إسلام ويب

أثبت الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم أنه غالب على أمره، وهذا شامل لكل قضية، فأمر الله سبحانه يغلب كل أمر؛ فيغلب دين الله عز وجل على سائر الأديان، وينتصر عباد الله المتقون على من خالف أمر الله وعصاه، فبيده سبحانه مقاليد الأمور، وله عز وجل جنود السماوات والأرض.

غلبة أمر الله في قضية يوسف

إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

قال الله تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21] الله غالبٌ على أمره، يعني: إرادته تغلب إرادة غيره، ومشيئته تغلب مشيئة غيره؛ لأن الله تبارك وتعالى له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وكل صفة في العبيد حاشا الأنبياء فهي صفة نقص، فإذا كان هناك رجلٌ ذكي ففي الكون من هو أذكى منه، وهو ناقص بالنسبة لغيره، فإرادته تناسب نقص صفته، وإرادة الله عز وجل تناسب كمال صفته، فالله غالب على أمره، وهذا الذي حدث في حياة يوسف، كيف غلب أمره في قصة يوسف كلها؟ قال يعقوب عليه السلام: قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا [يوسف:5] رؤياه وقد منعه أبوه، لكن غلب أمر الله فقص على إخوته فكادوا له، فرموه في الجب بقصد إقصائه عن وجه والده، وأرادوا أن يخلو لهم وجه أبيهم، فما تم لهم ما أرادوا؟ غلب أمر الله عز وجل وضاق عليهم قلب أبيهم، ونحن نعلم أن حسن المعاملة، هذا معتمد على عمل القلب، فإذا دخل البغض على قلب رجل، لا يستطيع أن يتبسم في وجه من يبغضه، فكل الجوارح تخضع لعمل القلب، ثم دخل قصر العزيز وراودته المرأة، فلما رأت العزيز بادرت بالهجوم والاتهام، وأرادت أن تبرئ نفسها: قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [يوسف:25] بقصد أن تبرأ من هذا الذنب، فغلب أمر الله عز وجل وشهد شاهد من أهلها فاتهمت، ثم دخل السجن، وذَكَّر الساقي، فقال له: اذكرني عند ربك، فغلب أمر الله عز وجل ونسي الساقي هذا ولم يذكر إلا بعد أمة من الزمان، ثم بعد مرة من الزمان تذكر يعقوب عليه السلام يوسف، لما أبى أن يعطيهم المتاع إلا أن يأتوا بأخ لهم من أبيهم، فلما ذكروا أخا يوسف هاجت الذكرى عند يعقوب عليه السلام، وقال: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف:18] .. وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ [يوسف:84]، وهذا بعد مدة من الزمان، وأصروا على الذنب، لكن كان مبدؤهم أن يفعلوا الفعلة ثم يتوبوا، لكنهم فعلوا الفعل ولم يتوبوا، بل أصروا على الذنب، ونفوا عن أنفسهم الجناية، لكنهم عادوا فاعترفوا لما غلب أمر الله، تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [يوسف:91] .. يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ [يوسف:97] فهذا اعتراف بالذنب بعد الإصرار على عدم الاعتراف.

غلبة أمر الله في شأن الحياة والموت

قد يتمنى أحياناً ما فيه تلفه وهو لا يدري، ويغلب أمر الله عز وجل على تدبير المدبرين، وعلى هذا جاء قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا جعل الله منية عبد بأرض جعل له إليها حاجة) أي: جعل له حاجة في هذه الأرض.

وإذا علم العبد أنه يموت هناك ما ذهب، لكن الله غالب على أمره، كما روى أبو الشيخ في كتاب العظمة أن داود عليه السلام قرَّب رجلاً من أهل مملكته، فلما مات داود عليه السلام اصطفاه وسليمان وقربه إليه، وكان ملك الموت عليه السلام يجالس الأنبياء عياناً، ودخل ذات مرة على سليمان عليه السلام فنظر إلى الرجل ولحظه بطرف عينه، وانتبه الرجل لنظره إليه، وذهب ملك الموت، فسأل الرجل جليس سليمان عليه السلام من هذا، فقال: ملك الموت، فقال: لا أجلس في أرض فيها ملك الموت، فقال: وماذا تريد؟ قال: مر الريح فلتذهب بي إلى أرض الهند، وكانت الريح مسخرة له كما قال الله عز وجل: تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [ص:36] رخاء يعني: لا شديدة ولا رخوة، وبعد قليل جاء ملك الموت إلى سليمان عليه السلام فقال له: لم لحظت الرجل، ولم نظرت إليه؟ قال: إن الله أمرني أن أقبض روحه في أرض الهند، فلما ذهبت إلى هناك وجدته هناك يرتعد في مكانه فاستلبت روحه.

لو علم الرجل أنه يقبض هناك ما طلب هذا الطلب، لكن الله غالب على أمره، وتدبيره محكم وسابق على تدبير عباده، وإذا قرأت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يرث القاتل) تبين لك هذا المعنى أيضاً، فالقاتل يقتل أخاه أو أباه أو عمه من أجل أن يرث، فلو علم أنه سيحرم الميراث ما قتل، فالله غالب على أمره، إشارة إلى القدر الأعلى المهيمن المسيطر على مصائر العباد.

غلبة أمر الله في قصة أصحاب الأخدود

وهذا المعنى أيضاً يظهر بجلاء في قصة أصحاب الأخدود، وهي قصة رائعة، وفيها معان دفاقة كثيرة، إن الرجل لا يسود إلا إذا احترم رعيته، ومن عوامل الخذلان لأي حاكم في الدنيا أنه يحاصر الرعية، ولا يقيم لهم وزناً، ويجعلهم من الهمل، هذه من علامات الخذلان، لكن إذا عظمهم عظم في قلوبهم، وصاروا يحترمونه ولا يقدمون أحداً عليه، وانظر إلى عمر ، ملك الدنيا، وما امتعض صحابي قط من تصرفاته، فتجده يضرب أبا هريرة ولا يغضب، ويضرب سعداً ولا يغضب، ويضرب أبا ذر ولا يغضب؛ لأنه كان يفعل ذلك لله ليس لحظ النفس، حتى لما عزل سعد بن أبي وقاص لم يغضب سعد ؛ لأنه كان يعلم مقصد عمر . فبقدر ما يكون في قلبك من الإخلاص بقدر ما يميزك الله عز وجل بين الناس. وقصة أصحاب الأخدود هي كما في صحيح مسلم من حديث صهيب رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (كان فيمن كان قبلكم ملك، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: ائتني بغلام نجيب أعلمه السحر، فإني أخشى أن أموت وليس فيكم من يتعلمه، فجيء له بغلام نجيب).

