اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , قيام الليل للشيخ : إبراهيم الفارس
أما بعد:
قبل أن أتناول موضوع هذه الصفحات أحب أن أقف وقفات ثلاثاً:
أما الوقفة الأولى: فهي وقفة موجزة مختصرة مع الحديث العظيم الذي تعد هذه الوريقات جزءاً من فقراته، فقد اشترط الحديث العظيم لدخول الجنة نقاطاً أربعاً، وتمثل هذه النقاط الأربع تنظيماً كلياً للمجتمع، ولا عجب فإن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم، فعندما بين هذا في النقاط الأربع بين فيه ترابط المجتمع في التربية الذاتية، وتربية الروح وترويض النفس لقيام الليل، والتآلف والتكاتف الاقتصادي، وعدم التعالي والتكبر، ونبذ الطبقية بإطعام الطعام، والألفة الاجتماعية الخاصة بصلة الأرحام، ثم الألفة الاجتماعية العامة بإفشاء السلام، فلو تحقق ذلك فينا لوجدنا ترابطاً عجيباً في المجتمع، ولكننا وللأسف الشديد نجافي كل هذه الأمور الأربع؛ فلذلك نجد أن التفكك موجود داخل المجتمع وبكل وضوح، وعدم تطبيق هذه النقاط سبب من أسباب هذه الفرقة.
أما الوقفة الثانية: فإن البعض يشير إلى أن سبب زهد الناس في قيام الليل هو قلة المبادرة إلى صلاة الفجر، تقول بنت موشي دايان في مذكرات والدها الذي كان وزيراً للدفاع أو للحرب الإسرائيلية عام 67م، والذي قاد الجيوش اليهودية في الحرب ونجح في احتلال سيناء والجولان والضفة الغربية والقدس، تقول عنه: إن والدي بعد دخوله للقدس ذهب في جولة تفقدية ومعه أركان حربه، فرأى مجموعة من الشبيبة الفلسطينيين جلوساً يدخنون، فعندما رأوا هذا الرجل -وكان مميزاً فقد كان أعور، وكان يلبس غطاءً أسود على عينه- ثاروا في وجهه وقالوا: سنحرر فلسطين وسنطردكم أيها اليهود، وسنقضي عليكم، فابتسم ابتسامة الشامخ، وكان يجيد اللغة العربية أكثر من أهلها، فقال لهم: نعم. إنكم ستدمروننا وستقضون علينا وستطردوننا، ولكن أتدري متى يا فتى؟ فقال هذا الشاب: لا؛ لأنه لا يعلم، فقال موشي دايان عبارة ربما كثير من خطباء المسلمين ومحاضريهم قد لا يأتي بها، ومع أن هذه عبارة أخذت من مجرم لكن فيها بيان عجيب، يقول: إذا كنتم في صلاة الفجر كأنكم في صلاة الجمعة.
إنها أربع كلمات لكن لها دلالتها، فنحن في صلاة الجمعة نذهب إليها مبكرين نشطاء متذللين جميعاً صغاراً وكباراً، ونحن في شوق واستعداد تام، فلو انطبق هذا الأمر على صلاة الفجر فلا شك أنه سيكون قد تمكن الإيمان منا، وبالتالي سنستطيع أن ندحر هذا العدو اليهودي الرابض على أرضنا.
أما الوقفة الثالثة بين يدي هذا الموضوع، فيقول الشاعر:
امنع جفونك أن تذوق مناما وذر الدموع على الخدود سجاما
واعلم بأنك ميت ومحاسب يا من على سخط الجليل أقاما
لله قوم أخلصوا في حبه فرضى بهم واختصهم خداما
قوم إذا جن الظلام عليهمباتوا هنالك سجداً وقياما
خمص البطون من التعفف ضمراً لا يعرفون سوى الحلال طعاما
يقول أحد السلف وهو ينظر إلى الشمس ويخاطبها: أيتها الشمس لقد أطلت المكوث، أما آن لك أن تتواري، ألا فلتغربي!
فهو يريد أن يأتي الظلام حتى يصف قدميه بين يدي رب العالمين، فيعيش لذة لا يعلم مداها ولا يشعر بحلاوتها إلا من عاشها.
أيها الأحبة! لقد وصف الله سبحانه وتعالى عباده المتقين فقال جل وعلا: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ [الذاريات:15-16] أي: في دار الدنيا، ثم بين سبحانه وتعالى إحسانهم في العمل فقال: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18]، فهم يحيون الليل بالعبادة فلا تراهم إلا مستيقظين حين ينام الناس، ومنتبهين حين يغفل الناس، فترى نور الطاعة على وجوههم.
قيل للحسن البصري -رحمه الله- التابعي الجليل: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره.
ولما بين لنا الباري سبحانه وتعالى جملة من أوصاف عباد الرحمن كان من هذه الأوصاف التي نتلوها ونسمعها وتقرأ علينا: أنهم تميزوا عن غيرهم بأنهم يمضون ليلهم في قيام وسجود حباً في الملك المعبود، يقول الباري سبحانه: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان:64].
ويقول الحق تبارك وتعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9].
يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة فليره الله في ظلمة الليل ساجداً وقائماً؛ يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه.
الله أكبر إنها سلعة تريد شيئاً يقدم بدلاً عنه لتنال ما وعد الله سبحانه وتعالى.
وقد ذكر الباري سبحانه وتعالى في كتابه العزيز هذه العبادة الجليلة ثم أعقبها بالجزاء الأوفى، فقال جل ذكره وتعالى في صفاته: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16].
ثم عقب سبحانه بقوله: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17].
