إسلام ويب

بين الشيخ إبراهيم الحارثي حفظه الله عظيم حب الوالدين لولدهما؛ بل تضحيتهما براحتهما وسعادتهما من أجل راحته. ولكن للأسف الشديد أن إحسان الوالدين يقابل من بعض الأبناء بالعقوق والجحود والعصيان والنكران. فإليك أخي القارئ صوراً مشرقة تبين كيف كان حال سلفنا الصالح مع الوالدين.

حب الوالدين معين لا ينضب

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، هو الأول فلا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فاتقوا الله -أيها المؤمنون- لعلكم تفلحون.

أيها الإخوة: في هذا الزمان نضب الحب الصادق أو كاد، نسي الناس إلا من رحم الله خلق التضحية العظيم، وأنكروا الإيثار بشتى صوره وأنواعه، وفقدوا حرارة المشاعر وخالص الوداد، وانطفأت بينهم جذوة الأحاسيس الدافئة الحانية، وأصبح الكل يتحدث عن جفاف العلاقات وبرودة المشاعر، وجفاء الطبع، حتى لم يعد بين الناس -إلا من رحم الله- من يثق بصدق مشاعر الآخرين، وغدا الحذر والاحتياط هو الأصل الذي يُحتكم إليه، وكثر الحديث وطال في البحث عن معين آخر لا تنطبق عليه تلك الصور المظلمة، ولا ذلك الواقع المر.

وحتى أوفر عليكم وعلى أولئك الجهد والتعب والعناء في البحث بعيداً عن ذلك المعين، سأقوم بدور الدليل، وأدلكم على المعين الذي يتجلى فيه الحب بأروع معانيه، وأرقى صوره وأشكاله، سأدلكم على المعين الذي تنقطع الأنفاس وتنقطع الدنيا وهو لا يزال يتدفق بالتضحية التي ليس لها في الوجود مثيل.

سأدلكم على المعين الذي يقف الإيثار في ساحته وبين يديه ذليلاً مطأطئ الرأس، فهو الوحيد الذي يملكه، ويمسك بزمامه، كما لا يستطيع ذلك أحد، سأدلكم على المعين الذي تفيض أنفاسه بالحب، وتموج خواطره بالود، وتنطق أحاسيسه بالطهر، ويتمثل فيه الصفاء والنقاء كأحلى وأبهى ما يكون.

المعين الذي يتغير كل شيء في هذه الدنيا إلا هو، تهتز المشاعر، وتتغير النفوس، وتتبدل القلوب إلا قلب هذا المعين .. إلا نفسه .. إلا مشاعره .. تظل ثابتة لا تتغير، وسداً لا يميل، وحصناً لا ينهدم، وملاذاً لا نظير له على الإطلاق، هذا المعين الرائع .. الكبير .. الراقي .. العظيم .. السامي .. الجليل .. هو معين الأم والأب، معين الوالدين الفياض الذي لا يغيض.

هذا -أيها الإخوة- ما أعرفه وهو ما أدلكم عليه، فهل تعرفون أنتم شيئاً آخر .. أو معيناً يشبهه أو حتى يدانيه؟!

لا والله ثم لا والله.

موقف يبين عظيم حب الوالد والوالدة

أيها الإخوة: جاء في بعض الكتب أن أمية الكناني كان رجلاً من سادات قومه، وكان له ابن يسمى كلاباً، هاجر إلى المدينة في خلافة عمر رضي الله عنه، فأقام بها مدة، ثم لقي ذات يوم بعض الصحابة، فسألهم: أي الأعمال أفضل في الإسلام؟ فقالوا: الجهاد، فذهب كلاب إلى عمر يريد الغزو، فأرسله عمر رضي الله عنه مع جيش إلى بلاد الفرس، فلما علم أبوه بذلك تعلق به وقال له: لا تدع أباك وأمك شيخين ضعيفين، ربياك صغيراً حتى إذا احتاجا إليك تركتهما، فقال: أترككما لما هو خير لي.

ثم خرج غازياً بعد أن أرضى أباه، فأبطأ في الغزو وتأخر، وكان أبوه وأمه يجلسان يوماً في ظل نخلٍ لهم، وإذا حمامة تدعو فرخها الصغير، وتلهو معه وتروح وتجيء، فرآها الشيخ فبكى، فرأته العجوز يبكي فبكت، ثم أصاب الشيخ ضعف في بصره، فلما تأخر ولده كثيراً ذهب إلى عمر رضي الله عنه ودخل عليه في المسجد، فقال: والله يا بن الخطاب لئن لم ترد علي ولدي لأدعون عليك في عرفات.