قارن هذه القصة واربطها بقوله تبارك وتعالى: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ [يوسف:21] لتعلم ونحن في مرحلة الاستضعاف أن النصر قريب لكن بشرط، (فكان هذا الغلام يخرج من بيته إلى بيت الساحر، وكان إذا مر مر بصومعة راهب، فعرج الغلام يوماً على صومعة الراهب فدخل، وسمع كلامه فأعجبه)، فعندما يسمع كلام الساحر، ثم يسمع كلام الله لا بد أن يجد فرقاً، (فصار يتأخر عند الراهب، فيتأخر في الرجوع إلى بيته إذا كان راجعاً، أو يتأخر في الذهاب إلى الساحر إذا كان ذاهباً، فكان هؤلاء يضربونه على التأخير، وهذا يضربه أيضاً على التأخير، فشكى ذلك إلى الراهب فقال له: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا ضربك أهلك فقل: حبسني الساحر، ومضى زمن، حتى جاء يوم واعترض طريق الناس دابة، فقال الغلام: اليوم أعلم أأمر الراهب أحب إلى الله عز وجل أم أمر الساحر، فأمسك حجراً وقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك فاقتل هذه الدابة، ثم رماها بالحجر فقتلها.

تحدث الناس عن الغلام وذاع صيته، فدخل على الراهب، فقال: أي بني إنك اليوم صرت أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليّ) هذا ما أراده الراهب، ولكن حدث ما أراده الله، (وكان الغلام يشفي من سائر الأمراض، ويبرئ الأكمه والأبرص، وكان يجالس الملك رجل، كان قد عمي، فلما سمع بمهارة الغلام، جمع له هدايا عظيمة، وذهب وقال له: ما هناك لك أجمع -أي: كل هذه الهدايا لك- إن أنت شفيتني، فقال الغلام: إني لا أشفي أحداً، ولكن يشفي الله تعالى، فإن آمنت به دعوته وشفاك، فآمن به جليس الملك فرد الله عليه بصره، فدخل الجليس على الملك بلا عكاز وبلا مرشد، فقال الملك: بلغ من سحر الغلام أنه شفاك؟ قال: إنما شفاني الله تعالى، فقال له الملك: أولك رب غيري؟ فقال له الجليس: الله ربي وربك ورب العالمين، فما زال يعذبه حتى دل على الغلام.

وجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني بلغ من سحرك ما أرى؟ تبرئ الأكمه والأبرص وتداوي الناس من سائر الأدواء، فقال: إني لا أشفي أحداً، ولكن يشفي الله تعالى، فلا زال يعذبه حتى دل على الراهب) مع أن الراهب أوصى الغلام: إن ابتليت فلا تدل عليَّ، لكن غلب أمر الله عز وجل، ودل الغلام على الراهب (فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك، قال: لا. فشقه بالمنشار نصفين، قال صلى الله عليه وسلم: حتى سقط شقاه وهو صابر، وجيء بالجليس وقيل له: ارجع عن دينك، فقال: لا. فقتله).

الغدر من صفات الملوك

وهكذا ليس لهؤلاء وفاء.

إن الملوك بلاء حيثما حلـوافلا يكن لك في أكنافهم ظل

ماذا تأمل من قوم إذا غضبـواجاروا عليك وإن أرضيتهم ملوا

فإن نصحتهم خالوك تخدعهموإن استصغروك كما يستصغر القل

استغن بالله عن أبوابهـم أبداًإن الوقوف علـى أبوابهـم ذل

إذا غضب ثار عليك، لا يرقب فيك إلا ولا ذمة، وإذا أعطاك مَنَّ، وكلمات الوفاء والإخلاص لا توجد في قواميس هؤلاء أبداً، بل إن الملك يفرق بين الولد ووالده، كما حدث في قطر، كان الملك سيعود إلى الولد، لكنه أخذه من أبيه بالقوة.

كان هناك رجل يعمل مع المشير عبد الحكيم عامر ، وكان هذا رجلاً منحرفاً، وكان رجل نساء، فكان إذا أراد أن يقضي ليلاً أو شهراً مع امرأة يذهب إلى باريس، وكان صلاح نصر رئيس المخابرات صديقاً حميماً للمشير، وكان يصوره وهو في هذه الأوضاع المشينة ويحتفظ بالصور حتى يستخدمها وقت الحاجة، وفي يوم من الأيام فقد صورة من الصور فخاف أن تصل إلى المشير فيكون فيها هلاكه، فبدأ يعمل تمشيطاً لكل الرجال الذين يعملون مع المشير، يقول الرجل: فدخلت في بيته يوماً من الأيام فأخذوه، وقالوا له: أين الصور؟ قال: والله ما أعرف شيئاً، فقالوا: أنت كذاب، وعلقوه وساموه سوء العذاب.

وبعدما جلس في السجن أياماً طويلة إذا بالصور موجودة عند صلاح نصر ، فأخرجوه وعفوا عنه ولم يعتذروا له، وهناك بعض العصاة لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، قال صلى الله عليه وسلم: (عجب ربك من أقوام يدخلون الجنة بالسلاسل) وهذا كالأسرى الذين إذا غلب المسلمون على ديار الكفر استرقوهم وأتوا بهم إلى ديار المسلمين فيرون الإسلام فيسلمون، فهؤلاء لم يسلموا إلا بسبب الحرب، فيدخلون الجنة بالسلاسل.

قصة سنمار وغدر الملك به

وللعرب مثل كبير يقول: (نال جزاء سنمار ) ويضربون به المثل في الرجل الذي يفعل الإحسان ثم يلقى الإساءة، وقصة سنمار أن مهندساً كان اسمه سنمار ، بنى قصراً مشيداً رائعاً لملك في ذاك الزمن، وبينما سنمار جالس في ليلة مقمرة مع الملك قال للملك مفتخراً بصنعته وبنائه: إن في قصرك لبنة لو جذبها رجل انهدم القصر كله، قال -أي: الملك- يعلم هذا أحد غيرك؟ قال له: لا. فقتله؛ ليموت السر الذي يحمله، وهو من صمم له القصر الذي يجلس فيه.

فجليس الملك وصفي الملك وخليل الملك لم يتورع الملك عن قتله يوم خالفه، وكذلك الراهب، لكنه لم يقل للغلام: ارجع عن دينك حتى إذا قال: لا، قتله؛ لأنه بإمكانه أن يضع يده في يد عدوه لتحقيق مصلحته، فهؤلاء لا مبدأ عندهم إلا هواهم، فالغلام أثبت جدارة ومهارة، وهو صغير السن وأمامه المستقبل، والملك محتاج إلى مثله، (فأتى به وقال له: ارجع عن دينك، فقال له: لا، فدعا جنوده وقال: خذوه على قمة الجبل الفلاني فإن رجع وإلا فألقوه..) ولم يقل: خذوه على قمة الجبل واقتلوه، لا، ولكن هناك مراجعات؛ لأنه يحتاج إليه، (فأخذوه على قمة الجبل وقالوا: ترجع؟ قال: رب اكفنيهم بما شئت، فارتجف بهم الجبل فسقطوا، ورجع هو إلى الملك) فغلب أمر الله، (فلما رآه الملك قال: ويحك أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء، فأمر جنوده، قال: خذوه في قرقور -وهو القارب- وامضوا به في البحر، فإن رجع وإلا لججوا به -أي: اقذفوه في لجة البحر في وسط الماء- فلما كانوا في البحر قالوا له: ترجع؟! فقال: رب اكفنيهم بما شئت، فانكفأ بهم القارب فغرقوا ورجع هو.