فكما أنهم أخفوا العمل الذي يقومون به سواءً كان هذا العمل قياماً أو نفقة، واستتروا بجنح الظلام، فأخفى أحدهم ما ينفق فلا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، أخفى الله سبحانه وتعالى لهم الأجر في الآخرة، فلهم من الكريم الوهاب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها وهي توصي عبد الله بن أبي موسى النصري: لا تدع قيام الليل؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعداً.
فلو أراد أحد منا أن يحصي كم عقدة لم تنحل طوال لياليه السابقة ما أظنه إلا سيحتاج إلى رقم كبير؛ لأن غالب العقد عندنا لا نحلها، بل يعقدها الشيطان ثلاثاً ونستيقظ وهي ثلاث، يقول صلى الله عليه وسلم: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، ويضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان).
فكم منا من يقوم خبيث النفس كسلان، وكم منا من يقوم وهو كما يقال: نفسه في طرف أنفه، وما ذاك إلا لأننا لا نقوم الليل؛ ولأننا لا نهتم بهذا الأمر، بل حتى عقدة واحدة نعجز عن حلها، فبدلاً من أن يستيقظ أحدنا في الساعة الرابعة أو الثالثة ثم إذا سمع جرس ساعته أطفأه وقال: لا إله إلا الله، فتنفك عقدة واحدة، وإنما تجده يتلفظ بغير الذكر ويكسل عن حل هذه العقدة.
فماذا لو فعلت امرأتك بك كذلك؟ لا شك أنك لغضبك وحنقك عليها قد ترميها بالطلاق.
أما المرتبة الأولى: فهم الذين يأنسون بالله في الظاهر وفي الخلوة، أي: يأنسون به في ظاهر الأمر مع أهليهم وأولادهم وزملائهم، في أسواقهم وكلياتهم وأعمالهم، همهم الإسلام والدعوة إلى الله، همهم نشر الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم كذلك إذا اختلوا، فإنهم يتمنون هذه الخلوة، فإذا سنحت لأحدهم أغلق على نفسه الباب، ثم وقف بين يدي الله سبحانه وتعالى متفكراً.. منادياً.. داعياً.. مصلياً.. ذاكراً.. قارئاً للقرآن، كل ذلك على انفراد؛ لأنه يشعر أن هذا السلوك تربية تمنحه طاقة هائلة، ودافعاً قوياً لمواصلة مشوار النهار.
وهذه الحالة من الأنس بالله في الليل وفي النهار، في الظاهر وفي الخلوة لا يطيقها إلا الأنبياء والصالحون والصديقون ومن سار على منهجهم واهتدى بهداهم.
وأما المرتبة الثانية: فهم الذين لا يأنسون بالله إلا في الظاهر وأما في الخلوة فلا، ولعل هذا -تجاوزاً- ينطبق علينا أو على بعض منا، فنجد أن ثلث أوقاتنا استماع لمحاضرة أو إلقاء لدرس، أو مشاركة في ندوة، أو جلسة دعوية، أو جلسة مذاكرة، أو حلقة للقرآن، لكن ليس كل الوقت، بل لو طالت المحاضرة قليلاً لأصيب الناس بالتضايق، ولو طال الدرس قليلاً لتململ الإنسان، فإذا كانت جلسة مرح أو لعب أو لهو فإنها مهما طالت فستكون قصيرة، ومهما امتدت فسنقول: ما أسرع دقائقها، أما خلوتنا فالله المستعان، فتجد أن كثيراً من الناس إذا اختلى بكتاب فإنه يقرؤه أي كتاب كان، أما القرآن فلا يطلع عليه إلا نادراً، وإن حدثت منه الخلوة مع الله ذكراً وتفكراً وقياماً وصلاة وغير ذلك فلا تكون إلا على عجل.
وأما الصنف الثالث: فهم الذين يأنسون بالله في الخلوة دون الظاهر، ولعل هذا كذلك -تجاوزاً- ينطبق على بعض الكبار من السن الذين يحرصون على أداء الصلاة مبكرين، فهم يدخلون أول الناس ويخرجون آخر الناس، ويختمون في كل ثلاث أو في كل سبع وربما في كل نصف شهر، وإذا جلسوا ذكروا الله سبحانه وتعالى إن كانوا لوحدهم، لكن في مجالسهم مع أترابهم، ومن يشابههم تجد أن هم الإسلام في قلوبهم وعقلوهم، وذكره على ألسنتهم ضعيف.
أما الصنف الرابع: فهم الذين لا يأنسون بالله لا في الظاهر ولا في الخلوة، وهؤلاء لا يقال عنهم: إنهم فسقة، أو ضائعين، أو منحرفين، بل قد يكونون من أفضل الناس، لكن روتين الحياة العامة يجعله متنقلاً من عمله إلى منزله فيجد أولاده بانتظاره ليتناولوا وجبة الغداء، ثم يرتاح قليلاً، ثم يصلي صلاته، ثم يرجع إلى بيته، ويشرب شيئاً من الشاي مع أهله، ثم يذهب إلى زيارة أهله أو أقربائه بعد المغرب، ثم يرجع إلى بيته ويقرأ جريدة أو مجلة أو غير ذلك، ثم يسمر مع زوجته، ثم ينام انتظاراً لدوام الغد، فهو لم يفعل منكراً بيناً، ولم يفعل خطيئة ظاهرة، ومع ذلك فهو محروم من الأنس بالله.
فسل نفسك أيها الحبيب في أي مرتبة أنت، ثم بعد ذلك اجعل لنفسك همة عالية ترتقي بها إلى المرتبة الأعلى، واجعل المرتبة الأولى التي هي مرتبة الأنبياء والمرسلين هي همتك، فأولئك الذين يأنسون بالله في الظاهر وفي الخلوة.