فكتب عمر رضي الله عنه برد ولده إليه، فلما قدم ودخل عليه قال له عمر: ما بلغ من برك بأبيك؟

قال: كنت أوثره وأكفيه أمره، وكنت إن أردت أن أحلب له لبناً أجيء إلى أغزر ناقة في إبله فأريحها، وأتركها حتى تستقر، ثم أغسل أخلافها -أي: ضروعها- حتى تبرد، ثم أحلب له فأسقيه.

فبعث عمر إلى أبيه، فجاء الرجل فدخل على عمر رضي الله عنه وهو يتهاوى، وقد ضعف بصره، وانحنى ظهره، فقال له عمر رضي الله عنه: كيف أنت يا أبا كلاب؟

قال: كما ترى يا أمير المؤمنين.

فقال: ما أحب الأشياء إليك اليوم؟

قال: ما أحب اليوم شيئاً .. ما أفرح بخير ولا يسوءني شر.

فقال عمر : فلا شيء آخر؟

قال: بلى. أحب أن كلاباً ولدي عندي، فأشمه شمة، وأضمه ضمة قبل أن أموت، فبكى عمر رضي الله عنه وقال: ستبلغ ما تحب إن شاء الله، ثم أمر كلاباً أن يخرج وأن يحلب لأبيه ناقة كما كان يفعل، ويبعث بلبنها إليه، فقام ففعل ذلك، ثم جاء وناول الإناء عمر ، فأخذه رضي الله عنه وقال: اشرب يا أبا كلاب! فلما تناول الإناء ليشرب وقربه من فمه قال: والله يا أمير المؤمنين! إني لأشم رائحة يدي كلاب ، فبكى عمر رضي الله عنه وقال له: هذا كلاب عندك، وقد جئناك به، فوثب إلى ابنه وأخذ يضمه ويعانقه وهو يبكي، فجعل عمر رضي الله عنه والحاضرون يبكون، ثم قال عمر : يا بني! الزم أبويك، فجاهد فيهما ما بقيا، ثم اعتن بشأن نفسك بعدهما.

إنها قصة تؤثر في النفوس، وتستجيش المشاعر، إنها القصة التي يعيشها كل أب وأم، قصة الحب الذي يملأ قلبيهما تجاه أولادهما.

تكبد الوالدين العناء من أجل الأبناء

إني لأسأل نفسي وأسأل كل واحد فيكم: ما هي مشاعرك تجاه والديك؟ وما مدى الحب الذي تصرفه لهما في كل يوم؟ وما مدى الأنس بالجلوس إليهما؟ ماذا تحمل -يا أخي- في قلبك لأمك وأبيك؟!

انظر إليهما الآن، وتخيل صورتهما أمام ناظريك، تخيل ابتسامتهما وضحكتهما! تخيل حزنهما وبكاءهما وألمهما من أجلك! وتذكر جيداً أن أمك التي تراها الآن بخيالك هي التي حملتك في أحشائها تسعة أشهر وهناً على وهن، حملتك كرهاً ووضعتك كرهاً، وتذكر أن نموك في أحشائها لا يزيدها إلا ثقلاً وضعفاً، وعند الوضع -يا أخي- رأت الموت بعينيها، توجعت وتألمت وصرخت وبكت وأنت السبب في كل ذلك، ولربما كان بكاؤها ذلك هو البكاء الأخير، ولربما فارقت الدنيا لتخرجك أنت إليها بدلاً منها.

فإن كتب الله لها الحياة، ورأتك إلى جوارها نسيت كل آلامها، وعلقت فيك جميع آمالها، رأت فيك بهجة الحياة وزينتها، وألزمت نفسها خدمتك في ليلها ونهارها، تغذيك بصحتها، طعامك دَرُّها، وبيتك حجرها، مركبك يداها، وفراشك صدرها، تحيطك وترعاك، تجوع لتشبع أنت، وتسهر لتنام أنت، وتتألم لترتاح أنت، فهي بك رحيمة، وعليك شفيقة، ويوم كنت صغيراً لا تعرف من الدنيا إلا هي كنت أنت -يا أخي- الذي يخاف ويوجل ويبكي، إذا غابت عنك لحظة دعوتها، وإذا اشتغلت عنك ناجيتها، وإذا أصابك مكروه استغثت بها، تحسب الخير كله عندها، وتظن أن الشر لن يصل إليك إذا ضمتك لصدرها، أو لحظتك بعينها.