فلما رآه الملك قال: ويحك أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء)، هذه الآيات البينات كان من شأنها أن تجعل ذاك الجبار العنيد يتوب ويرعوي، ولكن (على قلوب أقفالها)، كلما ظهرت آية أخذته العزة بالإثم، وقبل أن يحاول قتله مرة ثالثة: (قال له الغلام: اعلم أنك لن تقتلني إلا أن تفعل ما آمرك به، تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على خشبة، وتأخذ سهماً من كنانتي -وهي جراب السهام- وتضع السهم في كبد القوس، وتقول: بسم الله رب الغلام بأعلى صوتك، فإنك إذا فعلت ذلك وقع السهم هاهنا -وأشار إلى صدغه- فقتلتني)، فظن الملك أن المشكلة انتهت إلى هذا الحد، ولكن كان هذا هو المسمار الأول الذي دق في نعشه: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21]. (فجمع الناس في صعيد واحد -في ميدان عام- وصلب الغلام، وأخذ سهماً من بين السهام وصوبه إلى صدغ الغلام وقال: بسم الله رب الغلام، ورمى بالسهم إلى حيث أشار، فمات الغلام، فقال الناس جميعاً: آمنا بالله رب الغلام)، فقتل الراهب وقتل الجليس وقتل الغلام، لئلا يفشو الإيمان في المملكة ففشى، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].

إنك تستطيع أن تخدع بعض الناس كل الوقت أو كل الناس بعض الوقت، لكن لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت، إن الناس يموجون بين الهدى والضلال، لكن يجبنون ويعرفون الدعي الذي يكذب ويعد الوعود الكاذبة، ويعرفون الكاذب، ولكن لا يستطيعون الكلام، فإذا جاءت الفرصة تكلموا وفعلوا، وهذا ما فعله الرعية، وهذا فعل العامة في كل زمان.

لماذا آمنوا بالله رب الغلام؟ لأن رب الغلام هو الذي غلب، حاول الملك أن يقتل الغلام مرة من على الجبل، ومرة في البحر ولم يستطع، فلما قال: بسم الله رب الغلام؛ قتل الغلام، إذاً رب الغلام هو الأكبر وليس الملك، فاحتار الرجل، واستشار الذين حوله من بطانة السوء ماذا يفعل وقد آمن الناس جميعاً، فقالوا: والله وقع الذي كنت تحذر، فقال: وما العمل؟ قالوا: احفر الأخاديد على السكك، ثم ملأوا هذه الأخاديد بالنحاس المغلي، وعرض الناس على الكفر عرض الحصير عوداً عوداً، فيقال للرجل: تؤمن بالله رب الغلام، أو تؤمن بالملك؟ فإن قال: أؤمن بالله رب الغلام؛ قذفوه في الأخدود، وإن قال: آمنت بالملك؛ نجى، فذلك قوله تبارك وتعالى: قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ *النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ [البروج:4-5] وفي بعض القراءات (ذات الوِقُود) أي: الاشتعال لشدة الحرارة.

حتى جاء الدور على أم تحمل ولدها، فالأم خافت، وكأنها تراجعت، فسمعت ولدها يقول: يا أماه اصبري فإنك على الحق!! فتبين هذه القصة، كيف أن الله غلب على أمره، أراد الملوك أمراً وأراد الله أمراً، فكان ما أراد الله، إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا *وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [الطارق:15-17]، فكل مما يفعلونه من الإجراءات الاستثنائية، والأحكام العشوائية، واتهام الأبرياء بما ليس فيهم، وتنزيل أقصى العقوبات غير اللائقة لا قانوناً ولا وضعاً ولا عرفاً، كل هذا لا ينفع، فإن الله غالب على أمره، وخذ ما حدث في صحراء إيران أيام قضية احتجاز الرهائن، خذ منها عبرة في التاريخ الحديث.

غلبة أمر الله على أمريكا في قضية الرهائن

كانت أمريكا تعلم كل ثقب إبرة في إيران، واحتجزت إيران الرهائن، ووضعت كرامة أمريكا في الأرض من مجموعة من الشباب، فماذا فعلت أمريكا في صحراء من الصحاري البعيدة؟ بَنت فيلاً مثل السفارة بكامل مواصفاتها، ووضعت أناساً في داخل هذا المبنى، ودربوا (الكوماندوز) على أن يدخلوا من النوافذ فيخطفوا الرهائن، مرة واثنين وثلاثة وأربعة وعشرة وعشرين، إلى أن أتقنوا هذه اللعبة تماماً، وتبجحت أمريكا بقولها، وأنها لا تغلب، وتستطيع أنها تخرج الكحل من العين لو أرادت، ودخلت الطائرات صحراء إيران على ارتفاع منخفض لئلا تكشفها (الرادارات) في إيران وهم يعرفون كيف تعمل وكيف يكتشفون الطائرات، فدخلت الطائرات، والإيرانيون كلهم غافلون، ودخلت طائرات أمريكا وربضت في صحراء إيران في غفلة عنهم، وجاءت ساعة الصفر لتطير الطائرات وينفذوا العملية ويأخذوا الرهائن، وتعود سمعة أمريكا الفتية العتية في العالم، وإذا بالطائرات وهي تطير يصطدم بعضها ببعض ويحصل انفجار عنيف، وعلى ضوء هذا الانفجار علم المسؤولون في إيران أن هناك طائرات أمريكية في الصحراء، وكان هذا أيضاً المسمار الذي دق في نعش الرئيس جيمي كارتر فشل في الانتخابات بسبب هذه العملية.

أرادوا شيئاً لكن الله غالب على أمره.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

البلاء في الله وغلبة أمر الله فيه

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

هذه الآية تشير إلى القدر، القدر الأعلى الذي لا يخرج من قبضته أحد، فإذا قدر عليك البلاء فاعلم أن الله غالب على أمره، وإذا استطعت ألا تبتلى إلا في الله فافعل، وذلك بأن تتبع الشرع، ولا تخالف.

