اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , متى التوبة ؟ للشيخ : مسفر المريخ
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل عز وجل: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً [النساء:27-28] وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين القائل: (مَن لا يسأل الله يغضب عليه).
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي وصيته للأولين والآخرين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
ثم أما بعد:
عباد الله: حديثي إلى هذه الوجوه الطيبة هو تحت عنوان: التوبة وسعة رحمة الله عز وجل.
المسلم -عباد الله- يحيط به أعداءٌ كثيرون من شياطين الإنس والجن، يقبِّحون له الحسن ويحسِّنون له القبيح، ويحاولون أن يوقعوا كل مسلمٍ يقول: (لا إله إلا الله) في شراك المعاصي والذنوب، يضاف إلى هذين العدوين الخارجيَّيْن عدوٌ ثالث أخطر منهما ألا وهو: النفس الأمارة بالسوء، نسأل الله عز وجل أن يرحم ضعفنا، وأن يجبر كسرنا، وأن يعيننا على التغلب على هؤلاء الأعداء الثلاثة الذين يحيطون بنا صباحاً ومساء.
ومع كل هذه الأمور فإن اللطيف الخبير الحكيم العليم، الذي يعلم بضعفنا، وقد قال: وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً [النساء:28] وهو سبحانه يعلم ضعف الكائن البشري، ويعلم عز وجل ضعف بني آدم، لذلك جعل لنا عز وجل باباً لا يغلق أبداً، ألا وهو: باب التوبة الذي لا يعْظُمُ ذنبٌ أمام التوبة مهما عَظُمَ، وباب الاستغفار الذي مَن وُفِّق له فقد مُحِيَت عنه الذنوب والسيئات والآثام.
الله عز وجل جعل التوبة باباً مفتوحاً، حتى جعلها عز وجل مفتوحةً للكافرين، وجعلها عز وجل مفتوحةً للذين قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73] يقول عز وجل: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:74] وجعلها مفتوحةً لنا معاشر المسلمين المؤمنين، كيف لا والله عز وجل (يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار..)؟!
كيف لا والله عز وجل يقول: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]؟!
كيف لا والله عز وجل في الحديث القدسي يقول: (يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم)؟!
كيف لا! ومَن عَلِمَ -عباد الله- أن ذنباً لا تتسع رحمة الله عز وجل له فقد أساء الظن بالله عز وجل القائل: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً [النساء:110].
يا عباد الله! مَن وقع في ذنبٍ أو معصية، فليغسل تلك الذنوب والمعاصي بماء التوبة والاستغفار، فإن الله عز وجل يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].
عباد الله: ما أعظم التوبة، وما أسهلها في حقنا، لكن ما أكثر الذين يتخاذلون! وما أكثر الذين لا يزالـون يصرون على الذنوب والمعاصي والعياذ بالله!
هل تغيرت الأحوال عمَّا كنا عليه في شعبان؟!
هل شعر المسلم منا بتوبةٍ صادقةٍ نصوح؟!
هل وجد المسلم أنه تقدم إلى الأمام قليلاً أو كثيراً؟!
أم أننا صمنا ما سلف من أيام، وقمنا ما كتب لنا من تلك الركعات والليالي المباركات، ونحن -عياذاً بالله- لا نزال على حالنا إلا من رحم الواحد الديان؟!
المعاصي التي كانت تُفْعَل في شعبان لا تزال -إن لم تكن قد زادت قليلاً- تُفْعَل وتُرْتَكَب في رمضان!
إذاً ما هي روحانية رمضان؟!
وأين تلك الآيات التي لو أنزلت على جبل لرأيناه خاشعاً متصدعاً من خشية الله؟!
العشرات من الآيات والمئات من الآيات تتلى على مسامعنا، وأخشى ما نخشاه أن نكون عظاماً صماء، وآليات نركع ونسجد مع الإمام -ولا حول ولا قوة إلا بالله- ونحن على حالنا، ونسأل الله لنا ولكم التوبة والثبات.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله! يذنب المسلم منا الذنب ثم يستغفر الله، فقال صلى الله عليه وسلم: يغفر الله عز وجل له، ويقول: ملائكتي! عَلِم عبدي أنه أذنب ذنباً، وعلم عبدي أن له رباً يعلم الذنب ويغفر الذنب، ملائكتي! أشهدكم أني قد غفرت لعبدي ما بدر منه، وما زال على هذه الحالة) أي: ما زال يعلم أن الله يعلم الذنوب، ويعلم أن الله عز وجل يغفر الذنوب.