فأجيب عليه: بأن هناك من سار على نهج المصطفى عليه السلام وطبق ذات المنهج الذي دعا إليه وانتهجه، فهذا عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما كان إذا قام في الصلاة كأنه عود من شدة الخشوع، وكان يسجد فتنزل العصافير على ظهره لا تحسبه إلا جذع حائط.
وصلى يوماً في الحجر فجاءه حجر كبير من منجنيق، وذلك أثناء حصار الحجاج الثقفي لمكة أيام عبد الملك بن مروان، فذهب الحجر ببعض ثوبه وأصاب شيئاً من بدنه، ومع ذلك لم يتحرك في صلاته، وما ذاك إلا لشدة خشوعه بين يدي ربه سبحانه، ويذكر من ترجم له في أمر صلاته وقيامه الليل شيئاً عجيباً، فيقولون: كان يقوم الليل بتسليمة واحدة، لا تحس فيها بأي حركة! ولا عجب فإنه يستشعر لذة وسعادة المحروم من حرمها.
وكان منصور بن المعتمر إذا ادلهم الليل وبسط جناحه المظلم على البيوت يصلي في سطح بيته، فلما مات قال غلام صغير يسكن في البيت المجاور لبيت منصور بن المعتمر: يا أماه! الجذع الذي كان على سطح آل فلان لست أراه الآن، فقد كان يظنه جذعاً واقفاً طوال الليل لا يتغير، فقالت أمه باكية متأثرة: يا بني! ليس ذلك والله بجذع، إنما ذلك منصور وقد مات. فقد كان رحمه الله يقوم قياماً طويلاً حتى تخيله هذا الطفل هذا التخيل العجيب.
وكان رياح بن عمرو القيسي من التابعين الذين تميزوا بالثقة والعبادة والصلاة، وقد خطب امرأة اسمها: ذؤابة ، وكانت امرأة عابدة صالحة، وعندما تزوج بها أراد أن يختبرها في أول ليلة تجمعهما، فلما أخذها إلى بيته وجاء الصباح رآها تعجن العجين، والمعلوم أن العروس لا تعجن العجين في العرس أو بعده بقليل، بل الأصل أن يأتي لها بأحد يعينها أو بأكل جاهز على الأقل في أول ليلة، فلما رآها تعجن العجين قال لها: يا ذؤابة ، هل أحضر لك أمة؟ فقالت له: أنا يا رياح تزوجت رياحاً -رجلاً عابداً زاهداً متواضعاً- ولم أتزوج جباراً عنيداً، يأتي بإماء وخادمات، كما هو حادث هذه الأيام، فنجحت في الاختبار الأول، فلما جاء الليل تناوم رياح والأصل أنه يقوم كعادته، ولكن لابد أن يتحقق النتيجة لهذا الاختبار، فقامت ذؤابة تصلي ربع الليل الأول، فقالت: يا رياح ، قم فصل، فقال: أقوم إن شاء الله وتناوم، فواصلت ذؤابة القيام إلى الربع الثاني ثم نادت: قم يا رياح ! فقد انتصف الليل، فأجابها: أقوم إن شاء الله وواصل تناومه، وهكذا في الربع الثالث، حتى لم يبق إلا ربع فنادت: قم يا رياح ! لم يبق إلا القليل. فقال كمقالته السابقة، ولما اقترب الربع الأخير من الرحيل واقترب معه ظهور الفجر قالت: يا رياح قم، فقال: أقوم إن شاء الله، فقالت له: يا رياح ! لقد عسكر المعسكرون، وفاز المحسنون، يا ليت شعري! من غرني بك. وكأن ما وقع لها من زواجها به مصيبة حلت عليها أو مشكلة ألمت بها؛ لأنها رأت رجلاً نواماً وهي تريد رجلاً قواماً، وقد حسبت أن زواجها من رياح كان غرراً، وبذلك نجحت في الامتحان الذي أعده لها رياح .
وكان الداراني رحمه الله يملك أمة فباعها؛ لأنه احتاج إلى مال، وعندما نزلت في منزل من اشتراها وانتصف الليل قامت هذه الأمة بإيقاظ أهل البيت: قوموا، قوموا إلى الصلاة، فقالوا لها: هل ظهر الصبح؟ قالت: لا، لم يظهر الصبح بعد، قالوا لها: فلماذا توقظينا؟ قالت: قوموا صلوا الليل. قالوا: نحن لا نقوم إلا لصلاة الفجر. قالت: أعوذ بالله وهل هناك أناس لا يصلون الليل! -وهي في ذاك الزمان فكيف لو جاءت هذه الأمة في وقتنا هذا- فقالت: والله لا أبقى عندكم، فرجعت إلى الداراني وقالت: إنك بعتني إلى أناس سوء -لأنهم لا يصلون الليل- فردني جزاك الله خيراً، فردها.
ويقول الداراني رحمه الله تعالى: والله لولا قيام الليل ما أحسست بطعم الدنيا، والله إن أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، وإنه لتمر بالقلب ساعات يرقص فيها طرباً بذكر بالله سبحانه وتعالى.
وفي هذه العبارة من الجمال والروعة ما ينبغي للمرء أن يستحضرها دوماً، ثم يقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه من النعيم إنهم لفي نعيم عظيم. وذلك مما يجدونه من لذة المناجاة، ولذلك ذكر عن بعض السلف أنه كان يكثر من الدعاء: اللهم لا تحرمني اللذتين: لذة المناجاة في الدنيا، ولذة النظر إلى وجهك الكريم في الآخرة.
اللهم لا تحرمنا اللذتين، اللهم ارزقنا لذة مناجاتك في الدنيا قائمين وقاعدين ومضطجعين، ولا تحرمنا يا ربنا لذة النظر إلى وجهك الكريم.