ترك الجهاد تهلكة

قال الله تبارك وتعالى في كتابه المجيد: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، هذه الآية يفهمها كثير من الناس على خلاف ما نزلت له، فيفعل الشيء الذي لا يجوز له فعله بدعوى التخلف من الضرر، مع أن هذه الآية نزلت كما قال أبو أيوب الأنصاري : (قلنا: نجلس في أموالنا نصلحها وندع الجهاد في سبيل الله)، فالتهلكة هي ترك الجهاد، مع أن الجهاد مظنة الموت، لكن ترك الجهاد هو التهلكة، ومن استقرأ ما نحن فيه الآن علم ذلك، فلا يجوز لعبد أن يقول: أنا قد وضعت سيفي وهذه آخر المعارك، وله عدو في الأرض! هذا جنون وخبل، أن تضع سيفك وعدوك شاهر سيفه، وتقول: هذه آخر الحروب، وتقول: أنا لا أريد الدماء أن تسيل على الأرض، سبحان الله، فإذا فرضنا ذلك وأنك سئمت القتال فدخل عليك عدوك، وهجم عليك بغير اختيار منك، ماذا تفعل؟ أليست دماء أولادك ستراق في الدفاع، فطالما لك عدو لا تضع سيفك، ولا تضع سلاحك.

تسلط الشيطان على من ترك سلاح الذكر

إن الشيطان يدخل على الذين يضعون أسلحتهم، مع أن الله عز وجل أبان لنا عداوة الشيطان وكرر هذا المعنى كثيراً: إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يوسف:5] يعني بائن العداوة، وأعطاك سلاحاً تقهره به، وأعطاك الله سلاحاً أنت به أقوى، وهو ذكر الله عز وجل، فيكسل العبد ويلقي سلاحه وهو الذكر، فيدخل عليه الشيطان، مع أنه ليس هناك وقت يخلو من ذكر تقوله، علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أذكاراً، حتى: وأنت نائم -والنائم أخو الميت- علمك النبي صلى الله عليه وسلم ذكراً تقوله قبل النوم، يقيك الشيطان إذا مت الموتة الصغرى، اقرأ أية الكرسي، واجعل آخر صلاتك من الليل وتراً، ونم على وضوء، ونم على شقك الأيمن وضع يدك تحت خدك الأيمن، علمنا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقل: (باسمك اللهم أحيا وباسمك أموت، اللهم بك وضعت جنبي وبك أرفعه، وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً)، ثم يقرأ آية الكرسي، قال الشيطان لـأبي هريرة (إنك إن قرأتها لا يزال عليك من الله حافظ حتى تصبح) إذا قرأت آية الكرسي، وقف على رأسك ملك يحرسك حتى تفتح عينك وتبدأ بذكر آخر.

فالغفلات يدخل منها الشيطان، فكيف تضع سلاحك وتترك ذكر الله عز وجل وعدوك شاهر سلاحه، فالجهاد قائم ما دام هناك دين على وجه الأرض بخلاف دين الإسلام، ولا يجوز لك ترك الجهاد أبداً، وإذا جاهدت في سبيل الله غنمت، وجعل الله لك الرجال، والديار والأموال، فتأخذ الرجال تستغلهم، وتسيى النساء والولدان.

الرق عند المسلمين وعند الكفار

وبكل أسف عندما يتكلم بعض أساتذة الشريعة عن الرق، يقول: والرق محرم دولياً، فعيرونا وقالوا: أنتم تسترقون الرجال الأحرار، وهم يسترقون الدول، عار علي استرقاق الأفراد وهم يسترقون دولاً بأكملها؟ من الذي عمّر أمريكا أول ما اكتُشفت؟ أليسوا هم الهنود الحمر؟ والزنوج الذين سرقوهم من أفريقيا وجعلوهم خدماً هناك، وهذا رق، من أبشع أنواع الرق، ولكن الرق عندنا شرف، الرسول عليه الصلاة والسلام ما تركك تعلو على الرقيق، لكن قال (إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه فليجلسه معه)، فأنت تأكل طعاماً جاهزاً، وهو الذي يقف أمام النار، وقد تعب في صنع هذا الطعام، فلا تمنعه، وجعل الله تبارك وتعالى كفارة بعض الذنوب عتق الرقبة، وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، من هؤلاء الثلاثة رجل له أمة فأعتقها ثم تزوجها) فهؤلاء يؤتون أجرهم مرتين؛ فإن لم يكن هذا ولا ذاك ولا الآخر يكفي أن هذا العبد دخل ديار المسلمين فأسلم فنجى من النيران، وهذا الصنف هو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (عجب ربك من أقوام يدخلون الجنة بالسلاسل) فالرق عندنا شرف بينما هم يسترقون المسلمين، ويفعلون الأفاعيل، ثم الذي يغيظ ويفتت الكبد أنهم يعملون تمثال الحرية، فأول ما تدخل أمريكا ترى تمثال الحرية، في حين أن قوات الأمم المتحدة كانت تهتك أعراض المسلمين في البوسنة مع الصرب والكروات، لقد خسر العالم جداً بتخلف المسلمين عن ريادة العالم.

إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن امرأة بغياً دخلت الجنة في كلب، وهو الحيوان المهين، الذي ضرب به المثل في المهانة وعدم التحمل، وأنه لا صبر له، وهذه امرأة بغي تترزق بعرضها، ولا توصف المرأة بالبغاء إلا إذا صار حرفة ومهنة وخلة دائمة لها، يعني: امرأة زانية عريقة في الزنا، ملأت موقها ماء وسقت كلباً يلعق الثرى من العطش، فشكر الله لها فغفر لها، وفي المقابل: دخلت امرأة النار في هرة. لو ملك المسلمون فهل سيرمون البر والدقيق في المحيط وهم يعلمون أن ربع الكرة الأرضية يموت من الجوع؟! حفاظاً على سعر الدقيق والخبز!! هذه ليست إلا أخلاق الكافرين: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة:8].

التمكين بعد البلاء

فإن استطعت ألا تبتلى إلا في الله فافعل؛ لأن هذا له ثمرة، حيث إن الله غالب على أمره، أنت لن تخرج من قبضة الله أبداً، وإذا ابتليت في الله فلك بشارة، قال صلى الله عليه وسلم: (كذلك نحن معاشر الأنبياء نبتلى، ثم تكون العاقبة لنا) هذه هي البشارة، وإذا خيرت بين أن تعصي الله عز وجل، وأن يأتيك الرزق بالمعصية أو تبقى مستقيماً مع عدم توفر وظيفة، فاختر الطاعة ولا تتردد، إن قيل لك: إن الوظيفة الفلانية لن تأخذها إلا أن تحلق لحيتك، فلا تحلقها أبداً، وسيجعل الله لك مخرجاً، قد جعل الله لكثير من عباده مخارج ما خطرت على قلب واحد منهم، وأهلك أعداءه من محل الأمن وما خطر على قلب واحد منهم أن يهلك من هذا الباب، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ [القلم:44-45] فتجد الإنسان يضرب بيد من حديد ويحكم القبضة ويظن أن الأمر آل له، والله عز وجل يقول: وَأُمْلِي لَهُمْ [القلم:45] أدعهم في طغيانهم يعمهون ويستمرون، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:45]، وإذا كاد الله أحداً غلبه وأهلكه، إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق:15-16].