وعن جابر -رضي الله عنه- قال: (جاء رجلٌ أعرابي إلى مسجد محمد عليه الصلاة والسلام ونحن جلوسٌ في مجلسه ثم وضع يديه على رأسه هكذا، وهو يصيح من بابٍ من أبواب المسجد قائلاً: وا ذنوباه .. وا ذنوباه ..! قال صلى الله عليه وسلم: ما الذي بك؟! وما الذي أصابك؟! قال: يا رسول الله! ذنوبٌ عظام، ومصائب اقترفت من العبد المسكين، فهدَّأ روعَه عليه الصلاة والسلام، وأجلسه بين يديه وقال: قل فقط هاتين الجملتين قل: اللهم رحمتك أوسع من ذنوبي، واللهم إن رحمتك أرجى عندي من عملي، اللهم فاغفر لي، فكررها، ثم قال صلى الله عليه وسلم: زِدْ، فزاد الثانية، والثالثة، ثم وضع صلى الله عليه وسلم يده في يد ذلك الأعرابي وقال: قُمْ فقد غفر الله عز وجل لك، قُمْ فقد غفر الله عز وجل لك) يجب أن يستشعر الإنسان أن نعمة الله، وأن رحمة الله، وأن مغفرة الله عز وجل أوسع من الذنوب، وأن يجتهد الواحد منا (فكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) كما قال عليه الصلاة والسلام.
وعن جابر قال: قلنا: (يا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- يذنب الواحد منا الذنب العظيم ثم يستغفر؟ قال صلى الله عليه وسلم: إذا أذنب المسلم ذنباً كتب عليه، قالوا: يا رسول الله! يستغفر ويتوب؟ قال: يُغْفَر له ويُتاب عليه، ثم سألوه ثانياً: يا رسول الله! يذنب المسلم منا الذنب؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يكتب عليه، قال الصحابة: ثم يستغفر ويتوب؟ قال صلى الله عليه وسلم: يُغْفَر له ويُتاب عليه، ثم سألوه ثالثاً: يا رسول الله! يذنب المسلم منا الذنب؟ فقال عليه الصلاة والسلام: يكتب عليه، قالوا: ثم يتوب ويستغفر، قال: يُغْفَر له ويُتاب عليه، قالوا: إلى متى يا رسول الله؟! قال: إن الله لا يمل حتى تملوا).
فمهما فعلتَ يا ابن آدم من الذنوب، ومهما وقعتَ فيه من معاصٍ وآثام، وعلمتَ أن لك رباً يغفر الذنب، ويعلم الذنب؛ فاعلم أن الله لا يمل حتى تمل يا ابن آدم!.
الله يغضب إن تركتَ سؤالَـهُ>>>>>وبُنَي آدم حين يُسأل يغضبُ
وسئل الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [يا إمام! الواحد منا يفعل الذنب ثم يستغفر قال: يواصل الاستغفار، قيل له: يا إمام، ثم يعود المسلم في الذنب، ثم يستغفر، قال: يواصل الاستغفار، ثم قالوا: حتى متى يا إمام؟! قال: إياكم والقنوط من الاستغفار، فإن الله لا يمل حتى تملوا].
وسئل الحسن البصري رضي الله عنه، قيل له: -أي طلابه الذين كانوا معه في مسجده-: [يا إمام! ألا يستحي الواحد منا أن يفعل الذنب، ثم يستغفر الله عز وجل، ثم يغفر الله عز وجل له، ثم يعود في الذنب؟ قال: إياكم وهذا الشعور! فما أحب الشيطان أن يظفر منكم بهذا الشعور، لا تملوا من الاستغفار، فإن الله لا يمل حتى تملوا].
إن الشيطان يأتي إلى الواحد منا، ونحن وإن قلنا: قد صُفِّدت مردة الجن والشياطين؛ لكن لا يزال هناك شياطينٌ لم يُصَفَّدوا، وهم الذين درجتهم أقل من درجة المردة.
وإن المسلم ربما لا يَضِل ولا يُزَل إلا بشيطان من شياطين الإنس.
والدليل على هذا: ما أكثر الذين ما استطاعوا أن يتركوا الحرام! ما استطاعوا أن تصوم لديهم الأعين أبداً، ما استطاعوا أن تصوم لديهم الآذان! ما استطاعوا أن تصوم لديهم الجوارح واليدان!
يدل هذا على أن الإيمان ضعيف، وإن صمنا ما يزيد على اثنتي عشرة ساعة ونصف! وأن الإيمان ضعيف وإن صلينا إحدى عشرة ركعة مع الإمام مع ما قبلها، وما يُتلى، وما يُسمع، وما يُتَدَبر من آيات!
قولوا لي بربكم: ماذا تغير في الأودية والبلدان؟!
قولوا لي بربكم: ماذا تغير في الأنفس والخطرات؟!
قولوا لي بربكم: هل طُهِّرت البيوت؟! هل طُهِّرت النفوس؟! هل صُفِّيت الصفحات؟! هل بَرِئت الذِّمَم؟!