أيها الأحبة! كان الشيرازي أحد العباد الزهاد، وكان إذا جاء الليل يقوم ويناجي ربه قائلاً:
لبست ثوب الرجا والناس قد رقدواوقمت أشكو إلى مولاي ما أجد
وقلت يا عدتي في كل نائبة ومن عليه بكشف الضر أعتمد
أشكو إليك أموراً أنت تعلمها ما لي على حملها صبر ولا جلد
وقد مددت يدي بالذل مفتقراً إليك يا خير من مدت إليه يد
فلا تردنها يا رب خائبة فبحر جودك يروي كل من يرد
ويظل يردد هذه الأبيات ويبكي حتى يطلع الفجر.
إنه ارتباط بالله سبحانه وتعالى وثيق وتربية رائدة، ولذلك فكل من ربى نفسه على قيام الليل فإنه في النهار يشعر بنشوة ولذة تمتد معه طوال النهار، فإذا جاء الليل قام ليأخذ زاداً مرة أخرى، فيقوم وهو نشيط، صحيح البدن، صحيح الفكر، صحيح القلب من أثر تلك المناجاة وذلك القيام، فمن لنا بهذه الصحة التي فقدناها منذ أمد بعيد؟
وفي صحيح مسلم أن المصطفى عليه السلام قال: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل).
وأحب أن أشير هنا إلى نقطة هامة يركز عليها العلماء كثيراً وهي أن قيام الليل مجاهدة للنفس، وهي بحق كذلك؛ لأن الجنة حفت بالمكاره، والنار حفت بالشهوات، فقيام الليل مجاهدة، ولذلك تجد أن كثيراً من السلف يقول: جاهدت نفسي سنيناً طوالاً فتلذذت في آخر الأمر بقيام الليل، فالأمر إذاً مجاهدة وبذل في أول الأمر، ثم بعد ذلك يتمتع الإنسان في آخره، ومثل ذلك مثل البناء، فإن الإنسان إذا أراد أن يبني سكناً أو متجراً وهو لا يملك إلا خطة غير ممولة للبناء فإنه ولا بد سيقوم بالضغط على النفس ويعمل دأباً في الليل والنهار حتى يتم البناء، ثم يتمتع بالسكن فيه إن كان أراده للسكن، وهذا فيما يتعلق بالمادة، وكذلك فيما يتعلق بتربية الروح، فقيام الليل إذاً: مجاهدة للنفس، وتقوية للإرادة، وشحذ للعزيمة، ومغالبة للشيطان، وترغيباً للجسد، ومقاومة لرغبات الهوى ونزغاته.
أيها الأخ الحبيب المبارك! والناس نيام فيه تجرد، وفيه إخلاص لله سبحانه وتعالى، وتخلية للقلب عن أي أثر من آثار الرياء؛ لأن الغالب في الليل أنه لا أحد يراك من البشر، ولا يستمع إليك، ولا يرى فعلك، فيكون في ذلك صفاء للقلب، وحياة للروح.
قم في ظلام الليل وادع مهيمناً يداك إليه في الدجى تتوسل
وقل يا عظيم العفو لا تقطع الرجا فأنت المنى يا غايتي والمؤمل
أول فائدة من هذه الفوائد: أن العبد إذا قام من الليل وصف قدميه لمولاه عابداً خاشعاً سهل الله عليه سبحانه وتعالى القيام يوم يقوم الناس لرب العالمين، ومن استراح هنا تعب هناك، والجزاء من جنس العمل، فمن استراح في الدنيا سيتعب هناك والعكس صحيح، فمن أتعب نفسه في الدنيا فإنه سيجد الثمرة يوم القيامة، وليس المراد أتعب نفسه في شقاء الدنيا وتعبها، أو في جمع المال بطرقه المشروعة وغير المشروعة، بل أتعب نفسه وأجهد قلبه، وأجهد جسده في طاعة مولاه فإنه سيقطف ثمار عمله يانعة يوم القيامة.
الفائدة الثانية: أن من أكثر من قيام الليل من الرجال بالذات فإن الله سبحانه وتعالى سيزوجه من الحور العين تعويضاً له عن ترك الفراش الوثير، والزوجة الحسناء لأجل التعبد لرب الأرض والسماء.
الفائدة الثالثة: صحة جسم القائم لله سبحانه وتعالى، وصفاء روحه وبهاء وجهه، وقد مر بنا قول القائل للحسن البصري : ما بال الذين يتهجدون أحسن الناس وجوهاً؟ فقال: لأنهم خلوا بربهم فألبسهم نوراً من ونوره.
الفائدة الرابعة: أن الفتوحات الربانية، والتوفيقات الإلهية، والإلهامات الجلية تتم بفضل قيام الليل، يقول الباري سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
وكم من عالم استغلق على فهمه مسألة فقام يناجي ربه في جوف الليل البهيم ففتح الله عليه، ويسر له ما كان معسراً من قبل، ولذلك يقول السبكي رحمه الله: الفوائد ترد في ظلمات الليل.
وقد علمنا من خلال قراءتنا لسيرة الإمام البخاري رضي الله تعالى عنه، أنه كان يقوم في الليل أكثر من عشرين مرة، فيوقد السراج ثم يكتب المسألة، ثم ينام، ثم يقوم فيوقد السراج ويكتب المسألة، فكان حين ينام يتفكر ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يسلم ويكتب مسألة إلى أن أخرج لنا هذا السفر العظيم الذي تلقته الأمة بالقبول منذ ظهر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
الفائدة الخامسة: أن الله سبحانه وتعالى يمتع القائمين برؤية وجهه الكريم يوم القيامة، فكما أنهم تلذذوا بمناجاته في الدنيا فسيكمل لهم الباري سبحانه هذه اللذة برؤية وجهه الكريم يوم القيامة، وهي الزيادة التي وعد بها في قوله سبحانه وتعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26].