أما أبوك فقد كنت له مجبنة مبخلة، يكد ويسعى، يتنقل بين الأسفار، يجوب الفيافي والقفار، يتحمل الأخطار، يخرج إلى عمله مع كل صباح يبحث عن لقمة العيش لينفق عليك، ويصلح من شأنك ويربيك، يتحمل صنوف الأذى للدفاع عنك، وينفق كل ماله ليوفر لك الحياة الكريمة.

أبوك الذي إذا دخلت عليه هش، وإذا أقبلت إليه بش، وإذا خرج تعلقت به، وإذا حضر احتضنته وصعدت على صدره وظهره.

أبوك الذي طالما لاعبك فأضحكك، وداعبك فأسعدك.

أبوك الذي كساك من عري، وأشبعك من جوع، وعلمك من جهل.

ألا تذكر وأنت صغير يوم كنت تصد عنه غاضباً فيقابل ذلك بضحكه وتلطفه، وتهرب منه معرضاً فيلحق بك ويرضيك دون تذمر أو تأفف؟!

يروى أن أحد الآباء طلب من ولده أن يأخذه يوماً إلى أحد الأماكن للنزهة، وطلب منه أن يحضر معه شيئاً من الفاكهة، فلما وصلا إلى المكان صعد الأب إلى مكان مرتفع وهو ينوء بهمِّ وحِمل السنين، وأخذ الفاكهة من ولده كأنه يأكل ثم أسقطها، فقام الابن يجمعها وجاء بها إلى أبيه، فكرر الأب ذلك العمل حتى غضب الابن وصرخ في وجه أبيه، فقال له الأب: يا ولدي! لقد كنت تفعل ذلك وأنت صغير، وكنت أنزل مرات وكرات في هذا المكان بالذات، وأصعد لكي أحضر لك الفاكهة، وأنا أضحك لك وألاعبك، وأنت اليوم تصرخ في وجهي متأففاً غاضباً، فانظر الفرق بين ما كنت أعمله لك وما تعمله أنت لي!

تذكر -يا أخي الكريم- والديك، وتخيل الآن كم من مرة أسهرتهما! وكم من مرة أضنيتهما بلا سبب ولا حاجة! وكم من مرة كنت فيها مريضاً وهما يجلسان بجوارك وعند رأسك يطعمانك ويسقيانك وينظران إليك! ينهشهما القلق، ويتعبهما السهر، فلا يكلان ولا يتعبان، كلما تحركت نظرا إليك، يطمئنان عليك يا حبيبهما ويا مهجة قلبيهما؟!

كم -يا أخي- غبت عنهما فلا ليلهما ليل ولا نهارهما نهار! يقفان مرة عند الباب، ومرة عند النافذة، يحنان إلى كل صوت، ويردان على كل طارق، فإذا أيسا منك جلسا عاجزين يبكيان ويريقان الدموع عليك -أنت أيها الغائب اللاهي- يحنان إليك ويكرهان كل شيء من أجلك، حتى إذا رأياك بجوارهما وأنت تضحك أو تأكل أو تنام سعدا، وشعرا بأن الدنيا قد حيزت لهما بحذافيرها، فماذا بعد أيها الأخ الكريم.. ماذا ستفعل من أجل الوفاء لهما.. من أجل برهما.. من أجل الإحسان إليهما؟!

صور من عقوق الأبناء للآباء

أيها الإخوة في الله: إنكم تسمعون وأسمع عن دور العجزة، الدور التي يوضع فيها الكبار والعجائز ليجدوا الرعاية والأمان حتى يتوفاهما الموت، فإذا كانت هذه الدور لمن لا معين له، لمن لا ولد له فحيهلاً، وأنعم بها من مكان! أما إذا كانت لمن تخلى عنهم أبناؤهم وأرسلوهم إلى تلك الدور تخلصاً من المسئولية، وتفريطاً في حق الأبوين الكريمين، وتضييعاً للبر والوفاء فلا وألف لا، وما ينبغي السكوت لمن فعل ذلك بأبويه أو بأحدهما، ووالله لو كان لي من الأمر شيء لأنزلت بالعاقين الجاحدين أشد العقاب، ولجعلتهم عبرة لكل من تسول له نفسه أن يعمل ذلك.