أم أننا لا زلنا نصوم عادةً لا عبادة! ويصلي الواحد منا التراويح عادةً لا عبادة؟!
التوبة الفاسدة ما أخطرها عباد الله! أن يتوب المسلم بلسانه -عياذاً بالله- وحلاوة ولذة المعصية لا تزال في الفؤاد، أين الذي استطاع في يومٍ من الأيام بعد غروب الشمس وبعد أن يقول المؤذن: الله أكبر أربع مرات أن يعلم أن الله أكبر من التمثيليات، وأن الله أكبر من المسرحيات، وأن الله أكبر من الدخان، وأن الله أكبر من الهواتف والاتصالات، وأن الله أكبر من كل كبيرٍ في هذا العالم والوجود.
قليلٌ منا من يستشعر عظمة الله! وقليلٌ منا من استشعر عظمة وحرمة رمضان!
التوبة لا يزال لها باب مفتوح عباد الله، لا تنتهي إلا إذا بلغت الروح الغرغرة منك يا عبد الله! أو طلعت الشمس من مغربها حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.
اللهم وفقنا للتوبة الصحيحة النصوح.
اللهم اجعلنا من التائبين الناصحين المخلصين.
اللهم لا تجعل توباتنا من توبات الفاسدين الكاذبين.
اللهم كما أغثت بلادنا بغيث السماء، فأغث قلوبنا بغيث الإيمان.
اللهم أغثنا بغيث الإيمان في قلوبنا كما أغثت البلاد والعباد بغيث السماء.
لكن قولوا لي بربكم: الذي لا يوفق للصلوات مع الجماعة، قولوا لي بربكم: الذي لا يدخل إلى المساجد إلا في آخر خطبة الجمعة، والذي لا يكاد أن يشبع من النوم فتجده نئوماً طوال اليوم:
وما أطال النومُ عمراً وما قصَّر>>>>>في الأعمار لعمر الله طول السهر
قولوا لي: أيُّ عزٍ تريده الأمة برجالٍ كهؤلاء؟! أي نصرٍ يودُّ المسلم أن ينتصره وهو ما استطاع أن يتغلب على نفسه الأمارة بالسوء، ونحن سمعنا المؤذن من الساعة الحادية عشرة يوم الجمعة وهو ينادي (الله أكبر، حي على الصلاة، حي على الفلاح)؛ ولكن يقول الشاعر:
لقد أسمعتَ لو ناديتَ حياً>>>>>ولكن لا حياة لمن تنادي
نسأل الله أن يحيي قلوبنا وقلوبكم بالإيمان، كما أحيا أرضنا بماء الغيث والسماء.
الصلاة إلى الصلاة: إذا صلى المسلم صلاةً من الصلوات في بيتٍ من بيوت الله، ثم عاد وفعل ذنوباً أو معاصي أو لَمَماً من صغائر الذنوب، ثم صلى الصلاة الثانية محا الله عز وجل ما صدر وما بدر منه بين الصلاتين، فما أعظم الإسلام وما أعظم هذه النفحات!
قبل أن يصعد الإمام على المنبر؛ لأن الملائكة يحصون الداخلين إلى بيوت الله من أبواب المساجد والجوامع وبيت الله الحرام، فإذا صعد الإمام على منبره طوت الملائكة تلك الصحف، واستمعوا إلى الذكر وهم ليسوا بحاجة إلى أن يستمعوا إلى ذكرنا؛ لكنهم مأمورون بأمر ربنا ومولانا، فقولوا لي بربكم: من يدخل متأخراً كيف يحظى بهذا الأجر العظيم: إذا كان يوم الجمعة، وتوضأ المسلم في بيته، ثم أتى إلى المسجد مبكراً، وأنصت، واستمع، يُغْفَر له من الجمعة إلى الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام؟
أي: أن ذنوب الشهر تُمْحَى بثلاث جُمَع، بساعة ونصف، نصف ساعة في هذه الجمعة، ومثلها في الجمعة القادمة، وهكذا التي تليها.. تُمْحَى ذنوب الشهر وما أعظم ذنوب الشهر! تمحى الخطايا والذنوب وما أعظمها عباد الله!
لا تزال المصائب والبلايا بالعبد المسلم من الأمراض التي يبتلى بها، ومن جوارح الليل والنهار، ومن نكبات الزمان، ومما يبتلى به من زوجةٍ وولد، ومما يبتلى به في مالٍ أو غربةٍ أو كربة، حتى يلقى الله عز وجل يوم القيامة وليس عليه من خطيئة قط، كأنه ولد هذه اللحظات.
ويقول صلى الله عليه وسلم مكملاً لهذا الحديث: (... عندما يرى أهلُ العافية يوم القيامة أهلَ البلاء، وما يُساق إليهم من الأجر والثواب، يتمنون أن أجسامهم قد قُرِضت بالمقاريض مما يعطى أهل البلاء من الأجر والعافية).