أيها الحبيب المبارك! إن الليل موطن تَنَزلُ الرحمات، ونزول رب الأرض والسموات، فعليك باغتنامه بالطاعات، والإكثار من القربات، يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟).
ويقول المصطفى عليه السلام: (إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه، وذلك كل ليلة)، ففي كل ليلة ساعة استجابة من أدركها أدرك خيري الدنيا والآخرة، لكنا عن ذاك غافلون، وفي هذه الساعة مفرطون.
والجواب: أن هناك وسائل كثيرة وعديدة تعين على قيام الليل، يقسمها العلماء إلى قسمين:
القسم الأول من هذه الأمور: الأمور الظاهرة.
والقسم الثاني: الأمور الباطنة.
ومعلوم أن قيام الليل فيه مشقة على الإنسان، كما قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:6].
إلا أن دراسة هذه الوسائل التي تعين على قيام الليل والأخذ بها سوف ييسر على الإنسان قيام الليل، فنبدأ أولاً بالأسباب الظاهرة المملوكة المحسوسة:
السبب الأول: ألا يكثر العبد من الأكل والشرب في المساء فيغلبه النوم، ويصعب عليه القيام، وقد قيل: لا تأكل كثيراً، فتشرب كثيراً، فتنام كثيراً، فتخسر كثيراً، وقال لقمان لابنه وهو ينصحه: يا بني! إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وقعدت الأعضاء عن العبادة.
وقد قيل: إن أردت أن يصح جسمك، ويقل نومك: فأقلل من الأكل.
ما حالنا اليوم؟ حالنا اليوم جميعاً في المرتبة الثالثة، بل وربما المرتبة الرابعة وربما المرتبة الخامسة، وقد يسأل سائل: كيف؟ وما هي المرتبة الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة؟ فأقول: تأمل ولا تشمت إلا بنفسك، سئل أحد الزهاد عن وجبة واحدة في النهار أو في اليوم كله؟ فقال: ذاك طعام الأنبياء، قيل: فاثنتان؟ قال: ذاك طعام الصالحين، قيل: فثلاث؟ قال: ينبغي أن يقدم له أهله معلفاً.
فكلنا أهل معالف وللأسف الشديد، فكيف إذا كانت أربع وجبات أو خمس وجبات كما يفعل بعض الناس اليوم؛ إذ يتناولون وجبة في الصباح، وقبل الظهر شيئاً خفيفاً، وبعد الظهر الغداء، وفي العصر وجبة مع الشاي، وقبل العشاء قهوة وتمر، وبعد العشاء العشاء!! فإذا كنا نأكل أكلاً كثيراً كيف نريد أن نربي أنفسنا وقلوبنا وأجسامنا على قيام الليل!
السبب الثاني: ألا تتعب نفسك بشكل دائم، فبعض الناس يمارس الرياضة مثلاً، ولا يمارسها إلا في الليل بعد صلاة العشاء، وقد تكون الرياضة عنيفة وقوية، ومن يمارسها يريد أن يكون رياضياً وهذا أمر حسن، لكن من يفعل ذلك يكسب شيئاً ويخسر آخر، فهو يكسب شيئاً من ناحية الرياضة، ويخسر عندما ينام متعباً ثم لا يقوم الليل، بل وللأسف الشديد قد لا يقوم لصلاة الفجر.
السبب الثالث: ألا يترك الإنسان القيلولة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (قيلوا فإن الشياطين لا تقيل).
فإذا استطاع الإنسان أن يقيل فليفعل، فإنه سيكتسب طاقة تعينه على أن يقوم لأداء بعض الصلاة في الليل، فإنك إذا نمت ساعة مثلاً في النهار فستستبدلها بساعة في الليل، وإياك أن تستبدلها بسهر لا فائدة منه إلى الساعات المتأخرة من الليل، بل اجعل نومك المعتاد في الساعة 12 مثلاً، أو الساعة 11، واجعل هذه القيلولة حتى تستيقظ نصف ساعة لتصلي لله سبحانه وتعالى ما شاء الله لك أن تصلي.
السبب الرابع: أن يتجنب الإنسان ارتكاب المعاصي؛ لأن قلب العبد إذا قسا فإنه سيبتعد عن الله، وسيبتعد عن الطاعة، فالمعصية تقول: أختي أختي، والطاعة تقول: أختي أختي، فإنك إذا ارتكبت المعصية وتلتها الأخرى، ثم أتبعتها بالثالثة قسا القلب، وإذا قسا القلب كان أبعد القلوب عن الله سبحانه وتعالى، وكان القيام بالنسبة له شاقاً جداً، وقد كان أحد العلماء يقول: من أحسن في نهاره -أي: بالعمل الصالح- وفق في ليله.
وقد قال رجل للحسن البصري : يا أبا سعيد! إني أبيت معافى، وأحب قيام الليل، وأعد طهوري، فما بالي لا أقوم؟ فقال الحسن له: قيدتك ذنوبك.
فنحن اليوم إذا نمنا فإننا ننام وقد ربطنا بالحبال وبالسلاسل من كل جهة؛ لأن ذنوبنا كثيرة، وقد قيدتنا في كل اتجاه، ولذلك سأل رجل عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه ما لنا لا نستطيع قيام الليل؟ قال: أقعدتكم ذنوبكم.