والحقيقة -أيها الإخوة- أن تلك الدور بكل أسف تمتلئ بالمنكسرين، بالمحبطين من الآباء والأمهات الذين تخلى عنهم أبناؤهم، وألقوهم في تلك الدور يجترون الذكريات الحزينة في جو كئيب موحش يمتلئ بالغدر والجحود ونكران الجميل! ترى كيف يعيش ذلك الأب وتلك الأم بعيداً عن الذين أفنوا أعمارهم وهم يحوطونهم بالرعاية والحب؟

كيف استطاع أولئك الجاحدون أن ينتزعوا مشاعرهم وعواطفهم من قلوبهم، ويلقوا بأغلى وأحب وأعز الناس في غياهب دور العجزة!

هل هذا من الوفاء أو من البر؟ هل هذا من الشكر الذي قرنه الله بشكره في قوله: أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14]؟

يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل الله منه عملاً] هل هذا من الإحسان الذي أوجبه الله في قوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23]؟

رجل يرفض حضور دفن أمه متعذراً بالمشاغل

إننا نسمع اليوم ما يذهل العاقل ويشيب له الرضيع، ابن ألقى أمه في دار العجزة ولم يعد إليها للزيارة أبداً، ولم يسأل عنها بالهاتف، فلما أوشكت على الموت أخذت تنادي باسمه وهي لا تعي حالها، فاتصل عليه المسئولون في الدار فاعتذر بضيق الوقت وكثرة المشاغل، فلما دنا الموت قالت: نادوا لي ولدي أقبله وأعانقه قبل أن أموت، أخبروه أنني سامحته على كل شيء، فأبى أن يأتي، فلما ماتت اتصلوا به فقال: أنهوا أنتم الإجراءات الرسمية، وادفنوها في قبرها، فلا وقت لدي.

هل هذا إنسان؟!

هل هذا مسلم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟!

أي قلب هذا القلب؟! وأي جحود هذا الجحود؟! وأي خاتمة تنتظر هذا الإنسان الحجري الجامد؟!

ولد ألقى أمه في قبو البيت

وسمعنا عن أناس يستحيون من الناس ولا يستحيون من الله، فيبقون آباءهم وأمهاتهم لديهم في البيوت خوفاً من كلام الناس، ولكنهم يعاملونهم معاملة لا تليق بحيوان فضلاً عن إنسان، أو عن أب أو أم لهم الكرامة والمشاعر والأحاسيس.

هل سمعتم بالقصة التي تحدث الناس عنها؟ بالرجل الذي ألقى أمه في قبو البيت، وتركها وحيدة دون أنيس؛ لأن زوجته طلبت منه ذلك، فهي لا تطيق بقاء أمه في البيت، وتشعر بالحرج من وجود هذه المرأة الكبيرة أمام أهلها وصديقاتها، فخيرت زوجها بين أن تترك البيت، أو تترك أمه البيت، فاختار الزوج أن يصل إلى حل وسط، وهو أن ينزلها إلى القبو المظلم البارد الموحش ليغلق عليها الباب، وتقوم الخادمة بإنزال الطعام إليها في الأوقات المحددة المعروفة، وبقيت الأم زمناً دون أن يتفضل الابن بزيارتها مرة واحدة، حتى ماتت في مكانها وهي تشكو إلى الله ظلم ولدها الوحيد.

فلما ماتت استأجر لها ولدها من ينهي كافة شئونها، حتى الدفن في المقبرة دون أن يذهب معهم، وفي نفس الليلة سافر مع زوجته وأولاده لقضاء إجازة الصيف في خارج البلاد، فهل يحتاج هذا الموقف إلى تعليق؟!