فاحمدوا الله عز وجل!
(عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خيرٌ).
عباد الله! هذا شيءٌ من المكفرات ما بين الطهارة، وانتظار الصلاة إلى الصلاة، وما بين الجمعة والحضور إليها مبكراً، وما بين استعظام الأجر من الله.
يا من أصيب بمرضٍ بدني، يا من أصيب بجائحة مالية، يا من ابتلي بزوجةٍ أو ولدٍ عاقين أو غير صالحين! عليك أن تحتسب الأجر من الله، فتأتي يوم القيامة وليس عليك إثم أو خطيئة، وذلك فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء!
هل بقي لنا عذرٌ عباد الله ألا نتوب؟!
هل بقي لأحدٍ منا عذرٌ، ألا يستغفر؟! فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً [نوح:10].
هل يحق لمسلمٍ أن يخرج من هذه الأيام وهذه الليالي المباركات وهو لا يزال -مع احترامنا للتعبير- (مكانك راوح) ما تقدم إلى الإمام، وإنما يرجع رويداً رويداً إلى الوراء! رحماك يا رب العالمين!
علينا أن نراجع أنفسنا، وأن يتهم الواحد منا نفسه بالتقصير، فوالله ما منا إلا ويُذْنِب، وما منا إلا ويعصي، ورحمة الله عز وجل أوسع من هذه الأمور: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156] لكن لمن تكتب عباد الله؟
للطائعين الصالحين، للمتسابقين والسابقين إلى الخيرات، جعلني الله عز وجل وإياكم أجمعين منهم.
ما أعظم سيد الاستغفار! أن يظل معنا يلازمنا على الأقل، مرة في الصباح، ومرة في المساء.
وإن الواجب على كل مسلم أن يحفظ هذا الدعاء، وأن يحفِّظه الزوجةَ والأولادَ، وأن يلازمه صباحاً ومساءً: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذ بك من شر ما صنعتُ، أبوء لك بنعمتك عليَّ -أي: اعترف بنِعَمِك العظمى والصغرى عليَّ- وأبوء لك بذنبي -اعترف بذنوبي بين يديك- فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. مَن قالها حين يصبح ومات مِن يومه دخل الجنة، ومَن قالها حين يمسي ومات مِن ليلته دخل الجنة).
أما جانب الكرم فإن البشرية في تاريخها الماضي والمعاصر ما عرفت أكرم من محمد عليه الصلاة والسلام، هيا بنا مع موقفٍ واحد من مواقف الكرم العظيمة:
يخرج صلى الله عليه وسلم من مكة طريداً ذليلاً؛ ولكنه عزيزٌ بعزة الله، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8] تذرف عيناه بالدموع، يخاطب مكة: جبالها وأحجارها وسهولها ووديانها؛ قائلاً: (أمَا والله إنكِ لأحب بلاد الله إلي، ولولا أن قومي أخرجوني ما خرجتُ) ثم تذرف عيناه بالدموع عليه الصلاة والسلام، فيطمئنه عز وجل بقوله: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] أي: لا تقلق يا محمد!
وبعد ثمانية أعوام يعود صلى الله عليه وسلم إلى بيت الله الحرام فاتحاً منتصراً، ثم يقف بين الركن والمقام ينادي كفار قريش، ينادي الذين أخرجوه صلى الله عليه وسلم عندما قال: (ربي الله)، وعندما قال: (لا إله إلا الله) يقول لهم: (يا معشر قريش! ماذا ترون أني فاعلٌ بكم؟!) فيستسلمون لقوة الواحد الديان، ويستسلمون للأمر الواقع فيقولون بلسانٍ واحد: أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، فيقول أكرم البشر عليه الصلاة والسلام الذي علم الأمة جمعاء الكرم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء، اذهبوا فأنتم الطلقاء) لا إله إلا الله! هكذا عاش صلى الله عليه وسلم كريماً، وهكذا علَّم صلى الله عليه وسلم أمته الكرم بسنته القولية والفعلية.
عباد الله! إن من حكمة الله عز وجل أن جعل الإسلام يدعو إلى مكارم الأخلاق، ويدعو إلى الجود والكرم، ويحذر من البخل والشح عياذاً بالله، فيقول صلى الله عليه وسلم: (إياكم والشح، فإنما هلك مَن كان قبلكم بالشح، شحوا على أنفسهم بالأموال، وأخذوا بقطع الأرحام، ثم أخذوا بعد ذلك بسفك الدماء).