كلما يحصل شد يحصل انفجار، وهم يعترفون بهذا، فالرسم البياني للصحوة الإسلامية الأثرية التي تنتسب إلى القرون الثلاثة المفضلة يبين أنها كل يوم تزداد، واتسع الخرق على الراقع، فالذي كان يضرب على قفاه إذا بكى يسكت، الآن لا يسكت، بل هو صاحب ساعد قوي يستطيع أن يضرب ولو كانت ضربته أقل تأثيراً من غيره، وابنك الذي كان يأخذ حاجته بالصراخ أمس كبر وصار له ساعد، صحيح أنك أقوى منه، ولو ضربته ضربة لقلعت له عيناً، ولكنه سيضربك ولو كانت ضربة لا تؤثر فيك، وهذا انتصار ومكسب، أن يمد يده ولو كانت ضعيفة، وهذا الذي يضربك الآن بيد رخوة غداً يشتد ساعده، وأنت بطبيعتك تكبر وتكبر، ثم يستدير القمر ويعود محاقاً بعدما كان بدراً، وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ [يس:68] فيشتد ساعد هذا ويضعف ساعدك، فإذا ضربك قلع لك عيناً، وإن ضربته فلن تؤثر فيه، فلا تهاجمه، وأعطه جزءاً من المشاركة تكفى شره بذلك، ولا يفعل هذا إلا عاقل، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الاعتصام بالكتاب والسنة

إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد..

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان عن مسعر وغيره عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال: قال رجل من اليهود لـعمر : (يا أمير المؤمنين لو أنا نزلت علينا هذه الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] لاتخذنا هذا اليوم عيداً، فقال عمر : (إني لأعلم أي يوم نزلت هذه الآية، نزلت يوم عرفة، في يوم جمعة).

سمع سفيان مسعراً ، ومسعر قيساً ، وقيس طارقاً .

هذا الحديث رواه الإمام البخاري رحمه الله في أربعة مواضع من صحيحه، الموضع الأول في كتاب الإيمان في باب زيادة الإيمان ونقصانه، والموضع الثاني: في كتاب المغازي، في باب حجة الوداع، والموضع الثالث في تفسير سورة المائدة عند ذكر هذه الآية، والموضع الرابع: هو الذي نشرحه وهو أول حديث في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة.

قلت قبل ذلك: إن الإمام البخاري رحمه الله له فهم ثاقب ونظر حاد في ترجمته لأبواب صحيحه، فوضع هذا الحديث في كتاب الإيمان في باب زيادة الإيمان ونقصانه، علاقة الترجمة بحديث عمر الواردة فيه الآية : أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] أن الآية دلت على تمام الإيمان، فالإيمان له زيادة ونقصان، فأعلى زيادة في الإيمان هي كمال الدين، وأن تتمه في نفسك، وبقدر ما يكون لله عز وجل في قلبك يكون كمال الإيمان، فأراد الإمام البخاري أن يبين أن أوج الزيادة في كمال الدين.

(قال رجل من اليهود) وهذا الرجل اسمه كعب الأحبار ، وكعب الأحبار كان رجلاً من علماء اليهود وأسلم في خلافة عمر رضي الله عنه، فيحمل على أن كعباً قال هذا الكلام لـعمر قبل أن يسلم، وهذا ظاهر من اللفظ: (قال رجل من اليهود لـعمر )، وإذ ثبت أنه كعب فإذاً قال هذا الكلام لـعمر قبل أن يسلم ، وإما أن يكون أسلم ولكن نظر إلى أول حاله، كما في الحديث الصحيح أن زينب رضي الله عنها حدث بينها وبين صفية بنت حيي خصومة، وضعف جمل صفية فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـزينب : (أعطها الظهر لتركب، فقالت له: أنا أعطي هذه اليهودية!!) -وهي زوجة النبي عليه الصلاة والسلام- فكأن النظر بالنسبة إلى الحال الأول، وإن كان الوجه الأول أقوى، وهو أن كعباً سأل عمر رضي الله عنه قبل أن يسلم قال: (يا أمير المؤمنين لو أنا نزلت علينا هذه الآية لاتخذنا هذا اليوم عيداً، قال عمر -في رواية للبخاري أيضاً- أي آية؟ قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]) فأراد عمر أن يرد عليه فقال له: نحن ما قصرنا في اتخاذ ذلك اليوم عيداً، بل هي نزلت في يوم عيد، كما رواه الترمذي من حديث ابن عباس أن رجلاً قال لـعمر هذا الكلام فقال: (نزلت في يومي عيد)، يوم عرفة ويوم جمعة، ومناسبة هذا الحديث لكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة الإشارة إلى أن الله تبارك وتعالى أتم دينه وأكمله، فلم تعتصم بغير الكتاب والسنة؟ أتطلب الهدى خارج الكتاب والسنة؟ والله عز وجل يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3] إذاً لا عذر لك في الخروج عن الكتاب والسنة.

الرد على نفاة القياس

فدلالة الحديث ظاهرة، وفي هذه الآية رد على بعض الطوائف، وإن كان هؤلاء الطوائف تمسكوا بها في الرد على مخالفيهم، والقرآن حمال ذو وجوه، فمثلاً الذين ينكرون القياس تمسكوا بهذه الآية، قالوا: إن الله أكمل دينه وأتم نعمته، وما ترك شيئاً إلا بينه، فلم تلجأون إلى القياس؟ والقياس هو: محض اجتهاد في تحقيق انطباق علة الأصل على الفرع، هذا هو القياس، فعندنا فرع نطلب له حكمه، فننظر في هذا الفرع أله علة؟ فإن وجدنا له علة، ننظر أهذه العلة بكاملها موجودة في أصل محكم، إن كان ذلك كذلك، واشتركا في علة الحكم أعطينا الفرع حكم الأصل.