إن الإنسان ليشعر بالهول وشدة الصدمة! ترى لو كانت هذه الأم هي أمك أنت فماذا ستفعل، وماذا ستقول؟

ولد حبس والده في غرفة منزوية

وأنكى وأشد من ذلك من حبس والده في غرفة منـزوية في بيته الفسيح الرحب؛ لأنه لا يعرف كيف يتعامل مع الطبقة التي أصبح ولده ينتمي إليها! وكان والده كبيراً في السن يخاف الجلوس وحيداً، ويحب الجلوس إلى الآخرين؛ ليأنس بهم، ولأن ذلك الابن لم يهتم لذلك، فحبسه في تلك الغرفة، وأخبره أنه سيبقى فيها، وأنه لن يخرج منها، فتوسل إليه أبوه وبكى وتعلق به، وأمسك بثوبه ورجله ليمنعه من الخروج وتركه وحيداً، فركله ذلك الابن العاق بقدمه على وجهه، فأغمي عليه، ولم يفق إلا على يد الخادمة المسكينة، وظل ذلك الشيخ الكبير يبكي ويبكي حتى ساعدته الخادمة على الهرب، وخرج من منزل ولده وفلذة كبده حتى سقط من الإعياء، ودخل إلى المستشفى وأخبر من هناك بخبره وقصته وحكايته، ورفض الرجوع إلى ولده فأُخذ إلى دار العجزة ليقضي بقية عمره هناك، فهل تريدون المزيد أم أكتفي بما ذكرت؟

يكفي -أيها الإخوة- أن تقوموا بزيارة واحدة لتلك الدار لتسمعوا وتروا ما يفتت الصخر الجامد، ويزيل الجبال من أماكنها، أين نحن من قول الله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:23-24] من الذي يفعل ذلك مع أبويه؟ من الذي لا يقول: أف؟ أخشى أن أقول: أتحدى من لم يقل لوالديه أف أو قريباً منها.

يقول الحسين بن علي رضي الله عنهما: [لو علم الله شيئاً من العقوق أدنى من أف لحرمه] فـ(أف) هي أدنى العقوق، فما بالكم بمن يصرخ، ويسب، وينهر، ويشتم؟! ما بالكم بمن يمد يده؟ ألا قطعت يده! ما بالكم بمن يقتل -كما قرأنا ذلك في الصحف- ولا حول ولا قوة إلا بالله؟!

إننا اليوم -أيها الإخوة- ننسى ونتجاوز، ننظر إليهما بغضب، ونطيل النظر كمن ينظر إلى عدو جبار، إننا اليوم نعلو بأصواتنا فوق أصواتهم، ونتكلم قبل أن يتكلموا، ونأكل ونشرب قبل أن يفعلوا ذلك، ونمشي أمامهم ونتقدم عليهم ثم نقول: إننا بارون! خسئ والله من يفعل ذلك ثم يدعي البر! أي بر هذا الذي ندعيه ونحن نأنف من تحقيق رغباتهما البسيطة المتواضعة مقارنة بحاجاتنا وحاجات نسائنا وأولادنا؟! أي بر ونحن نجرح مشاعرهما بين لحظة وأخرى من أجل موقف أو حادثة أو وجهة نظر؟! والكارثة أن نتبرأ منهما من أجل زوجة أو ولد أو مال.

الحث على الإحسان إلى الوالدين وإن كانا كافرين

روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أصبح مطيعاً لله في والديه أصبح له بابان مفتوحان من الجنة، وإن كان واحداً فواحداً، ومن أمسى عاصياً لله في والديه أصبح له بابان مفتوحان من النار، وإن كان واحداً فواحداً، فقال له رجل: يا نبي الله! وإن ظلماه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: وإن ظلماه! وإن ظلماه، وإن ظلماه) فانظروا -أيها الإخوة- يفتح له بابان إلى النار إن عصى الله فيهما وهما يظلمانه، فما بالكم بمن يعص الله في والديه وهما لم يظلماه، أليس هذا يستحق أن يفتح له مائة باب إلى النار؟!!

بلى والله. لقد أمرت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما بأن تبر أمها وهي كافرة.

يا أيها الإخوة: يقول عليه الصلاة والسلام: (كل الذنوب يغفر الله منها ما يشاء إلا عقوق الوالدين، فإنه يعجل لصاحبه في الحياة قبل الممات) وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبوي يبكيان، قال: ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما) وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لا أبايعك حتى ترجع إليهما فتضحكهما كما أبكيتهما) فلِمَ لا نعمل بذلك؟ ما الذي يمنعني ويمنعك يا أخي أن نبدأ اليوم، ما الذي يمنعك أن تبدأ يا أخي يومك بتحية أبويك، بتقبيل رأسيهما ويديهما ورجليهما؟!