يقول العلماء عند هذه الآية: جعل الله عز وجل الأغنياء فتنة للفقراء، وجعل عز وجل الفقراء فتنة للأغنياء، وجعل عز وجل الرجال فتنة للنساء، والنساء فتنة للرجال، جعل عز وجل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والعالِمين والمتعلمين؛ فتنة لمن يريدون فساداً أو فاحشة في المجتمعات، وجعل العصاة والمقصِّرين فتنة للآمرين بالمعروف والناصحين في كل مجتمعٍ، وفي كل زمانٍ ومكان: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً [الفرقان:20].
ومن معاني الجود والكرم التي دعا إليها صلى الله عليه وسلم بسنته القولية بعد أن طبقها بسنته الفعلية: يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله جوادٌ كريم يحب الجود، فجودوا يا أهل القرآن).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين ...) والحسد هنا بمعنى الغبطة، أي أن المسلمين العقلاء لا يغبط بعضهم بعضاً ولا يتحاسدون حسداً محموداً إلا في خصلتين -إن كنا عقلاء، إن كان في قلوبنا إيمانٌ- (... رجلٌ آتاه الله مالاً، فسلطه على هَلَكَتِه في الحق، ورجلٌ آتاه الله الحكمة -وهي: السنة والفقه في الدين- فهو يعلمها الناس) أي: يُخْرِج بها الناس من الظلمات إلى النور، هاتان الخصلتان هما اللتان تتحقق بهما الغبطة في دين الله عز وجل معاشر المسلمين!.
ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: (ما مِن يومٍ ينشق فجره إلا وينزل من السماء مَلَكان يناديان أمة محمد عليه الصلاة والسلام يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً).
وفي أي بنكٍ من البنوك؟!
ماذا كان مع العبد الحبشي الفقير؟! فيشكو إلى محمدٍ عليه الصلاة والسلام الفاقة وقلة ذات اليد، فيرد عليه صلى الله عليه وسلم وكأنه يخاطب ثرياً من الأثرياء، غنياً من الأغنياء .. مَلِكاً من الملوك: (أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً، أنفق بلال يُنْفَق عليك) ما أحلى وما أعظم عبارات المصطفى عليه الصلاة والسلام، الذي عالج فيها هذا الجانب الذي جُبِلْنا عليه معاشر البشر!
فمن حكمة الله عز وجل أن جعل مِن طبائعنا معاشر البشر ومن نفوسنا أن نُبْتَلى بشيءٍ من الشح والبخل!
كيف لا، والله عز وجل يقول: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً [الفجر:20]؟!
كيف لا، والله عز وجل يقول: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعـاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ [المعارج:19-22] وما جاء بعدها من صفاتٍ تليق بعباد ربنا الرحمن الرحيم؟!
كيف لا والله عز وجل يقول في الآية المائة من سورة الإسراء، يعلم بطبائعنا وهو الذي خلقها، يعلم بحبنا للمال وهو الذي أوجد هذا المال، يعلم بطبائع البشر فقال: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً [الإسراء:100]؟!
هذا هو المولى عز وجل الذي عالج هذه النفوس البشرية، يعلم ضعفنا، ويعلم حبنا للمال، ويعلم ما تشتهيه هذه النفس، ولسنا معذورين عباد الله بعد هذه العناصر الثلاثة أن نحب المال، فهو عصب الحياة؛ ولكن الذي لا نُعْذَر فيه أبداً أن لا يتصدق المتصدق منا، فيتصدق المُكْثِر من كثيره، ويتصدق المقل من قليله، ويعطي كلٌّ منا مما أعطاه الله عز وجل: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10-11].
أسأل الله عز وجل أن يشرح لنا ولكم الصدور، وأن يوفقنا وإياكم لكل أمرٍ يرضاه عنا رب العالمين.
يقول الله عز وجل مخاطباً إياكم معاشر المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [البقرة:264].
ولا يعني أن الصدقة فقط تكون بالمال؛ فالكلمة الطيبة صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وقول: (لا إله إلا الله) مِن أعظم الصدقات، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وحملك للمتاع وللزاد لأخيك على دابته أو سيارته في هذه الأيام صدقة، فالصدقة واسعة الأبواب، لا تنحصر في جانبٍ من الجوانب، المهم أن المسلم إذا فعل حسنة أو تصدق بصدقةٍ حسيةٍ أو معنويةٍ، لا يُتْبِع تلك الصدقة منَّاً ولا أذى.