فمثلاً: الخمر علة التحريم فيه الإسكار، وهو وصف ثابت منضبط، فأي إنسان يسكر تظهر عليه علامات السكر، ولا يقال: إن أناساً يشربون الخمر ولا يسكرون، فعلى هذا يجوز الخمر، وقد رأيت هذا بعيني، لما سافرت إلى أسبانيا سنة (76)، وعملت هناك صحفياً لجريدة مشهورة، وكان القصد منها أن أمارس اللغة، فكنت أجد أي فرد فأتكلم معه حتى أتقن كلامهم فأمسك بيدي دفتراً وقلماً وأعرض لأي رجل في الشارع وأقول له: أنا صحفي وأريد أن أسأل أسئلة عن أسبانيا حتى نعرف المسلمين بها، ومن ثم ندخل في الكلام، فرأيت في هذه الدولة عجباً، قابلت رجلاً عجوزاً شيخاً، فقلت له: أنا صحفي ومن مصر، وأريد أن أعرف أسبانيا أيام الطراز الإسلامي، وأسبانيا أيام فرانكو ، وأسبانيا أيام خوان كارلوس وهو الموجود حالياً، فأول ما سألته عن الإسلام بصق الرجل ومضى، والأندلس هي جنوب أسبانيا وهي الصعيد، فكل بلد فيها صعيد، يعني وجه قبلي ووجه بحري، فالصعيد ليس عندنا فقط، فالمسلمون ما دخلوا إلا صعيد أسبانيا التي هي الأندلس، ووقفوا تقريباً على منتصف أسبانيا من الأسفل، وعندما تذهب إلى هناك ترى فعلاً الآثار الباقية واضح عليها جداً اللمسات الإسلامية، فأول ما قلت للرجل: إسلامي بصق، وحدث نفس الموقف مع رجل آخر، وبصق أيضاً، ومكثت أبحث عن المسجد لأصلي الجمعة قرابة أسبوعين، ولم أعثر عليه حتى وصف لي وصفاً دقيقاً، وكنت متوقعاً أن أجد مسجداً وحيداً في مدريد له منارة وقبة، وظاهر عليه سمت المساجد التي نعرفها، فبحثت في الشارع كله فلم أجد المسجد، فسألت رجلاً: يقولون إن مسجداً في هذا الشارع؟! فبصق وتركني، وظللت أبحث عن المسجد حوالي أربع ساعات إلى أن عرفت أنه في عمارة في أسفلها، تنزل له بسبع أو ثمان درجات، ودخلت فلم أجد مسلماً من جنس أسباني أبداً، وإنما كل الموجودين في المسجد كانوا من الجالية العربية، وكان أغلب هؤلاء من أهل الشام.

فكنت أعمل صحفياً وأسأل الناس عن الأخبار، ومرة سألت رجلاً منهم يقال: إن هناك حي ليس للمسلمين فيه نصيب أبداً، ويقال والله أعلم: بني فيه مسجد، وهو حي من أعتى أحياء أسبانيا وهو حي الجامعة، فبينما كنت أمشي في يوم من الأيام لقيني رجل فعرف أني من مصر فقال كلمة أسبانية تعني: الأحرار، فهو لا يعرفنا إلا بالأحرار، وقال: لا بد أن أدعوك اليوم، وكان معي زميلي في الرحلة، فأخذنا إلى البيت وقال: هذا الخمر القديم أنا لا أنزله إلا للأحباب، وأنزل قارورة سوداء جداً، وصب منها كأساً، قدر عقلة الإصبع، فقلت له: الخمر عندنا حرام ولا يجوز، وأما صاحبي فكان عنده حب استطلاع فأخذها فقال الرجل: لماذا الخمر حرام؟ فقلت: لأنها تسكر، فرفع القارورة وقال: هه، وشرب منها، وأما صاحبي فشرب منها فاضطربت معدته وحصل لها ما حصل، بينما شرب الرجل وأتم معنا الجلسة وذهنه صافٍ وليس هناك إشكال.

فلا تؤثر مثل هذه الصورة على الحكم، لأنه يقال: الشاذ لا يقاس عليه، وإنما يقاس على الأعم الأغلب، يعني مثلاً: النفاس أكثره أربعون يوماً، فلو نفست امرأة مثلاً ثلاثة أشهر فلا يجوز أن نربط حكم النفاس على الثلاثة أشهر لقلة من يستمر معها النفاس ثلاثة أشهر، لكن لما تدبروا في حال النساء وجدوا أن أغلب النساء لا يزدن على أربعين يوماً، فجاز لهم تعليق الحكم بالعادة الغالبة، فالوصف المنضبط في الخمر هو الإسكار، وعلامة الإسكار تظهر على كافة الناس حيث يخرج الإنسان من وقاره ويتكلم بكلام يخلط فيه.

إذاً العلة في تحريم الخمر هي الإسكار، وهذه علة وصفها ثابت ومنضبط، فحيثما وجدنا هذه العلة في أي مشروب آخر فإنه يأخذ حكم الخمر؛ لأن علة الأصل -وهو الحكم السابق بتحريم الخمر في القرآن- تعدت إلى الفرع، وهي وصف ثابت منضبط لا يتغير، فمنكرو القياس قالوا: هذه الآية حجة لنا في نقد القياس؛ لأن القياس محض اجتهاد، وقد يخطئ الرجل في تنزيل العلة من الأصل على الفرع ويقول: هذا حكم الله فيخطئ، ولا يجوز لأحد أن يقول: هذا حكم الله بالاجتهاد، فرد عليهم الأئمة المثبتون للقياس بأدلة كثيرة، أتوا مثلاً ببعض الأحاديث التي استخدم فيها النبي صلى الله عليه وسلم القياس، كما في الحديث الصحيح أن رجلاً أراد أن ينتفي من ولده، حيث التبس عليه أنه أبيض والولد أسود وأمه بيضاء، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هذا ليس ابني!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أليس لك إبل؟ قال: بلى. قال: أليس فيها من أورق؟) يعني: أحياناً يأتي جمل لونه ليس كلون أمه: (قال: نعم. قال: ومم ذاك؟ قال: لعله نزعه عرق، قال: وهذا لعله نزعه عرق) فمن الممكن أن يكون هذا الولد ينزع لجده، أو لجد جده، فيكون أخذ منه شيئاً من بعيد، فكما أن الجمل الأورق نزعه عرق فكذلك الولد نزعه عرق، فهل هذا إلا القياس؟ هذا هو القياس، حيث عدى العلة وهي اختلاف اللون من اختلاف الجمل عن لون أمه، إلى اختلاف لون الولد عن لون أمه وأبيه، أن هذا لعله نزعه عرق وهذا أيضاً لعله نزعه عرق، ثم نقول: إن الأحكام الشرعية تبنى على الظن الغالب، وليس معنى بناء الحكم على الظن الغالب أن نقول: هذا مراد الله، فهذا شيء وهذا شيء، وإلا فنقول لنفاة القياس: أنتم تفسرون الآية الواحدة بعدة تفسيرات، فهل تستطيع أن تجزم أن أي تفسير منها هو مراد الله؟ لا نستطيع الجزم، وهذا قرآن، فهل يبطل تفسير القرآن؛ ونقول: لا يجوز لنا أن نفسر القرآن وكلام الله عز وجل؛ لأنه قد يكون هذا التفسير ليس بمراد لله تعالى؟ لا، ولا نقول: هذا حكم الله، ولكن نقول: هذا هو حكم الشرع فيما ظهر لنا، وهذا سائغ.

وإذا كانت الأحكام تبنى على الظن الغالب فلا يجوز التمسك بهذه الآية في نفي القياس؛ لأن القياس راجع إلى حكم الشريعة، ألم نقل قبل: إن القياس هو تعدية علة أصل إلى فرع، وهذا الأصل هو كلام الله عز وجل، فإذا حددت العلة ونقلتها بشروطها، فأنا في تعديتي العلة من الأصل إلى الفرع لم أخرج عن حكم الله، ولم أخرج عن كلام الله عز وجل، فالقياس في حقيقته راجع إلى كلام الله عز وجل وإلى كلام رسوله صلى الله عليه وسلم.