السبب الخامس: أن يبتعد الإنسان عن التنعم الزائد في الفراش، وفي الأكل وفي الشرب، فإنه إن فعل ذلك فسيدعوه إلى أن يربي نفسه على الزهد والورع، ويربي نفسه على الاقتصار على الأقل الذي يجعله سهل القيام، بسيط النوم، وأنت تلحظ في نفسك هذا، فإنك إذا أكلت ليلة من الليالي أكلة دسمة وأكثرت منها حتى ازداد أكلك عن المعتاد فستجد أنك لا أقول لن تقوم لليل، بل قد لا تقوم حتى لصلاة الفجر، وهذا أمر بين ومجرب.
ولابد هنا أن أشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينام على فراش من أدم حشوه ليف، أي: من جلد مدبوغ حشوه ليف نخل قاس شديد، وليس مثلنا اليوم فإن فراشنا قد يكون وثيراً حتى إذا نام الإنسان اختفى في هذا الفراش لا يكاد يرى من تنعم الفراش ولينه، فكيف يقوم الإنسان لصلاة الليل بعد ذلك؟ ولذلك كان السلف يسعون إلى تخشين فرشهم؛ لأن هذا أدعى لقيامهم.
وقد دخل عمر رضي الله تعالى عنه يوماً على الرسول صلى الله عليه وسلم وقد كان نائماً على حصير قد أثر في جنبه الشريف، فتأثر عمر لذلك وبكى، وقال: كسرى وقيصر يتنعمون وأنت يا رسول الله تنام على حصير قد أثر في جنبك؟ فقال عليه السلام جملة طويلة، أقتصر على ما يهمنا هنا قال: (أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة)، وإنما تكون لنا الآخرة بالقيام، والصلاة بالخشوع، والإكثار من الذكر، فهذا هو حال المصطفى عليه السلام، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون من هؤلاء.
السبب السادس: الابتعاد عن فضول النظر والكلام؛ فإن ذلك يقسي القلب، ويبعده من الرب.
السبب السابع: كثرة ذكر الله سبحانه وتعالى؛ فإن الإنسان كلما أكثر ذكر ربه لان قلبه، ودبت فيه الحياة، وكلما كان القلب حياً كان أقرب إلى الله، وكلما ابتعد الإنسان عن ذكر الله كان قلبه قاسياً، ثم يموت هذا القلب، وأبعد القلوب عن الله القلب القاسي، فكيف بالقلب الميت!
فعليك أيها الأخ الحبيب! أن تكثر من ذكر الله، فإذا ركبت السيارة اذكر الله سبحانه وتعالى، وإذا كنت في مجلس اذكر الله سبحانه وتعالى، وكن دائماً ذاكراً لله، فإنك إن فعلت ذلك فستجد أثره في قلبك، ومن ثم ستجد أثر ذلك على سلوكك وحياتك وفي تعاملك مع الناس.
وقد عرفت رجلاً من الصالحين أحسبه كذلك، كان مسافراً فتخطته سيارة وأخطأت عليه خطأ شنيعاً حتى كاد أن يذهب ضحية هذا الخطأ، فذهب وأوقفه وهو غاضب شديد الغضب، وربما الحالة تستوجب أن يأخذ من أخطأ ويضربه، ويتلفظ عليه بكل الألفاظ القذرة، لكن الرجل كان معتاداً على الذكر باستمرار فأخذ بتلابيب السائق الآخر وكان يقول له: الله يغفر لك لم تفعل هذا؟ الله يرحمك لم تفعل هذا؟! وهذا شيء عجيب، وما ذاك إلا لأنه عود نفسه على الذكر فكانت النتيجة هكذا ..
السبب الثامن: أكل المال الحلال والابتعاد عن الحرام، وهذه مسألة سهلة النطق صعبة التطبيق، فكلما كان العبد متحرياً للحلال كان موفقاً، وقد صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة أنه قال: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51] وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ.. [البقرة:172]. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!
فإذا كان الإنسان قد أودع ماله في بنك ربوي، أو تعامل بالربا، أو تعامل بالأمور المحرمة بيعاً وشراءً وغصباً وأخذاً وخيانة وغير ذلك ثم قام في الليل البهيم يدعو الله، ويرفع يديه إلى السماء: اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، اللهم اغفر لي وارحمني، فيأتيه الجواب من الله سبحانه وتعالى: لا لبيك ولا سعديك؛ لأن جسده غذاه بالحرام، (وأيما جسد نبت من حرام فالنار أولى به).
فانظر إلى حالك في أكلك وشربك، وإن كنت ولابد فاعلاً فارحم من تحت يدك: أبناءك وبناتك، وأمك وأباك، وزوجتك، فلا تؤكلهم حراماً وإن أكلت حراماً، ولا تجر غيرك إلى النماء من الحرام.
السبب التاسع: التبكير في النوم بعد العشاء؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم: (كان يكره النوم قبلها والحديث بعدها).
والملاحظ هذه الأيام أن النوم بعد العشاء صار مذمة لا محمدة وللأسف الشديد، وقد كان حال السلف متغيراً عن حالنا، فلو رأى الواحد منا اليوم إنساناً ينام بعد العشاء ربما سخر منه، مع أن هذا الذي ينام بعد العشاء إن لم يكن ممن يقوم الليل فعلى أقل تقدير يكون قد ابتعد عن سهرة قد يكون فيها المنكر من غيبة أو نميمة أو غير ذلك من المنكرات، وقد تكون جلسة مباحة لكن ليس فيها ذكر لله، ومثلها ستكون حسرة على صاحبها يوم القيامة.
السبب العاشر والأخير من الأسباب الظاهرة الحسية: أن نتواصى بيننا بقيام الليل، والله سبحانه وتعالى يقول: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ [العصر:1-3]، فقيام الليل من الحق الذي ينبغي أن نتواصى عليه، وهو طاعة ينبغي أن نتواصى بالصبر عليها، إذ الصبر على طاعة الله نوع من أنواع الصبر؛ لأن الطاعة فيها مشقة، فالشيطان حريص دائماً أن يجعلها شاقة على المسلم، وهو يحاول أن يباعد بينه وبينها، فهو يريد أن يكون معه في نار جهنم، ولذا لابد من المجاهدة والمصابرة والتعب حتى يظفر بالنتيجة المرضية.