واسمعوا إلى هذا الفقه العظيم لـعبد الله بن عباس رضي الله عنهما وعن سائر الصحابة والتابعين، يقول عبد الله بن عباس والحديث في صحيح مسلم : [ثلاثة لا أدري كيف أكافئهم، وأما الرابع فيكافئه عز وجل عني -لا إله إلا الله! مَن هم هؤلاء يا ابن عباس رضي الله عنكما الذين لا تدري كيف تكافئهم؟!- قيل: مَن هُم يا ابن عباس؟! قال: رجلٌ بدأني بالسلام، ورجلٌ دعاني بأحب الأسماء إليَّ، ورجلٌ وسَّع لي في المجلس، لا أدري كيف أكافئ هؤلاء الثلاثة إلا بصالح الدعاء لهم بين يدي الله. أما الرابع الذي يكافئه عني ربي ومولاي: فهو رجلٌ من أمة محمدٍ عليه الصلاة والسلام نزلت به فاقة أو جائحة أو مصيبة بقضاء من الله وقدر، فنظر في أمة محمد عليه الصلاة والسلام فوجدني أهلاً -أي: مكاناً ومنزلاً وقادراً- أن ينزل بي حاجته وفاقته، فأنزلها بي، هذا لا أكافئه وإنما يكافئه عني ربي ومولاي
شتان بين الفقهَين عباد الله! إن بعض المسلمين من أعظم مصائبه إذا ألَمَّ بأخ من إخوانه المسلمين ضائقة من ضوائق الزمان، وطلب منه سَلَفاً أو قرضاً أو دَيناً تضيق به الدنيا بأسرها، ويحلف أيماناً مغلظة أنه لا يملك ذلك المال، وهو يملك العشرات والآلاف ومئات الآلاف من الريالات؛ لكن أنَّى لنا بفقه عبد الله بن عباس وقد قال صلى الله عليه وسلم: (مَن أقرض أخاه مرتين فكأنما تصدق عليه مرة) عليه الصلاة والسلام.
هذا هو الجانب الثاني والمظهر الثاني من مظاهر الكرم؛ أن يفرح المسلم إذا وجد فقيراً بمعنى الكلمة، ومحتاجاً بمعنى الكلمة، ويتيماً وأسيراً وأرملة بمعنى الكلمة، وهؤلاء هم الذين لا يسألون الناس إلحافاً، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، أما الذين يصطفون على أبواب المساجد، والذين يجوبون الأسواق والشوارع والطرقات، فورب محمد عليه الصلاة والسلام! أن تسعين بالمائة وأكثر ما يأخذون ذلك المال إلا تكثراً، يأتون يوم القيامة وليس في وجوههم مزعة لحم كما قال عليه الصلاة والسلام.
أما الأيتام الذين لا يمدون أيديهم في قرانا ومجتمعاتنا، والذين قد حملوا على أعناقهم ذراري وأزواجاً، والعقلاء من يتفقدون ذوي الحاجة في مجتمعاتنا وقرانا، نعرف أولئك بأسمائهم ويُعْرَفون بعوائلهم؛ ولكن منا وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [محمد:38] الله أكبر!
وما أكثر وما أعظم ما يُرْمى بعد صلاة المغرب ووجبة الإفطار! لقد طالعنا في (صحيفة المدينة )، وفي صلاة تراويح يوم أمس؛ الآلاف من الأطنان من الأطعمة التي ترمى، ولو نظرتم إلى صورة حية بجوار المخلفات وما يعد لرمي الفضلات -أكرمكم الله- لوجدنا ألوان الأطعمة، وألوان المشروبات، وتلك الأطنان من نِعم ربنا ومولانا، فيا خوفنا من الله! وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112].
والله! ليس بيننا وبين الله نسب، ليس بيننا وبين الله صلة إلا أن نطبق سنة محمد عليه الصلاة والسلام.
اتقوا الله معاشر الطاعمين! اتقوا الله معاشر الصائمين! اتقِ الله يا من يظن أنه سيأكل الأخضر واليابس بعد أذان المغرب، وحسب ابن آدم لقيماتٌ يُقْمِن صُلْبَه، فلا حول ولا قوة إلا بالله! وهل صيامنا قائم على تحوُّل شهر رمضان شهراً للبيع والشراء وزحام في الأسواق، ونفاد للكميات، وارتفاع في الأسعار، وشَقَّ المكثر منا على المقل؟ فحسبنا الله ونعم الوكيل! ولا حول ولا قوة إلا بالله!
يقول عز وجل: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء:29].
جعل الله أمة محمد عليه الصلاة والسلام أمة وسطاً: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة:143] وعلينا أن نكون وسطاً إذا أنفق الواحد منا في وجهٍ من وجوه البر، وفي وجه من وجوه الخير، أو في بيته، وفي طعامه، وشرابه، أو في كمالياته، وليالي وأيام عيده، وأن نكون مقتصدين، أن لا نبذر فـإِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً [الإسراء:27].
فالمكثر ينفق من كثيره، والمقل ينفق من قليله، يقول الله عز وجل للمطلِّق ولعموم المسلمين: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق:7] المكثر ينفق مما أعطاه الله، والمقل ينفق على قدر إقلاله، (فرب درهم سبق ألف درهم)، ورب صدقة لا يتبعها مَنّ ولا أذى يجدها العبد يوم القيامة كالشق من التمرة -كنصف التمرة-، يربيها عز وجل إذا خرجتْ طيبةً بها نفسُك يا عبد الله! فيجدها الواحد منا كجبل أحد وما عَظَمَة جبل أحد؟! وما وزن جبل أحد؟! وما هو الشق من التمرة التي يتصدق بها المسلم لا رياءً، ولا سمعةً، ولا لقيلٍ، ولا لقالٍ، وإنما يريد بها ما عند الله يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].
