادماً من تبوك، وجاء الناس قال: وجئت فدخلت المسجد فلما رآني تبسم تبسم المغضب وقال: ما خلفك؟) وفي آخر الحديث لما نزلت توبة كعب بن مالك قال: (فلما دخلت المسجد فرآني رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم، وكان إذا سر استنار وجه كأنه قطعة قمر، وقال: أبشر بخير يوم طلعت عليك فيه الشمس منذ ولدتك أمك) أما قوله: (فتبسم ضاحكاً) فهمنا بكلمة (ضاحكاً) أنها ابتسامة المعجب؛ لأنه لم يغضب من قول النملة، بينما من الممكن أن أي ملك من الملوك تقول له كلمة حق يغضب منها وليس له حق في الغضب، فأراد ربنا تبارك وتعالى أن يبين لنا أن سليمان لم يغضب من قول النملة إنما تبسم من قولها، ولذلك أعقب الابتسامة بالشكر: وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ [النمل:19] ولا يتبسم بهذه الصفة إلا لأنه معجب بقول النملة وليس غاضباً، فقوله: (تبسم ضاحكاً) أدت المعنى (100%)، أما كلمة تبسم مجردة لا تدل دائماً على الضحك، إذاً فكلمة (الضحك) هنا جاءت من المقيدات ومن هذا الباب أيضاً قولهم: (إن السكوت علامة الرضا) فليس كل سكوت رضا، فهناك سكوت القهر، وسكوت الرضا، وسكوت الغضب.

ذكر الله حرز للعبد من الشيطان

قال يحيى عليه السلام: (وآمركم بذكر الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو في أثره سراعاً) إن الشيطان إذا رأى العبد ليس صاحب كبيرة أو صاحب صغيرة فإنه يحاول أن يدخل عليه من باب آخر فيشغله بالمفضول عن الفاضل فيقل أجره، فيصير مشغولاً بفضول المباحات فيضيع المستحبات، يعني مثلاً: يأتي هذا الرجل ويقول: والله أنا طوال السنة في عمل وأريد أن أتفسح وسأذهب إلى المصايف -والذهاب إلى المصيف ومخالطة أهل الفسق والعري لا يجوز شرعاً- فيأتيك من يقول: إن الناس يمشون بهذه الملابس العارية في الشوارع، فما الفرق؟ فنرد عليه بالقول أنت لا تستغني عن المشي في الشارع فمن الضروري أن تمشي فيه وترى مثل هذه المناظر، فأنت هنا لست مخيراً، لكن متى ما ذهبت إلى المصيف فأنت مختار لملابسة أهل العصيان، فيرد هذا الرجل قائلاً: أنا سوف أذهب إلى المصيف وأقصد أبعد مكان عند الحدود بحيث تفصلني عن هؤلاء مسافة طويلة، ولا أختلط بأهل العصيان.

يرى بفعله هذا أنه أتى مباحاً، فيذهب إلى هناك، ويقعد يلعب مع الأولاد ويسبح ويمضي وقته في اللهو، فنقول له: هذا المباح على حساب أعمال أهم، فكونك تجعل الذكر رياضتك، فإنك لن تحتاج إلى هذه المباحات التي يسعى الناس إليها، إذا أنست برب العالمين استغنيت عن الخلق.

إذاً ذهابك إلى هناك وإن كان مباحاً شغلك عن مستحب، وطالما أن المسألة كانت مسألة تحصيل للأجر، فينبغي على المرء أن يسعى إلى تحصيل أعلى الأجرين، فالشيطان عدو الإنسان يسعى وراءه .

قال يحيى عليه السلام: (وآمركم بذكر الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو -والعدو هو الشيطان فلا يوجد غيره- في أثره سراعاً) أي: لا يدعه طرفة عين (فدخل حصناً حصيناً فأحرز نفسه، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله) فاذكر الله تبارك وتعالى؛ لأنك لو ذكرت ربك احتميت من شيطانك، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76] فالشيطان عدو مبين وخطير وله من الإمكانات أكثر مما لنا، لكنه كان ضعيفاً؛ لأنه في مقابل كيد الله.

وأخيراً: أود أن أنبه إلى أن بعض الناس يخطئون في الجمع بين قوله تعالى: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف:28] وبين قول الله تعالى: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76] فيقول لك: إن كيد النساء أشد من كيد الشيطان، ونحن نقول: هذا خطأ، لأننا قلنا من قبل إن السياق من المقيدات، فهذه الآية لها سياق وتلك لها سياق آخر، إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف:28] ؛ لأن كيد المرأة كان مقابلاً بكيد يوسف عليه السلام، فالنساء كيدهن عظيم إذا قوبل بكيد الرجال، لكن الشيطان كيده ضعيف؛ لأنه مقابل بكيد الله فلو وضعت كل كلام في سياقه يتبين لك المعنى.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يفقهنا وإياكم في ديننا، وأن يجعل ما سمعناه وما قلناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الوصايا الخمس للشيخ : أبو إسحاق الحويني

https://audio.islamweb.net