الرد على الرافضة في دعوى النص على علي رضي الله عنه

وفي هذه الآية أيضاً رد على الروافض الذين يقولون: إن إمامة علي رضي الله عنه كانت بنص جلي في كتاب الله عز وجل والصحابة كتموه، ويقولون: إن الله سبحانه وتعالى نص على إمامة علي بن أبي طالب بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، فنقول: سلمنا معكم أن الصحابة بدلوا وغيروا، أغلبوا الله عز وجل حتى غلب تبديلهم على نصه، وهو يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3]، المفروض أن الله غالب على أمره، ولو أنهم أرادوا تحريفاً فلا يستطيعون ذلك أبداً، إذ الله غالب على أمره فأكمل دينه وأتم نعمته، فكان المفروض أن هذا النص يظهر على تحريف المحرفين، أما إذا لم يظهر هذا النص على تحريف المحرفين فهذه الآية حجة على الروافض، حيث أن الله تبارك وتعالى لم يذكر نصاً جلياً في إمامة علي ، بل النص الذي يكاد يكون جلياً بل هو جلي في إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فالرسول عليه الصلاة والسلام دخل مرة على عائشة رضي الله عنها فوجدها تقول: (وارأساه! -يعني: عندها صداع- فقال لها: بل أنا وارأساه! ما ضرك لو مت قبلي فصليت عليك ودفنتك، فقالت عائشة : والله! إني لأرى أنك تحب موتي، ولو كان ذلك لما بت إلا معرساً ببعض نسائك) يعني سوف تنساني، وسوف تبيت ليلة جميلة مع أي امرأة من نسائك، وسوف تنسى عائشة تماماً: (فقال لها: ادع لي عبد الرحمن لأكتب كتاباً، لعل قائلاً يقول أو متمنياً يتمنى فينازع أبا بكر ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)، واستخلاف الرسول عليه الصلاة والسلام لـأبي بكر في الصلاة دليل واضح جداً، وقول الله عز وجل: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة:40] دليل واضح جداً، وأيضاً قال الرسول عليه الصلاة والسلام للمرأة التي قالت له: (إن جئت فلم أجدك فمن أسأل؟ قال أبا بكر)، والنصوص الجلية الظاهرة تنص على إمامة أبي بكر الصديق ، وحتى لما تخلف علي بن أبي طالب عن بيعة أبي بكر وأراد أبو بكر أن يذهب إليه قال له علي : (ائتنا العشية وحدك، فقال عمر : تذهب إليهم وحدك؟ والله لا يكون، لأذهبن معك) وعللت هذا عائشة في صحيح مسلم فقالت: (وكره علي محضر عمر )؛ لأن عمر شديد، ويمكن أن يوجه له كلاماً شديداً، كما قال عمر لـسعد بن عبادة مع جلالة سعد وجلالة منصبه عندما بويع لـأبي بكر قال قائل: (قتلتم سعداً ) فقال عمر: (قتله الله!) فكره علي أن يحضر عمر ، وأراد أن ينفرد بـأبي بكر ، فقال عمر : (لا تأتيهم وحدك)، فقال أبو بكر : (والله لآتينهم وحدي، ما عساهم أن يفعلوا بي؟!) فدخل أبو بكر على علي ، فتشهد علي وتكلم وأثنى على أبي بكر وقال: (إنا ...... عليك ما أعطاك الله عز وجل، لكنا رأينا أنك استبلغت بالأمر دوننا)، وجعل يتكلم عن قرابته ومنهم الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى فاضت عينا أبي بكر لما ذكرت القرابة وقال: (والذي نفسي بيده لأن أصل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من أصل قرابتي) وجعل يتكلم ويقول: (إني لم آلو أن أفعل في هذا الأمر ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم).

فبايع علي أبا بكر الصديق ، وكان إلى المسلمين أقرب منه إليهم قبل أن يبايع أبا بكر رضي الله عنه، فأين النص والدليل على إمامة علي بن أبي طالب وأن المسلمين أخفوها؟ فهذه الآية أيضاً حجة قاهرة على هؤلاء الروافض، إذ لو جاز للصحابة أن يبدلوا لما جاز أن يظهر تبديلهم على كلام الله عز وجل القائل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] وقبل هذه الآية قال الله عز وجل: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ [المائدة:3].

يأس الكفار من المسلمين ومراوغتهم في حربهم

وهذا الشطر من الآية مقدم على الآية التي وضعها الإمام البخاري وفيها بشارة، يعني: اليوم يئس الذين كفروا من دينكم بتمام الدين، فديننا تام، والذين كفروا يئسوا من النصر عليه، ولذلك تجدهم الآن فقهاء في حربنا، ويعملون بالمقالة القائلة: إن المجاهد يغير موقعه ولا يغير عقيدته، فإذا نظرت مثلاً لإسرائيل وعدد سكانها ثلاثة أو أربعة ملايين، وقهروا مائة وأربعين مليوناً؛ لأنهم يغيرون مواقعهم، فمن حوالي عشرين سنة كان لا يمكن أن نتصور في يوم من الأيام أن يكون بيننا وبين إسرائيل صلح، وهو يضع يده في يدك، ثم ينتصر بعد ذلك، فهم أربعة ملايين لكنهم أذكياء، مع أنهم في وسط دول مواجهة، ولو زحفت عليهم هذه الكتلة البشرية زحفاً لأكلوهم كلهم، لكن هؤلاء عندهم ترغيب وترهيب وتحرير مناطق النفوذ ومناطق القوى، وطريقة استخدام القوى.

فـإسحاق رابين يبني المستوطنات، ويطلق على المصلين النار وهم سجود دون أي اهتمام، وعندما دخلنا مرحلة جديدة وهي مرحلة السلام والاستسلام قالوا: نريد أن نثبت حسن النية، فإذاً نراوغ ونقول: إن السلام يقتضي أن يكون هناك احترام، يظهر هذا في الجامعات عندنا، وكذلك في الجامعات عندكم، وممكن نعمل اتصالات ... إلخ، ويفكرون الآن في شبكة كهرباء للوطن العربي كله، ومفتاحها يكون عند من؟ عند هذا اليهودي، والله عز وجل أنزل آيات محكمات في الكتاب المجيد أن هؤلاء لا دين لهم ولا ولاء، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] .. كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة:8] لو ظهر عليك لا يمكن أن يتركك، وهذا كلام الله عز وجل، فإذا اتبعنا القرآن والسنة واعتصمنا بهما، ييئس الذين كفروا من ديننا، كما قال تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ [المائدة:3]؛ لأن فيهما الجلاء والتوضيح والبرهان.

الرد على المقلدة

وهذه الآية أيضاً فيها رد على المقلدة الذين يدعون الكتاب والسنة ويأخذون بأقوال أئمتهم المخالفة للكتاب والسنة.