لكن يا من يسهر على تمثيلياتٍ ومسرحيات!
يا من ينظر إلى ما حرم الله!
يا من لا هَمَّ له إلا أن يشبع شهوتي البطن والفرج!
متى تُعَزُّ أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وفينا سَمَّاعون للكذب؟! متى تُعَزُّ أمة محمد عليه الصلاة والسلام وفي أمته أكَّالون للربا والسحت؟!
متى تُعَزُّ أمة محمد عليه الصلاة والسلام، ومتى نُغاثُ ونُمْطَر وما صلى معنا الاستسقاء يوم أمس إلا خمسة وثلاثون شخصاً من هذه الوجوه الطيبة المتوضئة الحاضرة؟! لقد استغنينا بما في جيوبنا، استغنينا بسياراتنا، استغنينا بعمائرنا وقصورنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وقد أخذ عز وجل قرىً وأمماً: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً [الإسراء:17] إنه شحٌ ابتلينا به، إنه نوم.
وما أطال النومُ عمراً وما قصَّرَ>>>>>في الأعمار لعمر الله طول السهرِ
الكلاب -أكرمكم الله- من أطول الحيوانات نوماً؛ ولكن الله ضرب مثالاً سلبياً، ضرب أسوأ الأمثلة: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176] عياذاً بالله من نوم الجبناء! عياذاً بالله من نوم الأغبياء! عياذاً بالله يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام! من الذين لا يرجون لله وقاراًَ! لو قال كلٌّ منا؛ الخطيب والجالسون في صفنا الأول: إن صلاة الاستسقاء فرض كفاية أو سنة من سنن محمد عليه الصلاة والسلام؛ لَمَا خرج إليها أحد، نعم! إن الأموال في الجيوب كثيرة، نعم. إن الآبار الإرتوازية في بيوتنا وفي أحواشنا مليئة، وما ذاك إلا من رزق الله، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [الملك:30] إنني والله إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ [هود:88].
الخطباء حملوا أمانة الكلمة، وأمانة التوجيه، وأمانة النصيحة؛ حتى لا يأتي المقصر منا يوم القيامة يقول: كان الخطباء يتقاضون الرواتب والمكافئات، وما كانوا يأمروننا بمعروفٍ، أو ينهوننا عن منكر، يا ربنا ومولانا!
نسأل الله أن لا نكون كالحمار الذي يدور في رحاه، وتندلق أقتاب بطنه -أكرمكم الله- يقول الناس له: يا فلان! لقد كنتَ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فيقول ذلك الشقي البعيد عنا وعنكم: كنتُ آمر بالمعروف ولا آتيه -يا معاشر الأساتذة- وأنهى عن المنكر وآتيه.
يا أيها الآباء! أنتم القدوة لأبنائكم، يا أيها الأساتذة! أنتم القدوات لطلابكم، فاللهم أعزنا وإياهم وكل مسلمٍ يقول: (لا إله إلا الله) بالإسلام.
الوقفة الخامسة من معاني الكرم الأصيل: أن رجلاً في زمن هارون الرشيد كان من أفقر الناس:
واسمعوا يا من أغناه الله! يا من والله لو عاد إلى الوراء عشرين عاماً أو خمساً وعشرين سنة، ونظر إلى حاله لما وجد الأرصدة والأموال، لما وجد العمائر والقصور، لما وجد الزوجة والذرية والأولاد؛ ألا يخشى من الله؟! ألا تستحي من الذي أعطاك وأنعم عليك؟! فلو أن رجلاً سافر معك وقدَّم حساباً أو باشر عليك في وجبةٍ من الوجبات لطلَّقت ثلاثاً أيماناً شيطانية مغلظة أن لا يحاسب عليه طيلة الرحلة إلا أنت، وهذا كرمٌ مع بني جنسنا، فكرمنا مع ربنا ومولانا أعظم.
وإن المسلم -قبل أن أسوق القصة باختصار- لَيَخْجَل والله من أصحاب الأموال وأرباب الأموال، إذ لا يكاد يتصدق إلا كبار السن والمسنون، لا يكاد يتصدق إلا الفقراء، وأضرب لكم مثالاً واحداً، ففي معظم بيوت الله لا يكاد يرعى ذلك البيت من بيوت الله إلا اثنان أو ثلاثة من الذين يؤمِّنون الماء للراكعين الساجدين، أو من الذين يتفقدون وسائل الراحة من تكييف وغيره؛ ليسعد أولئك الراكعون الساجدون في بيت الله.