أما الأمور الباطنة أيها الأخ المبارك! فإنها أمور متعددة أيضاً، ومن أبرزها:
الأول: سلامة القلب عن الصوارف المختلفة كالحقد والحسد والبغضاء، فشأنها أن تجعل القلب قاسياً.. مهموماً.. حاقداً، وحينها لا يستطيع القيام بأي صورة من الصور.
الأمر الثاني: لابد أن يكون عند الإنسان خوف من المقام بين يدي الله سبحانه وتعالى، وهذا الخوف لابد أن يكون مقروناً بالخوف من أهوال يوم القيامة: من دركات جهنم، وقبلها من تناثر الصحف، وتوزيع الكتب وغيرها من الأهوال، فلا بد على الإنسان أن ينمي هذا الخوف في قلبه حتى يأمن يوم القيامة، ومن عظم خوفه أمن يوماً يقف فيه بين يدي ربه.
إذا ما الليل أظلم كابدوهفيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوع
الأمر الثالث: أن يتفكر في قيام الليل من ناحية عظم فضله، وذلك بسماع الآيات المتعددة، والأحاديث الواردة، والآثار المنقولة، وسير الأنبياء وسير الصالحين وسير السلف، ويقرأ ذلك كثيراً، ويعود نفسه حتى يلزمها إلزاماً، ويحقق قول المصطفى عليه السلام: (عجبت لأناس يقادون إلى الجنة بالسلاسل).
الأمر الرابع: أن يتذكر النومة الطويلة في القبر المظلم وحيداً بلا أنيس ولا صديق، فإن ذلك يهون عليه قيام الليل، وقد قال الإمام البخاري رحمه الله:
اغتنم في الفراغ فضل ركوع فعسى أن يكون موتك بغتة
كم صحيح قد مات من غير سقم ذهبت نفسه الصحيحة فلتة
الأمر الخامس: استشعار أن الشيطان يعمل جاهداً على إضلالك، فهو يوظف أتباعه في سبيل ألا تقوم الليل، فإنه إذا نمت يعقد عليك ثلاث عقد، فإذا قمت وذكرت الله فقلت: لا إله إلا الله اندحر الشيطان خطوة إلى الوراء، ثم إذا توضأت اندحر خطوة ثانية، ثم إذا كبرت بين يدي الله تصلي وإن كانت ركعتين فقط، فإن الشيطان يولي هارباً خائفاً معلناً فشله، لكنه مع ذلك لا ييأس، فإنه يكرر من الغد محاولته وهكذا، فأنت تعيش في صراع معه إلى أن تسلم الروح لرب العالمين.
الأمر السادس: أن تعود النفس وتربيها على قصر الأمل، والإكثار من ذكر الموت، وذلك بأن تعرف أن العمر قصير، فكم من شاب مات وهو يخطط وهو يعمل وهو يبني ... ومع ذلك جاءه الموت فجأة!
فينبغي على الشاب ألا يغفل عن قصر الأمل، وكم من شاب يطول أمله ويقول: أنا سأبني بيتاً وسيكون شكله ومظهره كذا، وسأصنع كذا وكذا، ويضع الخطط لذلك ناسياً شيئاً اسمه خط الموت الذي قد يقطع تلك الآمال وهو لا يشعر به، ولذلك فإنك أخي الكريم إذا ربيت نفسك على أن هذا الخط موجود قريب أو بعيد ستجد أن هذا سيدفعك فعلاً إلى أن تقدم شيئاً مع هذه الأمور الدنيوية، فاعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لأخراك كأنك تموت غداً.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يربي أمته على قصر الأمل، كما صح ذلك في الترمذي عن حذيفة رضي الله تعالى عنه أنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: يا أيها الناس! اذكروا الله، جاءت الراجفة، من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا أن سلعة الله الجنة، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه).
وهو بذلك يريد أن يتربى المسلم على قصر الأمل، ويعلمه أن هناك خطاً لم ينتبه إليه ولم يلحظه، فإذا ربى الإنسان نفسه على ذلك جمع بين الأمرين: الدنيا والآخرة.
الأمر السابع: أن الملائكة مع الإنسان تشهد صلاته، وتشهد قراءته وتدعو له، فهي معه وهو قائم وراكع وساجد وذاكر، فإذا كنت أخي الكريم تستشعر ذلك أعطاك دفعة إيمانية قوية لمواصلة قيام الليل.
الأمر الثامن: أن تعلم أن قيام الليل تربية على الإخلاص؛ إذ أن قيام الليل يمثل مدرسة لتربية الذات، وتهذيب النفس، وإذكاء الضمير، وتحثيث القلب على الإخلاص لله سبحانه وتعالى، يقول قتادة : قلما سهر الليل منافق؛ لأن المنافق والمرائي يعمل لأجل الناس، وقيام الليل لا يدركه الناس وبالتالي لا يقوم، فهو خاص بمن أخلص العبادة لله سبحانه وتعالى.
الأمر التاسع: أن قيام الليل تربية على المعالي، فهو يربيك على علو الهمة، والنظر إلى الأعلى؛ لأن من قام الليل فقد أراد بقيامه رضا الله، وسكنى جنة عدن، والفوز بالحور العين، فإذا كانت هذه همته حقق الله له رجاءه.