ما الذي يمنعك أن تجلس إليهما وأن تأكل معهما؟!

ما الذي يمعنك أن تسأل عنهما وعن أحوالهما وعن حاجاتهما؟! أرأيت لو أخذتهم في نزهة معك إلى أي مكان واحتفيت بوجودهما، وأدخلت السرور إلى قلبيهما، أرأيت كم ستكبر عندهما وكم ستكبر عند الله؟!

إن ابتسامة واحدة، وكلمة صادقة واحدة مع الأبوين تفعل بهما ما لا يخطر لك على بال، تخيل نفسك مكانهما عند الكبر، ماذا تريد من أبنائك؟! ما هو شعورك وأنت تراهم يتبارون في برك؟ أو ما هو شعورك وهم يعرضون عنك ويكلونك إلى خادمة غريبة أو بيت موحش يمتلئ بضحايا العقوق ونكران الجميل؟!

جاء رجل إلى عمر رضي الله عنه فقال: [يا أمير المؤمنين! قتلت نفساً فماذا أفعل؟ فقال: ألك أم؟ قال: لا. قال: ألك أب؟ قال: نعم، قال: الزمه فأحسن إليه، والله إني لأرجو بإحسانك إلى أبيك ألا تمسك النار أبداً]

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

صور مشرقة في بر الوالدين

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:

أيها الإخوة: في قصص السالفين من أنواع البر ما يبهر العقول، ويسبي الألباب، فقد ذكر أن أم عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما طلبت منه يوماً ماءً فذهب، فلما حضر وجدها قد نامت، فوقف بالشربة عند رأسها حتى طلع الفجر.

وكان زين العابدين بن علي كثير البر بأمه، حتى قيل له: إنك أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في إناء واحد؟ فقال: [أخاف أن تسبق يدي إلى ما نظرت إليه وأحبت أن تأكله بعينها، فأكون قد عققتها].

وروى المأمون أنه لم ير أحداً أبر من الفضل بن يحيى بأبيه، فقد كان أبوه لا يتوضأ إلا بماء مسخن، فلما دخل السجن منعهما السجان من إدخال الحطب في ليلة باردة، فلما نام أبوه قام الفضل وأخذ إناء الماء، وأدناه من المصباح، فلم يزل قائماً به حتى طلع الفجر، فقام أبوه فصب عليه الماء الدافئ، فلما كانت الليلة الأخرى أطفأ السجان المصباح، فقام الفضل فأخذ الإناء، فأدخله تحت ثيابه، ووضعه على بطنه حتى يدفأ بحرارة بطنه، متحملاً في ذلك برودة الماء والجو، فسبحان الله كيف يفعل البر بالناس؟!!

أيها الإخوة: جاء في سيرة عبد الله بن عون أن أمه نادته يوماً فأجابها، فعلى صوته على صوتها لما أجابها، فخاف أن يكون قد عقها فأعتق رقبتين خوفاً من الله.

وقال بشر بن الحارث: الولد بالقرب من أمه حيث تسمع أنفاسه أفضل من الذي يضرب بسيفه في سبيل الله، والنظر إليها أفضل من كل شيء.

وجاء في الحديث: (الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه).

وأخيراً -أيها الإخوة- لما ماتت أم إياس بن معاوية بكى، فقيل له: ما يبكيك؟

قال: [كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة، فأغلق واحد وإني لأرجو ألا يغلق الآخر حتى ندخل أنا وأبي إلى الجنة].

أيها الإخوة: بروا آباءكم، وبروا أمهاتكم وادعوا الله لهما بعد موتهما، وبروا صديقهما، والله المستعان أولاً وآخراً.

عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن سار على دربه واستن بسنته إلى يوم الدين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم عليك باليهود والنصارى ومن شايعهم على باطلهم يا رب العالمين!

اللهم كن للمسلمين المستضعفين في كل مكان.

اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين، اللهم وفقهم للعمل بكتابك واتباع سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيك، واهده بهدايتك يا رب العالمين!

اللهم أصلح له البطانة، اللهم أصلح له البطانة، اللهم أصلح له البطانة.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، أولها وآخرها، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير.

ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين.

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , حب يتدفق للشيخ : إبراهيم الحارثي

https://audio.islamweb.net