أما أرباب الأموال فقد شُغِفوا وحبب إليهم الأموال، وسيُسألون عنها، وسيجمعونها وتكون عليهم حسرة وندامة إن لم يقولوا: هاء .. هاء ..! ويعطوا من رزق الله عز وجل، لا نقول: لجامع من الجوامع، إنَّما في جَميع جوانب الخير والبِر.
يا من ابتلي بشحٍ! يا من رزقه الله! عد إلى الوراء ربع قرن فقط عبد الله! ماذا كنتَ؟! ومن أنت؟! وما هي قصورك؟! وما هي أموالك؟! ما هي أرصدتك وحساباتك؟! لكنه كما قال عز وجل: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً [المعارج:19] حسبنا الله ونعم، فالنفس شريرة أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي!
فكان من عادة هارون الرشيد أن يُزار من الكبار ومن علية القوم، في يوم العيد يزرونه ويهنئونه، ويأمر لكل رجلٍ من الأغنياء بجَرَّة ثلثها ذهب، والثلث الثاني فضة، والثلث الثالث طعام.
زاروه في يوم العيد وأكرمهم، ودخل معهم رجل فقير، قال أمير المؤمنين وهو ينظر إلى ذلك الفقير بحاله: مَن أنت؟! وما الذي أدخلك مع الأغنياء، ومع علية القوم؟! قال: أنا من رعيتك يا أمير المؤمنين، أتيت لأنهل من خير الله الذي أعطاك؟! فيقول أمير المؤمنين لأحد حجابه ووزراء ماليته: اجعلوا جَرَّة هذا الفقير كلها ذهباً، فيثور الأغنياء -لا إله إلا الله! وهم قد أخذوا طعامهم ووَرِقَهم وذهبهم؛ لكنهم لا يريدون للناس خيراً في كل زمانٍ ومكان، آية من آيات الله، وسنة من سنن الله في أرض الله- قالوا: يا هارون! يا أمير المؤمنين، إن هذا الفقير لا يجيد الذهب، ولا يعرف الذهب، ولا يستطيع أن يتصرف في الذهب، فكيف تعطيه عطاء من لا يخشى الفقر؟!
فلم يلتفت إليهم هارون الرشيد، وأمر أحد جنده أن يتابع ذلك الفقير.
خرج ذلك الفقير، ليس معه في دنياه إلا تلك الجرة من الذهب، فذهب إلى وادٍ مملوء بالفقراء، فنادى فيهم: يا معشر الفقراء! يا أيها الناس! يا من ينتظر رزق الله! هلمُّوا إليَّ! فأتى إليه الفقراء، فأعطى كل واحدٍ منهم درهماً، وعاد بتلك الجرة ليس فيها شيء، عاد ذلك الجندي الذي تابعه إلى هارون الرشيد وقال: يا أمير المؤمنين، لقد رأيتُ من هذا الفقير عجباً، أنفق كل ما معه، وما أبقى معه شيئاً.
فيقول هارون الرشيد للجندي أو العامل: أحضره إليَّ.
فلما حضر ومَثُل ذلك الفقير بين يديه، قال: ما الذي حملك على هذا؟!
قال: يا أمير المؤمنين أعدتُ المال إلى صاحبه، إلى الرزاق ذي القوة المتين، الذي أعطاك، ثم أعطيتنيه.
فيقـول هارون الرشيد : ونـحن يا فقـير، نكافئك بمكافأة القرآن: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160] أعطوه عشراً من الجِرار مملوءة بالذهب.
وهَمَس في أذن أحد الجنود أن يتابع ذلك الفقير.
خرج ذلك الفقير إلى مكانٍ آخر.
كان بإمكانه أن يحوز الدرهم والدينار؛ لكنه فقير رضي بما عند الله، فقير يعلم أن القبر وأن الخزانة الأخروية بحاجة إلى طعامٍ وذهبٍ وفضة.
فنادى في الفقراء في مكانٍ آخر، ثم اجتمعوا عليه، ووزع تلك العشر الجرار، وما أبقى معه درهماً.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى، يا رب العالمين!
اللهم أعزنا بالإسلام قائمين وقاعدين وراقدين.
اللهم اجعلنا هداةً مهتدين، اللهم اجعلنا هداةً مهتدين.
اللهم وفقنا لصالح الأعمال، والأقوال في هذه الأيام والليالي المباركات.
اللهم انصر المجاهدين في كل مكان الذين يجاهدون لإعلاء كلمتك، يا رب العالمين!
اللهم كن لهم معيناً وناصراً.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين في كل مكان.
أكثروا من الصلاة والسلام على محمدٍ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , متى التوبة ؟ للشيخ : مسفر المريخ
https://audio.islamweb.net