وقد أطال صديق حسن خان في الرد عليهم حتى يكاد الواقف على كلامه يظن أنه ينفي القياس، من شدة رده على المقلدة، فوضع البخاري هذا الحديث في أول كتاب الاعتصام، أراد به أن يقول : إذا تم الدين وكملت النعمة ولم يترك الله تبارك وتعالى دقيقاً ولا جليلاً إلا بينه لعباده، وكذلك الرسول عليه الصلاة والسلام بيَّن القرآن، فلا معنى للخروج عن الكتاب والسنة واستيراد أحكام من الخارج.

بطلان الحكم بغير ما أنزل الله

وليت الذين حكَّموا فينا القانون الوضعي أو القانون الفرنسي نظروا في هذه الآية، فنحن جميعاً محكومون بغير ما أنزل الله، إلا في قانون الأحوال الشخصية، والآن يبدلونه، بدلوه أولاً بأن جعلوا البيت للمرأة، وأن الرجل إذا أراد أن يتزوج لا بد من موافقة الزوجة الأولى، وهذا القرار كم من بيوت هدمت بسببه، وصارت المرأة هي الرجل، وصارت تهدد الرجل، فالرجل الأبي الذي تجري دماء الرجولة في عروقه لا يستطيع أن يعيش مع هذه المرأة فيطلقها، وأول ما يطلقها تأخذ منه البيت، ولذلك يصبر الرجل على الذل والمر لأجل البيت، وخربت بيوت، ثم جاء مؤتمر السكان وضرب ضربات قاتلة، وقام العلماء جميعاً -وطبعاً الدولة لا تحترم العلماء، ولا تحترم وجهة نظرهم- وقالوا: لا نحن غير ملزمين بقرار مؤتمر السكان، لماذا غير ملزمين وأنتم الدولة المضيفة؟ والدولة المضيفة المفروض أنها أول دولة تحترم توصيات المؤتمر المقام على أرضها، فقالوا: هذه القضية غير ممكنة الآن، لكن يمكن بعد ثلاثين سنة أن نبدأ في تنفيذ هذا القرار، ويصاغ على هيئة قانون.

ثم جاء المؤتمر الذي أقيم في الصين في مسألة الزواج والطلاق، وقام العلماء قومة رجل واحد، فقانون الأحوال الشخصية فيه إعواز بسبب اعتماده على مذهب أبي حنيفة وحده، ومن المفروض أن المسألة لا تقتصر على مذهب واحد، فمثلاً في مذهب الأحناف إذا غاب الرجل بأن سافر لأجل أن يأتي بمال وغاب سنة أو سنتين أو أربع أو عشر أو عشرين سنة ليس للزوجة أن تطلب الطلاق، ولا أن ترفع أمرها للقاضي، فإن لم تجد حلاً تصبر، وأما في المذهب المالكي إذا يئسنا من رجوع الرجل بسبب غيابه جاز للمرأة أن تطلب الطلاق، إذ أنه إذا كان يعمل بالظن الغالب في الأحكام الشرعية أفلا يعمل بالظن الغالب في مثل هذه الأمور العادية؟ فتصبر المرأة وتظل معلقة مدى الحياة، فلماذا لا يدخلون مذهب مالك في هذه المسألة؟ خاصة أن مذهب الأحناف مخالف للدليل في بعض المسائل.

ثم بأي عقل أيها الإخوة! الكرام في بلد الإسلام يقال: إن حالة الزنا تسقط إذا رضي الزوج، وهذا الحكم بمنتهى الجلاء واضح في كتاب الله عز وجل، وبأي عقل يقال: يجوز للمرأة أن تزني إذا رأت زوجها يزني، والجروح قصاص!! أيجوز هذا الكلام في ديار الإسلام وعندنا قرآن وسنة، والأحكام واضحة جداً وجلية؟

ويأتي رجل بلغ من الكبر عتياً، صاحب (عودة الروح)، (وعصا الحكيم) (وحمار الحكيم)، كان سنه ثلاثاً وثمانين سنة يوم أن قال هذا الكلام في الأهرام، عندما عاد من باريس واستقبلوه في المطار فسألوه: ماذا أعجبك في باريس؟ فلم يقل البيجو أو شيء من هذه الأشياء، وإنما قال لهم: أعجبني في باريس الزواج الجماعي، يعني: تبديل الزوجات، كل رجل يعطي زوجته للآخر، هذا الذي أعجب ابن ثلاث وثمانين سنة.

والآن تعرفون فرج فودة الذي أهلكه الله عز وجل وقلعه في ليلة مباركة، بدأت الآن تسن قوانين لضرب الإرهاب من كتب فرج فودة:

بأيمانهم نوران: ذكـر وسنـة فما بالهم في حالك الظلمات

وضرب شركات توظيف الأموال هذه تمت بفعل فاعل، هذه الشركات كانت مباركة عمل فيها ألوف العاطلين، وفتحت أبواب الرزق على آلاف الأسر، وكان الرجل الذي يذهب للعمل فيها يأخذ خمسائة وستمائة وسبعمائة إلى ألف جنيه، وأحدث هذا حالة ازدهار وانتعاش، وبدأت تحويلات المصريين في الخارج تأتي، حتى صار رأس مال واحد مثل أحمد الريان وإخوانه في نحو ثلاث سنوات ثلاثة مليارات وواحد من عشرة، فقالوا: هؤلاء سيتمكنون بالمال ويلعبون بكم كما يلعب اليهود برئيس أمريكا، فهم الذين يتحكمون بالرئيس في الترشيحات، والملاحظ أن كل الشركات كان عليها سمت الإسلام، وكان معهم مليارات، وبعضهم استعد لدفع الديون التي على البلد، فهذه الشركات ضربت بفعل فاعل، وألصقوا بهم التهم وقالوا: إنهم كانوا يضحكون على المودعين ويعطونهم أرباحاً من رأس المال، ولو أتيت بـأبي جهل وأعطيته هذه الشركة لا يمكن أن يعطي المودعين من رأس المال، بدليل أنهم عندما ظهرت هذه الفرية قالوا: لو أن كل المساهمين أرادوا أن يأخذوا رءوس أموالهم ما عليهم إلا أن يأتوا، وكل هذا بسبب أننا نحكم بغير ما أنزل الله تبارك وتعالى، وهو مهيمن ومسيطر وكامل.

وليس هناك حكم لغيره سبحانه وتعالى إلا تجد له نص: إما خاص، وإما يندرج تحت عنوان.

فإذاً: الاعتصام بالكتاب والسنة هو النجاة؛ لأن الله عز وجل ضمن لنا هذا الكمال، وضمن لنا تمام النعمة إذا صدقنا الكتاب والسنة، إذاً: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ [المائدة:3].

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , والله غالب على أمره للشيخ : أبو إسحاق الحويني

https://audio.islamweb.net