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
الأمر العاشر: لابد أن يتذكر الإنسان حلاوة المناجاة، ويستشعر لذتها، إذ المناجاة لها لذة ومتعة لا يشعر بها إلا من عايشها، يقول إبراهيم بن أدهم : نحن في لذة لو علم بها أبناء الملوك -الرواية التي ثبتت: أبناء الملوك- لجالدونا عليها بالسيوف.
فأبناء الملوك لديهم أموال ومتاع وأرزاق يريدون المتع بأي كيفية وبأي صورة، فلو علموا بهذه اللذة لجالدونا عليها بالسيوف.
أول هذه المراتب: صلاة العشاء في جماعة: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل) أي: له أجر قيام نصف الليل.
المرتبة الثانية: صلاة الفجر في جماعة: (من صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله)، أي: وصلى العشاء في جماعة، ومعنى هذا: أن من صلى الفجر في جماعة ولم يصل العشاء، فكأنه قام نصف الليل.
المرتبة الثالثة: أن يصلي العشاء ويوتر بعد العشاء، فكل صلاة بعد العشاء تسمى قياماً.
المرتبة الرابعة: أن يوتر قبل أن ينام.
المرتبة الخامسة: أن يوتر في ثلث الليل الآخر.
المرتبة السادسة: أن يصلي -متأسياً بالرسول صلى الله عليه وسلم- في ثلث الليل الآخر إحدى عشرة ركعة.
المرتبة السابعة: أن يقوم ما استطاع ويطيل القيام، ويدخل في ذلك أجزاء من أثلاث الليل التي تسبق الثلث الآخر، ويضم لها الثلث الآخر، وهذا هو حال الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع.
فأول أدب من هذه الآداب: أن يتوضأ الإنسان قبل أن ينام؛ لأن هذا معين، فإنك عندما تتوضأ وتستشعر أن هذا الوضوء هو من آداب قيام الله سيكون ذلك هماً في قلبك، وبالتالي ستجد أن الاستيقاظ سيكون عليك سهلاً ميسوراً، وهذا أمر واضح، فأنت عندما تضع الساعة مثلاً على الرابعة قبل الفجر لأن إقلاع الطائرة سيكون في الساعة 5.30 فستجد أن نومك سيكون خفيفاً جداً ولو كنت مرهقاً ومتعباً، وستستيقظ مسرعاً؛ لأنك جعلت قيامك للسفر أصلاً مهماً، وبالتالي استيقظت.
الأدب الثاني: أن تنوي أن النوم للراحة؛ حتى يعينك على قيام الليل، فتكسب كسبين:
الكسب الأول: أنك جعلت النوم أجراً.
والكسب الثاني: أنك جعلت النوم راحة أو وسيلة لقيام الليل.
الأدب الثالث: أن تذكر الله سبحانه وتعالى عند القيام من النوم، فعن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تعار من الليل -أي: استيقظ- فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم قال: اللهم اغفر لي أو دعا استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته)، رواه الإمام البخاري .
الأدب الرابع من آداب قيام الليل: أن يتسوك الإنسان عند القيام، فقد ثبت: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشوص فاه بالسواك إذا قام من الليل) يعني: بعد أن يتوضأ أو أثناء الوضوء، وكان يشوص فاه لأنه سيقف بين يدي الله، فلا بد أن يكون طيب الرائحة، فالواحد منا عندما يذهب إلى العمل، أو إلى أي مكان سيقابل فيه الآخرين يريد من فاه أن يكون حسن الرائحة، فلابد أن يكون ذلك في وقوف العبد بين يدي الله من باب أولى.
الأدب الخامس: أن تجعل قراءتك بين الجهر والسر، ففي مستدرك الحاكم بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على أبي بكر الصديق وهو يتهجد خافضاً صوته، ثم مر بـعمر وهو قائم يرفع صوته، فسأل أبا بكر، فقال: يا رسول الله؟ لقد أسمعت من ناجيت، وسأل عمر، فقال: لأطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان -يعني: النائم- فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر : (ارفع قليلاً، وقال لـعمر : اخفض قليلاً).
الأدب السادس: أن تستحضر في لحظات قيامك نزول الرب إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وعظمته، وهو يقول: (هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من داع فأستجيب له؟)، وذلك في ثلث الليل الآخر كما مر بنا.
فإنك عندما تستحضر هذا وتربي نفسك على استحضاره تعلم أن هذا الثلث الأخير هو لحظات استجابة، وأن الله سبحانه وتعالى قد بسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، فتتوب من ذنوبك كلها، وتسأل الله من فضله.
الأدب السابع: التفكر والتدبر فيما تقول وتقرأ، فإنه ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها.
الأدب الثامن: أن تفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين، كما ثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح الصلاة بركعتين خفيفتين)، رواه مسلم .
ولعل ذلك حتى تنحل العقدة الشيطانية الثالثة؛ لأنه إذا قام وذكر الله، ثم توضأ، ثم صلى ركعتين انحلت العقدة الثالثة، فكان نشيطاً، وبالتالي يكون نشطاً للصلاة الباقية.
يا خاطب الحور في خدرها وطالباً ذاك على قدرها
انهض بجد لا تكن وانياًوجاهد النفس على صبرها
وقم إذا الليل بدا وجهه وصم نهاراً فهو من مهرها
فلو رأت عيناك إقبالها وعقد يشرق في نحرها
لهان في نفسك هذا الذي تراه في دنياك من زهرها
وأخيراً: أسأل الله سبحانه وتعالى لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا ممن يذكره قياماً وقعوداً وعلى جنبه، وأن يجعلنا ممن يقوم الليل، وأن يعيننا على قيام الليل إنه ولي ذرك والقادر عليه، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , قيام الليل للشيخ : إبراهيم الفارس
https://audio.islamweb.net